الرعب

الأقدام

لوحة الغلاف: جحيم دانتي للرسام الإيطالي بوتيتشيلي.

 

[1]

يكره الأقدام,يخاف منها.

 

أسوأ كوابيسه هو التحول لقدم.

 

لا يعرف متى بدأ معه الأمر,ولكنه كان منذ مدة طويلة جدا,ويتذكر دوما شقيقه القعيد الميت, ولكن هذا منذ فترة قريبة,أما عقدته فقبل ذلك,متأكد هو أنها لديه منذ طفولته,وتطور الهوس معه وازداد سوءا منذ طفولته حتى استفحل في شبابه. يرى هذه القدم وقد نبتت لها أعين عند أنامل أصابعها وأنوف في أظافرها ولسان يبرز من هناك يغيظه. أغمض عينيه وفتحهما لتتلاشى هذه التهيؤات الكارتونية السخيفة.

 

مرة أخرى يرى الواقفين على أسطح البيوت ليلا,مهما انتقل من بيت إلى آخر. الواقفين فوق أسطح البيوت ليلا,يؤرقون منامه. الواقفين فوق أسطح البيوت ليلا,أناس بغيضين ذوي أقدام قذرة.

 

النهار يكون أخف وطأة,فقط في الأوقات النادرة التي تخف فيها حدة الضوضاء والزحام والسباب,يقرأ كتابا جميلا عن الفلسفة المثالية,ولطالما عشق مؤلفات أفلاطون وأي مؤلفات دينية عن الروح,ويكره تلك الصورة النمطية التي تلحق القدمين بالروح في قالب يعكس نفس شكل الجسد. مرتاحا على أريكة منسية فوق السطح,مرتاح الجسد والبال في واحدة من اللحظات النادرة التي لا يعكر صفوها سوى الأصوات القادمة من الأسفل؛من الشارع أو من الطوابق السفلية في نفس المبنى. وهي أصوات هادئة نسبيا الآن.

 

أثناء صعوده السلم المظلم يوجه كشاف صغير معه إلى درجات السلم,لا يستطيع أن يرتفع بالإضاءة إلى الأعلى. يتذكر هذه اللعبة المرعبة على أجهزة ألعاب الفيديو,لما يرى قدما,وهي ليست لشخص يسكن في نفس البيت. لما يرى ذلك لا يجرؤ على الإرتفاع ببصره للأعلى. يستمر صعوده للدرجات متجاوزا القدمين,أو يمر أحد الساكنين -إذا اتضح أن القدم له- دون أن يرفع إيهاب رأسه,يظل محنيا ينظر للأسفل عند صعوده السلم دوما,ويقولون عنه أنه رجل محترم وطيب وغلبان.

 

ذات مرة أثناء صعوده السلم,قابل جارته,إبنة جارته,تلك الفتاة الحسناء ذات الشامة السوداء والمتسربلة دوما في السواد,كأنها تنزل دوما لحضور عزاء والدها المتوفي منذ سنوات.

هي الوحيدة بين كل الساكنين في المبنى التي يرفع عينه لينظر إليها أثناء صعوده الدرج ونزولها هي,أو ربما العكس,ولم يتغير القول عنه أنه طيب ومحترم وغلبان. لا تدرس,وإن كانت تجيد القراءة والكتابة. تنزل لجلب حاجيات المنزل من تحت,وتصعد ثانية. تسكن في الشقة الوحيدة بالطابق الأخير,قبل الصعود إلى السطح حيث يمكث هو.

 

كان يسمع وقع خطواتها أثناء نزولها وصعودها,يراقبها لما يكون في البيت أثناء صعودها, ويقابلها صدفة أثناء نزولها. وكان يميز الصوت الذي تحدثه قدميها,ولا يتقزز أو ينفر منه. صوت قدميها هي فقط. إلا أنه كان يكره أقدام الجميع. صوتا وصورة. ورائحة وملمس. وطعم إذا وجد لها نكهة ما. نكهة القاذورات ربما. إلا أنه ورغم فتنته بها,رأى قدميها ذات يوم. فتلاشت فتنته. لم يكن ينظر للأسفل عند سماع صوتها. كان يصعد درجات السلم مرفوعة رأسه. لا يعرف فيما كان يفكر لما سمع ولم ينظر,واستمرت عينيه تصعد معه درجات السلم حتى وقعت على قدميها الجميلتين في شبشب أسود. انزعج جدا,وارتفع بعينيه حتى يصدم بالشامة عند ذقنها وقد تحورت وتحولت إلى غير ما كانت عليه. كانت حسنة تزيد في حسنها. وهي الآن شامة على شكل قدم. ابتسمت له الفتاة,فكانت أقبح ابتسامة رآها في حياته.

 

يكره قدمه التي تدلك قدمه الأخرى وهو نائم. يكره نفسه. ينظر إلى مروحة السقف فيرى ثلاثة أقدام على أطراف ريشها الثلاثة. أقدام عساكر تركض وراء بعضها. دوما كان يكره الألعاب التي تتضمن الركض في طفولته,ويكره لعبة الحنجلة بالأخص حيث يقفز اللاعب على قدم واحدة مثل كسيح أو مقطوعة قدمه.

 

فكر مرارا في قطع قدمه,وهناك عقاب قاسي في الشريعة يقضي بقطع القدم أو جزء منها, وقد يصاحب هذا القطع قطع لليد. ويتخيل في خوف أنواع أخرى من العقاب,مثل تكسير القدمين,أو عقاب الفلكة في السجون ومد القدمين في المدارس. وهناك قطع الأطراف في شرائع أخرى.

 

كان صخب الأفلام يأتيه من المقهى أسفل شقته ممتزجا بصوت خطوات أقدام الساكنين تحته,ليتذكر أسوأ فيلم شاهده في حياته,وهو أوغاد مجهولون للمخرج الأمريكي المجنون. والذي صنع تحول مختلف لقصة سندريلا. إيهاب يكره سندريلا أيضا. ويكره القردة التي يمكنها التعلق بقدميها مثل الوطاويط وتمسك الأشياء بقدميها. يكره القردة ويكره الوطاويط ويكره الحشرات التي تلتصق بأقدامها في الجدران والأسقف. تارانتينو ليس إلا مجرد قرد سينمائي يسرق الفاكهة من على أشجار المخرجين الكبار والأجانب. يكره كل أفلامه والأقدام التي تبصق على المشاهدين عبر الشاشة. ويكره مشهد إرتطام قدمي الفتاة وهي تختنق وتتحول إلى جثة ذات قدمين هامدتين.

 

يمشي في الشارع فتخرج له أقدام مقلوبة من البالوعات,وأحيانا يرى أناس لهم رؤوس أقدام. الأرض تنبت أقداما,والسماء تمطر أقداما,وقد بدأ يعتاد على هذا النوع من الهلاوس, المتكررة و المتنوعة بكل جديد في كل مرة. المتفاوتة في القوة,مرة يعلم أنه يتخيل,ومرة لا يعرف أين ذهب الواقع؟.

 

حلم أنه يقطع قدميه مرة أخرى,وهو يحلم بذلك مرارا,وكان قد قرأ عن الأقدام الصناعية والمستنسخة.

 

السماء تمطر أقداما

والأرض تنبت أقداما

أقدام بلا أجساد

 

لا يعرف هل هذه هلوسة عظمى أم واقع آخر غير الذي كان يعيش فيه؟.

 

لقد صار يرى الأقدام في كل مكان!.

 

بدأ الهوس يتضاعف حين انشغل بتركيزه على أقدام المارة والسائرين في الشوارع,ثم تلصصه على قدمي الفتاة التي تقطن تحته أثناء صعودها ونزولها,محنيا رأسه مطلا ببصره من فوق درابيزين / سور السلم,ثم توسع ليشمل بعينه كل شخص في محيطه بدءا بالحارات والأزقة الضيقة في حي السرايا حيث يسكن,وصولا إلى شوارع القاهرة المزدحمة في وسط البلد. بالإضافة إلى أقدام أصدقائه وجيرانه وزملائه في العمل وأقرباءه في البلد.

 

أقدام مثل البط,وأقدام ثخينة سمينة كأن بها مرض أو أن بها بالفعل بدون كأن؛النقرس أو إلتهاب كبدي ما أو ربما الدوالي. وأقدام سليمة معافية لكنها كادحة,وأقدام أخرى ناعمة كأنها لم تطأ على الشوك يوما.

 

أقدام كبيرة جدا,وأقدام رفيعة مثل طفل رضيع طالت المسافة بين إصبعه وكعبه. وأقدام صغيرة بعضها لا يكاد يراها أسفل سيقانها.

 

أقدام ذكورية وأخرى أنثوية.

 

أقدام عجوزة جدا,يرتديها شيوخ ذو جلود بالية ومترهلة,وأقدام طفلة أو صبية أو شابة. أقدام من أعمار مختلفة,كل حسب العمر الذي وصل إليه.

 

أقدام ثرية مطوقة بالذهب,وأقدام تدل على جوع صاحبها,وكل قدم حسب الطبقة التي تنتمي إليها.

 

أقدام تنتعل أحذية سوداء,وأخرى تنتعل أحذية رياضية (كوتش),أو شبشبا,أو حتى قبقابا لمصلي للتو خرج من المسجد الكبير بعد أن سرق نعليه. أحذية ذات كعب عالي,أحذية غالية الثمن بعلامات عالمية,وأحذية تمزقت أمعاءها حتى خرج لسانها. وكان يحب أحيانا أن يهون على نفسه من خلال تصنيف الأقدام حسب الحذاء.

 

أقدام طفل صغيرة,وأقدام رضيع أصغر,وأقدام أكبر,وأخرى لرجل أضخم. أقدام مشعرة, وأخرى ملساء بلا أي شعر.

 

أقدام بها نتوءات كأنها عيون تنظر له,أقدام فيها جروح,وأخرى فيها نتوء,وثالثة بها دمامل,ورابعة بها حبوب بسبب الحساسية. وأقدام سليمة عفية ليس بها أي سوء.

 

أقدام أعيان البلد من الباشوات وذوي المناصب المهمة,والأثرياء ورجال الأعمال والفنانين, وكل تلك الأقدام الفخمة التي لا يمكنه رؤيتها إلا على صفحات الجرائد التي لا يقرأها أو شاشات التلفزيون أو المحمول التي يمقتها. ثم هناك أقدام المساكين مثله من الفقراء والعمال والكادحين والمتسولين,والطبقة الدنيا التي لازالت تتشبث بأظافرها وأسنانها وأقدامها بما يجعلها تشبه الطبقة الوسطى.

 

أقدام نظيفة ذات رائحة جيدة أو بلا رائحة,وأخرى متسخة تفوح من بين أصابعها العفونة.

 

أقدام سوداء,وأقدام بيضاء,وأقدام ذات لون قمحاوي,بني,أصفر,أحمر,أو حتى رمادي.

 

أقدام ذات أصابع تتوجها أظفار مقلمة,وأخرى مخلعة أظافرها عن أصابعها.

 

أقدام النساء وأقدام رجال وأقدام أطفال صغيرة,وأقدام عجوزة ذات جلد مترهل يتساقط دون أن ينزع عن لحمه,وأقدام ميتة عفنة يتساقط الجلد عنها فعلا. أقدام سمينة وأقدام عضلية وأقدام مشعرة وأقدام محترقة. وهناك أقدام حيوانات,وأقدام أشياء أخرى لا يعرف ما هي, وأقدام جنود وأقدام خشبية ومعدنية كأنها أطراف صناعية. وهناك أطراف لم يفهم هل هي أقدام أم ماذا؟. هناك أقدام مقلوبة وأخرى مخلبية وأقدام ضخمة جدا,ولاحظ أنه لم يعد يرى أقدام النساء. ثم أقدام شيء ما طويل ومخيف غير معروف وغير موصوف.

 

هناك حتى -وإن لم يكن يتأثر بها كثيرا- أقدام البيوت متمثلة في أعتابها,وأقدام / سيقان الكراسي والمناضد والأرائك والأسرة والمساند وغيرها من أثاثات البيوت والعمائر.

 

وأنواع الأقدام أكثر من أن يقدر على إحصاءها كلها,ولا يريد أن يعذب نفسه أكثر.

 

أسرع الخطى يعود للبيت,وبات لا يعود إلا قادما من عمله,فلم يعد يذهب إلى (مشاوير وسط البلد) أو أي فسحة من أي نوع,إلا فيما اضطره إلى ذلك. ولم يعد يحتمل حتى الجلوس على المقهى القريب من بيته في نفس الحارة. حيث أقدام على أقدام في علياء وغرور مصطنع يوفره المقهى لرواده,وحيوانات قذرة تمر من أسفل الكاراسي وأسفل الأحذية تريد اللحاق بنصيبها من الفتات المتساقط عند الحاتي والذي تلهب رائحة دخانه معدته. حيوانات لها أقدام! والكراسي والطاولات لها أقدام. وهو نفسه يسير على قدميه.

 

فتح باب شقته الأشبه بحوش منسي فوق سطح العمارة,دخل إلى غرفته ليفاجئ بوجود ضيف. شخص دخل إلى الشقة التي ليس لها سوى مفتاح واحد. في يده الآن. ومفتاح آخر لقفل باب الغرفة الذي كان مقفولا من الخارج على الراقد في الداخل. ليس لصا,لأنه مستريح تماما تحت غطاء يخفي جسده بالكامل أسفله. رجح أنه أحد أصدقائه أو أقربائه يصنع مقلبا معه. أو أن صاحب البيت طرده وأتي بساكن جديد محله,في مقلب أكثر مرارة من حياته اليومية.

 

اقترب من الفراش,فوجده جسد واحد تحت الملاءة,سرّ أنه ليس رجل يقضي نزوته مع إمرأة في غرفته. نزع الغطاء عن رأسه ليفاجئ ذلك النائم بملامحه الغاضبة فإذ بها قدميه,نزع عنه الغطاء من الجهة الأخرى ولا زالت هناك قدمين. تفاجأ هو وقد تغيرت ملامحه إلى الخوف على الفور.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[2]

على الضوء الخافت المنبعث من غرفته,وحيث المصباح الوحيد في السطح كله معلقا من سقف الغرفة,انتهى إيهاب من رواية جديدة لدان براون وأغلقها مستمتعا بكم الإثارة الذي كانت تحتويه. الآن عليه أن ينام باكرا حتى لا يتأخر عن العمل صباحا. ويرتاح إيهاب لوظيفته,أو على الأقل يراها أفضل الوظائف التي تناسبه ضمن المتاح له,فرغم أنه يشقى فيها شقاء لا يجعل للطعام طعم,ولا للنوم سكينة,إلا أنها تظل مصدر دخله ولقمة عيشه وقوت يومه. والأهم من كل ذلك,وبغض النظر عن كونها مهنة متعبة,ولا يحبها,ولا يتعلم منها شيئا,ولا يجني مال أكثر مما يزود به عن نفسه ويغنيه شرّ العوز (رغم أن عليه ديون). إلا أنه يرتاح فيها نسبيا لإبتعادها تماما,وهذا هو الأهم,عن المهن والأعمال الأخرى المرتبطة بالأقدام.

 

مثل الإسكافي,وهي واحدة من أسوأ المهن,الذي يصنع أحذية ترتديها مختلف أنواع الأقدام.

 

والأدنى منه ماسح الأحذية,هو لا يصنعها,بل يعمل على تنظيفها وتلميعها,حيث يمسح عليها وعلى القدم التي تلبسها.

 

والأدنى منها هو تاجرها وصانعها في الشركات الكبرى مثل أديداس وبوما؛هؤلاء شرّ البلاء

 

الأدنى منهما حارس الخزنة في المساجد الكبيرة,الذي يتقاضى مالا حتى يحفظ للمصلي نعله من الضياع أو السرقة. وإن لم يفعل يسرقها هو بنفسه كأنه يسرق أقدام الناس.

 

والطبيب قد يحتاج للكشف على القدم لمعرفة علة المريض وطبيعتها. هذا غير الجراح الذي يكشف دواخل القدم فعلا. أو يبترها (ربما هذا أحسن ما في الأمر).

 

مهندس المساحة يبني مخططات للأراضي التي ستمشي عليها الأقدام,والمقاول يبيع مثل تلك الأراضي,والأسوأ منهم صانع وتاجر السجاجيد,الذي يصنع أقمشة خاصة كي تطأها الأقدام.

المبلط هو الآخر يرصف بلاطا (بلاط / سيراميك / بورسلين) ليطأه الناس بأقدامه.

 

وبعض الشعراء الذين يتغنون بجمال أقدام محبيهم,أو ملوكهم.

 

كان أيضا يكره الرسامين والنحاتين والمصورين والسينمائيين,لأنهم يخلقون صورا تشمل أشخاص ذوي أقدام,وبعضهم يركز أصلا على الأقدام,مثل تارانتينو العاشق لأقدام النساء.

 

الإباحيين ذوي النصيب الأكبر من مقته,لأنهم يستغلون الأقدام كعنصر جنسي ويملئون بها الشاشات والمجلات.

 

يكره القوادين وأصحاب بيوت الدعارة والعهرة -ولا يعرف لماذا تذكر فجأة الفتاة التي تسكن في الشقة تحته- لأنهم يجمعون بين الأقدام الذكورية والأنثوية. ويتخيل نفسه دائما منقادا إلى غرفة تنتظر فيه إمرأة شوه جمالها حرقة الإنتظار,تفتح إليه فرجها بين ساقين وقدمين كأنه قبر مفتوح ليبتلعه.

 

هناك المدلكين,الذي يتقزز جدا منهم,فهم يحصلون على مالهم,ليس من عرق جبينهم,بل من عرق أياديهم,التي تدلك أقدام الناس.

 

وهناك من يحصلون على قوت يومهم من عرق أقدامهم,مثل بعض العجانين الذين يستخدمون أقدامهم في العجن. أو الذين يعملون على ماكينات تعمل بالقدم (مثل ماكينات الخياطة). أو السائقين الذين يعملون في قيادة السيارات. سائق السيارة يضغط بقدمه على زر الفرامل متأخر دوما فلا تنقذه قدمه من حادث أليم ومميت.

 

تجار المخدرات والخمور أيضا ضمن المهن القذرة,ليس بسبب طبيعة التجارة نفسها,بل لأنهم يبيعون موادا,قد تسقط رأس السكير أو المسطول على الأرض تحت أقدام الآخرين.

 

هناك الخدم,الذين يحنون رؤوسهم بإرادتهم تحت أقدام الآخرين.

 

العاطلين عن العمل ليس أفضل حالا,فهم متفرغين فقط للعب بأصابع أقدامهم تزكية للوقت, وتنظيف أظافر القدم أو ما بين الأصابع,أو التمشية على أقدامهم هنا وهناك.

 

العاملين في الموت,لهم صلة بالأقدام أيضا,المغسل والمكفن وحارس المشرحة وطبيب الموت والحانوتي الذي يدفن.

 

هناك الوظيفة والرياضة الأكثر شعبية؛كرة القدم. يكرهها كثيرا ويرى أن الأمريكية أفضل منها. وهو يكره العديد من الرياضات الكروية أو القدمية. مثل التزلج أو السباحة التي تتضمن ركل الماء. يكره الرياضات الخطرة مثلما يخاف من الحافة التي ترتبط في ذهنه بذلة القدم.

 

ومن بين كل الوظائف التي قد تخطر بباله,أو لا ترد على ذهنه,اختار وظيفته. من أكثر لحظاته عذابا وألما وشقاءا في عمله,هو معاناة إرتداء الحذاء,ويتذكر أمه حين كانت تضربه بنعلها (الشبشب). وتذكر أبيه الذي كان يعمل نحاتا في الجبل,وتخيل جثته المنسحقة تحت صخرة كبيرة سقطت عليه. تخيل أنها قدم عملاق. ولا زال يتذكرها هكذا. لكن عليه أن يرتدي حذاءه,عليه أن يذهب إلى العمل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[3]

داس على مسمار مرة زمان حين كان طفلا,لم يتوقع أبدا أن يطأ مسمار عن طريق الخطأ, فقد كان حذرا ويجيد تجنب حدوث ذلك. ولكن الظاهر ليس بما يكفي.

 

كان يكره المساجد لأنه يركع أسف أقدام المصلين وليس الإله. الإمام فقط هو من يركع للإله. وكذلك يكره المدارس,في مدرسته تم مده كثيرا على قدميه,وكان يكره أكثر ما يكره الذهاب للعمل مع أحد خلانه.

 

داس على مسمار مرة أخرى وهو رجل بالغ,كان فوق السطح في يوم جمعة,يتأمل الموجودات في العالم حوله,ولكنه بالأساس جالس على الأريكة القديمة التي يجدها دوما فوق الأسطح. نفس الأريكة ذات اللون الأحمر في وسائدها وقد ذهب عنها,وتعرى خشبها النحاسي أيضا من لونه,فصارت باهتة مثل حياته. تأتيه انقطاعات أثناء القراءة,يتشتت بسبب الزعيق والصياح والصراخ الذي لا ينتهي ولا تنتهي معه المعارك الدائرة في الشارع تحت. هم بالأسفل حيث الأقدام,وهو بالأعلى حيث يكون بعيدا عن الأقدام. إلا أن هذا التشتت يجعله يدور في الشقة العارية من سقفها ونصف جدرانها,مثل أسد حبيس في قفص كبير,لتطأ قدمه على مسمار,ويدخل المسمار ببطء ولكن بعمق مخترقا الجلد إلى اللحم.

 

ليس لديه أي أدوات طبية,نزل إلى الطابق السفلي,خطا خطواته وهو يلعن ويسب ويزداد نفورا من خط الدم الذي خلفه خلفه على الأرضية والدرجات,وصوت الطرقات يصم أذنيه. فتحت له معشوقته,وتأمل جمالها وجمال وجهها بين الحجاب الأسود,ولكن الصدمة الأكبر كانت لما رأى قدمه الدامية في عينيها. عين فيها قدم!. قدم ساقطة في بئر؟. هل هذه واحدة من الأوهام التي تراوده دائما؟.

 

تمنى لو يمكنه أن يخنقها,هو يعرف أن أمها في السوق الآن حيث تعمل,والفتاة وحدها بالمنزل. ولسوف يمسح بصمات يديه. هل هناك بصمات للأقدام؟. تسائل وهو يتخيل الدماء خلفه. الفتاة تحدق في وجهه الآن. تحسبه مجرد خجل وليس خبل. إيهاب محاصر الآن بين بصمات اليدين وآثار الأقدام. تكلم أخيرا.

 

-أعتذر عن الإزعاج .. هل لديكم أربطة ومطهر؟

 

أخذ يقرأ كتابا محاولا أن يتناسى الثقب في قدمه,رواية ممتعة لنيل جايمان اسمها المحيط في نهاية الدرب. وقد أخذته بعيدا خلف بحر الخيال إلى أن استوقفه الفصل السادس.

 

“-ماذا تفعل؟

-انظر إلى قدمي

 

كنت أتطلع إلى أخمص قدمي اليمنى. كان هناك خط وردي يمتد عبره من المفصل الكروي وحتى الكعب تقريبا,حيث كنت قد دست على زجاج مكسور وأنا صغير. أتذكر استيقاظي في سريري النقال في الصباح التالي لهذه الحادثة,وتطلعي إلى الغرز السود التي اغلقت حواف الجرح معا. كانت هذه أقدم ذكرياتي,وقد تعودت على وجود الندب الوردي,أما هذا الثقب الصغير إلى جواره في قوس قدمي فكان جديدا. كان في المكان الذي شعرت فيه بالألم المباغت الحاد,وإن كان لا يؤلمني الآن,بل مجرد ثقب.” إلى آخر الفصل الذي أرهقه ولم يكمله.

 

ذات مرة,وأثناء عودته من العمل متأخرا,وفي إنتظار وصول القطار بإحدى محطات مترو وسط البلد. حدث شجار بين رجلين كانا على إنتظار مثله,ويبدوا أن الشجار هي الوسيلة الأفضل لديهما للقضاء على الملل بأن يقضي أحدهما على الآخر. أمر عادي مثل هذه الشجارات. الغير عادي هو عدم تدخل أحد. قد يبدوا عاديا ولكن ازدحام المحطة دوما يعطي فرصة للمتشاجرين بتدخل أحد. لأن الناس كثر جدا وليسوا جميعا جبناء مثله أو أوغاد يشاهدون للمرح دون أي تدخل. كما أن لا الأمن ولا الشرطة تدخلا! وهذا لا يحدث في العادة,خاصة داخل تلك المحطات النفقية التي يزداد فيها شعوره بالأمان في ظل الوجود الكبير لعناصر الشرطة,لكنه يزداد خوفا أيضا بسبب تزايد عدد الأقدام,هو يريد حشودا بلا ناس أو ناس بدون أقدام. الغير عادي أن التعابير على وجهيهما حولتهما إلى ما يشبه الشياطين,وتذكر إيهاب ما رآه في فيلم إسمه سلم يعقوب أيام كان يشاهد أفلاما. ملامح قبيحة حتى أنه نسى خوفه من أقدامهما وأقدام الناس المحيطة به. وما أن وصل القطار حتى قام سريعا من مقعده فارا من المكان,ولم يستطع أن يبعد نظره عنهما من خلال الزجاج بعد أن سار القطار مبتعدا وشعوره بالأمان يتزايد.

 

تبدد شعوره بالأمان لدى عودته لبيته,ذلك المبنى الكئيب ذو الستة طوابق سابعهما السطح حيث يسكن هو. ولا يسكن لوحده,ولكن يفضل الساكنين الآخرين على أن يبيت ليلة تحت سقف واحد مع أقدام الآخرين من البشر. رغم أنه لا ينجو من أقدام الجن أيضا. يخطط لترك ذلك البيت يوما ما قد يكون قريب أو بعيد.

 

وقف أمام الباب,وتذكر ذبح العجل,لما كان يمر بمحلات الجزارة بالصدفة,والضحية ترفس بأرجلها الأربعة رافضة ما يحدث لها. نعم .. العيد اقترب.

 

فتح باب السطح,وقابلت عينه قرص الشمس الغاربة في الأفق,وقف على الباب قليلا خائفا من الدخول رغم سنه الناضجة تلك,وقد أوشك على الثلاثين بقليل. وقريب له يقول أنه قد تجاوز الثلاثين بينما يرى نفسه لازال صغيرا. وكلما أراد أن يتحقق من شهادة الميلاد ينسى ذلك أو تضيع منه. وهو لا يحمل بطاقة هوية. ظل في أفكاره يؤنس وحدته بتأمل شقته المكونة من ساحة السطح الواسعة كأنها صالة كبيرة,وغرفتان واحدة بدون سقف والأخرى صالحة للعيش وهي التي بها فراشه وكتبه. ارتاح لمنظر الأريكة المقابلة له أسفل سور السطح القصير مثل شرفة. ظل واقفا لفترة حتى أظلمت السماء فوق رأسه,وتخيل الظلال خلفه على السلم. نظر لتحته فأرعبه رؤيته لقدميه,فحركهما في خطوات سريعة إلى الداخل. وبسبب رعشة يديه أسقط المفتاح أثناء محاولته فتح القفل الكبير على باب غرفته. مال إليه وهو يتخيل أنه سيرى على الفور قدمين لشيء ما تحت ضوء النجوم ومصابيح الأسطح المجاورة التي لا تضيء شيئا. قدمى ماعز مثلا. ولكن المكان كان مظلما,والظلام كان حالكا. هذا أفضل. تحسسس المفتاح واعتدل وفتح باب غرفته. دخل على الفور إلى صندوق الأمن والأمان وجلس على الكرسي المجاور للباب بعد أن أضاء مصباح غرفته ذو الإضاءة البيضاء الشاحبة والشبحية. ورأى شبحا لما مد يده يغلق الباب. رأى قدمين,ولكنها أقدام بشرية. تتقدم نحوه آتية من الظلام إلى حيث النور,اضطر أن يرتفع ببصره ليرى من هذا,ولكن نظره انتهى عند النصف السفلي من جسد غير موجود نصفه الآخر. القدمين تمتد عبر ساقين لتنتهي عند قمة الحوض حيث الحزام وقد كشف الضوء تماما عدم وجود شيء آخر فوقها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[4]

يعيش إيهاب وحيدا,لا أخ ولا أب ولا زوجة وطبعا لا إبن. وتتمحور حياته حول أمرين؛ العمل والقراءة. تتخللهما بعض الزيارات الإجتماعية من حين لآخر إلى عائلته في الصعيد حيث تقطن أمه العجوز والعاجز –فجأة تذكر شقيقه القعيد الميت- في دار أهلها تحت رعايتهم,فخلانه كثر وفي وضع ميسور الحال ولكن علاقته بهم ليست جيدة. ولا يستطيع البقاء مع أمه كثيرا كي لا يتشاجر معم, ولكي لا يبدد ظنها به حيث تحسبه ذو شأن في القاهرة,وبالكاد يتفرغ لمثل تلك الزيارات العائلية. وهو لا وقت لديه بالفعل,ولكن بسبب ضغوط العمل الذي يساوي بينه وبين أي شخص آخر,مجرد مسمار في آلة. لم يرتقي إلى مستوى المشغلين لهذه الآلة,لكنه يفضل عمله على مسلك العاطلين. وربما كل شهر أو شهرين يمر على صديق قديم. كأنه يتمسك بمن تبقى من أصدقاءه بعد أن مات نصفهم في حريق أصاب دار سينما كبيرة. ماتوا كلهم تحت دوس الأقدام. سبعة من أعز وأقرب أصدقاءه إليه.

 

كان لديه فكرة مشوشة عن كون تلك الحوداث سببا في كراهيته للأقدام,ربما فرويد قد يقول هذا. ولكنه يعلم يقينا أنها تولدت معه منذ وطأت قدمه هذه الدنيا. في غرفة مغلقة عليه, معزولا عن العالم,يقرأ كتابا نقديا عن السينما. ومع تقليبه للصفحات تتوالى في ذهنه مشاهد من أفلام يكرهها.

 

الحركة الأخرى التي يقوم بها,غير ذهابه إلى العمل,وشراء الكتب,والزيارات الإجتماعية, هي تنقله من سكن إلى آخر. هو يكره الخروج للشارع,ولكنها تنقلات ضرورية جدا. العمل هو مصدر رزقه,ويشتري الكتب لأنها تؤنس وحدته وتخفف همومه,والزيارات لكي يشعر ولو بالكذب أنه فعلا غير وحيد في هذا العالم. أما عن تغيير سكنه,فذلك بسبب الأشباح والعفاريت التي تسكن معه في تلك البيوت. وهو على قناعة تامة بأن تركه للبيت المسكون يكفيه شر هذا البيت. لأن الجن لن يخرجون منه إليه. ولديه إعتقاد كبير بأنه صار قادرا على التمييز بين أشباح هذه البيوت,والأشباح التي هي أوهامه الخاصة,وتطارده في أي مكان. وهو لم يعد يحتمل الفزع من الجهتين. لذا يكتفي بالمطاردين ويهرب من الساكنين. حتى المطاردين يختفون أحيانا,ويتغلب عليهم بذهنه في أحيان أخرى,ويعرضوه للخطر في كثير من الأحيان. خطر الموت فزعا أو التلبس أو التشوش أمام خطر مادي (مثل الهلاك على قضبان القطار أو أمام سيارة مارة) أو أشياء أخرى لا يريد أن يتخيلها. ولكنه لازال قادرا على التخلص منهم. الشيء الوحيد الذي لا يمكنه التخلص منه هو الأقدام. لا بالهروب إلى مكان آخر,ولا حتى بإغلاق العينين والنوم,فالكثير من الأقدام تزوره في كوابيسه,أقدام لأشخاص غير واضحة معالمهم. ذات مرة تحدى نفسه ولمس قدمه تلبية لوسواس قهري باغته,منحنيا معرضا ظهره للعربات المارة تسب له بأصوات أبواقها وشتائم سائقيها.

 

هو لا يرى الأقدام فقط,بل أحيانا الأجساد,كل الأشياء مرئية أمامه,ولكن الخوف يتنامى ويزحف حتى يطال باقي الجسد. فينظر إلى ثديي إمرأة فزعا,أو فمها الصغير. أو يد خشنة لرجل أو ذقنه المدببة. ذات مرة وأثناء زيارته لقريته في سوهاج من أجل حضور العزاء في خاله الأكبر,وكان ذهابا لا بد منه. اضطر باكيا من الخوف أكثر منه حزنا على خاله,أو ربما لم يحزن أصلا. اضطر أن يمشي في المسيرة الجنائزية وصولا حتى المقابر,أن يمشي وسط عشرات الأقدام المهرولة هنا وهناك. لطالما كان يخاف الحبس,لأنه سيسجن مع أقدام يراها بدون انقطاع لمدة لا يعلمها إلا الله. لربما تكون مدى الحياة لو كانت مصيبته كبيرة. وهم الآن ذاهبين إلى سجن لا خروج منه. دبات / دقات الأقدام على الأرض تستحضر في ذهنه مخاوف عديدة غير السجن. خوفه وتهربه من العسكرية. خوفه من الأقدام الزجاجية للنمل في الجحور. الحشرات تتميز بأقدام عديدة. هناك أمهات الأربع وأربعين وذوات الألف قدم. وتذكر مع تعالي الضجة ذات مرة أثناء عودته من العمل,مداهمة عسكرية لقوات فض الشغب للتصدي إلى إحدى المسيرات التظاهرية. تقيأ يومها وهو يفكر كيف سينسى أصوات أقدام الحشود الماشية في ثبات,والهاتفة في غضب. وأصوات الجنود ذوي الأقدام الحديدية التي تدفع الرهبة في قلوب أشد الجيوش ثباتا.

 

الآن بعد عودته إلى المنزل,يسمع مرة أخرى أقدام الراكضين تحت ليشتكبوا في مشاجرة دامية يجامل فيها القريب والغريب,ويحصى المتفرجين عدد الساقطين بين قتلى ومصابين.

 

جلس يبكي وهو يفكر في قطع قدميه,ولكنه سمع عن ظاهرة الأطراف الشبحية,أي أن ذلك لن يخلصه من مشكلته.

 

ذلك دعاه إلى تذكر كل الجروح التي أدمت قدميه طول العقود الثلاثة المكونة لحياته الشابة التي أرقها اليأس والخوف من الأقدام. جروح القدم هي أول اكتشاف لمخاوفه تجاه قدميه ثم أقدام الآخرين. منذ أن وطأ ذلك المسمار اللعين,وكذلك داس في حياته على بعض شظايا الزجاج المكسور. هناك حادث أليم يصيبه مرة كل عام ويكسر قدمه. هذه الحوادث السنوية تجعل ذكرى المسمار تبدو هينة وخافتة,ومع ذلك يظل صورة المسمار وجده يحاول بقوة بمساعدة خاله أن يسحباه من قدمه هي الأكثر رسوخا في ذهنه ومخيلته وذاكرته. وكانت إصابات قدميه تغرز المسمار أكثر داخل جمجمته.

 

مرة لما كان في السادسة من عمره,يلعب مع أقاربه وأصدقاءه في ملاهي القرية,يركبون جميعا على عربة يجرها حصان. تحتك خشبة العربة بعربة أخرى. كل الأولاد رفعوا سيقانهم بسرعة إلا هو فعل متأخرا.

 

 

 

[5]

تذكر أو حلم بمشهد أمه أو أم صديقه,أو هي شقيقة صديق آخر .. لا يذكر,تزحف هاربة من ضرب أبوها / خوها. وجهها على الأرض كأنها تلعق التراب (لهذا يكره التجنيد العسكري / الجيش). تبكي.

 

تراوده الكوابيس دوما,وهذا مكان باهت كالكوابيس,وجدار كبير أسود,قديم للغاية لكنه متين,في منتصفه شق يخرج منه ضوء خافت,ينظر منه ويري الرعب في كل صوره. يكتم أنفاسه ذعرا,يريد إن يتوقف قلبه عبثا,لكي لا يصدر صوتا منه,يريد أن يغمض عينه فلا تطيعه. تتكرر ذات الصورة هنا, ولكن متمثلة هذه المرة في هيئة باب مغلق.

 

أول مرة رآه كان جدارا تم رفعه في منطقة زراعية جوار المقابر,أرض خلت من أي محاصيل,واستقر الجدار فيها مثل قطعة كئيبة خالية,إلا من بضعة جثث وأحجار,ومنعزلة عن العالم كله.

 

حلم رواده ذات مرة,لما كان يمشي داخل الحلم في أرض ممتدة حتى الأفق من كل الإتجاهات. أرض خربة لا تحمل سوى شظايا الزجاج التي يسير فوقها عاري القدمين.

 

حلم بالحادث الذي أصاب شقيقه,دراجته النارية تم إلتهامها ودهسها تحت عربة كبيرة للغاية. اصطدام بين عربتين. الدراجة كانت في المنتصف. قائد العربة الكبيرة,وكل ركاب العربة الأخرى موتى. الحديد اختلط باللحم. نجا شقيقه بإعجوبة وكان هو ينظر إليه وقد سقط عن الدراجة قبيل الالتحام. يراه وهو يخرج مجرورا مسحوبا من المنقذين الذين تجمعوا حول الحادث. يسحبوا جسده وجسده يسحب بقاياه خلفه مثل ذيل أحمر دامي. حيث لازالت إحدى ساقيه مربوطة بخيوط رفيعة من القماش والأنسجة واللحم والدم والعظم المتكسر. الساق الأخرى استقرت أسفل العربة ولم تخرج معه. لن ينسى أبدا ما حيي علامات الألم الفاضحة والصارخة التي اعتلت وجه أخيه وكادت تضج منه وتطلق الرصاص على قلبه.

 

والآن هو واقف يمسك رأسه ألما من صداع عنيف يجتاحه في عاصفة من الأفكار,ذكرى تطفو على السطح لوقت ما كان يجمع فيه الأبواب,أو ربما هي ذكرى لشخص آخر.

 

تبا لعادته وهوايته وشغفه وعمله في جمع أبواب البيوت المهدمة. بيوت سقطت بسبب أخطاء في هندسة البناء,أو عوامل طبيعية مثل زلزال أو إنهيار جبل أو فيضان,أو تم هدمها من قبل الحكومة لأنها بنيت مخالفة للنظم التي وضعتها الدولة,أو هدمها أصحابها لأسباب مختلفة سواء سلبت منهم,أو يبنون مشاريع,أو باعوها لأحد يريد أرضها,أو بنوا مسجدا,أو حفروا كنزا. هناك بيوت سقطت لأنها سقطت,دون سبب محدد. -تذكر النائمين تحت .. تحت أي شيء,هو يكرههم أيضا- ولم تقتصر الأبواب على البيوت فحسب,فكان لديه أبواب مخلوعة عن تشكيلة كبيرة من المباني؛مدارس,مستشفيات,مساجد, كنائس,أقسام شرطة,وحدات عسكرية,محلات ومتاجر ومعارض,أبراج وقصور,زرائب,مكتبات,دور سينما ومسارح متنوعة,مؤسسات إجتماعية أو قضائية أو سياسية,حدائق,وأيضا العربات والثلاجات والخزائن,وحتى أبواب القبور. كل الأبواب.

 

والخامات من كل الأنواع؛خشب,معدن,بلاستيك,الوميتال,حجر,وغيرها من المواد التي تدخل في باب الغريب بالنسبة لاستخدامها في صنع الأبواب.

 

واحتلت كل موضع من قصره بابا لا ينتمي لبيته؛باب المطبخ,الصالون,الشرفة,الحمام, الحديقة,القبو,العلية,الثلاجة,المخزن,الصندوق,أقفاص الحيوانات,النوافذ,الباب السري,باب دخول الكلب.

 

وكان دوما يشعر أن خلف كل باب بابا,أو شخصا,أو شيئا,أو قدما. هذا البيت الكبير الذي ورثه من عم له. ملأه بالأبواب. لماذا هو فقير هنا في السرايا مع أنه غني في الصعيد!. حاول بيع هذا البيت الكبير,لكن شدد عليه خلانه أنه لا يمكنه فعل ذلك. وانشغل بالحياة أو شغلته الحياة عن طريق الثراء.

 

وخلف باب غرفته استند بكرسيه وأخذ يقرأ مجموعة من القصص.

 

هذه أبشع أقدام قد يراها في حياته,مخلوق عظيم آت من الفضاء,عبارة عن قدم عملاقة تخرج من جذع شجرة أو أخطبوط. يمكنه أن يركل الكوكب مثل كرة قدم بالنسبة للبشر. لكنه غافل عن الساكنين في الأرض,تاركا مصيرهم لوحش آخر خرج من أعماق المحيط. ركلة واحدة وإن لم تكن بقوة مخلوق السماء إلا أنها دمرت العديد من المدن بسبب موجات تسونامي الناتجة عنها. وخرج وحش البحر فاتحا أفواهه المتمثلة في كعوب أقدام تخرج من أطراف اخطبوطية. واستيقظ.

 

يوما بعد يوم تتزايد عليه الكوابيس في نومه والهلاوس في صحوه,الأسوأ من ذلك,أن ما وراء كل هذا,ليس وهما. أو هذه هي الفكرة المسيطرة عليه. أحيانا تكون ذات حضور واضح وفي أحيان أخرى تصبح كأنها مجرد مخاوف ساذجة. ولكنه لا زال متمسكا بفكرة أخرى تنسب ما يحدث إلى أقدام لن تتركه,ويكفيه الشعور بقدميه تحت مؤخرته وهو جالس ينظر إلى الحائط. لا يوجد تلفاز في غرفته,ولا يحمل سوى هاتف محمول من النوع القديم ذو الأزرار,بعيدا عن شاشات التحريك اللمسي (تاتش Touch). هو يكره كل الشاشات,فما يمنعه عن قطع قدميه,غير كونه سيصير عاجزا,وغير الألم,وزيادة المعاناة. ما يمنعه عن ذبح قدمه,أنه لا فائدة من ذلك,فلن يتحقق له أبدا التخلص من الأقدام. فحتى ولو قدر له القدر أن يتمكن من قطع جميع أقدام البشر في العالم,سيقف عاجزا أسفل قدمي أمه -قدمين بلا شعور أو فائدة- والجنة تحت أقدام الأمهات. وبالتفكير في الجنة يجد أن تصور العيش فيها,في الجنة,صعب. هل يمكن أن يتاح له العيش بدون قدمين,مع ناس وحور وملائكة بدون أقدام؟.

 

وبالتفكير في النار,يجد أن ما يمنعه عن ذبح عنقه,هو القدم العظمى لملاك الموت,محملا على أيدي أتباعه ذوي الأقدام السوداء إلى جحيم السماء الأسوأ من جحيم الأرض. حيث يظل جسده يذوب ويتجدد في نيران مستعرة يعذب ويقلب داخلها إلى ما لا نهاية. تذوب قدميه وتتجدد وتستمر سلسلة أبدية من الأقدام التي تموت وتحيا,تذوب وتخلق من جديد.

 

وعودة إلى جحيم الأرض,وكوابيس في النوم,وهلاوس في اليقظة. هذه الليلة استيقظ بعد حلم من الأقدام الكبيرة,حيث كان هو ضئيلا جدا يجري مذعورا في الشارع وأقدام السائرين تدهس عليه مثل فأر صغير بعد أن تقلص حجمه. يتذكر فيلم قصير لـ كريستوفر نولان عن شخص يطارد نفسه بحجم الصرصار. شاهد الفيلم أيام كان يعشق الأفلام.

 

ولما استيقظ زارته هلاوسه وتذكر أو تخيل نفسه يسير في الشوراع المزدحمة بالأقدام,يتعثر في قدم أحدهم -ومن أبشع التجارب التي مرّ بها هي عندما ترتطم قدمه بقدم أحد,أو يدوس أحدهم على قدمه- ويسقط رأسه عند أقدامهم. يتحسس بخديه الأقدام الناعمة,يتشمم أريج الأقدام المتعطرة,يسمع خطوات الأقدام السائرة,يتذوق تراب الأقدام المتسخة.

 

 

 

 

 

[6]

في القطار الآتي من سوهاج,والمتجه إلى القاهرة. وحده في العربة الأخيرة,كان يقرأ رواية تحتوي في إحدى أحداثها شيئا يتعلق بالأقدام. بل موضوعها كان الأقدام وكانت عنصرا مؤثرا في الحبكة. يقرأها بصعوبة بالغة.

 

ينظر إلى الباب المفضي إلى العربة التالية. والخالية. وبين العربتين ممر يستقر وسط هوة ترمي إلى جانبي القطار الذي يقطع الأراضي الممتدة بسرعة هائلة مخترقا الحقول الزراعية متزينا بالبيوت الريفية أمام نوافذه. الوقت ليل,والحقول تحيط الجنبات المفرودة بمد البصر حيث ينظر إيهاب. مرّ رجل طويل أمام عينه. آت من الخارج كأنه قفز أو تشبث بالقطار المسرع. مر من الممر ونزل أو قفز من الناحية الأخرى. ولم يره لما صعد ولا لما نزل. راكب بعد منتصف الليل. حتى بعد غيابه عن بصره لازالت قامته الطويلة عن الإنسان العادي بفارق غير هين محفوظة في ذهنه.

 

قضى بقية يومه في زيارات مختلفة

 

أولا قرر أن يزور الفتاة التي أحبها

 

وهو ينزل على السلم تذكر مشهد قاسي رآه بالصدفة قديما,من إحدى النوافذ,ثم اكتشف أنه ينظر من نافذة الشقة المهجورة أو التي صارت مهجورة في الطابق الثالث أو ربما هو الرابع. لقد وجد نفسه يدخل إلى الشقة!.

 

وفي زيارة نادرة إلى محمد أحد أصدقاءه,بما أنه الآن يخوض الجولة السنوية أو النصف سنوية من الزيارات الإجتماعية,قرر أن يختم يومه بزيارة محمد. وجده مجتمعا مع إخوته وإبن عمهم وكلهم طلاب جامعيين من المنيا,يعملون في إحدى مصانع السرايا,ويسكنون في شقة تابعة لصاحب المصنع. ويقال أنها شقة مسكونة خنق صاحب المصنع الحاج إسماعيل زوجته الثانية بها. وتخلص من جثتها وابنها في بطنها بإلقاءها إلى كلابه المتوحشة في المزرعة.

 

كان إيهاب متكئا على سور الشرفة يتأمل الشارع الخالي -لحسن حظه- في ساعة غروب,لما سمع صوتا,وأبصر -بتلك العين الخلفية في منتصف الرأس لما يشعر الإنسان أنه مراقب- خيالا أسفل الباب في الشق الضئيل بين لوحه وعتبته.

 

تكاثرت الظلال أسفل الباب دالة علي الأجسام التي تتحرك خلف باب الغرفة المغلق,شعر كريم بالوحشة والبرد وهو يجلس علي الأرض بينما أبناء عمومته الثلاثة علي فراشه متجاورين خاصة محمود الذي وضع نفسه في المنتصف بين أخويه,ثم تشجع أكبرهم وقام مقتربا من الباب حيث تقف تلك الأشياء الشيطانية خلفه,لم تبدر أي كلمة اعتراض من أقربائه المرتجفين ولا من إيهاب الذي يراقب.

 

مد يده وفتح الباب ثم أغلقه خلفه. دقائق قصيرة الوقت طويلة المدى,مرت ثقيلة علي نفوسهم الخائفة,نظر الفتية لبعض ثم قام مصطفي وهو الأكبر سنا بعد محمد,وبقى محمود وحيدا على الفراش,بينما قبع كريم محله على الأرض.

 

-انظر فقط

 

قالها كريم بينما ظل محمود صامتا,فتح مصطفي الباب وخرج وقد أغلقه خلفه,مرت ثواني

 

-مصطفي؟

 

نادي محمود فقام من فوره ولم يصله ردا

 

-لا تغلق الباب خلفك

 

لم يرد عليه,فقط فتح الباب وخرج وأغلقه خلفه كما فعل شقيقيه.

 

-لماذا يغلقون الباب خلفهم؟!.

 

لازال إيهاب غارق في صمته,سمع مواء قطط,وتسائل لماذا لا تتعرض لها تلك الأشياء بالخارج. ثم أراح صدره باعتبار أن المسألة كلها مجرد مزحة لإخافته,والوقت ليلا,والهواء بارد. وهم وحدهم في المنزل. كلها عوامل تشحذ خوفه. لذا استجمع شجاعته,وقرر أنه سيفتح الباب ويقفز على الفور للخلف ناظرا إلى ما وراءه.

 

ولكن سبقه كريم إلى ذلك,قام وبيد مرتعشة أمسك مقبض الباب,فتح الباب وأغلقه خلفه.

 

مولي ظهره للشرفة,يتابع كل ما يحدث في ذعر,يتساءل عن هذا القطع حيث لا يعود أحد؟ وهو الذي كان يفكر بأن يقيم معهم لفترة,تذكر أن الشرفة تعلو الطابق الأرضي فحسب,غير مهتم بما سيبدوا عليه الأمر أمام الناس (سارق) أو أمام أصدقاءه (جبان) تجاوز سور الشرفة متسلقا للأسفل,وقافزا المسافة المتبقية لما انتهت البروزات الممكن تسلقها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[7]

في ذلك اليوم,وفي نهار حار من أيام الصيف,وبعد انتهاءه من مطالعة كتاب طبي باللغة الإنجليزية جعله يكره الأقدام أكثر خاصة ذلك البحث المتعلق بمرض القدم الخندقية والذي جعله يتذكر دراسة أخرى عن الطريقة الأفضل لتشريح القدم حسب الاستعمالات المختلفة الجنائية والعلاجية والتعليمية,كما طفت على السطح المعلومة التي تنص بأن كل الأمراض أساسها القدم,وأنه إذا تم تدفئة القدم جيدا طاب الجسد,والدود في البطن يدخل مع الطفيليات الأخرى عبر القدم.

 

في ذلك اليوم تكاثرت المشاهد عليه,بدئا من الصباح لما كان ذاهبا إلى العمل,ثم تذكر أن له سنوات يرى أقدام العاملين والعمال والعملاء,فقرر أنه سيكتفي منهم اليوم ويرجع إلى المنزل (الذي لا يقل سوءا عن العمل) دون إستئذان.

 

أثناء رجوعه,مستمتعا بالنسمات الأخيرة من الهواء البارد قبل اشتعال السخونة في الجو. مستمتعا أكثر بخلو هذا الشارع من الناس,وهو الشارع الذي يقطعه دوما أثناء الذهاب إلى العمل,متجنبا شارع الدائري الشارع الرئيسي للذاهبين إلى أشغالهم. لا يوجد إلا بضعة بيوت متجاورة في صف واحد على يمينه أثناء عودته,يقابله حقل أخضر كبير مليء بالنخيل وخالي لحسن حظه من البشر. مرّ بالفرن (وصاحب الفرن يناوله العيش جالسا على كرسيه مقطوعة قدميه) والمتجر ومحل العصير ومطعم الكشري (وكلهم واقفون خلف واجهاتهم – Vatrina أو Stand- الزجاجية أو الرخامية أو الخشبية يناولوه مشترياته دون أن تظهر سيقانهم أو أقدامهم) وبائع الفاكهة والخضرة (وهو متربع على عربته تختفي قدميه تحت جلبابه) وسر أن مر مروره على خير.

 

عند الانعطافة اليمنى,وفي الأرض المواجهة لها رأى جثته معلقة على السلك بالأعلى مرفقة بخط من الخطوط التي تتقاطع مع السماء,كأنها تتحدى كهرباء البشر أمام صواعق السحب في سماء مبلدة بالغيوم. أخذ يتأمل الجسد الملتصق بسلك الكهرباء والموصل للتيار العالي الذي يضيء المدينة بأكملها. جسد ما بدا أنه رجل متفحم سرى التيار الكهربي في جسده فأمسك به شبح الموت الصاعق ولم يتركه حتى بعد أن مات. عيون الرجل تحدق فيه من بعيد,وذراعيه مفتوحة كأنه يطير,ويديه متشنجة كأن يريد أن يمسكه. ملتصق ومعلق في الهواء بالسلك الكهربائي ذو الضغط العالي.

 

توجه إلى الميدان كأنه يريد أن يخرج من كل الشوارع,وذاكرته القريبة لا زالت تحتفظ بصورة الجثة المتفحمة في الأسلاك المعدنية,لازال مشهد سلك الضغط العالي يخيفه ويؤلمه ويضغط عليه. وذاكرته البعيدة تلاعبه أيضا وتلهو معه وتعبث به,وتقليب المواجع يبدل المشاهد في رأسه؛باب العربة ينزلق ليغلق على ساقه,البساط يسحب من تحت قدمه,قدم تمتد لتركله ليسقط على وجهه,حجر يرتطم به ليتعثر فيه,

 

وإذا به يرى -مع من رأى- يد الإله -أو ربما يد الشيطان- العملاقة تمتد من السماء لتقبض على مجموعة من البشر وتذهب حيث أتت. يحسب أن الناس رأت معه ما رأى,وتجادل مع نفسه كثيرا لاحقا في حقيقة تلك الرؤية التي اعتبرها الأكثر هولا بين كل ما أتى به سابقا. حاول أن يتناسى خوفه وبدأ يميل إلى تصديق أن هذا لا يخرج عن كونه وهم آخر أكثر وطأة.

 

يتذكر أن هناك مشهد مشابه حكاه له صديقه,أو صديق صديقه (أوهي – وهذا هو اسمه (أوهي) وليس أو-هي) ذات مرة,تكرر أمامه في صورة قدم تنزل من السماء تدهس الناس في الشوارع والميادين. وفرق المكان هو أنه انتقل من مصر الجديدة في المشهد السابق,إلى حي السرايا في ما يحدث أمامه الآن.

 

ولما خرج من كل هذا ليدخل إلى منطقته حيث يسكن,ورأى الفتاة الوحيدة التي أحبها في تلك المنطقة. ولم يستطع أن يميز هل هي حقيقية أمامه,أم هذا أيضا محض تهيؤات. مشى إلى شارعه ثم حث الخطى إلى حارتهم,قابل حناء -إسم الفتاة التي أحبها- قابلها ثانية قبل أن يصل إلى بيته. شعر باشتياق إليها,ثم بنفور منها. مثلما حدث معه سابقا. ولأول مرة يدرك سبب كرهه المفاجئ والمنقلب عن حب لها. ربما لأن الحناء توضع على القدم. ولأول مرة يشعر بالأمان لعودته إلى تلك البيئة الخانقة. أمان تبدد لما تبدل الناس إلى ناس آخرين.

 

ناس لهم رؤوس أقدام,ينظر إلى كل جسد سائر على قدميه,ليجد قدما يعلو قمته موضع الرأس. تبددت الهلوسة لما اكتشف أن هناك معركة مشتعلة الآن في الشارع,والناس تركض هنا وهناك. الشجارات والصراعات تزايدت بكثرة في الأونة الأخيرة بحي السرايا.

 

 

 

 

 

 

[8]

قضى نهاره في بضعة زيارات غير معتادة منه,الأولى دارت به في الشوارع,والثانية استقرت به داخل إحدى مقاهي الإنترنت,وأخذ يتصفح أخبار الدنيا المعزول عنها تماما حتى وقع دون قصد على مقطع عن تاريخ الشرابات للمدعو الدحيح (أحمد الغندور),تصفح سريعا إلى عثر على قناة أخرى مقطع للدحيح عن أشهر شركات الأحذية. ثم مر على مقال عن أشهر الأحذية لآخر اسمه رايفين فرجاني. قام وذهب إلى المكتبة,وكانت تلك زيارته الثالثة والأخيرة ذلك اليوم.

 

وفي تلك الليلة زارته المزيد من الأحلام المرعبة عن الأقدام,استيقظ على صوت أقدام المزيد من المتشاجرين والمتخاصمين في معمعة من الصراخ والصيحات والدماء وصوت ارتطام الأحجار والنصال. هذه في الحاضر بحي السرايا,تقابلها الشجارات التي كان يراها في الماضي بقريته في الصعيد.

 

حاول تذكر شكل الأقدام في حلم هذه الليلة,ولكنه عجز عن ذلك دون أن يتبدد الصوت أو الخوف,هنا قرر أن عليه أن ينتقل لسكن آخر.

 

انتقل من سطح إلى سطح مبنى آخر واقع في المربع السكني القريب من مسكنه القديم,وقف فوق السطح ليلا يستمتع ببرد المساء,وتابع بعينيه أسطح البيوت الأخرى حتى وقع بصره على سطح بيت القديم. لدرجة أنه أوهم نفسه برؤية غرفته. وكان يرى أيضا ظلالا فوق أسطح البيوت. كأنهم أناس واقفين وينظرون إليه بملامح مبهمة وعيون لا ترى.

 

الكثير من الظلال فوق الأسطح في تلك الليلة,ثم رأى ظل القميص فوق السطح المجاور في الليلة التالية. رأى في تلك الليلة ظلا لشخص يقعد كأنه مختبئا,يسند كوعه على جدار المنور,ويستتر رأسه كله خلف ملابس معلقة على حبل. ظل يتأمله فترة,ثم أشار إليه. كان ساكنا بلا أي حركة تحت مصابيح بيضاء تنير السطح كله. سطح البيت والأسطح المجاورة. وكان ذلك البيت واقعا خلف البيت الذي يقع جوار بيت آخر لصيق بيتهم. ولكن بخطوات قليلة يكون عند ذلك الرجل. منتصف الليل قد مر منذ فترة,حوالي ساعة وهو واقف متسمر مكانه يحملق في ذلك الظل / الرجل الذي لا يتحرك.

 

وتعاقبت الخواطر في ذهنه,مبتدئا تخميناته بالقول في نفسه أنه ربما يكون صاحب البيت,أو نوع من فزاعة القش صنعها صاحب البيت ليخيف بها اللصوص,أو ظل تداعبه مخيلته به, أي مجرد وهم,أو هو شبح الرجل الذي مات في ذلك البيت,أو جني,ربما يكون من الجن فعلا.

 

اقترب قليلا ووجده مجرد ثوب على الجدار,فقط وهم تجمدت له دماءه.

 

لازال في منطقته بحي السرايا التي يبدوا أن إمكانياته المالية لا تسمح له بالفرار منها إلا إلى أحضان أهل أمه الذين لن يستقبلوه,لطالما تمنى لو يعرف أحد من أقرباء أبيه الذي مات دون أن يترك مالا ولا قريبا ولا ذكرى. انتقل إلى سكن ثالث في آخر طابق بالمبنى,وانتقلت الظلال معه. ينظر لها من النافذة الرئيسية بالطابق الأخير حيث شقته. أو من فوق السطح الذي لا يوجد أي سلم يصعد به إليه حيث يتسلق هو بنفسه صعودا للأعلى.

 

لذا انتقل إيهاب إلى مسكن لا يكون في الأعلى,ليس فوق السطح ولا في آخر طابق,ولكن بداية من أول شرفة صعودا لأعلى تخرج تكلفة الغرف -وليس الشقق- عن إمكانياته. حتى لو سيشارك في شقة مشتركة مع مجموعة من العمال أو الطلاب.

 

انتهى به البحث العثور على غرفة في بيت لا يسكنه أحد,أبى صاحب البيت البخيل أن يسمح له بالعيش في الطابق الثاني (الأول بعد الأرضي) ليرغمه بقدر ما دفع للإيجار أن يعيش شهرا واحد في مكان ذو تصميم خارجي وداخلي مختلف عن البيوت الأخرى على حدود منطقة (النزلة). معروف أن مناطق مثل الخرابة,والنزلة,والدوران,والعش,تتميز بمساكنها الملتصقة والضيقة والشاذة. ومع ذلك كان هذا البيت مختلف يدعو منظره لإنقباض الصدر وطلوع الروح.

 

المنزل رشق بين بيتين ضيقين ولكنه الأضيق في الشارع كله بعرض لا يتخطى المتران,وطول لا بأس به يمتد لسبعة أمتار في العمق بالداخل.

 

يسكن في الطابق الأرضي وليس به سوى مدخل وحمام وغرفة,الطابق العلوي به ثلاث غرف ثم الطابق الغير مسقوف المشكل للسقف. وكان الساكن القديم يربط بين الطوابق الثلاثة عبر سلمين. الأول هو السلم الخشبي الثابت خلف الباب,والذي يمر إيهاب من أسفله أثناء دخوله وخروجه. يصعد هذا السلم إلى الطابق الثاني عبر فتحة في السقف مثل صندرة مغلق بابها الخشبي بالقفل ليؤدي إلى الغرفة المتزينة بالشرفة. في تلك الشرفة يوضع سلم خشبي من الذي يحمل على الكتف,بدائي الصنع يصعد إلى السطح حيث فتحة في السور المطوق للطابق الأعلى,والذي لا يسمى طابقا إلا لأن غرفته الخلفية مسقفة بالخشب والقماش والمتروك أو المركون من أثاث وأجهزة البيت. والوسطى شبه مثقفة بالبوص والمشمع.

 

مشكلة إيهاب الكبرى كانت مع الباب,حيث يضطر لدخول غرفته عبر باب الحمام ذو البابين. حمام ضيق كان يفترض به أن يحتل مساحة الغرفة الوسطى في الطابق الأرضي لولا أن اجتزأ من المساحة لتوسيع المدخل.

 

يشعر بالاختناق,كأنه في قبر ينام فوق الموتى,جوار حمام يسمع همس الآخرين,قام وقد فارقه النوم. قد انتصف الليل ولازال به بعض الوقت قبل الإستيقاظ للعمل.

 

يذكر ذات مرة وقد أغلق الباب فإذ به يجد قدم بلا صاحب موضوعة جوار الشبشب في الحمام خلف باب غرفته. متكئا على الأريكة مد يده يفتح الباب واطمأن أن لا شيء خلفه, ألقى نظرة أخرى أسفل الأريكة المهتزة,لا شيء.

 

تناول علبة سجائر فضية تعد من مقتنياته الثمينة,يحفظ داخلها سبعة سجائر فقط دوما,ولا يعبئها إلا لما يفرغ منها. تناول سيجارة وأشعلها,وتبقت ستة غيرها. لا يعد نفسه ضمن المدخنين. فهو لا يشعل واحدة إلا مرة كل ما لا يقل عن شهر. يستمتع بها,واحدة من الأشياء القليلة في هذه الدنيا التي تواسيه فعلا,لم يجد يدا تواسيه في حياته,بدلا من ذلك وجد قدما. مئات الأقدام في كل مكان,وكل الأزمان,وحتى الآن.

 

ينظر إلى الجدار,تخرج منه عدة أقدام غير بشرية,أقدام رمادية تبدوا كأنها جزء من الجدار الشاحب,مثل شحوب وجه إيهاب في هذه اللحظة.

 

 

 

[9]

قرأ عنوانا لكتاب قبيح (يلتهم نفسه بادئا بقدميه)!.

 

كان دوما يحلم بهذا البيت,بيت بلا سلالم .. يرتفع عن كل الطوابق في السماء,يرتفع عن القمر أو المريخ,فلا يكون هناك رجل مثلا يعرف بأول من وطأ أرض القمر بقدمه.

 

هذا حلم فانتازي مستحيل التحقق,وهو لازال على درجة من التعقل تجعله يدرك ذلك.

 

أخيرا سكن في بيت عادي,واقع في حارة من ثلاث حواري ضمن شارع يتفرع من شارع الجمّالين المعروف بكثرة جزاريه,خاصة في اللحم الجملي,وكثرة منافذ بيع المخدرات,والتي يطلق عليها (دواليب) جمع دولاب,أي خزينة متحركة في جيوب البائعين والمخابئ السرية لحقائبهم أو هواتفهم أو مركبتهم (دراجة نارية / عربة جرّ / ماكينة توك توك / أو حتى حصان أو حمار بدون مربط).

 

كان يسكن داخل غرفة في بيت يؤجر صاحبه غرفه للمستأجرين,ليشعر بالمساواة مع الآخرين الذين لا يستطيعون دفع إيجار شقة. إحدى الغرف بها عائلة كاملة مكونة من الرجل الريفي وزوجته المحتشمة وثلاثة أو أربعة أطفال في نفس الغرفة. الأدهى أن أخو الزوج يأتي أحيانا للمبيت معهم في نفس الغرفة مما يدل على مدى ثقة الزوج بأخيه,وزوجته لا تعترض والمعاملة طيبة بين الجميع. وأحيانا يزورهم والد الزوجة ليؤكد مباركته على هذه الحياة الزوجية الهانئة. وبالطبع يبيت ليلته معهم قبل عودته إلى البلد. وأحيانا يزداد الزحام أكثر بالمزيد من الأقرباء لا يعرفهم إيهاب. كل هذا في نفس الغرفة! كل هذه الأقدام.

 

قام إيهاب ليلا يحث الخطى إلى الحمام الوحيد والمشترك بين جميع الساكنين,الواقع في نهاية الممر المظلم المحتشد بالغرفة ذات الأبواب المغلقة على الجانبين. ينظر إلى إحدى أكياس القمامة الموضوعة على بقعة مبللة غزتها الدود أمام إحدى الغرفة. يعلو الكيس قط شارد يبحث عن غذاءه هو الآخر. تمنى ألا يجد سكيرا في الحمام المشترك بين الساكنين والآخرين. يقصد بالآخرين مجموعة العفاريت في رأسه أو في الحمام بالفعل. لاحظ أنه لا يزال يحدث نفسه,وأنه لا داع لذكر إسمهم. يفكر في عمل الغد,عليه أن ينهي دورته المائية بسرعة,لتبدأ دورة الحصول على طعامه غدا. عاد من الحمام ليجد باب غرفته مغلق. وانطرحت الإحتمالات أمامه مثلما انطرحت أمس المرأة التي لا يعرف إسمها على فراش أحد الجيران الغير مرحب بجيرتهم من قبله,وهو يسكن في أعمق نقطة بالممر حيث الغرفة المقابلة للسلم والحمام. تخيله وهو ينطرح فوقها والأقدام تتلامس بعضهما. نظر إلى باب غرفة ذلك الرجل فلم يستطع رؤيته لسمك الظلام المغلف للغرفة الأخيرة المكسورة مصابيحها. الآن أدرك أن ذلك النفق طويل جدا بحكم أنه واقف الآن أمام الغرفة الثانية في الصف الأيمن. وتساءل إذا كان الظلام دامسا لهذه الدرجة,وهم في الطابق الثاني يعلوه السطح ولا بصيص من الضوء يدخل تقريبا. فأي حلكة كانت تنتظره إذا كان من الساكنين في الممر بالطابق الأرضي أسفل قدميه,ذلك النفق الذي استكمل صاحب البيت تأسيسه الكئيب للإيجار,ففتحه على القبو ليمد في مساحته نزولا للأسفل. تذكر أنه ذكر قدميه فتسمر مكانه. أي خوف لديه الآن. من السلم أم الحمام أم الطابق الأرضي أم قدميه أم من الموجود داخل غرفته الآن. فلا يمكن أن يكون أغلق لوحده,فهو لا يغلق إلا من الداخل لأنه وجده معدا لذلك,ولم يكن معه مالا كافيا لشراء قفل صغير. ولم يكن يهتم إذا سرقت أشياءه,حتى لو كانت علبة السجائر الثمينة,ولن يهتم أحد بكتبه. والسارق لن يعيقه قفل صغير على أي حال. لم يكن معه مال لشراء مصباح أيضا,ولكن المصباح الباهت المطل بضوءه من خلف ظهره عند الغرفة المقابلة لغرفته كان يريحه قليلا.

 

راجع الاحتمالات مرة أخرى لسبب أغلاق الباب.

 

الأول أن يكون ذلك العاهر,وقد عرف أنه بلطجي أيضا.

 

الثاني أن لصا ما كان هنا,ولا زال هنا.

 

الثالث أنه أغلق بطريقة ما فقد كان واسع الحيلة.

 

الرابع أن الهواء الشتائي العاصف أغلقه,ذلك يعني أن القفل مفتوح,وربما يمكنه فقط دفع الباب.

 

الإحتمال الخامس أن شخصا ما,غير اللص أو العاهر أغلقه,وهو الآن بالداخل.

 

السادس أن شيئا ما أغلقه!

 

ها هي مشكلة الباب تواجهه مرة أخرى هنا,دوما يجد صعوبة في فتح أي باب,حتى باب مديره في العمل,كان يطرق طرقتين ويحني رأسه منتظر الإذن بالدخول. وكان الإذن يتأخر أو ينسى حتى يخرج أحد من عنده فينتبه المدير أنه لا يزال يقف هناك فيسمح له بالدخول. سمع أن مصاصي الدماء لا يدخلون البيوت إلا بعد الحصول على إذن أيضا,نعم إنهم محترمين جدا.

 

تذكر فيلم دراكولا,الذي كان فيه الممثل يتحول من خلال شخصية ملك مصاصي الدماء إلى حشد من الفئران,وتذكر أن الطاعون انتشر قديما من خلال الفئران,وفي هذه اللحظة مر فأر على قدمه.

 

-تبا,اللعنة

 

صرخ بصوت عالي لاعنا ذاته والناس والزمن,وضع رأسه على الباب وأخذ يبكي. لحظات ثم أدرك ما يفعل,وأنه الآن ينظر إلى قدميه من بين دموعه,نظر حوله وسرّ أنه لم ينتبه أحد له. أو ربما لا يهتم أحد به. قدميه حافيتين فهو لا يرتدي أي نوع من أنواع النعال. لا حذاء ولا شبشب ولا قبقاب,ولا حتى جورب. الحذاء الوحيد الذي يرتديه هو الذي يذهب به إلى العمل,ومنه إلى كل (مشاويره) وسفرياته الأخرى. له سنين في قدميه ولم يتلف مع أنه اهترأ وتمزق كثيرا.

 

تذكر مشكلة الباب وفي الصباح أصر على الإنتقال إلى غرفة أخرى لدى نفس المستأجر توفيرا للمال. شريطة أن يكون المكان في بيت آخر وهو يعرف أن الرجل لديه بيوت كثيرة يستخدمها في مجال عمله.

 

وكأن الرجل ينتقم منه,دفنه في غرفة هي قبر فعلي في إحدى الأقبية التي كانت طابق أرضي دفن تحت التراب مع مرور الزمن. وشق له باب من الجهة الأخرى. وصارت شرفته ذات سلم يؤدي إلى الطابق الأرضي. الطابق الذي فوقه الآن. وأعلى الأريكة الراقد عليها في هذه اللحظة نافذة غاصت تحت الأرض كلها فتم سدها بالطوب,عدا جزء بسيط وضئيل يطل على الأرضية الترابية والمتسخة للشارع. فتحة لا تتيح له إخراج رأسه حتى,يشعر بالاختناق وهو قابع تحت مستوى الأرض. لا منظر من النافذة الوحيدة في الغرفة سوى مشهد الأقدام وهي تمر من أمام عينيه غير مبالية بما يعتمل في قلبه.

 

 

[10]

تذكر حادث قديم لما كان في المدرسة,اختلط معه مع ضربات العصى على قدميه,حادث كبير لما احتشد كل الأطفال نزولا على السلالم,وانقلب الجميع على بعض.

 

هذه المرة قرر أن يعيش مع صديقين غريبين,متشابهان معه تماما؛أوهي وحسن. وفر من خلال صحبتهما من البيوت اللعينة التي يعيش فيها بالإيجار,فرارا مؤقتا إلى حين العودة للسكن بالإيجار مرة أخرى.

 

إيهاب مرعوب دوما من الأقدام,ولطالما كان لدى أوهي خوف فطري من الأعين, والموسيقى. الموسيقى لديها تلك القدرة التي أذهلت الفلاسفة على خلق أفكار في عقل المستمع إليها. أفكار تتولد من مجرد إهتزازات تنتقل عبر الهواء. أفكار تبعث على الخوف أو السرور أو الحماس أو السكينة.

 

هذا عن الجانب السمعي,أما الجانب البصري,فالعين هي أكثر الصور قادرة على توليد مختلف أنواع الأفكار والمشاعر. تنفرد بذاتها عن بقية حقول الصورة التي تشمل العين في رسم أو نحت أو تصوير.

 

نظرة واحدة إلى العين تعرف إن كانت دامعة أو حزينة أو خائفة أو خبيثة,يشكك البعض قائلين أن العين لا تقرأ بدون بقية الوجه. وهو كان قادرا على قراءة العيون دون أن يرى أي تضاريس أو علامات أخرى تساعده على الفهم. فلا يحتاج أن يرى دمعة حتى يعرف أن العين تبكي أكثر مما يسع لها أن تنزف. عين أخرى يعرف أن بحر الدموع قد جف لديها,هي لا تبكي,ولكنها حزينة مثل أي باكي في أي مندبة يصرخ موت ولديه أو أبيه. وقد نظر إلى عين إيهاب فعرف كم هو بائس بحق.

 

يخاف إيهاب من الأقدام,ويخاف أوهي من العيون,أسوأ كوابيس إيهاب هو أن يستيقظ ذات يوم ليجد نفسه قد تحول إلى قدم بشرية أو كتلة ملتصقة من الأقدام أو شيئا مثل هذا كما حدث لمسخ كافكا. أما أوهي فإن أعظم أحلامه هو أن يجري عملية جراحية تجعله يرى بسبعة عيون. هذا بالنسبة له هي طريقته للقضاء على خوفه من العيون.

 

جلس يقرأ كتاب المسيرة الطويلة لستيفن كينج ثم شعر بأن قدميه أرهقتا من المشي

 

بينما أوهي يتابع المارة من الشرفة,أما حسن فقد سحب الغطاء عليه,وألتف حوله مثل شرنقة دودة,يداه مضمومتان إلى جنبه,وساقيه مفرودتان بطول فراشه. وظل الغطاء يضيق عليه ويخنقه ويكتم صرخاته ويعتصر عضلاته يكاد يكسر عظامه. وصارت أكبر أمانيه أن يتمكن من الشعور لمرة أخيرة ويده متحررة خارج هذا القيد. لقد كان دوما يكره القيود,ويرتعب لما يرى جنديا يقود لصا مقيد اليدين من الخلف أو يدا بيد مع الجندي.

 

لم يكن إيهاب أو يوهي يعلمان بأمر الكابوس الذي يمر به حسن الآن,ولكن لديهما فكرة عن مخاوفه,وحسن يخاف من أشياء كثيرة. يخشى الأيادي,والأجساد,والنساء.

 

ويحكي لإيهاب دوما عن شيء قادم,تشعر أن له عبادة خاصة غير الإسلام,لـ آثينا ربة القتال أو آريس إله الحرب. لا يكف أبدا عن النظر للأعلى,أو النظر مباشرة في عينه والحديث عن القادمون بقيادة ذو النون. كائنات هائلة علوية تحطم ولا تتحطم,تميت ولا تموت.

 

– شيء ما يحدث في هذا العالم

 

إيهاب أيضا يشعر أن شيئا ما يحدث في هذا العالم,ولكنه يحدث له هو فقط,وليست هالة الرعب بتلك الضخامة الكونية التي يتحدث عنها حسن. ربما هناك كائنات مخيفة تتربص به, يشيب شعره لمجرد التفكير بها. لكنه وحيد أمامها عاجز تماما. ولم يصب عجزه بعد البشرية كلها,ولا يعتقد أن هناك مخلوق إنسي أو جني,يمكنه لوحده أن يسبب خطرا على العالم كله بهذا الحجم. حتى القنبلة النووية ستبيد البشر نتيجة تعاون منهم ضدهم على الحرب. ولا يعتقد أن هناك ذلك النوع من التعاون ضد البشر في الجانب الآخر من العالم. ربما هم يقتتلون فيما بينهم. هم الذين يشار إليهم بكونهم جنا أو أشباحا. هم الذين إذا لم يعرف يشار في غموض إلى طبيعتهم المجهولة,بإعتبارهم شياطينا أو ظلالا أو كيانات. ربما هم ليسوا أي من ذلك,وربما حتى هو ليس هدفا لهم,وإنما مجرد تقاطع وقع فيه بسبب حظه التعس.

 

نظر إلى حسن ثم تركه في هذيانه وأخرج إيهاب نفسه من هذيانه,ونظر إلى أوهي,الذي فرح لأنه جذب إنتباهه إلى أساطيره وخيالاته هو بدلا من حسن.

 

نظر إلى المصباح الباهت المعلق في السقف فوق رأسه,استثار لديه ذكريات وكوابيس,شعر أنه عالق في مزيج بين النور والنار. متى يرتاح من كل هذا؟ هكذا تساءل.

 

نام أوهي على الأريكة,ونام إيهاب على الأرض تحت أقدامهما,أتاه كابوس ماثل في جسد إمرأة تحتضنه وتدلك ظهره بقدميها. صحا من نومه,وتبادل المكان مع حسن بعد إيقاظه طارحا إياه على الأرض.

 

أثناء إقامته مع حسن وأوهي,هناك أشياء كثيرة مخيفة زادت ظهوراتها له في الأيام الأخيرة. وضغطت المطاردات على روحه ما بين نومه ويقظته.

 

أول تلك الأشياء هي الأقدام,خاصة لما يذهب إلى السوق مضطرا ليحضر بعض المشتريات الماثلة في مكونات الطعام نظير السماح له بالمبيت معهما. تظهر له الأقدام من تحت الحوانيت والعربات وبجوار الجدران والأحجار. أقدام لا يرى أصحابها تسير وحدها لا رابط لها ولا جسد متصل بها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[11]

يعرف أصدقاء كثر,ولكن صديقه العزيز,شاب بلا قدمين,يظل قاعدا ليل نهار على كرسيه في غرفته المغلقة. كانا صديقين مقربين. ربما لأن نفس الحال أصاب شقيقه قبل أن توافيه المنية.

 

كان صديقه هذا يحب القراءة أيضا,خصوصا القصص المصورة,وهو الذي أهداه قصص المانجاكا الياباني

 

كان يكره قصص سبايدرمان

 

ترك إيهاب شقة حسن وأوهي,استطاع أن يعثر على شقة (وليس غرفة) مناسبة له جدا. تذكر كيف عثر عليها,أثناء ركوبه إحدى سيارات الأجرة وهو يكرهها. يتأمل السائق وينظر في عينيه وينظر إلى يديه. لا يريد أن يتخيل قدميه. لا تفارقه كل الأحداث التي يمر بها من ضغوط نفسية وأشياء ماورائية.

 

لقد عرف لماذا يعد الصفر سيد الأرقام,الرمز الأمثل لـ اللاشيء,وهو ما يصف حالة الخواء داخله الآن. خواء من الحياة,ولكن عقله غير خالي من تلك التخيلات. صفر هو الرقم الأقوى.

 

وقد أصابه اكتئاب عظيم وحاول أن (يفك) عن نفسه,من خلال عمل عدة زيارات ترفيهية, ليست زيارات,بل فسحات. وهي التجربة الأولى من نوعها في حياة إيهاب. نوع دخيل لم يجربه منذ كان طفلا.

 

الرحلة الأولى كانت في الشوارع,ورأى مشاهد كثيرة ودموية في شارعه,الناس باتوا يتقاتلون حتى الموت لأتفه الأسباب,أخذ ينظر إلى أقدامهم متخوفا من تحوله لقدم ذات يوم. لاحظ لأول مرة أن الشامة التي ساقه بدأت تتحول هي الأخرى.

 

أثناء سيره,استوقفه منظر سيارة بلا زجاج.

 

الرحلة الثانية كانت في حديقة الملاهي,ركب العروسة وركب السقالة,وتخيل أنه يركب الدوّارة. حيث تخيل عجلة عملاقة ترتفع عن أربعين مترا (يكره هو مقياس الأقدام فلن يقول مثلا أربعين قدما أو سبعين قدما) تستمر في الدوران ومعلق بها مجموعة من السقالات الدائرية التي تستمر في الدوران وكل سقالة فيها أطباق تدور وتدور. تخيلها أكبر من ذلك, بارتفاع سور الصين العظيم مثلا. تخيلها تظهر للناظر على القمر. دورانات رأسية وأفقية حتى دارت رأسه وداخ.

 

عاد في الليل وحيدا منتشيا بفرحته التي عكرتها منظر أقدام المشغلين,رغم أنه كان وحيدا هناك مستفيدا من بعض مدخراته النقدية في تشغيل الألعاب له وحده.

 

الرحلة الثالثة كانت في مكان أكثر ازدحاما,أكثر بكثير. ذهب إلى المتحف. وأخذ يستمع بإهتمام وتركيز وفي قلبه وجل من صوت دقات القلب الفرعوني. دقات مخيفة وعالية على أذنه وحده لدرجة أنه أنسته كثرة الأقدام من حوله.

 

الرحلة الرابعة وهي الأصعب,وكانت في متحف الفن التشكيلي,هذه بالذات هي التي دفعته إلى خوض التحدي مع نفسه بأن يتحمل كل هذه النزهات في أيام متعاقبة. لم يكن يعرف هل هو متحف مستمر أم معرض دوري. والذي استوقفه هو الإعلان عن المعرض لما لمحه في جريدة بيد أحدهم. إعلان أو خبر عن إفتتاحه,مرفق معه صورة تظهر بعض المعروضات.

 

أبرز تلك المعروضات هي لوحات الأقدام,لوحات رسمت فيها الأقدام بمختلف الأحجام والأشكال والألوان والأوضاع والأساليب.

 

الرحلة الخامسة في اليوم السابع من هذا الإسبوع,يوم جمعة كما تنص العادة في الرحلات المصيفية التي تخطط للإقامة عند البحر يوما أو إسبوعا. يوم واحد هو ما كان يريديه,وما يقدر عليه. فلا يقدر على أكثر من ذلك.

 

استمتع بالماء كثيرا,وغاص وسبح ومارس النشاط الثاني (بعد المشي) الذي يستلزم تحريك قدميه. وعند الغروب ارتاح منهكا ممددا على سطح البحر فاردا يديه غير طاوي لساقيه, متناسيا تماما وجود قدميه أو الأقدام المحيطة به. هي أقدام غارقة الآن تحت سطح المياه تداعب الرمال أصابع وكعوب أصحابها. تذكر الأقدام,وتذكر ستظل موجودة. تخيل نفسه على ضفة نهر قريبه من ماءه. متدلية قدميها في المياه العذبة. مشهد رومانسي وجميل لأي شخص آخر عداه هو. مشهد مخيف وقبيح. اعتدل لينزل نصفه السفلي إلى تحته,وتغمر المياه جسده حتى أسفل شفتيه تتموج عند ذقنه وعنقه. شبه متربع يتأمل الناس من حوله. كلهم رؤوسهم أسفل وأقدامهم أعلى منتصبة بشكل رأسي. إمتلأ الشاطئ بالأقدام. ولا رأس واحد يطل عليه. البحر كله أقدامه الناس فيه مقلوبة للأعلى.

 

هرول عائدا إلى الخارج,إلى البرّ,إلى الأمان,إلى الأرض التي لا يأمن فيها من دقة قدم عليها,فكل الأقدام تسير على الأرض. كان يحب البحر لأنه بعيد عن كل هذا العذاب. فلا يعرف ما به أو ماذا أصابه. صار بحرا من الأقدام.

 

يجب أن يجد حلا؟.

 

وصل القاهرة وقد انتصف الليل,قرر أن يصلي الفجر في الحسين,وقد فعل. هول عظيم حل عليه,بسبب أن رأسه يستاوى الآن مع أقدام المصلين. ولكنه أقنع نفسه أن هذا تأثير الصلاة في المسجد العظيم خاصة وأنها المرة الأولى منذ سنوات عديدة التي يركع فيها للمولى. لم ينحني أصلا لأي أحد من قبل. حاول أن يصدق أن خشية الله هي التي غلبت خوفه من الأقدام.

 

تلك كانت رحلته السادسة أما عن السابعة,فكانت قراره / فراره للذهاب إلى البلد. محطة رمسيس قريبة من الحسين,ولا زال معه بعض المال. سافر إلى سوهاج وهناك عرف أن أمه ماتت قبل مقدمه بسويعات. وكانوا يحاولون الإتصال به.

 

 

 

 

 

 

 

 

[12]

يقرأ كتاب عن الأمثال الشعبية ولازال يكره الأمثلة الشعبية,لأن الكثير منها يتضمن ذكر للأقدام (خش برجلك اليمين – مش عارف راسي من رجليا – الكذب مالوش رجلين – رجل الديك تجر الديك – مجرد رجل كرسي – يعملون على قدم وساق – على قد لحافك مد رجليك – لا تمسك رجل المشنوق – الشاطرة تغزل برجل حمار – على رجله نقش الحنه) وكان يخشى أن يقال مثلا (يكسب قوته من عرق رجله), أو (القدم البطّالة نجسة).

 

ناهيك عن العادات,فالإنحناء أو الركوع يعد من أسوأ الإهانات,وكذلك أن يجعل الجالس ساقا فوق الساق في وجه أحدهم. بل إن أعظم إهانة على الإطلاق هي الضرب بالشبشب فوق الرأس.

 

تذكر أمه وهو جالس على الأريكة يدخن سيجارة,تذكر معاناة في دفنها,وحزنه الكبير عليها. تذكر كيف مات أبوه وأخوه. لما سقطت عليهم صخرة عند الجبل. صخرة عملاقة لا ينسى كيف كان قدمها. الصخرة مثل القدم بينما تعاريج الجبل مثل ساق ممتدة للركبة عن قمة الهضبة.

 

مرت سنة على موت أمه وسنوات على عذاباته المستمرة,وقد انتصف به العمر بين الثلاثين والأربعين. مرت به ساعة أو أكثر وهو يتأمل الليل البهيم أمامه من غرفته. أشعل سيجارة أخرى. شعر بلسعة برد وتخيل الوحوش الكامنة في مخابئها الآن.

 

هناك إرتباط بين الوحوش والأقدام,مصاص الدماء مثلا لا يدخل بقدمه أي مكان دون إستئذان,وقيل أن الميت إذا تحركت قدمه إلى زاوية التابوت يعني أنه سيتحول إلى مصاص دماء.

 

الرجل الذئب يبدأ التحول من قدمه.

 

وزمان كانت جدته تحكي له عن أبو رجل مسلوخة.

 

والبعبع يسكن تحت السرير,ويخطف الطفل من قدميه المتدلين.

 

حوريات البحر لديها زعانف بدلا من الأقدام وتخطف الرجال من أقدامهم المتدلية في الماء, والساحرات تسري في الهواء دون أن تلمس قدميها الأرض,كما أن تعاويذهم تستلزم إستخدام بعض أقدام الأطفال الرضع.

 

الطفيليات هي مخلوقات تدخل من القدم

 

هناك ذلك الشيء المسمى رجل العفريت,والجن لديهم أقدام ماعز.

 

ذو القدم الكبيرة تم تصور وجوده بالكامل من خلال آثار أقدامه

 

هناك ذلك الوحش ذو القدمين المعكوسين,

 

هناك مجتمعات كانت تستخدم الفيل من أجل الإعدام,بأن يدهس رأس المحكوم عليه بقدمه العملاقة.

 

تخيل تمثالا للوحش ذو الأقدام,الرجل ذو الأربعين قدم

 

الثعبان حيوان بلا أقدام,وكذلك الدود. ورغم أن حضور القدم أو نفيها سببا لإزعاجه أو ذعره إلا أن الثعبان كان بالنسبة له هو الوحش الأفضل. حيوانه الأليف الذي لم يقتنيه يوما. الثعبان أفضل صديق للإنسان وليس الكلب. سمه أخف وطأة عليه من أقدام كلب تمشي على جلده البراغيث بأقدامها. أو قط يركض بأقدامه الأربعة خلف فأر يفر على أقدامه الأربعة. استرجع بذاكرته شعور أقدام الفأر الذي مر من على قدمه. هو يكره كل الحيوانات عدا الثعبان الذي يعتبره أفضل صديق. مشاهد أخرى مرت أمام عينيه. قدم خشبية عند الجزمكي. يلمس قدمه على الطريق السريع. قدم أخيه تنسلخ قبل أن يموت. وأبوه (أو تراه عمه) ألقى الماء الساخن على نفسه. المرأة يتم خنقها وقدمها ترفس.

 

 

[13]

هذا هو أسوأ يوم في حياته,ابتدأ بأن داس أحد المارين على قدمه,وانتهى بأن تم ضربه. وتوسطه أن قابل رايفين فرجاني مرة أخرى في كتاباته.

 

جلس على حجر يبكي ويتأمل قدميه,نظر إلى الشامة التي تحولت بالكامل إلى شكل قدم. تذكر لما أصابه خراج في قدمه ومعاناته مع ذلك. معاناة ممتزجة بالألم الجسدي لبركان القيح الذي تمنى لو ينبت الآن مكان تلك الحسنة التي تدل على أنه لم يفعل حسنة واحدة في حياته. شعر أن دمه فاسد وحياته فاسدة. وتقلبت الذكريات البعيدة في رأسه.

 

تذكر اليد التي سحبت قدمه من بطن أمه.

 

تذكر أول مرة تعثرت فيه قدمه ليجرح ركبته.

 

تذكر أول خطوة خطاها بقدمه إلى المدرسة.

 

تذكر أول مرة كسر قدمه في الإعدادية.

 

تذكر أول ركلة وجهها لصديق له في الثانوية.

 

تذكر أقدام الموتى في المشرحة بكلية الطب.

 

تذكر موت أبيه واضراره إلى دفنه.

 

تمنى لو يمكنه قطع قدميه ودفنهما في مقبرة للأقدام.

 

كتاب فرويد والذي جعله يحلل نفسه

 

على سيرة الموت تذكر العاشقين المعلقين عند أول الشارع,مشنوقين بحيث يكون أحدهما معكوس أو مقلوب للآخر. عرفت هذه الحادثة بإسم المشنوقين وتورطت فيها جهات أمنية عليا نادرا ما تتدخل في أي من مجريات حي السرايا اليومية. مهما كان الحادث عظيما في وقعه وأثره. هناك جرائم أبشع بالتأكيد,ولكن ربما أزعج المسؤولين مسألة عرض الجثث والتفاخر بإزهاق روحيهما.

 

إمرأة جميلة في تمام الثلاثين مثل تمام البدر على وجهها ناصع البياض,بدت نظرة الذعر جلية على عينيها إحتفظت بها ملامحها حتى بعد الموت. صدمه لما عرف أن الشاب لم يكن عاشقها بل شقيقها.

 

-هل نام معها؟

-لا,ولكنه لم يغسل عاره منها,فقتلوه معها.

 

وقد سمع أنه لم يكتفي فحسب بعدم قتلها,بل تصدى لأبيه وأعمامه وأخيه الأكبر,في سبيل إنقاذ حياة أخته. معلق من قدمه اليسرى مذبوحة عنقه,يتدلى اللسان من فم أخته,ولا زالت قطرات الدماء تتساقط من فمه. الحبل يضيق على رقبتها,والدماء بدأت تجف على رقبته.

 

المرأة ماتت بالخنق,والرجل مات بالشنق. ولكنه شنق من قدمه هذه المرة. وثبتت الصورة في ذهنه. منظر المرأة وقد تدلت قدميها أسفل ثوبها,ومنظر الرجل وقد علق من قدمه رأسا على عقب.

 

عربة جرّ يجرها حصان معتوه ينطح ويرفس كل ما أمامه,كاد الحصان أن يدوس على قدمه.

 

-ما تفتح يا أعمى (انظر أمامك يا أعمى)

 

هكذا شد سائق عربة الجرّ لجام فرسه ليهدأ هذا الفحل ذو الأربعة أقدام,ويهيج الفحل ذو القدمين,ينزل من عربته ويرغي ويزبد,يزعق ويشوح بيديه. حاول إيهاب تهدئته وكان لا يزال غاضبا بسبب الحادث وقدميه تحتي قدمي الحصان. لذا كان ما يقوله لتهدئته هو محاولة لتهدئة نفسه أيضا. غضب وانفعل وبدأت اللعاب والسباب يتطاير ويتطاير معه اللكمات الوهمية. ثم اشتبكا معا بالأيدي وركله العربجي بين ساقيه,وفي لحظة احتشد العربيجية حول قريبهم وجارهم وزميلهم في المهنة,وعلى ما يبدوا هو معلمهم أيضا.

 

وتحولت اللكمات التي سددها إلى المعلم,إلى ركلات تستخدم من جسد إيهاب كيسا للتمرين أو التفريغ. لم يكن يتوقع كل هذا الضرب,كما أن الأحداث تطورت خلال دقائق معدودة. تلقى ضربا مبرحا,أقسى ضرب وأقسى ألم شعر به في حياته التي ستنتهي الآن.

 

استمر الضرب ينهال عليه من أكثر من عشرين زوجا من الأقدام,دون استثناء أي مكان في جسمه,ليمطروه بقذائهم القاتلة على يديه وساقيه وبطنه وصدره وظهره ورأسه وعنقه وذكره ووجهه. بدأ ينزف من فمه وأنفه وعدة مواضع أخرى,وبدأت صيحات الناس تتعالى موصولا بصرخات (الحريم) وولولة (النسوان) -ومرور أحمد على المشهد مرورا الكرام وكما اعتاد في مثل هذه المواقف المتكررة في شارعه / منطقته أسرع الخطى إلى بيته.

 

الموت تحت الأقدام,أدرك إيهاب أن هذا هو ما يحدث له الآن,ودب الذعر في قلبه,هلع وفزع لم يشهد لهم مثيلا من قبل. هو ذاهب إلى المكان الذي يجسد أسوأ كوابيسه,بعدما تحققت أسوأ كوابيسه بالفعل. ذاهب إلى جحيم تنصهر فيه الأقدام وتتجدد إلى الأبد. أو إلى جنة محتشدة بأقدام الناس والحور والملائكة,لا يريد الذهاب إلى جنة موقعها تحت أقدام الأمهات. أو إلى العدم. ولكن حتى هذا لم يرضيه لو تحقق. فهو سيظل جثة ذات قدمين تحمل على أكتاف ذات أقدام توضع في القبور مع جثث من الأقدام. يدفن تحت الأرض. تحت مستوى أقدام كل البشر. يسير فوقه ويطأ وجهه جميع البشر.

 

وماذا لو عاد على صورة شبح,هل ستكون له قدم شبحية أيضا؟

 

تتكرر مشكلة إيهاب والباب هنا مرة أخرى.

 

باب الموت.

 

الموت تحت الأقدام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *