الأجساد
[1]
حي السرايا هو كما يظهر من إسمه حيّ,أي أنه مكان نابض بالحياة,منطقة سكنية فيها مساكن مملوءة بالساكنين,حتى أنها لغير قادرة على إبتلاع المزيد,ومع ذلك يأتي المزيد في تدفقات لا تنتهي من كل مكان,فالمنطقة أصبحت (لمة) من كل حدب وصوب. لم تلملم إلا بقايا المدن والأحياء والقرى التي تلفظتها ولم تحتملهم لفقرهم أو لعهرهم,فقذفتهم علينا. تبتلعهم البيوت حتى تتقيأهم في الشوارع,وتزدحم الأجساد داخل الجدران في السكنات أو في الطرقات لا فرق. حتى لقد أصبح عدد الأجساد يتجاوز عدد الحجارة في البيوت والمباني (المتهدمة أو التي لازالت قائمة على بنائها محتفظة بحجارتها). والأجساد لا وظيفة لها سوى الهيام في الشوارع والحواري والأزقة والطرقات,هكذا بدون غاية محددة رغم أن كل واحد ذاهب إلى وجهته. وكل واحد في الأخير ينام على (مطرح) ما يتساوى إن كان على تراب أو بين الجسد والتراب منسوجة ما مثل حصيرة أو فرشة,أو كان المطرح أعلى قليلا من التراب حيث فراش أو سرير. وربما كنبة فليس الجميع لديهم رفاهية النوم على سرير. خاصة لو كان سرير لشخص أو شخصين كحد أقصى. وليس ستة أو ثمانية أو تسعة. (لا تسألني كيف فأحيانا يكون العدد أكثر من ذلك).
شاب خرج ليجر حبيبته / خطيبته من بيت أمها معه إلى (فسحة) في مكان ما وسط البلد أو على النيل أو حتى في تلك الحدائق والمنتزهات على تخوم السرايا في الحدود مع خط المترو (حيث العمار والتحضر بالنسبة لساكني السرايا).
سألت أمها
-رايحة فين يا بت
صاحت
-خارجة اتفسح
وهناك حشود الأجساد الصغيرة الضئيلة الضعيفة المعرضة لمهالك معلومة,ومخاطر أخرى لا يعلمها إلا الله. هؤلاء هم الأطفال ذاهبين إلى مدارسهم.
-رايح فين يا ولد
-رايح اتعلم
-ابقى قابلني لو فلحت
وآخر خرج وهذا يوم عيد أو يوم عطلة (لا فرق) ولكن ذاهب إلى عمله حيث لا عطلات له.
أتعلم أشتغل أجيب أأكل أتمشى قليلا أو أذهب إلى مستشفى. أو أفعل أي شيء.
ربما
أعمل
ماذا أعمل؟
لا يهم
أنا جسد من ضمن هذه الأجساد,واسمي أحمد,إسم معتاد جدا في مكان بمصر,لذا تجد صحبتي مجموعة معتادة ونمطية من الشباب ما بين محمد ومحمود,وربما مصطفى وعبده (الذي لا أعرف هو عبد الرحمن أم عبد الرحيم أم عبد التواب أم عبد الستار أم عبد الشيطان هذا الفتى الأفاق مدير سهراتنا الليلية),وهناك حمادة (وهو ليس تدليلا لحامد أو حمدي أو أحمد,إلخ). بل إسمه حمادة. يوجد شخص إسمه حسام,وآخر جلال,أو ربما محمد أيضا.
[2]
وإذا تحدثنا عن الأسماء
الرمادي اسم شهير جدا بين سكان حي السرايا,وقد اختلف القوم حول طبيعة الرمادي, ودارت التساؤلات تحاول تحديد ماهية هذا الرمادي الذي يتحدث عنه الجميع.
قيل أنه اسم حجر ضرب به رجل أخاه,فنزف أخيه دما رماديا ومات.
وأرجح الأقوال ترى أن الرمادي وصف للحالة العامة التي تطغى على أغلب سكان السرايا والأحياء المجاورة. الرمادي مجسم للغباء البشري وللبؤس وخيانة الحبيب وقسوة الأقارب وكل ما هو قبيح في هذا العالم,مجسم لونه رمادي.
هذا الرأي يستند إليه رأي قوي له مريديه,ويزعم أن الرمادي ظاهرة معروفة حول العالم كله,وهي مصدر شقاء كل الناس في هذه الدنيا. أي أنها ليست حكرا على السرايا فقط.
هناك آراء أخرى تزعم أن الرمادي هي مكان ما,غالبا منطقة سكنية في السرايا تقع ضمن حدود تلك الدائرة المشؤومة التي تضم مناطق مثل (الترعة) و(الضلمة) و(الحارة) و(الجدار) و(البواغي).
ويرى من يرى أن الرمادي هو الجدار,الجدار القابع في نهاية هذه المنطقة في أقصى الشمال.
ويوجد شخص واحد يقول أن رمادي لا ظاهرة ولا جماد,بل هو إسم شخص من سكان السرايا,غامض كما يبدوا من إسمه,وقيل لا غموض في شخص عادي ورمادي مثل الجميع. رد آخرين أنه ليس رمادي نفسا,وإنما لونا أيضا. حتى أمه رمادية اللون.
ومذيل هذا الرأي برأي يرى أن الرمادي ليس رمادي بل رمادية,الرمادي هي الأم نفسها التي نسب لونها لإبنها فحسبه الناس أنه الرمادي. هناك أقاويل عن تلك الأم,أم الرمادي ذات اللون الرمادي مثل إبنها,الأم المعذبة,فقيل أنها توصف بكسر الذال. أي أنها هي من تعذب إبنها وليس الواقع عليها العذاب. وهي العامل الأول في بؤس عائلة بائسة.
رأي آخر ينسب الرمادي إلى لون السماء,التي اصطبغت باللون الرمادي دوما بخامات مختلفة للصبغة من الأتربة والغبار والأدخنة والغازات والسحب الممطرة والقنابل الغازية وحتى أشياء أخرى لا يعرف أحد كنهها.
وبما أن هناك أقوال عن كونه إنسان -هذا الرمادي- تذهب آراء أخرى إلى كونه حيوان,كأنه حيوان خيالي غير معروف نوعه أو خليط من عدة حيوانات مختلفة,مثل التنين أو الكيميرا أو حتى الغول الذي يتصف بقبح الخلقة فقط. دون أي تحديد دقيق لشكله أو ملامحه.
وهناك قلة قليلة جدا,رغم أن القلة مع القلة تصنع كثرة,والقليل يحكي عن الكثير من القلة. هناك من يرى أن الرمادي …
نسيت هذا الجزء الصراحة,ربما أسأل أحد أصدقائي لاحقا.
وهناك من يرى فيه الحجر الرمادي,أقبر من الحجر الأول,حجر مثل الحجر الأسود,لكنه تجسيد للشر تحج إليه شياطين هذا العالم والعالم الآخر.
وفي الأخير,هناك من يرى أن الرمادي هو الرمادي. هكذا ببساطة!.
وإذا كان لي رأي في الموضوع,أنا أحمد,أحسب أن الرمادي يمثلني,مثلما يمثل أي شخص آخر ساكن في السرايا,سواء من السكان الأصليين,أو أولئك النازحين (وهم شبه أصليين) من الأحياء المجاورة مثل المرج والخصوص والخانجة,أو حتى الآتين من بعيد من أحياء القاهرة أو القرى الريفية البعيدة.
[3]
تقع منطقة الحد عند حدود حي السرايا,ولهذا الحق بها اسمها,وقيل أن ذلك راجع لكون مدينة الحد مبنية على مساحة صحراوية شاسعة,لم يكن يعيش بها أحد,ولم يكن يرجع منها أحد. وهناك من يقول أن السبب هو مؤسس مدينة الحد,الذي بناها من خلال عائلته أو عصبته التي ربط بينهم رباط الدم,رمزا وحرفا. فقد استعمل حد الموسى في توقيع العقد الأول بدماء المؤسسين الأوائل. أقوال أخرى ترى أن سبب التسمية هو سوق الأحد الذي اشتهر به حي السرايا بعد ذيوع صيته داخل منطقة الحد. وهناك من قال,وربما تأكيدا على الرأي الأخير أن أول بيت في الحد بني أو وضع حجره الأول في يوم أحد. سمع ذات مرة أن منطقة الحد تمثل الحد الفاصل بين عالمنا وكما قرأ في القصص أو سمع من رواد السجون وبين عالم آخر,ومن وظيفتها حصلت على إسمها؛الحد. وهناك من قال عودة لكونها منطقة صحراوية أنها تسمت بذلك ليس له حد (متناسين الجدار). أو ليس فيه أحد.
في العموم دوما تختلف الآراء حول كل ما له علاقة بالجدار كما يحدث في جدران عدة,مثل جدار الرمادي في حي السرايا أيضا. مثل الرمادي نفسه.
يحيط منطقة الحد,حدود واضحة,متمثلة في جدار هائل كبير,كان سابقا عبارة عن جدارين متقابلين يرتفعان عن قامة الإنسان بقليل,ويؤطران مسلك السكة الحديد حيث القطار الملتف حول المدينة. وعلى سبيل الاستسهال والاسترخاص والاستخسار,استثمر الأهالي أسوار السكة الحديد,وارتفعوا بها بناءا عاليا صار علامة مسجلة تميز منطقة الحد. وهذه الأبنية عند السور باتت تشبه القلاع عند الحدود,بدلا من أن تكون سورا عاليا يطوق الحدود. يرى صاحبي محمد أن هذه القصة غير صحيحة,صحيح أن النس فقراء وأنهم يفضلون أن يبنوا جدارا فوق جدار متحملين تهديده بأن يقع فوق رؤوسهم بدلا من أن يهدمون القديم ويرتفعون بآخر جديد. لكن ليس لهذه الدرجة.
تنقسم منطقة الحد إلى خمسة مناطق أساسية أربعة منها تدعى بالممالك الأربع داخل حي السرايا. هم مملكة ناصر في وسط الحد,ومملكة السلام في الشمال وخلفها مملكة المروج أقصى الشمال. وفي الشرق تقع مملكة المطر. وفي تأسيس هذه المناطق قصة طريفة,ولكن مكررة ومعتادة في هذا النوع من المساكن العشوائية,ولقد شملت السرايا كل أنواع العشوائيات وأغربها. فمملكة ناصر تحوي بين طياته المهاجرين والساكنين الجدد واللاجئين والهاربين من منشأة ناصر ومن سقوط الصخور فوق رؤوسهم. ونفس الأمر للبقية.
وقد كان أحمد مارا بالقرب من السوق الذي تباع فيه أشياء غريبة لا يعرف كنهها,وتوغل في دروب السوق حتى تجاوز حوانيتها كلها ليجد نفسه أمام الجدار.
عرفه من خلال كتل الأجساد التي كانت حية,والمتراصة أسفله,في صف طويل يمتد بطول الحائط. أشهرهم هو هذا الميت,رغم أنه لا يجد فارقا بين جثة وأخرى,وكلهم عبارة عن كومة من الجثث تراصت في شكل أكثر كآبة كأنهم متسولين. حتى الموتى لم يسلموا من التسول وباتوا يشحذون قبورا تأويهم.
-القبر أغلى من البيت هذه الأيام
هكذا قال لنفسه,وهو يتحسر على الدار الآخرة التي لا يطالوها,ولا الدار الدنيا هانئين فيها.
نظر إلى الجدار وفكر بالمرور إلى الناحية الأخرى,لن يقع عليه ضرر فهو من نواحي هذه المنطقة وأدرى بدروبها وعارف لناسها ومعروف بينهم. لكن ألهاه عن ذلك صيحات الباعة المتجولين وهم يعرضون بضاعتهم. وهذا أفضل مكان للبيع,سواء كانوا باعة جائلين أم من ذوي العربات.
الباعة المتجولين,وهم كثر,ويتاروحون في التنوع بين بائع صغير يتجول ببضاعته المحمولة بين يديه أو على كتفيه,إلى بائع يتجول دافعا أمامه أو جارا عربة خلفه,أو متوقفا بها على ناصية شارع. المهم أنها تصحبه في كل مكان. وصولا إلى كبار التجارة ذوي العربات والخيول والحمير والبغال. وهم يشترون الناس كما يشترون البغال.
عاد يتذكر مرة أخرى
-الميت والطير والشجر والماء
رددها بينه وبين نفسه,هو الآن واقف أمام الجدار الواقع عند الحد,فكر أن يرجع للوراء,ثم قرر أنه يمكن له أن,أن تكررت أناته وشعر بأنين بينه وبين نفسه.
-لما يفعل كل هذا؟
تسائل,وهو يدرك أن نزوته المجنونة هي السبب,عاد مرة أخرى للتفكير بأنه ليس عليه أن يعبر من الجدار,ليس عبره,بل يمكنه فقط أن يكتفي بالسير إلى جواره. تلفت إلى اليسار فبدا له المسار لا ينتهي. ولكن عزم على الأمر ودون تفكير أو أثناء التفكير دفع نفسه للمشي ومشى. مشى بالقرب من الجدار الطويل الذي لا ينتهي. حقا لا نهاية له. أو هكذا بدا له. رأى حسن لا يتذكر إسمه الآخر.
-حسن عزازيل أو حسن عزرائيل مش هتختلف!
عاد للوراء يسرع الخطى نحو بيته,خاصة,أثناء دخوله البيت وقعت عينه على مقدم خالد
-ما الذي أتى بهذا إلى هنا؟
خالد دراكولا,وحسن عزازيل!
-ها قد اجتمع الشيطانان,ربما يستر.
الجلود
[1]
لما كنت صغيرا كان أبي يصحبني معه في رحلات وفسحات إلى السلخانة والمشرحة والمقبرة. وفي الأماكن الثلاثة كان يقابل خلود بائعة الجلود. وأصبح لديه شبه خلفية حول طبيعات عمل أبيه التي تحوم حولها الشبهات. مات أبي. وأصبحت أنا شبه مشرد.
مشكلة السكن تعد من المشاكل العويصة التي قد تصادف أي ساكن في السرايا,ولهذا هو كثير الترحال بين هنا وهناك. وعرف الكثير من الأصدقاء أو الأقارب أو الجيران أو المعارف يعانون من نفس المشكلة. فلا يوجد مكان ملائم بالعيش في السرايا يتناسب مع إمكانياته المادية والمعنوية.
اضطر ذات مرة لأن ألفى نفسه وقد سكن في البيت ذو الغرف الكثيرة والمحير والقصص التي تتوه عنه حول مسكنه هذا,ولم يمضي سوى أول يوم وتركه إلى بيت آخر. وفجأة تذكر إيهاب وحيرته مع الأقدام. انتقل أحمد إلى حجرة في إحدى البيوت المخصصة للإيجار, وكانت أرضية الحجرة مغطاة بنوع من المفروشات الجلدية,وعدا ذلك كانت الحجرة خالية من أي شيء. ليلة واحدة وسمع من خلف الجدار من يروي قصة مبيته في هذه الغرفة. ورجل أصابه الجرب وبدلا من أن يأخذ دهانا للتشافي قرر أن يحرق نفسه,فيقتل سوس الجرب ويقتل جلده. أفزعته قصة الأجرب وحرق جلده. خاصة وقد شعر بالجلد المحترق ملتصق بالفراش أسفل ظهره العاري في ليلة من الحر القائظ.
وفي مرة قضى ليلته في بيت للأشباح
-بيت الأشباح في شارعنا
-بيت الأشباح في الشارع
أو,بيت العفاريت,وهذه من العبارات الشائعة جدا بين الناس,مصدقين أو مكذبين,فحتى من لا يصدقوا,يستخدموها للاستدلال على مكان ما أو بيت أحدهم. ضاق به الأمر حتى كاد أن يخرج من جلدته. ومع ذلك لم يتوقف عن إستمتاعه بسماع هذه القصص,طالما هو بعيد عن البيوت التي جرت فيها أحداثها. منها تلك المرأة التي كانت تستحم تحت رشاش الماء المعدني وإذا بحادثة معتادة,هي أن إحدى الأسلاك الكهربائية لمصباح معلق بالسقف,مست معدن الخطاف المعلق جواره أو معلق به. لينتقل التيار الكهربائي في ومضة وصعقة إلى تلك المرأة المسكينة التي كانت تستمتع بحمام بارد في هذا الحرّ,أو ساخن في ليلة شتاء. لا يعرف. كما لا يعرف بالضبط شعورها أثناء هذا الموت.
ذات مرة حسبت خطيبتي شبحا,فهي تسكن مع أهلها في غرفة وضيعة,أكثر حقارة من غرفتي,والمنطقة أكثر خطرا وضراوي من الحارة التي أقطن بها. فهم يعيشون في الخرائب على أطراف السرايا حيث مستوى معيشة ليس أقل من آدمي (فهذا هو حالنا) وإنما لا آدمي أصلا.
لها صاحبة أخرى غريبة الأطوار حكت لنا قصتها عن محاولة إغتصابها,وقد كانت أنثى فعلا وتستحق الإغتصاب. إلتف حولها خمسة رجال,وحول كتفها إلتف حبل متصل بحقيبة كبيرة. كبيرة جدا. فيها صاعق كهربائي وعصا معدنية تدخل داخل نفسها من التي تستخدم للدفاع عن النفس, ومطواة صغيرة,وسلاح الرش الذي يعمي العيون,وقالب طوب. فيها أشياء كثيرة. وقد قال لها أحد مهاجميها
-لماذا لا تحملين مسدسا وتريحي نفسك وتريحينا معك!
-ما رأيك في مس؟
سأل صديقه إبراهيم
-ميس؟
-مس
-نقصد ميس
-لا .. مس
-إسمها مس!
-نعم
-لا عجب أن هذه الحمقاء اختارتك أنت دونا عن الناس جميعا
قال محمد
-ما جمع إلا وقد وفق
ضحك الثلاثة
[2]
كانت لديّ عادة غريبة مع المكان,أي مكان.
مثلا أظل قابعا موضعي على مؤخرتي دون أن تفارق البلاط البارد أحدق في زاوية الجدار. والبيت فيه الكثير من الزوايا,بين كل جدار وآخر. الأسوأ من ذلك لما اضطر للإنتقال من منطقة جديدة أصبحت قديمة واعتدت عليها وحفظ أصدقائي وأقاربي بيتي فيها,إلى منطقة أخرى لم أعتدها بعد,وأجاهد لإعادة رسم معالمها في ذهني. وكل المناطق تتشابه في حي السرايا,يبقى التنوع فقط على الحدود. وهو تنوع مذهل يجعلني أعشق مثل هذه الأماكن؛ زحام الطرقات الجديدة والتي شقت طريقها عبر بركات الصرف الصحي (الرشاح) والخرائب الممتدة بطول أكثرها وأكثر الجسور جسارة وطولا وإمتدادا. ثم الصحراء الشمالية في أقاصي القاهرة إلى ما يشبه بعد القليوبية. وهناك بالطبع الحقول والنخيل. النخيل في كل مكان,تتخلله الأعشاب بكل الأنواع والأطوال.
مقابر
خرائب
صحراء
بركة
حقول
وعودة إلى مشكلتي. وهي أنني أحاول أن أحفظ كل موضع قبل أن أرحل. نظرة أخيرة في كل زاوية أو تحت أو خلف أي شيء.
ومن عاداتي الغريبة أيضا أنني كنت أرهف السمع عند حدوث أقل حركة في الأماكن المجاورة لغرفتي. المنور أو المطبخ,أو الردهة السفلية أو أعلى السطح. وأتصنت على أي خطوات قادمة إليّ.
[3]
يتابع الأحداث الكثير من الناس,حتى أغرب الناس,وهم على قدر من الغرابة لدرجة أن إنتماءهم الوطني مشكوك فيه,بل وكذلك إنتمائهم البشري أصلا,فيحسب القوم -وأنا منهم الصراحة- أنهم ليسوا من بني البشر. ويرجع ذلك لمجموعة من الظروف السكنية والجغرافية التي تحكمهم. فهم لا يعيشون إلا بحسب ما يعيش بني جلدتهم.
خميس صديقي يعرف بكونه الساكن فوق السطح,أي أنه من (الساكنين فوق الأسطح), والساكنين فوق الأسطح هم ناس تعيش فوق أسطح البيوت,ولا تنزل إلى الشوارع أبدا. بل ولا تنزل إلى الطوابق السلفية حتى,وآخرهم وآخر حدودهم عتبة الباب المفضية من السطح إلى السلم. ويعتمدون في عيشتهم على أموالهم أولا,وأنسبائهم ثانيا.
فهم أثرياء,أو قل على قدر من الثراء,يعيشون فوق الأسطح في رخاء,ومشاغلهم تغطي كل بقعة تحت السماء,ولكن هذا لا يمنع وجود الفقراء,منهم طالما إلى حي السرايا إنتماء.
يرتبط هؤلاء القوم بمجموعة من العادات والسلوكيات الغريبة,حتى أنه ليحسب نفسه (الناظر في زوايا البيت) من فرط غرابة أطواره.
ولكن برأيي أنا لا يوجد ما هو أغرب من طبيعة سكنهم.
الأغرب من الساكنين فوق السطح,أو النائمين تحت الأرض. الأغرب منهم هم المعلقين.
الرؤوس
أبي
قصير القامة طويل الهمة,طالت همته بقدر عمره الممتد على نحو سبعين عاما,لا يعرف منها كثير غير أنه بالطبع أبي,وزوج أمي.
السمات الجسدية لأبي هو قصير,وسيم,ذو وجه مستطيل كأنه عادل إمام نسخة محسنة,أو هو عمر الشريف ربما. قوي البنية ممتليئ بالكثير من العضلات واللحم بدون خلطه مع الشحم, فهو خال تماما من الدهون. نحن نتحدث عن أبي الذي تخطى عمره السبعون عاما. رجل عجوز هو,نعم. ولكنه شيخشاب. شيخ في وقاره وخبرته وحنكته التي حصلها عبر سنوات عديدة في معترك الحياة. وشاب في يقظته وقوته وتوقد عقله وصحة بدنه ونضارة وجهه. ذكي,ذكي جدا,وأحسب أني ورثت الذكاء والدهاء منه. وإن كان هو أكثر موهبة مني,وأحق بالقول أنه عبقري. وإن كنت أنا أيضا عبقري فلا أعرف ماذا أصفه وهو المنبع والأصل.
أبي جميل الخلق والخليقة,قبيح الإثنتين أيضا,فإذا تمعنا في أول صفاته الظاهرية نجده لا يهتم بملبسه أو مظهره,وهذا ليس عيبا فيه,وقيل لي (من شابه أباه فما ظلم) العيب أن يعيب عليّ تشبهي به,وينكر أنني مثله,بل هو أحسن حالا مني. وهو ليس كذلك. سروال واسع تجد طياته منحنية بشكل مقزز إلى الأسفل لتكشف عن بعض عوراته,فهي بطنه أو جانب بطنه, أو شعرات من بطنه,أو شعرات فوق قضيبه. قضيب قبيح وثمين وضخم لطالما حلمت أن يكون لدي واحد مثله. وعموما كنت مثله ذا (حال سائب) وقذرا لا يغتسل إلا لماما. وهو صار نظيفا وأنا صرت كذلك أكثر نظافة منه,بل وأكثر نظافة من أي أحد عدا في بعض المسائل -مثل نظافة الأظافر أو اتساخ الثياب- نعرض لها.
أبي وسيم,لا أعرف إن كان كذلك في صغره -ليس لدي صورة واحدة عنه وهو صغير- وقيل أنه كان وسيما,ولكنه بلا شك ازداد وسامة مع كبر السن. وسامة الشيوخ التي جعلت نور الشريف وعمرو الشريف أجمل وشريفا عن صغرهما.
أبي قوي,جميل الجسد إلا في الطول,لأنه قد جرى الإتفاق على أن طول القامة هو الأقرب للجمال,إلا أن آراء أخرى تستنكر الطول الزائد وتميل للإعتدال. لكن طول أبي أقل من الإعتدال.
أبي ذكي.
ذكي جدا.
أمي
بحثت عن سلك مناسب,سلك الهاتف أول ما خطر على بالي,لأنه مرتبط في ذهني وبسبب قراءاتي ومشاهداتي ومتابعاتي بالكثير من الجرائم من هذا النوع. ثم فكرت,لماذا لا تكون جريمة قتل أقرب لجريمة قتل؟! ليس مجرد جريمة قتل ظرفية,بل جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد. لهذا قررت أن أستخدم أداة القتل الرئيسية في مثل هذا النوع من الجرائم,نعم,وتر للقتل. وجدت سلك نايلون. استخدمته وخنقت أمي حتى الموت ثم أفقت من النوم فإذ به مجرد حلم,وليبقى كذلك. لكن لا زالت تفاصيل الحلم عالقة في رأسي. قدميها ثابتتان في آخر جسدها الممتد بطول الفراش,وقد أرهقهما التعب / الموت من الضرب في بطانة الفراش بدون جدوى. بينما وظيفة اليدين كانتا الأجدى وإن لم تستفد منهما كثيرا.
أمي سمراء طويلة جميلة,أمي كذلك ذكية,مثل أبي وإن كانت أكثر دهاءا في الخبث,أو كلاهما,لا أدري. ولهذا ربما ورثت العبقرية من أمي. وغرابة الأطوار من كلاهما. خاصة من أبي,الذي ساهمت غرابة أطواره في تطوير شطحات عقلي. إضافة إلى ما ورثته من جنون عن أهلي. عائلتي كلها مجنونة,ولكن يبدوا للناس أنها على أتم العقل.
أمي قوية,مثل أبي,لها أسنان كالقواطع,ذات مرة ظللت متدليا من أسنانها ترفعني بفكها عاليا لا تطال قدمي الأرض. ينكمش جلد عضدي تحت هذه الضروس الفاتكة والدماء تنسكب من كتفي ومن فمها دون أن ينزف فمها,لا في شفتيها ولا في أسنانها ولا لسانها,ولا لثتها,الدماء سائلة من ذراعي أنا فحسب. ظللت معلقا هكذا لبضع دقائق حسبت أنها لن تنتهي. لاحقا سألني صديق لما رأى آثار هذه النهش على ذراعي.
-كلب مسعور
-لا .. أمي
والمواقف كثيرة شاهدة على دهاء أمي أو على قوتها,مثال آخر عن الأخير لما حدثت مشاجرة بيني وبين خلاني مع بعض البلطجية أتوا ليدعموا أحد أنسبائي. أحضرت النبوت وانطلقت متوعدا بأن أهشم أول رأس أقابلها. لم يستطع الرجال ردعي. أمي فعلت. الأمهات تنجح كثيرا في كبح أبناءها الأوفياء الذين لم يمسهم العقوق. وذلك بسبب أن جسد الأمي يخشى الولد أن يصيبه بأذى بسبب لكمة منفلتة أو خبطة غير مقصودة أو رفسة منزعجة أو ضربة متهورة. لكن هناك طرائق أخرى للإفلات من بين ذراعي الأم. مثل إنهاكها بالمثابرة والجهد والتوق للقتال. هي من أنهكتني (وفرهدتني وهمدتني وهنجتني). حتى أن الناس طلبوا منها أن تطلق سراحي. حاولوا منعي بداية,بعد ذلك أشفقوا عليّ من حدة صرخاتي. فهي بهذا تعرضني للخطر لأنها تبدد كل القوى التي لدي. فلربما لم يعد لدي أي طاقة للقتال. ومع ذلك قيل لاحقا وبعد أن أفلت الفتية من بين أيدينا أننا أصبنا إثنين منهما إصابات قوية. بطحنا رأسان. أحدهما بُطح من قبل فتى إسمه عمرو والآخر قيل أنني من بطحته؟ لو صح ذلك لكان جميلا. بإفضتراض صحة ذلك أرضاني الأمر كثير.
أخي
أخي هذا كان شيطان شقي
كان ولازال
إنه يفعل كل ما قد يثير المقت تجاهه,ومع ذلك نحن جميعا نحبه. بل متيمين حبا به,وليس ذلك بمعنى أننا نكره بعضنا البعض لا سمح الله. ولكن أبعد ما يكون عن مشاكلنا. أقله حتى وقت قريب. الآن صار خبيثا شقيا أرى فيه إنعكاس لما كنت عليه وأنا صغير. لما كنت في نفس عمره أو أصغر. أصغر بكثير,فقد ولدت شقيا. أرى فيه شبها لوجهي وللطباع. وإن كان هو أوسم بالطبع. وطبعا أنا كنت أكثر حدة في الطباع.
لما كنت في الخمسة سنوات الأولى من عمري,ثم نحو السادسة والسابعة,مرورا بالتاسعة وصولا إلى الثلاثة عشر. ماذا فعلت في هذه السنوات؟.
يمكن أن أقول لك ما كان يفعل بي من أجل ما فعلت,لتأخذ فكرة ما عن طبيعة هذا الفعل الذي فعلت.
كانت أمي تربطني بالحبال. ثم تعلقني. ثم تستخدم سلاسل حديدية في فعل ذلك. كانت تستخدم الشمع الأبيض وتذيبه في مواضع مختلفة من جسدي. كان خالي يأمرني أن أذهب لأختار أفضل حزام وأصلحه ليكون سوطا لجلدي. وكان يقوم بإطفاء السجائر في مواضع مختلفة من جسدي بدوره هو الآخر. أبي كان ينزل بقضيب حديد على كل جسدي. يقطع اللحم ويكسر العظم. جدي كان قوي مثل أبي,يرفعي بيديه وينزل بجسدي على الأرض كأنه يضرب بسجادة أو ربما مثل هراوة يبغى تحطيم الحجر برأسي. خالي الآخر كان يتدرب على جسدي صانعا جسدا عضليا لنفسه,على هشام جسدي أنا. تخيل باقي أفراد العائلة ماذا كانوا يفعلون؟
الوجوه
نظرت إلى الطاولة؛كان هناك بيض مسلوق (أهميته أنه ساخن هكذا كان يحلو ليوسف أن يقول لكل ضيوفه المفلسين في بيته ومرسمه)،زيت وزعتر،مربى صنعته أمي في المعادي وأتت به من خلال إحدى خدمات التوصيل من أوبر أو المشابهة لما يقدمه أوبر. والجبنة القديمة التي جاءت بها الجدة بالقطار من الصعيد (هل لاحظتم كيف أن هناك ثلاثة أطنان من المش في كل بيت صعيدي)،جبنة بيضاء مغلية فيها دسم وملح (لا يشبهان شوارع باريس السوداء الممطرة صباحا في شيء)،لبنة مرشوش عليها زيت زيتون (أتت به هالة خطيبتي السورية لما جاءت بالطائرة) ونعنع وفليفلة حمراء مجففة ومطحونة (يحلو ليوسف أن يرشها على كلّ شيء)، وزيتون أسود معلب (هذا من اليونان أو إسبانيا،يباع في السوبر ماركت الكبير على ناصية شارعنا)،وطبعا إبريق الشاي الأزرق (الشاي داخله خمير: من الهند، كثيف،غامق ورخيص يبيعه الاتراك هناك)،وإبريق آخر من الشاي الأحمر المصري ثقيل الدم,السكرية،وكاسات الشاي الصينية،والملاعق بالطبع.
هكذا يطيب لي مجلسين,الأول ما عائلتي كما ذكرت آنفا,والثاني لما أمل من جلستي وحيدا إذا لم أكن بصحبة عائلتي,أو أفر من ضجيجه إذا زادت صحبتهم. فأنزل حيث الطابق الأول (أول بلكونة) من العمارة,الشقة لصيقة حائط العمارة المجاورة وهي تقع أسفل شقتي الأخرى التي يدخلها أحد في العادة). هنا حيث يقطن صديقي وصاحبي كثير الشجار مع زوجته. إسمه أدهم. وإسمي أنا هو بهاء. نظل متكئين على سور الشرفة ننظر إلى أحوال الناس يشاركني شغفي في تأمل الوجوه. زاوية غريبة وقريبة من الأرض لكن مرتفعة عنها. أرى الوجه والرأس. بخط نظر شبه رأسي مائل. شقتي بالأعلى أفضل. ليست الخالية,بل التي أعيش فيها وأسرتي. ليست أفضل إرتفاعا,فأنا أصاب بالدوار وأدوخ لهذا الإرتفاع فوق ثمانية طوابق. ولكنها أفضل إتساعا,حيث تقع على ناصية الشارعين. الشارع الرئيسي,وهو شارع النجيب. وشارع الفسخاني المشتق منه,والمؤدي إلى العب. منتصف أزمة حي السرايا (الواقع داخل حي أو مدينة السرايا). سمع عن ظهور مسخ في تلك المنطقة وراء العمائر, وبينما يعيش هو في إحدى عمارات شارع رئيسي كبير إسمه شارع النجيب,يشعر كأنه منعزل تماما,أو كأنه في مدينة أخرى. مع علمه أن المسافة ليست كبيرة بما فيه الكفاية.
يطيب للبعض أن يعتبر السرايا ضمن حدود منطقة موحدة تسمى (المروج) تضم المروج الثلاثة,وهي المرج,والتي يخلط أغلب الناس بينها وبين المرج القديمة,ثم المرج الجديدة,ثم المرج القديمة الحقيقية,أقدم المروج الثلاثة. والواقع على طرف السرايا الشمالي حيث تلتقي مع المرج الجديدة والمرج تحيطها مثل حوض ثلاثي من الجوانب الثلاثة؛الألج في الشمال, والبركة من الشرق,والخصوص من الغرب. تفاصيل المروج تنعكس على تفاصيل الوجوه. والوجوه في السرايا دوما كالحة,مكفهرة. ويحمد الله أنه ينعم بوجوه عائلته وأصدقائه بعيدا عن هذا القطيع من الأغراب.
ويحلو له وصاحبه أن يختاروا بين الوجوه الأكثر غرابة أو طرافة,ومن ذلك ذلك القبيح يمشي مع فتاة حمقاء بيضاء حسناء. هو قبيح الخلق والخلقة على ما يبدوأ. أو هؤلاء المشوهين في عقولهم يستمعون إلى أغانيهم المسماة (مهرجانات). الأغاني الشعبية إما أصبحت رائجة جدا,وإما أنه وجدت بيئة خصبة لإنتشارها هنا تحديدا.
أما عن أغرب الوجوه فأصحابهم هم هؤلاء الناس الذين ربما لا يمتون للناس بصلة!.
مثل
-الساكنين فوق السطوح
-النائمين على الأرض
-والقائلين
-والعمال
-وبالطبع النساء الساحرات
وقتها أذكر أن مرت أمامنا سيدة ذات جسد ممتلئ رجراج،في عباءة فخمة وحجاب منحسر عن غرّة سوداء لامعة،وجهها حسن -يدقق وحيد في وصفها- إلى درجة تزعجك أنه ليس به نقص،مستو وصاف ومتناسق،ولكنه ليس حسن مألوف. كان انكشافها الأنثوي المبهرج غريبًا عن عادات أهل هذه المنطقة،وكان اسمها غالية، عرفتُ ذلك لاحقا. يبتسم وحيد. ووحيد هو صديق ثالث بينهما. وحيد لا يملك من الأصدقاء سواي أنا. أما أنا فأصدقائي كثر. مثل أدهم وآدم ومحمود,وبالطبع أحمد غريب الأطوار (يتحدث عني أنا!).
استمر في تأمل الوجوه.
الوجوه في القطار لما أسافر إلى البلد. أسافر رفقة أحمد. أحمد هذا يأتي معي كثيرا في أي سفرية. هربا من السرايا. هو يكره المنطقة. وهو محق,فلا سكن يضمه,ولا هو يبيت في مكان صالح لما يحين موعد نومه. أظل أتأمل الوجوه,وهو يتأمل الطرقات. هؤلاء أناس منهكين جدا,يحلمون بالوصول بعد سفر. أو أحسب نفسي كأنني حكيما في كلماتي الفارغة من أي معنى. عدت لتأمل الوجوه مرة أخرى.
الوجوه في العزاء,أرى بعضها وجوها حزينة. استمتع بالنظر إليها,حتى في عزاء أبي. باقي الناس مجرد زائرين فقط. الأجمل هو تشييع الميت. وجوه الموتى في خيالي,والمودعين وجوههم مشوهة تحت دموعهم. وحتى الزائرين والمجاملين وجوههم واجمة من هيبة الموت.
الوجوه في الطريق,وناس منهكة عائدة من أشغالها,أو طفشانة من بيوتها. علامات العذاب في الوجه ثم الجسد. منهكين من العمل,ومن الحياة كلها. فقراء ومحوجين وجوعى ومنهكين. أقصى أحلامهم وطموحاتهم في هذه اللحظة هو حمام ساخن ونوم عميق.
وكل صباح أنظر إلى وجهي في المرآة,أرى اختلافا كبير بيني وبينهم. أنا على قدر من اليسر في معيتشي,كما أنني منفصل تماما عن مشاكل الحارات والأحياء,مكانيا وظرفيا.
العمال هم كائنات تعتاش من خلال العمل,ويتميز هذا العمل بسبع خصائص أساسية تفرقه عن أي أعمال أخرى,ويمتازون بها عن البشر.
الأولى أنه عمل مستمر,لا يتوقف,وتوقفه معناه عدم توفر أي إمكانية أخرى للحصول على المال والطعام,يليها في الاحتياجات الملبس والمسكن.
الثانية أنه عمل خاص بهم,بأجسادهم,فإذا لم يكن العمل دائرا بين أيديهم,وجهده يدر العرق من الجبين,بطل العمل ولم يتقاضوا أي أجر,بل ولم يستطيعوا القيام به.
الثالثة أنه في ظل قيامهم بهذه الأعمال تنتابهم حالة من غياب الوعي وتبلد المشاعر,فلا هم مدركين لأي شيء حولهم عدا أشغالهم,ولا هم يشعرون بالتعب مع أنهم لا يشعرون أيضا بالراحة ويبدون دوما متراخين أو منهكين. وقد تنتهي هذه الحالة بإنجاز العمل أو الإنتهاء منه أو إنتهاءه أو قطعه,وقد تستمر مع البعض إلى ما بعد العمل لستهلك الأوقات الشحيحة المتبقية لقضاء أشياء أخرى في المنزل. لذا هناك الكثير منهم يتخلصون من هذه الحالة,أو يغرقون فيه عبر النوم. ليحتل النوم المساحة الثانية الأكبر من الوقت في حياتهم بعد العمل.
الرابعة أن أعمالهم تختلط فيها مفاهيم الحلال والحرام والاضطرار,إلا أن جميعها تميل للمفهوم الأول بعد التعديل,وبعد المرور على إضافات الأعراف ومرشاحاتها. ولكنها مع ذلك لا تسلم من الطرائق المختلفة للعمال للقيام بأعمالهم وفقا لرؤياهم الخاصة. ولا ينبغي الخلط والجمع بين عامل في غير العمل الذي يقوم به عادة.
الخامسة أنه يصعب العثور عليهم أو التواصل معهم أو الفرار منهم حال تأخرت أو أنقصت في دفع أجرتهم. ولكنك في الأساس لن تعثر عليهم في أول الأمر لما تبحث عنهم لقضاء عمل ما,هم يظهرون,ويختفون. ويحتلون مساحات من الرؤية أثناء التجوال في الشوارع,أو النظر من النافذة,أو المرور راكبا سيارة, أو سماع أصواتهم في كل مكان. أو مقابلتهم صدفة أثناء السير وحيدا أو مع أحد,أو تذهب إلى العمل,أو في زيارة أو نزهة. أو تشتري شيئا,أو حتى تؤجر أحدا منهم فيظهر آخر قد تحتاجه لعمل في تخصصه لاحقا,لكنك لن تجده حين تحتاجه.
السادسة أنهم يخلقون مساحات معينة حولهم,لا يمكن العبور إليها أو المرور عبرها طالما هذه المساحة مقيدة للعمل,وطول المدة الزمنية التي يقتضيها عمل يوم واحد,حتى لو المهمة مستمرة في أيام متتالية,حتى لو كان العامل موظفا يفترض أن يعمل بدوام كامل لبقية العمر.
السابعة أنهم ينقسمون إلى أنواع عدة. وطبيعة هذه الكائنات مختلفة,يتنوعون,وكل نوع يتميز عن الآخر كأنه مستقل عنه,إلا أنهم جميعا ينتمون إلى نفس العرق.
العيون
[1]
كانت مدينة أبو عين منذ ربع قرن ولا زالت معروفة بكونها (قرية) الشيخ أبو عين إحدى قرى محافظة القليوبية,والشيخ أبو عين من أصحاب المقامات والكرامات الذي لا زال مزاره قائما. وانتهت إلى إعتبارها مدينة إداريا مع الحفاظ على أجواء القرى الريفية بسبب كثرة حقولها وعادات أهلها. وهي إدرايا تنتمي ولو جزئيا إلى حي السرايا حيث القرى الخارجية للحي.
خرج عبد العال من داره ووقف على عتبة بابه,وألقى التحية على من خرج من الباب المجاور في نفس اللحظة
-صباح الخير يا حاج أحمد
-صباح النور يا معلم عبد العال
والإثنين كبيرا السن والمقام,ولكن من خرج من داره قل مقداره. والخروج من الدار كارثة بهذه المدينة في صباح مشرق جاثم تحته مصير مظلم. مرّ غراب من فوق رؤوسهم محلقا عن قرب والأطفال يركضون خلفه في ضحك وصخب يقذفوه بالطوب. بينما الكبار عبد العال وأحمد ومشرقي ومحمد أبو فؤاد وغيرهم يستعيذون بالله من شرّ هذا المخلوق الذي غطى بجناحيه أشعة الشمس وأحال الصباح ليلا في أوله.
-غور غور يا بعيد
أخذت تصيح أم علي وزوجها عبد العال يردد وهو يشيح بيده فاردا أصابعه الخمسة
-أعوذ بالله منك,روح يا شيخ كفانا الله شرّك
ومشى عبد العال ذاهبا إلى عمله,وفي الطريق قابل صالح العامل عنده في مخزن الغلال,أرسله إلى المخزن واستأنف المسير وصولا للدكان ليجد عبده إبن أخوه عبد الله قد فتح المحل بالفعل. جلس قليلا حتى مرت الظهيرة وأتت العصيرة تاليا عليها,وما أن بدأ يرتاح ليوم بدون إثارة في مدينة مشحونة بالإثارة,حتى وقع نظره على قط أسود يموء عند دكان وليد الحاتي. قط أسود,ونصل أسود يحمله شاب يركض مهرولا تجاه الدكان متوعدا لعبده الذي انقض للقتال لولا أن قابلته يد عمه الغليظة تصده في صدره دافعا إياه للخلف. لقد تشاجرا,عبده (عبد القادر) وعطية إبن عبد الرحمن. لم يفهم لماذا ولا يريد أن يعرف. ليس الآن على الأقل,وخاصة وأن الأمر مفسر بمرور القط. جرى على الآخر ممسكا هراوته فتراجع الأخير حتى يتفادى غضبة عمه. ولكن تشجع أخيه حاملا عصا وصد ضربة عبد العال بها متفاديا إياه ولكن لم يتجاوز يده التي أحكمت القبض عليه.
-إرجع يا واد بقولك أهه بدل ما كسر عضمك
-سيبني يا عمي بقولك,متخلهاش تيجي فيك
-لا أنا عايزك توريني هتعمل إيه وأنا أكسرلك فمك خالص
وكان الأخ الأصغر لازال محتفظ بخضوعه أمام هيبة عمه. ومثله فعل عبده الذي كان ليشتعل حماسه لولا أن انطفأ لما يرى. لما جاء عبد الرحمن يحمل عصا ثالثة وينقض على إبنه الأكبر ضاربا إياه بغلظة,وكان عبد العال ليضربه مساعدا أخيه الأصغر لولا أن وجد سيد يحتمي خلفه
-حوش عني يا عمي
-بترد على عمك يا إبن الكلب,ده أنا اللي هكسر عضمك وخليك متنفعش تاني
والتف الناس من حولهم,ولكن كان عبد العال قد قام بلملمة المشكلة قبل حدوثها. وفي المساء رجع إلى بيته ليجد كلبا أسود يبول على بابه. جرى خلفه بعصاه حتى استطاع أن يضربه ضربة على رأسه أسالت دماءه. وأخذ الكلب يركض وهو ينبح نباحا أليما. دلف إلى الداخل بسرعة وهو يحاول تخمين نوع المصيبة التي تنتظره. وتمثلت مصيبته في زوجته التي كادت أن تذبح إبنته ثريا,شعرها أشعث تمسك السكين على عنق إبنتها وقد جنت تماما. أو هذا ما بدا عليها,فما أن رأت زوجها,حتى رد عقلها إليها. ألقت بوجه فتاته على الأرض ولطخة خفيفة من الدماء سالت على عنقها من خدش صغير.
صرخت زوجته في وجهه
-ربي بنتك يا عبد العال
أما هو فلم يكن مشغولا إلا بإبنته في المقام الأول مهرولا إليها ينحنى ليطمئن عليها ويفحص جرحها,ثم على بصره لزوجته غاضبا وهو يحتضن إبنته الباكية في صدره
-إنت إتجنيتي يا ولية؟
-بنتك بتمد إيدها عليا يا عبد العال
نظر لإبنته في حنان
-صحيح هذا الكلام؟
أجابت وسط بكائها
-والله يابا ماعرف كان مالي,أنا لما سمعت صوت الكلب لقيت نفسي متضايقة,خصوصا لما افتركت حوار رحمة
وعرف عبد العال ما حال بهما.
وفي الليل,كان عبد العال يفكر في مشكلة رحمة وأبوها الذي لم يرضخ لأخيه هذه المرة. يريد تزويجها شاب من عائلة غنية جدا,بدلا من أن يهبها لإبن عمها عبده,ثم يفكر في إبنته,,في الكلب,وفي العلامات السوداء تزداد هذه الأيام بالقرية. في نفس الليلة المشحونة بالأفكار,عض زوجته مخلوق أسود ضئيل يشبه الفأر,عضها من إصبعها الأصغر وهي نائمة على سرير ذو قوائم عالية. وفي الصباح وجدوها ميتة.
[2]
أنشأ عزيز أسرة كبيرة وشبه متماسكة يحاول أن يستقل بها عن عائلة إبن عمه عبد العال. مكونة منه وزوجته سنية,وأولاده العشرون. يجلس هو وسنية في صالة الطعام على الأريكة في أعلى مكان بالنسبة للآخرين وجوار قدمه وطبقه (الذي يحتوي على نصيب الأسد من اللحم) جهاز التحكم بالتلفزيون. على مستوى أكثر إنخفاضا تحت قدميه يجلس الإخوة الثلاثة الأكبر عبد العزيز وعبد الرحيم وعبد الحميد وأختهم صابرين. وعلى الأرض افترشت ملاءة بيضاء فوقها صينية تراص عليها الطعام مما على أريكة والديهم,ومما على منضدة إخوتهم. وحول الصينية أربعة عشر من الأبناء يلتهمون طعامهم ويشاركون أسرتهم في مشاهدة ما يختاره أبيهم لنفسه ثم لهم للمشاهدة.
-عبد المجيد
-منال
-وئام
-رقية
-منار
-ملاك
-عبد القادر
-جيهان
-أسماء
-عبد الغفور
-عبد الرحمن
-عمران
-عبد الرؤوف
-عبد الله
كانوا في الماضي يلتفون حول طاولة ذات قوائم مرتفعة وتتساوى المؤخرات في إرتفاعها عن الأرض متكئة على أربعة قوائم ترتفع بصحونهم إلى قرب صدورهم. طاولة بيضاوية تسع لأكثر من عشرة منهم. والبقية ما بين واقف على رؤوس الجالسين,وجالس على الأرض ومتكئ على الجدار أو نائم على فراش. كانوا يعرفون أن خشب الطاولة من نوع (منحوس) لا يمكن التخلص منه. وعليه يطرق أحدهم ثلاث طرقات. نسى الجميع ذات مرة أن يفعلوا ذلك,واتجهت الأنظار إلى أصغر الأولاد عبد الله الذي مد يده بسرعة خاطفة ليطرق طرقته الأولى. ولكن لم يسعفه الوقت لاستكمال الطرق. عين دامعة ولسان متلعثم.
-نسيت
وشلت يده,فلن تكون قادرة على الحراك مرة أخرى.
خاف عبد العال أن تكون عائلته هي العائلة المنكوبة لهذه السنة,وجوه النحس على القرية كلها,وأول من يبتلي ببلاءها. عدة بيوت تلاصقت أو تجاورت أو اقتربت بحيث بات يطلق عليهم (الجيران) منفردين عن بقية المنطقة. لأنهم هم المنكوبين حاليا,ولكن لا يقدر أحد على (معايرتهم) خشية أن تطاله يد الشؤم فهي تخيم بظلالها فوق رؤوس الجميع. البيت جوار البيت وعبد العال يتخيل ما يحدث الآن للأسطى عزيز إبن عمه,وكل بيوت القرية أقرباء أو أنسباء من قريب أو بعيد. ليس عبد الله ذو اليد المشلولة هو أكبر همومه. وكأن نصيبه من نصيب عبد الله إبن عزيز. وليحمد الله أن زوجته ماتت ميتة خفيفة ربما يمكنه أن يعدها من حسن الخاتمة. ولكن الستمر الحال على هذا الميلان. فكان الفتى عبد الله ذو السنوات السبع يلعب ذات مرة بالمقص ليلا,بيده اليمنى التي شلت يفتحه ويغلقه. إلى أن حدث المحظور واتجهت سكينتي المقص -هناك حادثة شهيرة عن قطار مار على سكته بالقرية,انقلب براكبيه ووجدت جثثهم جميعا مقطعة الرؤوس عند الأعناق وم لا يعرفه سوى سكان القرية أن هناك طفل شوهد يلعب ليلا بمقص يغلقه ويفتحه تجاه السكة الحديد- لتغلق ساقيها مثل إمرأة اكتفت ولتقطع رأس أخوه عياد. وقع التلفاز على رأسه. والتلفاز معلق على مسند معدني من الصفيح الحادة أطرافه. وتلطخت تلك الأطراف بدماء وأنشجة الذبيح عياد. هذا ليس أسوأ ما حدث من قبل بسبب طاولة طعام مصنوعة من الخشب. لماذا لم تطرق الخشب؟ لقد عثر على عائلة كاملة (والعائلات كبيرة في قرية أبو عين) مذبوحة على مائدة الطعام. لم يذق أيا من أفرادها لقمة واحدة. وامتلأت أفواههم بالدماء بدلا من الغذاء. وغطى عيونهم الموت بدلا من أن تتنشر الضحكات على شفاههم. سمع صرخات أتت من حريم بيت عاشور. وكأن العين عين البلاء في أفكاره. عرف لاحقا أن هذا بيت آخر لم يطرق الخشب.
[3]
جالس في العزاء أمسك بسمة كاد يظهر شبحها على ثغره. وهذا لا يصح وهو المعروف بأن لا تفوته فائته,ولا يمسه العيب أو الخطأ لا من بعيد ولا من قريب. لما أتى ذهنه على سيرة الضحكات تذكر عبد العال مصير عائلة الحاج سعيد الدمنهوري,وأبنهم الكبير سيد سيد شباب القرية والإبن البكر كبير العائلة الوحيدة التي كانت تنافس عائلة عبد العال في كبرها,وهي عائلة نازحة من دمنهور وعرف إسمها بإسم البلد. سيد الذي راحت هيبته وراح عقله قبل أن يلحقه بقية أفراد الأسرة فلم تبقى الشوطة على أي بقية منهم. كل ذلك بسبب مصطفى أصغر أبناء الدمنهوري والذي كان يضحك,يضحك فحسب .. هكذا بلا سبب.
تجده ينفجر بالضحك فجأة في مجلس مهم لحل مشكلة مثلا بين عائلة الدوابشة من السرايا وعائلة العمرانية (وهم أصلوا مجموعة من أفراد أتوا من مساكن العمرانية) من الخصوص حيث يصطحب كبير العائلة الحاج سعيد دوما ولديه معه الأكبر والأصغر,سيد ومصطفى. أو أثناء الجلوس حول الطعام يشاهدون مسلسل التاسعة. علت قهقته فجأة
-ما بك
-لا شيء
-هكذا,تضحك بدون سبب؟
-يعني أنت معرفش عوايده يا بوي
-على قولة أختي هي عادته ولا هيتشريها
استمع لكلام إبنتيه فتمنى لو كانت خلفته كلها من البنات من بعد إبنه سيد,واستمر ضحك مصطفى حتى قام غاضبا يرفض أن يجلس بينهم إبنه الصغير وقد أهانه بعدم طاعته. لكنه كان يشعر داخله أن الأمر خارج عن يده.
زاد الأمر عن حده حتى تكللت رأس الحاج سعيد بالعار,يشاهد دوما مصطفى وهو يضحك أثناء سيره في الشوارع وفي الحقول,أثناء جلوسه على المصطبة أو في المقهى,في البيت أو ذهابه إلى عمله أو إلى دراسته,بين عائلته أو مع أصدقاءه.
حتى أن هذا النوع من الإستفزاز بدأ يضغط على أعصاب مخطبوته الحسناء سميحة التي أخذت تفكر جديا في تركه ذلك الوقت وفي ظل تلك الظروف.
المصيبة الأكبر وقعت لما حضر عزاء السيد طلعت المكلوم في إبنه البكر محمد,وكان محمد طلعت من زينة رجال البلد وخيرتها. والحاج سعيد كان يعرف أن ذلك سيحدث,ولكنه تمنى من أعماق قلبه داعيا ربه أن لا يحدث. فهو لا يمكن أن يذهب لوحده دون إبنه ليكبره ويفخر به وسط الناس في السراء أو الضراء,في فرح أو عزاء. لكن أي مفخرة قد تأتيه الآن من سيد الذي لم يعد سيدا على قومه! وأي عار يعتريه الآن وإبنه يضحك في وسط الصوان؟. نعم. لم يأخذ مصطفى,وأخذ سيد الأكبر فقط هذه المرة. لكن أي مصيبة أصابت إبنه البكر؟. إهانة لم يتجاوز عنها الحاج طلعت,وحسب سعيد وأولاده يسخرون منه. خاصة مع الخسارة التي عاناها أمام تجارة عبد العال وسعيد. أصر على الإنتقام وقامت معركة كبيرة لم تنتهي إلا ومن تبقى من أولاد زكريا الوحيد الذي نجى طريدا مطاردا يخشى الثأر من أشباح لم يبقى منهم أحد.
الأنوف
استنكر علي ذهابه معهم إلى المستشفى,المستشفى مكان قبيح وأبغض الأماكن إلى قلبه. إنه الأسوأ بين كل الأماكن التي تعبق برائحة الموت والموتى. أسوأ من المشرحة والمقبرة وحتى مسرح الجريمة أو الطريق السريع. المستشفى أسوأ من الجحيم ربما,أو أن مدير المستشفى حصل على توكيل من جهنم لممارسة مهنته على الأرض بمعونة إبليس وأعوانه. التوكيل موقع ومختوم في ورقة. وهي ورقة. ورقة واحدة تبيع وتشتري في البشر. المستشفى كلها تم إختزال وظيفتها في ورقة!. لا يمكن أن يمر بشري من البوابة بدون استيفاء الإجراءات اللازمة في ورقة الاستقبال,وتسمى تذكرة. هي مجانية,ولكن يجب ملؤها. كما أن هناك أوراق تتحكم بالمرضى,هناك أوراق أخرى تتحكم بالأطباء. فإذا أراد طبيب أن يساعد مريض ويحتاج إلى دم,عجز عن الحصول عليه دون استيفاء الأوراق المطلوبة,وهذه مشكلة للطبيب الذي يثقل بذنب ديني وأخلاقي يجعله تعيسا أكثر من المريض نفسه. أم النوع الآخر والشائع من الأطباء,فهم يتعاملون مع المسألة كأنها مجرد وردية عمل. والأجساد البشرية بضاعة أو آلات يجب إصلاحها إذا ما أمكن ذلك,دون أن يتعطل وقت الطبيب بالطبع.
وكان أبو علي يعشق التسمية بادئا بحرف العين,وكان دوما يشرح أن لديه أسبابه لهذه التسمية
-لكي أغزي العين
-إيلي يزعلك إغزق عينه
-لأنكم قرة عيني
-لأن العين أغلى ما يملك المرء
فكان لديه عين وعادل وعائشة وعبير وعزام وعرفات وعياش وآخرين. وعائلته كلها تنظر الآن باستغراب إلى أحمد الذي لا ينتمي إلى دائرة العين. أحمد صديق جميل. وقد وقف بجانبه وانتشله من معركة كادت تودي بحايته. وقد أصيب شقيقه بالنار (رصاص) في رأسه. رغم أنها عائلة بلا مشاكل. إلا أن عادل هذا ينتمي إلى عالم الصياعة والجريمة. ويظن أن أبو علي أن ذلك حدث بسبب صحبة من هم مثل أحمد. لم يكن يعجبه أحد من أصدقاءه سوى أدهم الذي يسكن في عمارة مجاورة من بيتهم. وتعجب لما عرف أن أدهم هو صديق مقرب لأحمد أيضا. ولكنه ممتن نوعا ما لتخليص إبنه من تلك المشكلة. فكر أحمد أنها كانت معركة تستحق أن ترفع مقطعا على اليوتيوب. أو تتحول لأغنية شعبية. أغاني الخناقات (المعارك) و(المهرجانات) تحمل تفاصيل الخناقة بشكل غريب يشي بأن مغنييها على معرفة بكيف تدور مثل هذه المعارك. وعلى إحتكاك / صلة بأصحابها. وربما قادوا بعضها. الأغاني الشعبية (المهرجانات) ضاجة في كل مكان. تتغنى بأمجاد البلطجية الذين صاروا أبطالا في كل مكان داخل وخارج السرايا.
من هؤلاء الأبطال الكثير من الأصدقاء الذين جاءوا لزيارة علي في المستشفى. لم يكن يتخيل أن علي (المحترم) يعرف كل هذه الوجوه!.
الإرهابي هو بشري لكنه ليس إنسانا. أي أنه مجرد منتمي لسلالة البشر المصنفة ضمن المملكة الحيوانية. يأكل ويشرب. يتنفس ويتحرك. يتناكح ويتبرز. يحس ولكن لا يحس بأي أحد سواه,حتى إن أحاسيسه الإجتماعية تجاه جماعة ما تنبثق من فكرة أن الجماعة تمثل ذاته في نوع من تضخيم الذات المتعارف عليه في المذاهب الدينية والقومية والأيديولوجية المتطرفة. وهنا يظهر الخطر الحقيقي للإرهابي,وهو أنه ليس مجرد حيوان يقتل من أجل أن يعيش,سواء كان يقتل للحصول على طعامه أو دفاعا عن نفسه. بل أنه يعتاش على القتل. والأسوأ أنه تجاوز القتل للترهيب وصنع الإرهاب,ولهذا سمي إرهابي,وهو ماهر في صنعته,فليس أسهل من إرهاب شخص ما.
والإرهاب درجات يبدأ بتوبيخ طفل صغير أو حتى ضربه,وهذا النوع من الإرهاب يمارسه الجميع تقريبا. آباء ومعلمين ومواطنين في هذا المجتمع. الأب يصنعه مع إبنه,وهي الصورة الأكثر فجاجة لهذا النوع من الإرهاب. ثم هناك التنمر بين الصغار والكبار أيضا,وهذا أيضا نوع من الإرهاب يمارسه الجميع تقريبا. إرهاب الأسرة والعنف الأسري الذي يمارسه الآباء مع الأبناء. وترهيب المرأة من أحط وأحقر أنواع الترهيب أيضا,وأيضا من أسهلها وأيسرها ويمارسها الجميع باستمتاع مريب. وهناك الإرهاب الذي يمارسه البلطجي والبلطجية على الناس من أجل سلب أموالهم. هنا يتضح الخط بين الإرهاب الذي يمارسه الجميع,والإرهاب الذي تمارسه جماعة معينة. فارق بين الكثرة والقلة. مثل إرهاب القتلة والسفاحين الذين يتربصون بضحاياهم ويبثون الرعب متلذذين في نفوس الأموات أحياءا قبل موتهم. إرهاب الحكام نوع آخر منتشر ولكنه خاص بالنخبة والفئة العليا فوق كل البشر. الإرهاب الأخطر والأفظع والذي لا قيد له ولا حاكم,هو الإرهاب الذي تمارسه جماعات إجرامية متطرفة, سواء كانت منظمة أو مشتتة. أن تمشي في الشارع في أمان الله,وفجأة تتناثر أجزائك إلى أشلاء على قارعة الطريق. أضحكه هذا الخاطر فجأة وهو ينظر إلى ناصر الإسلام ناصر الذي جاء لزيارة صديقه علي. (من أين عرفته هذه الوجوه الملتحية يا علي). سؤال دار في ذهن أحمد وأبو علي كنوع من التخاطر. هذا التخاطر لا يفيد أبو حسن الذي جاء لزيارة أبو علي ففوجئ بوجود إبنه حسن التايه دوما. حسن هذا قذفه أحدهم ذات مرة بنعله,وهو ماشي (سكران أو مسطول) لا يدري بنفسه ولا يعي ماذا يفعل أو أين يذهب؟.
ومن هؤلاء الزائرين أشرف الخناق,المدان في ثلاث جرائم قتل خنقا للنساء. أخذ أحمد يتأمل يدي هذا الخناق. وضعت علياء شقيقة يدها بشكل لا إرادي على عنقها الأبيض البض الظاهر من تحت (الطرحة). طالعة حلوة لأمها. هكذا فكر الخناق,قبل أن يطرده أبو علي الأسمر,ولم يعترض علي.
أيضا هناك ذلك الرجل الذي لا يتذكر إسمه,ولكن يتذكر لقبه
السام
كان ساما,لهذا يخشاه الكثير ولكن ليس الجميع,أولا هو لا يخشى نفسه,ثانيا أمه لا تخشاه فهو لن يؤذيها,فهي أمه,ثالثا ابنه لا يخشاه فهو أنجبه من أمه,ورابعا أخوه لا يخشاه لأنه أتى من نفس البطن التي أنجبته,وخامسا زوجته لا تخشاه,فهي المرأة الوحيدة التي تزوجته. وأخير هناك بعض المحظيين من أصدقاءه وجيرانه وزملاءه وشركاءه وحلفاءه. وبعض المختارين,وبعض المعارف,وبعض من يصعبون عليه ويشفق عليهم في الشارع. وقد صنع قائمة بالأشخاص الذين لا يمكن له الإضرار بهم,فشملت علي من ضمنهم. لذا إذا عضه. لن يموت. ولقد كان لدى أحمد صديقا آخر يعد من أحد أصدقائه البعيدين,بعيد عن العين والقلب وأذى اللسان. هو سام فعلا وليس مجازا. حاول أن يشرح ذلك لأحدهم ذات مرة,فلم يصدقه.
صدم عندما رأى الزائر الأخير!
من أين يعرف علي خالد دراكولا وصحبته؟
حتى أبو علي ابتلع ريقه واحترم نفسه.
الأفواه
الواحد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسمه خالد وهو خالد,عاش قرونا من عمره تقابل عقودا من أعمار المحيطين به,وعبر التاريخ تغذى على البشر ليستأنف حياته. شرب دمائهم وأكل لحومهم. وفي الأخير كان مستقره حاليا في حي السرايا. بلطجي له شأن كبير وصار ذو باع في هذا النوع من الأذى. عرف وجهه في دوائر الشرطة وتناقل اسمه بين أحياء القاهرة؛المرج ومنشأة ناصر وشبرا وإمبابة والنهضة والمطرية والسرايا. مثلا لا حصرا. وقد عرف في حي السرايا -وهو حي غارق في العشوائية والانحطاط معظم قصوره عبارة عن زرائب وعشش يسكن فيها بقايا بشر- باسم دراكولا ذو النابين. ونابيه كانا سكينين مطويين من نوعية قرون الغزال. عيون فقأت وأطراف بترت وبطون بقرت وأعناق ذبحت حتى تكاد سكين أن ترجو الأخرى لتنوب عنها قليلا في سفك الدماء. لم يعد الناس في ظل تحاشيهم له وخشيتهم منه يتساءلون عن سرّ شبابه الدائم. والغموض المغلف بعائلته الطيبة التي عمرت في السرايا مائة عام. مات جده ثم أبوه ثم أتى أب آخر -لا يعلم أحد من أين- يتولى تربية إبنه. ولما صار لخالد أب ثالث بعد موت رمضان الأب الثاني أحس الناس كأنه ينجب آباء بدل الأبناء. وتناقلت أسطورته بين الأفواه كنكتة يلقيها السكاري في قعدة. يخشاه الجميع غني أو فقير. غلبان أو ذو سلطان.
محمد زينهم دوما يزعم أنه قادر لو أراد على الإطاحة به في معركة رجل لرجل,وكل ما يفعله هو التودد لأحد مرافقي خالد ومحاولة الإنضمام إليهم. العجولي وسيد صبحي والشيخ حسام وعائلة الدوابشة وباقي كبار الحي يحاولون الإلتفاف حوله أو التقرب منه أو نيل رضاه. لكنه يصدهم دون أن يحاربهم. الحاج عادل (أبو سيد) الطيب لا يبتعد عنه خيفة ولا يقترب منه توددا. إلا أن البعض يزعم أنه يخاف مثل الجميع. وعامة لم يحتك به خالد هو ومجموعة من شيوخ الحي الطيبين اللذين تسلموا مشيخة الحي بكبر سنهم وشيب لحاهم بعد الشيوخ الميتين. عيسى متهور بعكس ما كان يظهر منه,وقد واجهه مرة فخرج منه بندوب مغلقة على فتحات بطنه وتعلم أن يتجنبه. وصالح واجهه ذات مرة ولكنه تاب مع أول خط في وجهه. محمد زين (وليس محمد زينهم) هو أشد الرجال صلابة في معركة مع خالد دراكولا وقد نجح في أن يدميه,ولكن الأخير أرقده في المستشفى ستة أشهر. ذهب إليه واعتذر له لما أفاق تعبيرا عن احترامه. وقليلون من يحظون باحترام الرجل. الضابط عصام الكل يخافه وهو يخاف خالد,وكل من في القسم البعيد من المأمور حتى المجند بسيوني الذي يتمنى أن ينهي خدمته سريعا للعودة إلى بيته سالما غانما مبتعدا عن خلقة المدعو خالد. العم حسن يخشى خالد ويخاف منه أكثر من الموت,ويتحاشاه مثل أغلب قاطني حي السرايا.
الجميع يخاف من خالد ومن بطشه ومن حاشيته,وحاشيته تخاف منه أكثر من أي أحد,أو ربما عائلته تخاف منه أكثر. كلما يزداد المرء قربا منه يتجرع من الرعب أكثر. والبعيدين عنه يسمعون كل يوم سبابه للخلق ورب الخلق في تحدي دون معترض. وتصل إلى مسامعهم أخبار عن ضحية أخرى أو نزوة جديدة أو هدنة معه. وقد حمل أسماءا عديدة إلا إسم عائلته التي لا يعرف لها اسم؛خالد الخالد,دراكولا ذو النابين,الواحد.
الإثنين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مل من أتباعه وتمنى لو يكون لديه صاحب وفي وليس مجرد رفيق سوء,وبدأ البحث عن جماعته الحقيقية,دون أن يتخلى بشكل تام عن حاشيته حتى لا تضعف مكانته. ولكنه لم يعثر بعد عن أي شخص يكون ندا له. وقد قرأ كثيرا عن جلجاميش وإنكيدو,أخيل وهكتور,أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة. دوما هناك بطل وند له. هو يبحث عن الند فلم يعثر عليه إلى أن سمع عن بلطجي اسمه آدم الكلب. سأل معاونه فرد ضاحكا
-ده اللي سماه آدم ظلمه
قيل لأنه لا يمت إلى البني آدميين بصلة,بل هو أقرب إلى جنس الكلاب,خاصة وقد عضه كلب مسعور قاضما قطعة من فخذه وهاربا بما اغتنم من لحمه. قاطعه ياسر
-كانت سلعوة
-نعم نعم,سلعوة
ومن وقتها لم يعد يقدر عليه أحد وقد صار مسعورا. أضاف رجل ثالث من الرفقة
-هو عامل زيك يا أسطى خالد لما بتطلب خناقة ما بيشوفش أمامه.
-ويأكل اللي قدامه حي.
-أي والله
أدرك خالد أن رجاله مبهورين بالرجل وأن هناك شخصا آخر يخشونه غيره,واستغرب عدم ذكر اسمه من قبل. سألهم خالد
-وأين مسكنه
-تلاقيه جالس في واحدة من مقاهي شارع النجيب
-النجيب! مش دي الحتة اللي بقى ليها فتوة دلوقت؟
-أيوا يا معلم
قالها له مصطفى النمرود في إشارة ذكية منه لكونه المعلم الواحد في المنطقة كلها ولا ثان له. فقام وقاموا معه.
-انت رايح له يا معلم؟
الآن أعطوه المعلمة اتقاءا لشرّ قد يصنعه,فهم لا يريدون مواجهة بين الفتوة وابن الكلب آدم.
-خليكم هنا
وخرج من دائرة الترعة سالكا طريق يؤدي إلى شارع النجيب,مر بطول الشارع على مقاهيه ناظرا إلى من بالداخل. وكل نظراتهم تفضح عن مكنوناتهم بثلاث دلالات؛إما متربصة وإما متوددة,وإما مذعورة. يلتف حول خالد في حي السرايا العديد من الأعداء. وفكر أن عليه التخلص منهم جميعا ذات يوم.
أحد الصبية سمعه يسأل عن آدم الكلب وأبلغه مقابل خمسة جنيهات وصبي آخر أبلغ المعلم علّام. سحب خالد كرسي وجلس على طاولة أدم,ووضع صبي القهوة كرسيا ثالثا وجلس المعلم بينهم.
الثلاثة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاحظ خالد نظرات سنفور وعصفور ودكرور,همس المعلم علام في أذنه
-معلم خالد ماينفعش تعمل مشكلة وأنا موجود,تبقى عيبة في وجهي.
الكل صار يعتبره معلما حتى المعلم نفسه!.
-ومين قال كده,أنا جاي أتعرف على الرجل لا أكثر
-معرفة خير بإذن الله
-بس أنا معرفش إلا رجالة
نظر له آدم وزمجر مثل كلب غاضب,اكمل خالد ضاحكا
-ما تيجي تلاعبني بالسلاح؟
-ما بعرفش أشيل سلاح ولا استخدمه
-إزاي دا أنا أسمع إن اللي ييجي على سكتك بتاكله
-آكله بإيدي وأسناني
-طب تحب تلعب بالنبوت؟
قاطعه علام
-أهي دي لعبتي أنا بقى
الرجل يحسب نفسه فتوة بحق كأنه آتي من حارات الحسينية,نظر له خالد متأملا إياه. كتفاه أعلى منه,ورأس صلبة وشعر مصفف وشارب يلقى عناية خير من شعر رأسه. في جلباب أبيض نظيف ويد مزدانة بخواتم مدببة بالجواهر تقبض على نبوت ثقيل وطويل. فهم أن علام يستدرجه لنزال ودي يعلم أنه سيفوز فيه بحكم خبرته في القتال بالنبوت بشهادة المعارك التي فاز بها. وسيزيد ذلك من شهرته ويثبت أقدامه في النجيب بعد أن هزم الواحد الذي لا يهزم. ومن ناحية أخرى دون أن يصنع عداوة مع خالد,وحتى لو هزمه خالد فسيقول أنه لم يكن إلا نزالا وديا وإكرام الضيف واجب. وخالد ضيف عليهم في المنطقة. ثم ألتفت إلى آدم وتذكر أنه لو هزمه آدم ستكون صورته سيئة للغاية في السرايا كلها.
-ما رأيك أن تلعب مع واحد من رجالتي,باللي يعجبك؛سيف أو عصا أو بالذراع.
-ولما أفعل ذلك؟
-انت مش عايزنا نبقى صحاب ولا إيه؟
-وهي الصحوبية متنفعش إلا بالخناق!
-ومين قال,ده بس عايزين نشوف عودك صلب ولا إيه
-مايلزمنيش
-يصح كده يا معلم علام
-كل واحد وشوقه يا معلم خالد
-طيب عن إذنكم
وعرف لاحقا أن آدم الكلب كلب فلوس,يقضي نهاره جالس على مقهى الشرق منتظرا أن يأتيه أحد بمصلحة من أي نوع,حلال أو حرام؛نجارا أو سباكا,قوادا أو بلطجي. ولما أضناه البحث عن كلب مثله اقترح عليه أحدهم أنه طالما أراد رجلا,ليصنع واحدا!.
الأربعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العالم جن جنونه. بالرغم من طبيعة خالد الغير مألوفة للبشر,فقد تساءل هو عن طبيعة ما يجري بالخارج,خارج السرايا. وباء يجعل الناس مجانين. ومجنون -ليس من المجانين- يتربص بالحي يقتل الداخل والخارج. وتجارب تجري في معمل تم بناءه بالحي على بقايا إنسان وليس إنسان. وأصنام تحاصر منطقة وسط البلد. قيل تتكلم وقيل تتحرك.
لم يشك أحد في سلمى,فهو أجبن من أن يذبح دجاجة حتى لو يموت جوعا,وأرق من أن يصارع طفلا تخطى السبعة الأوائل من عمره,وأجمل من يرمى في السجن فقد يغتصبوه الرجال هناك. هذا ما يقال عن سلمى الذي لم يحصل على اسم ذكوري كما يحظى الرجال. يسكن فوق سطح أحد العشش التي تحسب نفسها ضمن البيوت. إلا أن البيت / العش جميل مع ذلك,وسطحه أجمل مؤسس كأنه شقة,فيها غرفة وصالونا وشرفة وحماما. يقف على الشرفة طيلة النهار يتأمل الداخل إلى والخارج من حي السرايا. وهكذا يتصيد فرائسه,يتتبعهم ويقتلهم. إلا أن غنيمته التي يحلم بها تمثلت في أقوى رجال السرايا. خالد دراكولا. وأخذ يتخيل وقلبه يطرب ماذا سيحدث إذا ما تقابل السفاح مع دراكولا. انقضى النهار وأتى الليل وبين يديه جثة مخنوقة لفتاة صغيرة. في نفس الليلة وعلى مبعدة بضعة بنايات في حارة من الحارات كان خالد يسير وحيدا. ولما سار بالشارع الخالي من الناس. رأى جثة الفتاة وكان قد ذهب قاتلها. مال عليها ينظر إن كانت نائمة أم ميتة فعرف من الخط على رقبتها أنها ماتت. اكمل سيره غير مبالي وقال أنه يرسم الخطوط على وجوه الأشداء من الرجال ولا يتصيد (يتشطر) على الفتيات الضعيفات. ثم تذكر أن القاتل يقتل الرجال أيضا. يذبحهم ولا يخنقهم. ربما لأنه أضعف من أن يخنقهم,أو ربما لا يريد أن يلطخ جمال النساء بدمائهن. وتمنى خالد أن يقابله,ليرى من أمهر في استخدام السكين. ولربما ينجح في ضمه إلى رجاله.
ثم أتته فكرة أخرى. طالما يبحث عن رفيق فمن خير رفيق له من من كان رفيق السكين والدماء. ليبحث عن جزار,فالجزارين هم أخبر الناس وأكثرهم دراية بحمل الشفرات على أنواعها. ويعلمون الكيفية المثالية لكي يسري النصل في اللحم مثل السكين في العجين أو في الحلاوة. لكي يقتل أو يبتر أو يشل أو يعجز أو يجرح فحسب. وحي السرايا يعج بالأشخاص غريبي الأطوار الغريبين حتى على الناس من غرباء الخارج. ولربما تزيد صنعة الدماء بعض الجزارين في الحي غرابة,حتى يوافق أحدهم على أن يكون صديقا لخالد.
وفي شارع النجيب جلس الكلب وقد اشترى كلبا,وانقسمت التفسيرات بين من يرى أن الرجل وحيد بلا أنيس أو جليس. ويحتاج إلى رفقة. وبين من يرى أنه اشتراه خيفة من زيارة خالد الغير متوقعة له,وليضيف مشطي أسنان إلى ما لديه بالفعل داخل فمه. خاصة وأن خصوم الرجل يتكاثرون ونال الكلبين شرف أن ينضما إلى الكلاب التي تحوم حول خالد أو تقبع في جحورها منتظرة فرصة مناسبة.
الخمسة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الليالي السوداء تحلو إذا ما مرت ليلى من تحت نافذة أحدهم ووقع بصره عليها.
سمراء ممشوقة القوام طويلة العنق وشعرها الأسود الممتد لكعوب قدميها الملطخة دوما في الحناء. وجهها لا يوجد ما هو أجمل منه في هذا الدنيا بشهادة كل من رآها. متناسق بطريقة ذكية مع أذنين دقيقين طويلين كأذني القطط. وحاجبين يتحركان ويرتفعان وينخفضان بتلاعب يقضي على أشد الرجال. وعينين بلون بني يتشابه مع عيون كل النساء في الحي ولا يتشابه. جبهة رفيعة مثل كل شيء تقريبا في جسدها,عودها وأصابع يديها ورقبتها وأنفها الذي يضخ كل يوم إلى رئتيها أنفاسا يلهث الرجال في حارتها من أجل مشاركتها إياها. ولكن ما يتشارك مع الأنف أنفاسها هو الفم ذوي الشفتين الرفيعيين مثل كل شيء رفيع آخر في جسدها,حتى شق عينيها المتكحلين. ومثل وجهها البارزة وجنتيه وغمازتيه في دلع ودلال وغزل وجمال يطفح من الوجه العاري أكثر من الجسد الذي تغطيه عباءة سوداء تضيق عليه كاشفة مكنوناته البهيمية. لا يغطي وجهها إلا وشاح أسود معقود على بعض الشعر يترك الباقي يسرح إلى منتصف ظهرها. وقد قيل أنها إذا أطلقت العنان لشعرها افترشت به الشارع لتمشي عليه. ظهرها وبطنها وجهان لعملة واحدة,عامود مستقيم ليس به أي إنحناءات أو ثنيات أو تجعيدات أو تكتلات,يزينهما مصباحان علويان وآخران سفليان. ورغم إلتفافة وسطها وطول عودها وتناسق أطرافها,إلا أنها لم تكن رفيعة قط. ولا هي سمينة. بل ممتلئة امتلائات لا تغذوا إلا مفاتنها,عدا وجهها الغير متورد,فلحمها دوما غني وطازج وساخن. وكل هذه الأوصاف لا تعطيها حقها,فلم يشهد أحد لها جمالا ثابتا.
لم يكن جسد ليلى هو الشيء الوحيد الساخن في المنطقة,بل حي السرايا بأكمله سخن قبل أن تلفحه نيران الإنفلات الأمني الذي يلتهم البلاد. إستعدادا للصراع المنتظر الذي سيحدث وبلا شك. جماعة مسلحة بقيادة عكوة الأعور تهجم على التجمعات السكنية والأحياء الراقية أو العشوائية لتسلب كل ما فيها من مال أو ملابس أو قطع أثاثية أو أجهزة كهربائية أو أي شيء. مدعومين من قبل عربان أسواق الخردة اللذين يبيعونهما تلك المسروقات. ولا يقف أمامهما رادع سواء من أقسام الشرطة أو تجمعات شعبية. وهناك أجهزة أمنية تحفزت للصدام الذي قد يحدث بين كتلتين خطيرتين مثل عصابة عكوة الأعور وأهالي حي السرايا المسجل أغلبهم لدى النيابة العامة قبل السجلات المدنية.
في نفس الوقت لا يزال القاتل يمارس نشاطه,ولا يزال خالد يستأنف بحثه. جلس في مقهى الزغاوي يدخن النارجيلة ويتابع الأخبار بإهتمام وملتف حوله رجاله. كان يتأملهم خفية ليرى من أصلحهم لما يريد. عزوز الذي لا يتفاخر بكونه من رجاله,أم مصطفى الذي يحاول دوما أن يتناصح مشغلا دماغه. ثم هناك سيد الغلبان. واستقر على سيد دون النظر في خيار آخر.
ولم يكن خالد هو الوحيد الذي يبحث عن رجال أشداء,فكذا كان يفعل سعد الحزين والكومي رجل الحكومة. وكانت ليلى تبحث عن نساء. وكان هناك طرف خامس لا يعجبه الأمر.
الستة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شد على حزامه وربت على بطنه وجلس على كرسيه وقد ترائى أمام عينيه ستة رجال,كل واحد منهم يمكن أن يشكل خطرا على الأمن القومي لحاله,فكيف الحال إذا إجتمعوا معا؟.
-إيه! عايزين يعملوا عصابة؟
أولهم خالد الواحد,ويقال عنه أنه اسم على مسمى,واحد لا ثان له,لم يمت ولا يقتل ولن يشيخ. لا يوجد من عينته في حي السرايا,أو ربما في مصر كلها. أكثر شخص مخيف بين الستة رغم أن من عرفوه حقا -وهم قليلين للغاية- قالوا أنه لطيف المعشر رغم قسوته,ويقدر الرجال رغم بطشه.
وثانيهم عمران,وهو أسوأ بلطجي في المنطقة,أسوأ حتى من خالد الواحد,وقيل ثاني أخطر رجل في حي السرايا بعده. إلا أنه بالذكاء الكافي ليتجنب أي مواجهة خاسرة مع خالد الخالد.
وثالثهم هو محمد. بلطجي من النوع المفرد,يعيش بمفرده ويتبلطج بمفرده. إذا ما أراد طعاما دخل إلى مطعم أو محل وحصل عليه متناولا ما يشاء. وإذا أراد شرابا فالمقاهي والحانات مفتوحة له. وإذا أراد دخانا فالغرز ترحب به. وإذا أراد نساءا فهو يعرف إمرأة أو أخرى قد تدفع له إذا ما امتنع هو عنها. وإذا أراد مناما فبجوار أي جدار يرتمي جسده. وإذا أراد قتالا فيكفيه أن يحتك به أحد,وهو دوما يتباهى بأنه لا أب ولا ولد له يبكي عليه. غصن مقطوع من شجرة يدق كوتد في صدور الناس.
القرموطي على العكس منه,قواد وبلطجي كبير,وتاجر مخدرات,وإذا دخل في مشاجرة يلتف حوله عدد غفير من الشباب المنحلين والفاسدين محاولين أن ينالوا رضاه. وهو متحير في الرابع كونه واحد من ثلاث أشخاص. الثاني هو أبو سعيد الذي كان أمس يقدم العزاء لأسرة فاضل. وهو قاتله,هو حرفيا من النوع الذي يقتل القتيل ويمشي في جنازته. ويحكى أن البعض رأوه بالفعل نهارا يشيع الميت حتى دفنه مع اللحاد. وها هو يقدم العزاء ليلا. أبو سعيد لا يفوت واجب ولا يسمح لأحد أن يعيب عليه أبدا. الثالث هو الشيخ سمير القصير وهذا الرجل تدور حوله هالة مرعبة من الأساطير الحضرية. كل ما قيل عن الإسلاميين ينسب إليه. هو إرهابي يمشي حاملا طن من المتفجرات تحت المعطف الذي يغطي جلبابه. وهو وأخيه قياديين في تنظيم إرهابي سوف ينسف السرايا كلها ذات يوم. والدم لديهم أكثر رواءا من الماء لأنه جهاد في سبيل الله. الرابع هو الهلفوت.
وخامسهم كلبهم ويحسب نفسه آدما.
وسادسهم الشيطان.
السبعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عد خالد نفسه أو نظيره واحدا,ثم نظر إلى عماد مساعده وذراعه اليمين,ورفيقه في المائة عام الحالية, أو بحسب ما يقدر لعماد أن يعيش,فحسب أنه الثاني.
وللتحضير للثالث وردت له بضع أفكار دموية,الدم عنصر أساسي فيها. ويضرب بها عصفورين بحجر واحد؛الحصول على حلفاء والتخلص من الأعداء.
يقع بيت خالد في نهاية شارع الخليفة,بجوار البيت الذي يحتل واجهة الشارع ونهايته المغلقة,ولكن ليست سدا,فهي مفتوحة على شارع آخر على اليسار,يعد بيت خالد واجهة له. حيث يقع البيت بين ثلاثة شوارع,بيت خالد في شارع الخليفة هو آخر البيوت المتراصة على الجانب الأيمن. وشارع الخلفاوي المواجه لبيت الواحد. وشارع ثالث صغير وضيق أقرب إلى حارة اسمه شارع خلف,يأخذ بناصية البيت اليسرى مفرقا بينه والبيت المجاور له. شارع الخليفة يؤدي إلى شارع النجيب. وشارع خلف يؤدي إلى الخرائب خلف البيوت. سلك خالد شارع الخلفوي. شارع طويل يخرج إلى إحدى الطرق الرئيسية التي تفضي بدورها إلى خارج الحي. هناك حيث تكثر جرائم القتل من السفاح المجهول. لكنه لن يقطع كل تلك المسافة,وقف عند ثاني تقاطع قابله. بعد أن مرّ بأول تقاطع كبير ضمن ثلاث تقاطعات كبرى. ولكن هذا شارع ضيق صغير رغم طوله. تفاجأ محروس شبيشة به يقف على رأسه. محروس يمضغ اللبان ويلعب النرد مع رفيقه على الطاولة. نظر له الإثنان. وتسائل محروس بحدة لما وجده يحدق فيه
-فيه حاجة يا أسطى خالد؟
تسائل خالد في نفسه,ربما يتحدث بثقة شاعرا بالأمان لأنه يجلس في مقهى حسن العنتبلي. حاول محمود تلطيف الأجواء مادا يده إلى جيب قميصه متناولا شريط من الأقراص المخدرة.
-معلم خالد يا عمنا,أي خدمات
لم يهتم له,ونظر إلى محروس
-أنت تمضغ اللبان
علا الاستغراب سيماء وجه
-وماذا في ذلك؟
-كنت مارا والصوت يلطش أذني ويصدع رأسي
انتفض على كرسيه مندفعا برأسه وصدره إلى الأمام
-نعم!!
تحدث خالد وهو محافظ على هدوءه الذي ينذر بالحرب
-قلت لك,صوت المضغ يزعجني
-طب روح يا خالد الله يرضى عنك ويهديك
في تلك اللحظة وقعت عينا محروس على يديه,وقد أدرك أنهما متدثران بجيبه,بسرعة بدأ يخرج يديه لكن كان أو كأن محروس يراها تتحرك ببطء يشي بما تحملهما.
الثمانية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صرخة إمرأة من مكان ما,وركلة تحت الحزام يسددها محروس,ويخرج كل منهما (هو ورفيقه) مطواته من جيبه. لقد تبارزا سابقا مع خالد بالمطاوي. لكنهما كانا كثرة وهو كان لوحده. لازال هو لوحده. ولكنهما إثنين فقط. سكينين أمام نابيه. أول مرة يرى محروس أنياب في اليد بدل الفم. وقد عماه عن رؤية ذلك العصابة التي كانت معه في المعركة الأولى.
حياة طويلة من الشقاوة والصياعة انتهت في دقيقتين,محروس لازال جالسا على كرسيه مذبوحة عنقه ينظر إلى جهة ما وعلامات وجهه تقول أنه غير مصدق. يصيح المعلم حسن العنتبلي محاولا أن ينقذ محمود من يده
-كله ده عشان لبانة,هي تلاكيك يا خالد
كان يمسك محمود من شعر رأسه,والدماء تنسكب من جسده في أكثر من موضع,يبكي منتحبا على حظه التعس ويترجاه أن يحله
-إيه يا عم خالد,كل ده عشان لبانة,يا جدع وحياة أمي لا أقرب اللبان بعد اليوم,بس سيبني وحياة النبي
تدخل رمضان وحريمه,تمسك كل إمرأة عصا غليظة,بينما الرجال من نزلاء المقهى يلتفون حوله متحيرين,هل يتدخلون لصالح العنتبلي,أم يكتفون بالمشاهدة أو محاولة فض الشجار. بعضهم فر من المعركة. لا يتدخل ولا يشاهد. من دخل بيته ومن ذهب إلى شارعه. وبعضهم -ثلاثة رجال متبايني الأعمال- ظل محاصرا في الزاوية داخل المقهى,عاجز عن الخروج حتى لا تطاله سكين أو عصا. بلغت الأخبار سريعا إلى بيت الواحد ومقهى الدميري,حيث صحبة خالد الذين توجهوا إلى موقع المشاجرة. واحتشد عدد كبير من الطرفين تشي بمعركة كبيرة لا هوادة فيها. بين الواحد والعنتبلي. وجدوا رمضان مشقوق وجهه ومذبوح عنقه. وفرت النساء من أمام خالد بعد أن سقط رجلهم. وحتى يد حسن العنتبلي لم تسلم من نابه. بعض الرجال حاولوا صنع نمرة تحفظ صورتهم أمام العنتبلي وتراجعوا سريعا كل بجرحه. لم تمر إلا خمسة دقائق منذ بدأت المعركة,ونزل أفراد عائلة العنتبلي من بيوتهم,وتجمع حولهم العمال من محلاتهم. حتى اللذين تراجعوا تهيئوا لمعاودة الكرة. ولكن بفطنة يحسد عليها ألجم كبير العنتبلي جماح رجاله وأقربائه. واقفا أمامهم باسطا يديه والدم يسيل بغزارة من إحداهما. وبدأ بعض كبار الحي وبعض رجال الخير المسموع لهم كلمة,يتوافدون من هنا وهناك. ترك خالد ياقة محمود مطلقا سراحه. ولكنه تذكر سبب المعركة
-استنى
وقف الشاب مذعورا من مصاص الدماء الذي استوقفه,مد خالد يده إليه
-لا يا خالد سيب الواد في حاله
قالها (بحدة) وصدق عليه العنتبلي وقد نجح في تهدأة الجميع
-مش كفاية كدة يا خالد
-مش هكلمه,بس ما يمشيش وهو لابس هدومه.
ولكنه اكتفى بخلع ثوبه الممزق أسفل القميص الذي لم يعد يرتديه,والمبلل بدمائه.
خمن أن نحو مالكي أربعة مقاهي على الأقل سيحضرون الإجتماع اليوم,وقد كانوا ثمانية.
التسعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شعر خالد بالضيق,لما تذكر أن الدماء لم تنسكب داخل المقهى كما خطط,بالكاد تناثرت على عتبته وجدرانه الخارجية وبعض المقاعد. الشيء الوحيد الذي حصل عليه هو قميص مبلل في الدماء التي أغرق محمود بها. وتمنى لو كان بوسعه الحصول على قميص المقتول دون أن يبدوا ذلك مريبا أكثر مما هو عليه الأمر.
دارت الأفكار داخل عقله,بينما تلتف الكلمات حول رأسه,وكان مجلس الصلح مزدحما, فحضر ضمن من حضر تسعة من أصحاب المقاهي. صاحب مقهى العنتبلي الذي دارت فيه المشكلة. ومقهى الدميري الذي ينحاز لخالد ففيه يجتمع هو وشلته. ومقهى الزغاوي جاء منه أشرف الزغاوي محايدا يريد أن يصلح,وبصحبته المعلم علام. وقد تضايق البعض لمجيئه, ومنهم خالد الذي حسبه مع من حسب (هييجي يعمل فتوة علينا) وأضاف في خاطره أنه ربما يقصده. وستة مقاهي أخرى هي العنتري والدوابشي والشيخ سلام والشرقاوي والمستكاوي وأبو محمد. وتعجب خالد أن العجولي وهو صاحب مقهى مهم لم يأتي هذه المرة. أغلب أصحاب المقاهي أو كلهم يعتبرون من كبار الحي. وأتى أيضا الكبار المعتاد حضورهم في مجالس الصلح تلك عادة,مثل أفراد من عائلة الدوابشة أتوا برفقة صاحب المقهى,وأتى سيد صبحي والشيخ حسام شقيق الشيخ سلام.
واضح للناس أن خالد يريد أن يبسط المزيد من النفوذ من خلال إشعال المزيد من الصيت حوله. كان خالد يريد عدد كبير من الرجال لسبب ما,ولكن المقربين فقط لا يريد منهم أكثر من سبعة,أو ستة هو سابعهم وأولهم,فلو زاد الأمر عن ذلك لن يكونوا مقربين إذن. بينما سعد الحزين المعروف بجدعنته وشهامته لا يطمع سوى في رجال أشداء وأذكياء يحمون معه الحي,ويتصدون للمعتدين القادمين. يريد خمسة أو ستة لا أكثر. ويلتف حولهم باقي أبناء الحي. أما عن الكومي فلا عدد معين يحده أو يحصره. فهو رجل الحكومة وله أن يجند ما يريد بحسب ما يشاء. ولكن تعارضت أهدافهم مع كبار حي السرايا,الكبار الحقيقيين,كبار على كل كبراء السرايا والقاهرة كلها.
الآن خالد جالس في بيته,في المدخل خلف مصراعي الباب,يدخن رفقة شلته,طرق طارق, أطل برأسه
-اخرج
-نعم
-اخرج لي
قالها الرجل بصوت منخفض كأنه يطلب لا يأمر,إلا أن الكلمة لم تسبق بإذن ولم تذيل بتفخيم. ونظرة الرجل لا تقول أي من ذلك,بل تنطق بكل ما هو غير ذلك.
العشرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما بين الجلوس على المصاطب والواقفين على النواصي تحدث المشاجرات دوما في حي السرايا,وحدث ما يشبه الإنفجار الذي أخلف حريقا,أو هو حريق فرق شيئا ما,صار له دوي واحمرار في السماء بالليل ودخان متكاثف بغزارة,وواضح سواده أو رماده تحت سواد السماء.
صارت مفردات الأخوية والأسطوية بديلة لألقاب مثل المعلم والكبير,قرّب كرسيه منه
-بقولك يا أسطى خالد
-قول
-متآخذنيش يعني,بس انت عينك على مصلحة كبيرة؟
لم يرد عليه,حاول وسأله ثانية,ولكن لم يعطه خالد أدنى إهتمام,دعى رفيق ثالث مار بهم للجلوس وأخذ يثرثر معه بينما لم يهتم خالد بكل هذا,لا بالثرثرة جواره ولا بالصرخات في آخر الشارع,وظل قابعا مكانه. يفكر في أن يأخذ خطوة جريئة ويذهب إلى أحد الكبار يعرض عليه الإنضمام إليه.
وأول هؤلاء الكبار هو مدير أمن القاهرة نفسه,ذهب إليه خالد بنفسه,عبر البوابة ودخل مدخل البناية الكبيرة جيدة التأمين مشددة الحراسة.
عند الباب قبيل الصعود إلى المبنى الجديد الذي انشئ خصيصا ليكون مقرا ثان لإدارة أمن القاهرة يقع على حدودها حيث مافيا شمال القاهرة تتربص بالحكومة قبل الشعب.
عدد العشرة كلهم على أصابعه
1-مدير أمن القاهرة
2-سيادة الـ
3-العميد العسكري
4-المحافظ
5-المأمور
6-المعلم هدهد
7-شخص مجهول لا يعرفه بعد
8-كبير السرايا
9-كبير الصعايدة
10-رجل الأعمال
الـ11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان خالد جالسا على عتبة بيته كعادته,وفي حاله,يكفي الناس خيره,ويكفيهم شره. أو على الأقل يكفيهم شره مؤقتا. كان يفكر في أن يضم هؤلاء الذين يصعب ضمهم إليه. عكوة (أو ربما عضمة) كلبة. ذو رأس الكلب. حكى له أحد رفاقه عن فتى غلبان إسمه أحمد. ظن أن هذا قناع وحاول خلعه عن رأس عضمة. لم يعرف أن قناع الكلب ليس قناعا,بل وجها. ابتسم خالد وهو يتخيل الموقف. ماذا يفعل إذا قابل خالد في الحمام أو في زاوية مظلمة من الحارة مكشرا عن أنيابه. بلا شك أن رقم مائة في عصابته سيكون هذا الصبي الصغير ذو الخمسة عشر عاما (مية) وهو بمائة رجل كما يزعم وكما يقولون عنه. أو يختار أحد من السفاحين,وهم كثر في السرايا بكثرة الخطايا في البشر. مثل هذا الشاب الذي عرف من تحليله لكل المصادفات التي احتوته أنه يقتل البنات ولا يظهر قتله لهن. أو تلك الشابة القاتلة ولكن لا تظهر لأحد. حتى ولو كنت تراها لن تشك فيها. أو ربما يختار سفاح اليومين دول (هذه الأيام). أو من الممكن أن يضم إليه أحد الإرهابيين,جابر أو ناصر أو قادر. هناك خلية كاملة في منطقة قريبة منه. وهو أيضا عندهم مهاب ومعمول له ألف حساب.
ربما يضم إليه حسن عزازيل (ويقال حسن عزرائيل). حسن عزازيل هذا له دور وحكاية مع الجميع. وليس من رجل إلا وله عنده جميل أو معروف. أو علم عليه فهو عنده مهاب يعمل له حساب. وذلك لجرأته الكبيرة في خوض المعارك,ولحرفته التي لا تضاهى في حمل السكين واللعب به. ذات مرة ذبح خمسة رجال في غمضة عين. ثم شق بطون خمسة آخرين جاءوه طلبا للثأر. لا يسير إلا وعينه وسط رأسه,والسكين في يده قابضة عليه داخل جيبه. وهو قادر على إحضار السلاح النار إذا لزم الأمر أيضا. وقادر على الرماية والتسديد به. وله صولات وجولات مع كبرى العائلات وخاض أكثر من مرة حرب عصابات. فهو حسن التنظيم لرجاله,تتقوى قلوبهم به. يشعر خالد كأن حسن هذا يشبهه. وربما يتبناه أبا له ذات يوم.
أو ربما يختار علي عليوة. شاب كبير في السن. تجاوز الأربعين من عمره. قصير القامة جدا تكاد لا تراه من الأرض. يزيد قصره تقوس ظهره,وأحدب خلف رأسه. تشوه وجهه فألم به فمه. أسنان محطمة ومكسرة,يتخللها إلتهابات وأكثر من خراج. كان كالمشوه والعاجز. لكن لم يكن عاجزا وإن أصابه عجز في يده اليمنى إمتد لباقي ذراعه. عند القتال يتفاجئ خصمه دوما بتلك اليد تتحرك لتشق عنقه أو بطنه بموسى رفيعه وصغيرة مخبأة بين أصابعه المضمومة دائما بفعل المرض. دائما عدا إذا كان خصمه غريمه. ندا غير هين أتعبه وأرهقه في معركة دائرة بين علي وبين فرد آخر أو عدة أفراد لا يهم. فلطالما أظهر براعة لا تصدق رغم أنه لا يقفز ولا يركض. محني ظهره تاركا رأسه تحت يد عدوه إذا طاله. ولكن لا يحدث ذلك. ثابت يسدد ضرباته بنصل صغير أو كبير ببراعة يحسد عليها.
الـ12
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العمل هو سحر يعمل لشخص ما بغرض إيذاءه,ويصنع العمل شخص حاقد عليه,ويفك العمل شخص تقي مثل الشيخ محمد في منشأة ناصر بعد محطة الكوتش,أو الشيخة سناء في المرج وهي ليست طبعا الشيخة سناء صاحبة المقام,بل إمرأة أخرى تسكن في بيت عند المقابر أمام المسجد الكبير.
وكان يجيئهم الكثير من الملابيس,والنساء الساحرات,والرجال المعمول لهم عمل الذين لا يخرجون أو لا يستطيعون أن يدخلون ذكورهم. والأطفال التي لم تستطع أن تلقم ثدي أمهاتهم. والعجائز الذي لم يستطيعوا أن يعيدوا وصل علاقاتهم بأبنائهم. والسيدات تبحث عن رجال. إما لهن أو لبناتهن. بعضهن كن يأتين ليزوجن بناتهن. وذات مرة جاء رجل يطلب أن يزوج زوجته. ليس لرجل. ولا لإمرأة. ولا لأحد.
السحر هو بمعنى ما إذهال العقل بما لا يعقل. وكان السحر الأسود من ذلك. وهو السحر الحقيقي حيث لا وجود لسحر أبيض. السحر هنا هو عملية تدنيس للأديان السماوية إرضاءا للشيطان مقابل خدمات شيطانية إرضاءا للساحر. وكان خالد يحتاج لسانا مثل التي تملكه أم أحمد. وسحرا مثل الذي تفعله أم أحمد. التي تلتهم الكلب ميتا,وتقيئه في فم من عمل له العمل أثناء نومه. كانت لتنجيه من قبضة هذا الضابط الذي أحاط به وبتحركاته وضيق عليه حتى حصره في زاوية. وهو الذي كان دوما يحصر الرجال في الزاوية يجد نفسه في يوم من الأيام محاصرا. كان قد تواصل مع أحد الخبراء مثل هذه الحالات. (الظاهر والمهمش). لماذا يشعر اليوم أنه سيموت. ربما هذا بفعل الحصار. تقدمت فرقة (القوات الخاصة) متدثرة وملثمة تحت دروعها السوداء. خطوات واثقة وقوية ومدروسة. عددهم كبير فعلا. طوقوا بيتها من ثلاث جهات. كيف تجاوزوا مانع وعاصي؟. خلية إرهابية إستعان بها خالد. يقودها شخص إسمه الشيخ خالد. رجل قوي لديه عدد غير محدود من الرجال. لا يعرف هل هو متدين أم فقط يتاجر بالدين. إلا أنه يعد رجاله بخلود لم يتحصل عليه خالد رغم قرونه المدية. خلت الرصاصات من مسدسه. ولم يبقى في يده إلا قرن واحد شبه مكسور تخرج أحشاءه المعدنية من قلب قطعة خشبية ملوثة بالدماء. كان يوجد رجل بجواره. من أسيوط. لم يتوقع أن يفر صعيدي من معركة دامية مثل هذه. فرّ حاملا البندقية الآلية على ظهره.
الآن هو وحده.
ماذا يفعل؟
لا يعرف.
الـ13
النهاية
الأعناق
[1]
كان يسير في الشارع واخترقت رصاصة صدره من الخلف,كان يسير في الشارع,وفي هذا الشارع تحديدا يمكن أن يموت أي شخص بطعنة أو برصاصة,مجرد مار أو من الساكنين, أن يقتل دون أن يسأل أي أحد عن القاتل أو القتيل. هناك فضول لمعرفة هوية طرفي القتل. ولكن يقابل الفضول خمول ولا مبالاة مهما كان الحدث جللا. لا أحد يهتم. والجميع يمشي ويأكل وينام.
لكن هو,كان رجلا مختلفا,لا ينتمي إلى دونية الحياة الحقيرة التي يعتاش عليها أهالي هذا الحي الإجرامي كما ينص قانون الجريمة الأمريكي. كما لو أن الجرائم قوانين يسير عليها روادها. ولكن بالفعل هناك. لا يمكن مثلا أن تطلق النار على أحد أقرباء الزعماء دون أن يسندك أحد قوي. أو ربما حصلت على إذن وتصريح من الكبار. لذا كان خبر مقتله مدويا كما يجب أن يكون. مدويا أكثر من إنفجار هائل حدث وسط المدينة منذ إسبوعين أو عشرة أيام.
كان عمر مكرم مسؤولا كبيرا في البلد,لذا لن يكون قتله سهلا,ليس مثل قتل بلطجي لبلطجي آخر,ولا هو ثأر في الصعيد,ولا جريمة شرف لزوج خنق زوجته,هذا النوع من القتل يسمى اغتيالا.
أولا عمر مكرم لا يكون وحيدا أبدا. يسير عمر مكرم محاطا بسبعة رجال لما يسير في الشارع. وفي الحمام يكون هناك سبعة وسابعهم أسفل نافذة الحمام. أو في النوم ستة منهم أمام الباب وسابعهم أسفل النافذة.
إذا ركب عربته المؤمنة جيدا,تتقدمه سيارة وتتأخر عنه سيارة ولا يعرف في أي منهما هو. العربات الثلاث مؤمنة جيدا. مؤمنة من أي متفجرات يتم فحصها بشكل دوري قبل أن يركب سيارته. قادرة ليس على التصدي للرصاص فقط الذي لا يمكنه إختراق زجاجها. بل وقادرة على تحمل أي هجمات صاروخية طالما لم تخترق الزجاج مباشرة.
[2]
كان تعرفه على نادي الصيد شيء اعتيادي لا يخرج عن نمط حياته اليومية,يذهب إلى إحدى الأندية الليلة التي لا يتذكر إسمها ولكن لا يمكنه أن ينسى أو يضل الطريق إليها أبدا ومهما كان مخمورا أو مخدرا أو ناعسا أو حتى دائخا مصابا بجروح عميقة إثر معركة قام بها كعادته دوما في افتعال المشاجرات أو التصدي لها بضراوة وشراسة مقاتل حقيقي. والليلة تحدث معه معركة عنيفة تغلب عليها وعلى الخصوم فيها. نال رضا واستحسان إثنين؛أحد المترددين على الملهى وأحد رواده. وأخيرا استدعوا مدير الملهى وصاحبه. تحفز متحسبا لمعركة غير هينة. اعجبوا أكثر به وبشجاعته لما رأوا الجرأة في عينيه متحدية الأسلحة في نطاقات الرجال الذين أتوا ورائهم والذين التفوا حوله. كان محاصرا وكان مقداما,وقبل أن يتهور أكثر أشار رئيس النادي إليه أن يهدأ رافعا كفيه أمامه في إشارة هدنة.
ومن هنا بدأت صفحة جديدة في حياة هذه البلطجي الذي تحول من سفاح يقتل بشكل عشوائي إلى منفذ يقتل بالأجرة.
[3]
اندلعت حرب صغرى عند مقر الحزب,أمامه بالضبط,أصابته رصاصة ومات,واندلعت حرب صغيرة بين الأحزاب المتناحرة قلبت الليل نهارا ولم تترك صخرة إلا وقلبتها مع انقلاب الحال. كانت الكفة العليا بالطبع لحزب وطن الممثل عن الدولة نفسها. ضد ثلاثة أحزاب هي حزب المعارضة وأحد الأحزاب الإسلامية وحزب اليمين. وكان يمينا متطرفا بحق. متطرفا في معارضته,ومتطرفا في قتاله وأساليب القتل التي حولت الصراع إلى حرب كبيرة على وشك أن تتحول إلى حرب كبرى تحرق البلد كلها ومن فيها.
لم يتدخل الحزب العسكري بعد,وهو حزب آخر ممثل للدولة,كانت دويلة صغيرة تقع على الحدود بين إحدى أقوى الدول في العالم العربي,ودولة العاصمة الكبرى القوية ذوي الرجال الأشداء الذين يركبن نسائهن. كانت دويلة صغيرة يسهل أن تفتك بها هذه الصراعات الكبيرة. وفي بحر من الدماء جلس ممثل الحزب العسكري على عرشه ينتظر اللحظة المناسبة. يعلم أن لا استقرار في هذه البلد بدون قبضة حديدية تحكمه. ولكن ليسمح لمزيد من الدماء أن تنسكب. لتسيل الدماء حتى يعطي شرعية لتاجه. ينتهز اللحظة الحاسمة ويتدخل ليفض كل هذا.
انتهت الحرب. وانتهى القتل.
لكن كان هناك حزب له رأي آخر
[4]
استأجر حزب (مستقبل وطن) -وهو ليس إسقاط من الكاتب على الحزب الآخر بنفس الإسم فالكاتب ليس بهذا الغباء- قاتل متسلسل لتنفيذ إغتيال,قاتل غير عادي,قاتل من نادي الصيد للصفوة. قاتل متسلسل لتنفيذ إغتيال,هناك الكثير من القتلة,ولكن فارق بين القاتل المتسلسل والقاتل المأجور. وفارق بين أي قاتل آخر وقاتل من نادي الصفوة.
القاتل المأجور هو قاتل مكلف بمهمة مقابل أجر معين,يأخذ هذا الأجر ليحافظ على رفاهيته في الحياة,وينفذ هذا القتل ليحافظ على مكانته بين مجتمع الجريمة والأشرار. لكنه وعند نقطة معينة لا يمكن أن يخاطر بحياته.
القاتل المتسلسل هو قاتل يقتل لأنه يريد أن يقتل,لا يطمع أو يطمح إلى مال أو سلطة,هو يريد أن يقتل لأنه يعشق القتل. هكذا ببساطة. وفي سبيل تحقيق ذلك يبحث عن الحدود ليتخطاها ولا يأبه لحياته ليحافظ عليها.
[5]
القتل
والحرب
والإغتيال
لا يمكن لأي أحد أن يقتل ويفلت بجرمه بسهولة,فإما أن يقع تحت طائلة القانون,وإما أن تطاله أيدي أقرباء المقتول تطالب بدمه. وإما لأسباب أخرى. وقليل من يقتل ولا يُقتل. ولكن البعض من الغرابة رغم إعتباره ضمن هذا القليل,إلا أنه ليس من نوع أن القتيل مقطوع من شجرة,أو أن القاتل ينتمي إلى عائلة قوية من العتاة في البلد. لا. السبب أغرب وأعجب من ذلك. ليس أن القاتل غير معروف,أو أن القتل كان حادثا. بل سبب آخر. هو تصريح بالقتل. من ينال هذا التصريح يمكنه أن يقتل مرة واحدة دون أن يتحمل أي من عواقب جريمته. وإذا حصل على البطاقة الذهبية يمكنه أن يقتل كما يشاء بدون عدد محدد. وتندثر جميع المخاوف التي قد تتبع فعل القتل. لا قانون يمكن أن يحاسبه. ولا أحد يجرؤ على طلب الثأر منه. وحتى أشباح الماضي لا تقربه. بل ولا أثر للندم فيه قد يدفعه لقتل نفسه والانتحار. كأنه بطاقة سحرية للفرار من عواقب أفعاله حتى على الصعيد النفسي. أو كأنه مؤهل منذ البداية لذلك.
[6]
كان هو واحد من الذين حضروا مقتل خالد دراكولا.
الأيدي
[1]
الديانين هم كائنات طفيلية تعتاش على ديون الآخرين,مثل مصاصي الدماء الذين يتغذون على الدماء حتى يعيشون,لكن الفارق المهم أن الديّانة هم سلالة من البشر. أما مصاصي الدماء وإن كانوا بشرا يوما ما,إلا أنهم صاروا كائنات أخرى. ومع ذلك يحتفظون بسمة أساسية أخرى تجعلهم أشبه بمصاصي الدماء,وهي أنهم غير ملحوظين,بل وينظر لهم بصفتهم أصحاب مراكز مرموقة في المجتمع,أو على الأقل بالنسبة لأغلبهم,وربما فقط في محيطهم. ولأنهم مثل مصاصي الدماء,تعددت طرقهم السحرية في الحصول على غذاءهم؛ الديون. لاحظ ان دين ودام ثلاث حروف تكون كلمتين تبدأ بحرف الدال. أو هكذا جعلها أحد الديانة مستمتعا بأي شبه بين الدين والدم. والناس تقول على الجزار أو المحامي أو الجراح أو البائع أنه مصاص دماء يمص دمائهم وينهب أموالهم. كما أن ثقافة الدين أصبحت دينا, فمن تمام الإيمان أن يسدد المرء دينه.
الديان هو شخص يمشي بمبدأ (الجنيه غلب الكارنيه) كي يبسط نفوذه على البسطاء المؤمنين بصحة هذا المبدأ,والخاضعين تماما له. بل ويتجاوزهم إلى تشكيل علاقات مع أصحاب النفوذ مثله,سواء بالمال أو بالمركز,كلمتين تبدآن بحرف الميم. هذا يلقى عناية من جامع الحروف أحد الديانين المشهورين.
الديان هو شخص يعيش داخل حي السرايا بإرادته,يبني قصرا بين قصورها,ويصنع تاريخا زائفا لأجداده,أو يتباهى -دون مفخرة حقيقية- بتاريخ حقيقي لأسلافه. وهو يختار أن يعيش هنا ملكا بين الفقراء والمطحونين سيدا عليهم,خير من أن يصارع مع الحيتان في بحر المال والأعمال والاقتصاد بالخارج. ولهذا تجده خفيا تماما عن الإعلام.
[2]
الحاج سيد نموذج شهير وكبير للديانين,وهو اسم على مسمى,سيد وسيد على القوم,ليس كل سكان البيوت إلا من سكن في بيوته,ويعيش على طعامه,وينفق من ماله,وكان ينقص أن يرتدي من لبسه بقية سكان الحارة. وقد قرر ذلك لاحقا,افتتح مصنع ملابس,وكان يتبرع بفضلات بيته من مأكولات وفضلات المصنع من ملبوسات إلى المحتاجين والمتشردين. بينما هو دوما في أبهى صورة,ويأكل أحسن طعام. ويعطف من حين لآخر على المساكين ببعض الألوان. ويعود فيأكل أحسن طعام ويلبس أحسن ثياب ويربح أحسن أموال. وأحيانا يبني جامعا أو يأوي أحدهم في بيت من بيوته,فكأنه يؤله نفسه عليهم,يطعمهم ويسقيهم ويكسيهم ويأويهم ويداويهم في بعض الأحيان. ثم يرجع ويتباهى بأن كل ذلك لم ينقص من ماله جنيها ولا قرشا واحدا. ويتبختر بلبسه وأكله وبيته وعربته. وهو في أكثر أحواله غنى وأفضلها حالا يرتزق من رزق العمال,ضد الديانين ونقيضها وغذائها الأساسي. الغذاء الأفضل من لبسه وأكله وبيته وعربته وعياله.
[3]
رسائل إلى الديانين
الديان الأول
-أقول لك
-قل
-هذا آخر سؤال أطرحه عليك في هذا الشأن,ولكن وبما أن (المصلحة مشتركة) من واحد إلى عشرة ما نسبة تأكدك من إرسال هذا المبلغ؟
-11
-أووه حقا؟
-حقا
-طمنك الله,ولكن أغفلت أن أحدد لك -والله تعبتك معي- هل بنسبة 100% ترسل هذا الإسبوع؟ أم المدة مفتوحة وغير معلومة؟
-99% ترسل هذا الإسبوع.
الديان الثاني
-مرحبا صديقي,سأغرمك 200 جنيه أخرى,هذا رقم الأرضي خاصتي (28708479) كود المحافظة 02 بإسم وليد أحمد الفرجاني. ها ها ها (في حالة موافقتك أو تيسرت الأمور معك) ادفع لي بالـ (200) فاتورة الإنترنت أولا وربما يتبقى ما تدفع به الأرضي لكن لا يهم فلو دفعت الـ 150 لإنترنت فكفى) وبهذا تكون ساهمت في إنقاذ باحث ومبدع عبقري مثلي من خلال إتاحة الكتب (سابقا) والإنترنت (حاليا) له.
وأقسم لك ستكون آخر مرة أطلب منك فيها قرضا,وسوف أسدد لك الـ (500 أو 300 في كلتا الحالتين) خلال مدة أقصاها شهرين من وقت تلقي هذه الرسالة.
بلغ بي الحال أنني أصبت بطعنة أخرى مؤخرا فساومت أهلي على سعر الخياطة,أي أن أتركها تصنع ندبة أخرى قبيحة دون أي تقضيب مقابل نصف ما سيدفعوه.
-ياكش تسيح في دمك
ولم يدفعوا جنيها واحد.
كما إني طلبت من شخص آخر معروف بصفته ناشرا في الوسط الأدبي,فرفض,لن أطلب من المزيد حتى لا تخرج عني سمعة كما حدث سابقا أثناء تزايد طلباتي للجهود التطوعية من الكتاب والفنانين والرسامين في مشاريعي التي لم تكتمل.
آه بلغ بي الأمر أيضا أنني طلبت من بعض الجمعيات الخيرية مع إمكانية التحقيق في شأني للتأكد من عدم توفر أي جنيه واحد لدي. وضمان إسمي ورقمي القومي ومحل إقامتي. لكن نصف هذه الجمعيات -أو أغلبها إن لم يكن كلها- نصابة لأنها لا توفر خدمة سلفية بهذا المبلغ البسيط (200 جنيه فقط) بينما يفترض أنها جمعيات كبرى توفر كل الخدمات والأنشطة الخيرية.
كما أني فكرت في بيع كيس دم لي,ولكن هذا أكثر إحراجا,فأما من المواظبين على التبرع دوريا كل شهرين. فلا يأتي علي الزمن وأبحث عمن يشتري!. (اكتشفت لاحقا أن بنوك الدم والجمعيات الخيرية التي تبحث عن متبرعين بالدم,هي الأخرى محتالة).
ولأني معرض للموت في أي لحظة (بالمرض أو في إحدى مشاجراتي) أحاول رفع ما أمكن من أعمالي وإتاحتها مجانا على الإنترنت. آه أنا أتواصل من خلال التحايل على الشركة عبر استغلال المساحة الضئيلة من السرعة التي تسمح بالكاد بإرسال رسالة واحدة بعد عدد معين من المحاولات. يعني الإنترنت غير متصل الآن.
آه كل ما سبق غايته (تقطيع قلبك) وهو أسلوب رخيص بت استعمله منذ حوالي سنة كنوع من أنواع المساومة (مش عارف بساوم على إيه).
في حالة الرفض كل ما عليك قوله هو (لا) وسأتفهم أنه ليس معك (مثلا) أو أيا كان. لأن هذا مرة أخرى مزيد من الاستغلال الخاطئ لصداقتنا (سابقا لا,ولكن حاليا نعم).
آه .. أهم شيء (أرسلت أو لم ترسل) أن أظل أنا وأنت كالمعتاد ولم يتغير أي شيء بيننا رجاءا حادا لم أرجوه لأحد. (أنا أرجوك أن تظل صديقا لي,ولا أترجاك أن ترسل المال فلا يختلط الأمر عليك).
آه (والنبي يا شيخ) سرعة الرد,حاليا أقوم بتلقيط الزبالة (شغلتي الأساسية) لبيع النحاسات والقصدير والألمونيا والكارتون والبلاستيك وعبوات المشروبات الغازية وغيره. لذا هناك باب للمال لازال قائما. لكني أكره أن أكون معلقا (هههه شحات وبيتنك / يتأمر).
آه أطلت عليك .. صحيح؟
وكنوع من حفظ ماء الوجه أغير الموضوع بسؤال
ما آخر رواية قرأتها؟
الديان الثاني
أحمر
الديان الثالث
والديان الرابع
البطون
السرايا حي حي ونابض بالحياة,السرايا منطقة عنيفة جدا,وخطيرة على أي غريب عنها,أو ساكن بها لم يتأقلم عليها. بلغ خطرها مبلغا أنه لليوم لم يتم إدراجها في أي خريطة ترسم المعالم الجغرافية لمصر. ولم يتم الإعتراف بها من أي جهات أو مؤسسات رسمية حكومية أو غير حكومية.
سكنة السرايا هم مجموعة من البطون الجائعة والوجوه المكفهرة والأعين المحدقة والألسن القذرة والأيدي الممتدة. ممتدة إلى جيوبك أو ثدي النساء أو إلى أعناق الرجال تبتغي صفعها أو ذبحها. ربما طعنها أو سلخها أو حرقها أو خنقها. كل الأصناف متاحة ومتوفرة في السرايا. كل أشكال العنف والأذى والقتل والإجرام. وبالطبع الأشكال المخففة مثل النهب والسرقة والإحتيال.
والمشاكل كثيرة في منطقتنا هذه,وفي كل مناطق شمال القاهرة عموما,والمشاكل هنا المعني بها ويراد بها دوما المعارك وأفعال العنف والأذى (المشاكل وحشة).
ونحن لدينا هاهنا,أغرب باقة من البلطجية والمجرمين والشمامين,منهم شخص يضحك دائما. يضحك رغم كونه شرير. أو ذلك وجه الكلب. دائما يرتدي وجه كلب. وهناك الرجل الذي يرمي الناس ببقايا اللحم,وآخر يرمي الناس بالنقود. أغرب مجموعة من البلطجية والمعاتيه.
بتقديري .. الناس العاديون الذين يعيشون في السرايا لا يعيشون هناك إلا لأحد ثلاثة أسباب لا رابع لهم
1-القدرة,أي أنهم سادة وسط العبيد
2-الغلب,أي أنهم غلبوا على أمرهم
3-وسط بين ذلك وذاك,ومخطط للرحيل
هناك مائة سبب وسبب للموت في حي السرايا (دونها أحمد في كشكول لا يستعمله كثيرا,ويلاحظ تكرار بعض الأسباب,كما أنها ليست مرتبة بدقة بحسب الأكثر شيوعا).
وقد استنبطها من المظاهر العديدة,والغريبة,قريبة أو بعيدة من الموت. ولكن ليست متجاوزة للفقر أو الجوع أو المرض.
وفي قلب مقابر السرايا هناك ساحة خالية يتوسطها بناء كبير مثل قصر متسع حول غرفة واحدة,وتتوسط واجهته العملاقة بوابة لا يخفي حجمها ضخامة المكان,وأناقتها تعكس نظافة الشارع خلفه. شارع واحد يؤدي إلى دائرة تتوسطه صينية الميدان المتألقة بالقصر الكبير ذو البوابة. وحول الدائرة تراصت البوابات الأربعة الكبرى والبوابة الكبيرة خامسة كأنها تخمس في وجه الأعادي والكارهين والحساد.
داخل هذا المقام هناك جسد يجتذب حوله كل الروحانيات وممارسي الروحانيات ومريدي الروحانيات في منطقة السرايا بأكملها. يجتذب البسطاء مثلما تجتذب النار الفراشات,وكما يجتذب العفن الذباب. يقف البسطاء على باب الضريح,وقد سموه ضريحا,متفاوتي الطبقات ولكنه جمع في طبق واحد وطبقة واحدة كادحة.
ما بين الشحاذين والعربجية والعواطلية والعمال والموظفين والحرفيين والزبالين والسكارى والحشاشين والمتشردين والمتسولين والنائمين والحفاة والعراة وحتى الباغيات والمومسات. وكذلك سيدات المنزل وأمهات كربانات,وصبيان صغار,وفتيات شمال,ورجل أتى وحيدا.
رجل وحيد أتى وسط الزحام,لا ينتمي لأي فئة منهم,ورجل وحيد بالداخل في المركز,كل هؤلاء أتوا لأجله هو. واحد لا يعرفه أحد والآخر يعرفه الجميع. واحد لا يسـأل عنه أحد والآخر يسأله ويسأل عنه الجميع. واحد مثل الجميع والآخر غير الجميع. واحد هو واحد وآخر هو الكل.
أتت أم محمد,وكعادة جميع ربات البيوت هنا,كلهن أمهات لمحمد أو أحمد أو محمود أو حامد أو عبد الحميد,وربما بعض من حسن وعلي ووليد وحسام وإبراهيم.
وهناك أحفاد من بناتها,أما الرجال فلم يجلبوا أحدا بعد.
البوابة .. يجلس أكثر من ستين رجل أمامها.
وكان من بين الواقفين رجل إسمه الحلوف. سمع عنه أحمد (طراطيش) كلام.
في واحد من القصور المنتشرة في حي السرايا,تسكن إحدى العائلات المندثرة التي كانت ضمن المؤسسين الأوائل لمنطقة شمال القاهرة كلها. الغزاة القادمين من عاصمة القاهرة وقلب مصر ودرعها حيث القلعة,شقوا الصحراء وصولا إلى هنا. مثل قصة نمطية حتى لو حقيقية عرفوا بصفتهم خدما لأسيادهم,وهم الآن سادة على من تبقى من رعية وحثالة وفقراء في منطقتهم بحي السرايا. ولكن الذي بقى ثابتا,وكما هو متوقع هو قدرتهم على خوض الحروب والمعارك التي كان لهم باع طويل فيها,وصار على إثر الماضي وبعض فعال الحاضر لهم سمعة مخيفة في المنطقة ويسيطرون تماما على الشارع الطويل الذي ينتهي أو قبل آخره بقليل ببيتهم وقصرهم الكبير.
حدثت مشادة خفيفة بين رامي الحلوف,وبين عماد ومجدي
-رامي رامي كلب حرامي سرق اللقمة من قدامي
قالها طفل صغير ينتمي إلى العائلة التي من أبناءها عماد ومجدي ووحيد
عماد ومجدي وعمرو ووحيد أشقاء كبار لثلاثة صبية شياطين في سلوكهم ومزاحهم,وقد ضاق الأمر برامي الحلوف فتشاجر مع عماد ومجدي وأتى عمرو وتكاثر الثلاثة عليه,وقبل أن يتحول جاءه شقيقه أحمد الحلوف ليدعمه في هذه المعركة. لم يتطوع أحد من الجيران لفض هذا الشجار خشية أن تهتاج البطون الجائعة فجأة وتكون مذبحة جديدة على أيدي عائلة الحلوف.
-ابعد عن أم بطون جائعة
هكذا نصحته أمه وهي تجره لما حاول الصبي أن يتفرج على هذه المشاجرة,وأبوه لا يمانع رؤيته للمشاجرات حتى يتعلم,ولكنه يحذره الاقتراب من المشاجرات الخطيرة مثل تلك.
ما الذي يميز عائلة الحلوف؟
أنهم قوم حلاليف بالفعل!
إنهم يأكلون البشر
البطون الجائعة
(لا تجعلني أتحول عليك)
يطبقونها حرفيا,فهم بالفعل يتحولون,في حالتين,الأولى عندما يجوعون,والثانية عندما يغضبون. لهذا جرى تسميتهم بالحلاليف. ليس مجازيا,بل لأنهم يتحولون فعلا.
هتحول عليك!
هم فعلا يتحولون.
يتحول تماما,ليس من هادئ إلى عصبي,بل من بشري إلى غير بشري.
عائلة الحلوف هي عائلة من الوحوش,حلاليف فعليا,لأنهم يأكلون أي شيء.
ربما هذه واحدة من الأسباب التي تكثر المهمات لفرقة القوات الخاصة المصرية. فهذا مكان خطير فعلا.
ليست هذه أسوأ أنواع المشاجرات في الحي. شاهد أحمد بالفعل مشاهد قذرة وعنيفة كما يجب أن تكون.
هذه سبعة مشاهد حقيقية رآها أحمد,ورآها الكاتب بأم عينه -أو أقله رأى ضحاياها بعد وقوع الحادث وقد رأى مشاهد عديدة اختار بعض أرقها لأن قلب القارئ قد لا يتحمل- في طفولته في إحدى أكثر المناطق العشوائية خطورة وإجراما في القاهرة. لنقل أن إسم المنطقة هو حي السرايا. (هناك حي السريا داخل حي السرايا).
-طفلة تستدرج طفلة أجمل منها وتشنقها بوشاح كانت تتحجب به.
-طفل يشطر عين طفل آخر بالموسى.
-طفل يعتصر (حمامة) طفل آخر ويهرسها بين يديه مثل البطاطس المهروسة حتى يخصيه تماما دون أي رحمة لصرخاته أو دمعاته أو رعشاته.
-طفل يكبل طفلا آخر من الخلف لتكون رأسه بين باب حديدي ثقيل وجدار,وطفل ثالث يندفع راكلا الباب الحديدي بكل قوته.
-طفلين يلقيان طفل ثالث من الطابق السابع ليتحطم جسده فوق خردوات معدنية.
-طفل تنسحق رأسه تحت عجلات عربة يجرها حصان مندفع يقوده طفل.
-طفل يقذف وجه طفلة بكيس حمضي فتفقد نورها وتتلاشى ملامحها.
سمير وكريم وعبير يشاهدون من فوق السطح أشياء من قبيل / شبيه ذلك.
النافذة
لم يصب في قدمه كما في النافذة الخلفية,ولكنه فقط يحب الجلوس على الأريكة أو الكرسي خلف سور النافذة ومراقبة الناس من هناك. يقال أن العنصر الأساسي في جاذبية المشاهدة هو المراقبة,بينما هنا يشعر هو بالعكس. العنصر الأساسي في جاذبية المراقبة هو المشاهدة. في السينما تتيح الشاشة للناس عبر المشاهدة,أن يتلصصون على حيوات غيرهم دون أي ضرر أو ذنب يقع عليهم. وفي بيته تتيح له النافذة من خلال المراقبة أن يشاهد الناس كما في الأفلام ولكن على الواقع. لا يعرف هل تختلط الأمور لديه أم لا. ربما لا فارق بين الإثنين؛ المراقبة والمشاهدة. كما يفعل هؤلاء الناس المنشغلين بأعمالهم,ولكنهم يجدون وقت فراغ عند المرور بحادث على الطريق.
ولكنه لا يرتاد الطريق ولا يذهب إلى عمل,ليس مصابا وليس في أجازة وليس عاطلا عن العمل,هو فقط يحب الجلوس هكذا فحسب. متعته هي الجلوس. الجلوس والمراقبة. الجلوس والمشاهدة. الجلوس والمتابعة. أول شيء يقع عليه نظره,وبطبيعة الحال والوضع الذي هو فيه,أول شيء هو البيت الواقع أمامه. تخيل أشخاص آخرين في نفس الموضع. لم يكن يعرف أن هناك ساكن آخر الشارع في نفس الموضع بالضبط.
يعرف أناس آخرين يستمتعون بذلك,مثل العيال / الأطفال على السطح.
شاهد بالفعل هو عنوان مستمر ومتكرر بثبات في القصص للتأكيد على أن بعض المتخيل متحقق,وإن شابه الكثير من التشويه أو التغيير من حذف وإضافة وتبديل وأحداث لا يمكن تحققها في هذا الواقع,وإن كان هذا لا يعني (فرضا مؤكدا علميا وفلسفيا) استحالتها.
شخص آخر,غير أحمد وغير الكاتب وغير ذلك الجالس على كرسيه يشاهد من النافذة. في البيت نفس الأمر يتكرر,داخل البيت,أو خارج البيت.
أيام كالحة مكررة سوداء مرت بعبده
دارت خناقة في الحارة,على الفور بلغت الأخبار من جالس في محله,دون أن يقوم من مجلسه,بلغت من لا شأن لهم بالمعارك,قبل أن تصل لمن يريد أن يتعارك,مثل النار في الهشيم. واشتعلت النيران. نيران الأخبار ونار الأشرار. والجميع يتسم بالشرّ هنا. نار أحالت الليل نهار. أو لم تفعل. فقط هيئ هكذا لطفل صغير يتعرف للمرة الأولى على شرارات تغلب تلك التي يراها في الاحتفالات والمهرجانات.
وقد زخرت المهرجانات بصريا بمثل تلك المعارك,وتغنت صوتيا بها فإذا رأى رأئى من يمسك عصا غليظة يتبارى مثل مبارزات السيف ضد خصم عملاق يحمل عصا أشد غلظة. التحطيب.
عند السور تغنت أغنية سور الجدعان,وكان طه قابعا هناك طيلة اليوم,جالسا على حجر, ويعاكس البنات في الرايحة والجاية. وقد حفظ أسماء عشرين بنتا من بنات الشارع,ووجوهن وأجسادهن وملابسهن وأطوالهن. لهذا قامت المعركة. وكثير من الشباب قامت لهم قيامتهم. واستخدام أساليب متعددة تتراوح ما بين التحطيب بالعصا والتعقيب بالسلاح الأبيض. وصولا إلى إستخدام القنابل النفطية (مولوتوف) والمفرقعات النارية (شماريخ).
بالطبع المطاوي والنصال الصغيرة لها دور هام وحساس وسط كل هذا. هناك غشاء رقيق بين البطن والأمعاء. يمكن تمزيقه بسهولة لتتذكر ما في جوفك. وتتقيأه أو تتبرزه من فتحة غير معتادة. أو هي معتادة للبعض ممن يكتب لهم النجاة مرتين!. والثالثة تابتة.
الأرحام
كانت أم مسعد تنظر له مبتسمة في لحظة صفاء بينهما دون أن يكدرها ضيق أو نكد,فما بينهما يحسده عليه الجيران وكل الأزواج في القرية. فهي طيبة ترعى أولادها وزوجها. وأمينة تحفظ سرهما ولا تخرج أي شجارات أو فضائح من بيتهم. وتحفظ الأموال التي يجنيها مسعد وإخوته,والأبناء السبعة ذو سواعد قوية مثل أبيهم تدر عليهم ربحا وفيرا يقضي حوائجهم وزوجاتهم وأبنائهم في بيتهم الكبير ويزيد بكثير. وأموال أمهم تحفظ لهم,فهي ورثت كل أموال أبيها الذي بفضله ينسبون إلى أعيان القرية. وتحفظ الأموال التي يجنيها زوجها وأبناءه وحتى من كبر من أحفاده. وكل هذه الأموال سيرثها الأولاد فلا ورثة لها غير أسرتها تلك. لا عم ولا خال ولا إخوة.
-صباح الخير يا حاج
-صباح الخير يا أم مسعد
قالتها في دلال,وهي مع كل صفاتها التي تشي بجمال النفس,جميلة المظهر على وجهها ملاحة لم تزول وقد تخطت الخمسين. ولمعة عينيها تزيدها ألقا وقد تزين وجهها بإبتسامتها وحلاوة الصبا التي قد تغار منها بنات أصغر,وعلى رأسهم سوسن التي خطت للتو أعتاب المراهقة وتفتن كل الناظرين إليها. وأكوام اللحم المكونة لجسمها تحولت بسبب مفاتن الوجه إلى ضخات من الأنوثة واللحم الطازج تتنافس مع العود الرقيق لسوسن وبنات سنها. نظر أبو مسعد إلى جسدها وقد عرف أنه لن يتمتع به ثانية. فعيب أم مسعد الوحيد على كل جمالها وخلقها,هو أنها مصابة بداء في قلبها يعرض حياتها للخطر في أي لحظة. بدت له أم مسعد جميلة أكثر من أي وقت مضى وهو على وشك إستغلال مرضها للتغطية على فعلته. كأن عينيها متكحلتين وكأن على شفتيها أحمر وكان خديها متوردين,وعنقها المكشوف من تحت طرحتها الزرقاء نابض بالحياة. الأساور الذهبية تزين ساعديها,ولمعة السلسلة على عنقها تنساب عليها بعض خصلات الشعر المنسابة من وشاحها الأزرق.
-إوعي تكوني زعلانة مني في حاجة يا أم مسعد
-وأنا عمري أزعل منك يا حبيب العمر وأبو ولادي
قالتها ضاحة مستزيدة من الغنج والمياعة وزوجها يداعبها فور استيقاظها,بدت منتشية بهذا اللهو الصباحي في سعادة انقطعت مع إنقطاع أنفاسها. وإذ بيديه القويتين تطبق على رقبتها من فوق الوشاح بدون تدرج أو تردد. يدين صلبين أورثهما لأولاده كما سيورثهما أموال أمهما وحتى ذهبها المخبأ في مكان ما تحت أقدام البيت. وهو من الوارثين معهم. وبعد الأربعين يأخذ سوسن ويرحل من هنا. أربعين عاما هو عمره,وأربعين يوما بعد موتها,وأربعين دقيقة شعر أنها مرت عليه,وأربعين ثانية مرت على اختناقها غارقة في صدمة قبل أن تطلق دفعات من المقاومة المصحوبة بصرخات لم تخرج إلا في صورة سعلات حادة.
وفي الخارج أمام باب الغرفة أصاب القلق مسعد لما سمع اختناقها من السعال وتوجس أن تكون أمه مريضة,وخاف على قلبها الضعيف.
-أبويا,أجيب كوب من الماء لأمي
كان قد كتم أنفاسها تماما
-أنا جيبتلها خلاص,وهي هتكمل نومها وتقوم زي الفل إنشاء الله
-طيب .. لو مكنش كده أجيبلها الطبييب
وذهب وأتى لاحقا باللحاد,كانت لازالت تنظر في إتجاه ما غير مصدقة,مذعورة,تتألم بشدة. تحاول في أمل يائس وكاذب التشبث بالحياة بقدر ما تتشبث يديها بيدي أبو مسعد. يدين تطلب الحياة. ويدين تسلبها.
احتقن وجهها بالكامل,يديها الآن تسبح في الهواء بعد أن استحالت ضرباتها في ساعدي أبو مسعد ليأس بأن تجدي ولن تفلت قبضتيه تلك الرقبة السمراء. وعينيها تخترق السقف إلى عنان السماء. لسانها معلق خارج شفتيها المنفرجتين في أقبح تشنيجة رآها في حياته. تلخص كل الألم التي تشعر به الآن زوجته أثناء انسحاب روحها من قدميها الرافستين. جسدها كله يهتز ويهتز معه الفراش حتى أنه استخدم ثقله لزيادة الثقل على يده اليمنى الضاغطة على حلقها مستغربا من رغبة الحياة الأقوى من يديه.
وكادت يديه أن تتراخى في لحظة تردد واحدة,لولا خطر له أنه لن يجد ما سيبرر به موقفه تجاه زوجته وأبناءه وأبناء القرية,فعزم أن يكمل ما بدأه. وقد كان وكانت بداية فعلته نهاية لحياة زوجته. خشى في لحظة الضعف تلك أن تنطق بكلمة رجاء واحدة تنهار له أعصابه وتفلت يديه تماما,ولكن لم تخرج أنة أو حشرجة. انتظر بشدة تحول نظرات عينيها إلى الصورة الأخرى حين يذهب بها إلى الآخرة. هي الآن ميتة ولكن لن يضر أن يظل ساكنا ضاغطا على عنقها متشبث بموتها,فمن عمل عمل عليه إتقانه وإنهائه.
بعد أن تيقن من موتها أخذ يهزها خشية أن تستيقظ ثانية,وقبع جوارها ينظران سويا إلى السقف. هي لا زالت تأمل أنها حية كما تشي تعابير وجهها المختنقة. وهو يخشى أن لا تكون ماتت بالفعل. وبعد مدة كافية شعر بالإثارة تجاهها,فلثم شفتيها بقبلة ترجع لسانها إلى داخلها, وغطى عينيها بيده.
نزع الوشاع كاشفا تماما عن الرقبة آملا ألا يكون ضغط بالشكل الكافي لأن يترك علامات. وصدم لما وجده وأنه ترك آثار بليغة ودالة بما لا يدع مجالا للشك على خنق أو أقله ارتطام عنيف بالعنق. كان ضغطا كافيا لقتلها,لا يوجد خنق كافيا للقتل دون أن يترك آثار.
خرج وقابل مسعد ثانية,أغلق الباب خلفه
-أمك تعبانة شوية سيبها نايمة
رأى الولد الذي صار رجلا يناطح أبيه في القوة قطرات العرق على جبين أبيه,فازداد قلقه. إن أمه مريضة بشدة وأبيه بالتأكيد خائف عليها.
دفع أبو مسعد مالا كثيرا جدا للمغسل ليغطي على ندبات العنق التي لم يلحظها أولاده لحسن حظه أثناء التغسيل. وعرف الناس أن أم مسعد ماتت لعلة قلبها وتقضي التقاليد بعدم التشريح.
ماتت أم مسعد وتزوج زوجها سوسن الصغيرة,واستنكر الناس الأمر في البدء وعلى رأسهم أولاده,ثم غفر له الجميع بحجة أن على الرجل أن يمتع نفسه وقد عاش طوال عمره وفيا لزوجته.
وذابت الذكرى الأخيرة لأم مسعد,وهي أيضا أم حسن وأم محمد,الذكرى المختلطة برجاء لزوجها,وأمنية لإبنها أن يدخل عليها بكوب الماء.
المؤخرات
في حي السرايا,وبالقرب من منطقة الحد,هناك حارة تتكرر فيها ظاهرة المتاهة,حيث لا يخرج منها داخل إليها. كأن كل الداخلين دخلاء يقضي عليهم الساكنين في الحارة. والساكنين لا يُعرف عنهم سوى أنهم بشر. أناس عاديين تسكن في بيوتها,وتذهب إلى عملها,وتقضي أوقاتها. ولكن غالبا يحدث كل ذلك داخل الحارة. أو ربما يمكنهم الخروج والدخول. البعض ينفي ذلك,وآخرون يقولون أن لهم مسالك بعيدة وخفية للدخول والخروج. ربما من داخل منطفة الحد,أو عند حارة شقوق النعمان – شقائق النعمان. أو في أول السرايا عند الجهة المقابلة من الحد. أو في أي من حواري / حارات الظلام الأخرى. والبعض يزعم أن هذه مجرد ثرثرة حول مجرد حارة سيئة السمعة لأن الشجارات فيها كثيرة,وكذلك التجارة الغير مشروعة,وبالأخص تجارة المخدرات. لكنه مثل معظم مناطق السريا,هي مجرد حارة. حارة لا إسم لها. فقد تعرف بإسم الحارة.
البيوت والعقارات في منطقة (الضلمة) هي الأرخص ثمنا في كل بقاع السرايا,ربما أرخص من مناطق أخرى مثل (الضيعة) و(الترعة) و(الهناجرة) و(الخرابة) وأحيانا تكون مجانية مثل بعض بيوت تلك المناطق. وهي قريبة من الجدار وسور القطار. ومن مناطق أخرى خطيرة. ومتجاورة معهم أو بالقرب منهم. الضلمة هي واحدة من المناطق التي تحيط بالبستان. منطقة أخرى تشتهر مع الضلمة في تدرج على ألسن الناس ضمن أكثر مناطق السرايا التي يمكن أن يضيع فيها من لا يعرفها ومن يعرفها. وهو يعرف دوما أنه اقترب من هذا القطاع الغارق في العشوائي عندما يلمح الجبل وقد ظهر في الأفق. منطقة (الجبل) منطقة أخرى مكبوتة ومطحونة ومهجورة إلا من أهلها. والسكان في مدينة الجبل أشباح لا هم أموات ولا هم أحياء. ولهذا يتفهم معايشتهم مع أولئك البلطجية والمسجلين والمجرمين في الأحياء المجاورة. وبأقل تقدير لا يوجد ساكن إلا وكونه خطيرا حتى وإن لم تسجل له أي سوابق جنائية أو حتى لو خالي من أي جنحة. بل وحتى ولو لم تشهد له معركة,فهو غالبا ماء من تحت تبن,أو ساحر لم يخرج بعد أول ما في جرابه. هذه هي نظم العيش في الحارة مثل غابة البقاء فيها للأقوى,للفتوة أو البلطجي أو الشمام. ومثل غاية غرضها دوما لقمة العيش أو بضعة لقيمات. أو بديلا عن الطعام بالخمر والدخان والبرشام.
تلك الحارة التي لا مخرج لها وخروج منها,خلف منطقة الضلمة حيث (الشقائق) الخفية والمظلمة والقاصية في آخر الآحياء والمساكن عند الجدار. الشقائق سميت بذلك لانتشار الشقوق المظلمة عبر جدران منازلها المتهدمة. كان يتجنب المرور بها,ومد الخطى حتى يقترب أكثر فأكثر من مدخل حارته. وكان دوما يتهيب من هذه الانعطافة. يبدأ الخوف يدق على جدار قلبه طارق طرقا يزداد عنفا كلما اقترب. ويكاد قلبه ينفجر مع إلتواءة قدمه وإلتفاتة وجهه للإنعطاف. فإذا به لا شيء. البيت ساكن ولا مشاكل. وأهالي البيت,وهذا ما طمئنه,كما هم أمامه جالسين أو منصرفين إلى شؤونهم. يعاني من هذا العذاب كل يوم. فغير الخطر الذي تركه خلفه في الشقوق المظلمة,وبعد الخروج من العتمة إلى النور,يواجه كل يوم إحتمالية أن يقابل مصيبة بعد أن ينعطف ليرى ويسمع ما ينفصل عن كل العالم على مبعدة خطوات من هذه الانعطافة. وكأن أول الحارة,وأول العالم يبدأ هنا. وكأن السرايا تحوي عوالم متعددة في حاراتها,وقد يأس من مروره على حارة الظلمات,وهروبه من حارة العفاريت,ووصوله دوما إلى حارة المشكلات تلك. فدوما تتراوح الإحتمالات المأسوية أو الكارثية أو بأقل تقدير الفضائحية ما بين أربعة إحتمالات رئيسية.
أولا خناقة / معركة
ثانيا حريق
ثالثا أحدهم مات,يرجو ألا يكون قريب أو عزيز
رابعا .. نسى رابعا
الحارة هو إسم الحارة,أي لم يجدوا لها إسما محددا فاكتفوا وصفا لها بألف ولام التعريف للإشارة إليها في أي أحاديث جانبية بين إثنين يتبادلا السيجارة,أو إمرأتين ينشران الغسيل متقابلان في شرفتيهما يكادا يقبلان بعضهما من ضيق المساحة خاصة عند مدخل الحارة.
الحكومة تكره أن تأتي إلى هنا,رأى ذات مرة ضابط وأمين شرطة يتقدمان بخطى مترددة إلى بقعة معينة قد حدثت فيه مشاجرة كبيرة. يحمل الضابط مسدسا بين يديه مادا ذراعيه إلى أقصاهما. وقد وضع عينيه نصب عينيه. جواره الأمين ليس أقل منها تحفزا وهو يحمل بندقيته الثقيلة على كتفها مشهرا إياها في أي لحظة. ورغم هذه القوة لم يكملا الطريق إلى أرض الواقعة خشيت أن يكون معمول لهم كمين.
-أقول لك يا أبي
-قل
-ما اسم منطقتنا؟
-حي السرايا
-لا لا .. بل أقصد داخل حي السرايا
-نحن نعيش داخل حي السرايا,هناك حي السرايا داخل السرايا نفسها
-أها .. لكن أي منطقة تحديدا؟
-لماذا؟
-لأني لا أجد أحد يقول أنه من السرايا حتى لو ساكن هنا,فأين نسكن نحن؟
-أها .. تسمى الجورة
-يا حفيظ يا رب,هذه الكلمة تعلمت معناها اليوم في المدرسة من زميل لي
-وماذا تعني يا بني؟
-أتذكر أنها الحفرة العميقة
-تتذكر! يبدوا أنك لا تذاكر جيدا
-لكن لماذا سموها هكذا؟
-لا أعرف .. وبطل متصدعش دماغي
-طب الجورة هي نفسها الحارة
-قلت لك متدوش دماغي .. يلا قوم ذاكر لك كلمتين ينفعوك
وكان الولد متعجبا من كل هذا التوهان الذي يصر الكبار أن يغرقوا أنفسهم فيه؛الجورة, الحارة,الضلمة,شقائق النعمان. لماذا لم يختاروا اسما واحدا بدلا من كل هذه (اللخبطة). خرج الفتى يلعب واصطدم أثناء لعبه بأحمد. أحمد لا يقرب كثيرا من هذا الجزء في المنطقة. حقيقة هو لا يقرب الكثير من الأجزاء كأن لديه هوس مثل إيهاب ذلك الفتى الذي يخشى الأقدام.
الناس تخرج من بيوت ضيقة,وتمشي في أزقة ضيقة,تمر بوجوهم الكالحة وعيونهم الجاحظة ورؤوسهم المطأطية أزمنة ضيقة وأحوال أكثر ضيقا. عربات التكاتك تخرج من الحارات لاصطيادها وهالات الخطر من مجرم لآخر,هالات الخطر تتراوح ما بين راكبين على ماكينات التوك توك أو الموتسيكل أو التروسيكل,ومترجلين على أقدامهم.
هالات الخطر هي. لا وقت لدى أحمد ليحصيها. متذكرا منظر حارة الضلمة أمس. مستبشرا بشروق الشمس في صباح مرير من العمل,لكن جميل فيه هواء بارد وضوء لافت. مصلحة عمل يقضيها مع رجل طيب إسمه عم أحمد.
المؤخرات
[1]
يكره الأقدام,يخاف منها.
أسوأ كوابيسه هو التحول لقدم.
لا يعرف متى بدأ معه الأمر,ولكنه كان منذ مدة طويلة جدا,ويتذكر دوما شقيقه القعيد الميت, ولكن هذا منذ فترة قريبة,أما عقدته فقبل ذلك,متأكد هو أنها لديه منذ طفولته,وتطور الهوس معه وازداد سوءا منذ طفولته حتى استفحل في شبابه. يرى هذه القدم وقد نبتت لها أعين عند أنامل أصابعها وأنوف في أظافرها ولسان يبرز من هناك يغيظه. أغمض عينيه وفتحهما لتتلاشى هذه التهيؤات الكارتونية السخيفة.
مرة أخرى يرى الواقفين على أسطح البيوت ليلا,مهما انتقل من بيت إلى آخر. الواقفين فوق أسطح البيوت ليلا,يؤرقون منامه. الواقفين فوق أسطح البيوت ليلا,أناس بغيضين ذوي أقدام قذرة.
النهار يكون أخف وطأة,فقط في الأوقات النادرة التي تخف فيها حدة الضوضاء والزحام والسباب,يقرأ كتابا جميلا عن الفلسفة المثالية,ولطالما عشق مؤلفات أفلاطون وأي مؤلفات دينية عن الروح,ويكره تلك الصورة النمطية التي تلحق القدمين بالروح في قالب يعكس نفس شكل الجسد. مرتاحا على أريكة منسية فوق السطح,مرتاح الجسد والبال في واحدة من اللحظات النادرة التي لا يعكر صفوها سوى الأصوات القادمة من الأسفل؛من الشارع أو من الطوابق السفلية في نفس المبنى. وهي أصوات هادئة نسبيا الآن.
أثناء صعوده السلم المظلم يوجه كشاف صغير معه إلى درجات السلم,لا يستطيع أن يرتفع بالإضاءة إلى الأعلى. يتذكر هذه اللعبة المرعبة على أجهزة ألعاب الفيديو,لما يرى قدما,وهي ليست لشخص يسكن في نفس البيت. لما يرى ذلك لا يجرؤ على الإرتفاع ببصره للأعلى. يستمر صعوده للدرجات متجاوزا القدمين,أو يمر أحد الساكنين -إذا اتضح أن القدم له- دون أن يرفع إيهاب رأسه,يظل محنيا ينظر للأسفل عند صعوده السلم دوما,ويقولون عنه أنه رجل محترم وطيب وغلبان.
ذات مرة أثناء صعوده السلم,قابل جارته,إبنة جارته,تلك الفتاة الحسناء ذات الشامة السوداء والمتسربلة دوما في السواد,كأنها تنزل دوما لحضور عزاء والدها المتوفي منذ سنوات.
هي الوحيدة بين كل الساكنين في المبنى التي يرفع عينه لينظر إليها أثناء صعوده الدرج ونزولها هي,أو ربما العكس,ولم يتغير القول عنه أنه طيب ومحترم وغلبان. لا تدرس,وإن كانت تجيد القراءة والكتابة. تنزل لجلب حاجيات المنزل من تحت,وتصعد ثانية. تسكن في الشقة الوحيدة بالطابق الأخير,قبل الصعود إلى السطح حيث يمكث هو.
كان يسمع وقع خطواتها أثناء نزولها وصعودها,يراقبها لما يكون في البيت أثناء صعودها, ويقابلها صدفة أثناء نزولها. وكان يميز الصوت الذي تحدثه قدميها,ولا يتقزز أو ينفر منه. صوت قدميها هي فقط. إلا أنه كان يكره أقدام الجميع. صوتا وصورة. ورائحة وملمس. وطعم إذا وجد لها نكهة ما. نكهة القاذورات ربما. إلا أنه ورغم فتنته بها,رأى قدميها ذات يوم. فتلاشت فتنته. لم يكن ينظر للأسفل عند سماع صوتها. كان يصعد درجات السلم مرفوعة رأسه. لا يعرف فيما كان يفكر لما سمع ولم ينظر,واستمرت عينيه تصعد معه درجات السلم حتى وقعت على قدميها الجميلتين في شبشب أسود. انزعج جدا,وارتفع بعينيه حتى يصدم بالشامة عند ذقنها وقد تحورت وتحولت إلى غير ما كانت عليه. كانت حسنة تزيد في حسنها. وهي الآن شامة على شكل قدم. ابتسمت له الفتاة,فكانت أقبح ابتسامة رآها في حياته.
يكره قدمه التي تدلك قدمه الأخرى وهو نائم. يكره نفسه. ينظر إلى مروحة السقف فيرى ثلاثة أقدام على أطراف ريشها الثلاثة. أقدام عساكر تركض وراء بعضها. دوما كان يكره الألعاب التي تتضمن الركض في طفولته,ويكره لعبة الحنجلة بالأخص حيث يقفز اللاعب على قدم واحدة مثل كسيح أو مقطوعة قدمه.
فكر مرارا في قطع قدمه,وهناك عقاب قاسي في الشريعة يقضي بقطع القدم أو جزء منها, وقد يصاحب هذا القطع قطع لليد. ويتخيل في خوف أنواع أخرى من العقاب,مثل تكسير القدمين,أو عقاب الفلكة في السجون ومد القدمين في المدارس. وهناك قطع الأطراف في شرائع أخرى.
كان صخب الأفلام يأتيه من المقهى أسفل شقته ممتزجا بصوت خطوات أقدام الساكنين تحته,ليتذكر أسوأ فيلم شاهده في حياته,وهو أوغاد مجهولون للمخرج الأمريكي المجنون. والذي صنع تحول مختلف لقصة سندريلا. إيهاب يكره سندريلا أيضا. ويكره القردة التي يمكنها التعلق بقدميها مثل الوطاويط وتمسك الأشياء بقدميها. يكره القردة ويكره الوطاويط ويكره الحشرات التي تلتصق بأقدامها في الجدران والأسقف. تارانتينو ليس إلا مجرد قرد سينمائي يسرق الفاكهة من على أشجار المخرجين الكبار والأجانب. يكره كل أفلامه والأقدام التي تبصق على المشاهدين عبر الشاشة. ويكره مشهد إرتطام قدمي الفتاة وهي تختنق وتتحول إلى جثة ذات قدمين هامدتين.
يمشي في الشارع فتخرج له أقدام مقلوبة من البالوعات,وأحيانا يرى أناس لهم رؤوس أقدام. الأرض تنبت أقداما,والسماء تمطر أقداما,وقد بدأ يعتاد على هذا النوع من الهلاوس, المتكررة و المتنوعة بكل جديد في كل مرة. المتفاوتة في القوة,مرة يعلم أنه يتخيل,ومرة لا يعرف أين ذهب الواقع؟.
حلم أنه يقطع قدميه مرة أخرى,وهو يحلم بذلك مرارا,وكان قد قرأ عن الأقدام الصناعية والمستنسخة.
السماء تمطر أقداما
والأرض تنبت أقداما
أقدام بلا أجساد
لا يعرف هل هذه هلوسة عظمى أم واقع آخر غير الذي كان يعيش فيه؟.
لقد صار يرى الأقدام في كل مكان!.
بدأ الهوس يتضاعف حين انشغل بتركيزه على أقدام المارة والسائرين في الشوارع,ثم تلصصه على قدمي الفتاة التي تقطن تحته أثناء صعودها ونزولها,محنيا رأسه مطلا ببصره من فوق درابيزين / سور السلم,ثم توسع ليشمل بعينه كل شخص في محيطه بدءا بالحارات والأزقة الضيقة في حي السرايا حيث يسكن,وصولا إلى شوارع القاهرة المزدحمة في وسط البلد. بالإضافة إلى أقدام أصدقائه وجيرانه وزملائه في العمل وأقرباءه في البلد.
أقدام مثل البط,وأقدام ثخينة سمينة كأن بها مرض أو أن بها بالفعل بدون كأن؛النقرس أو إلتهاب كبدي ما أو ربما الدوالي. وأقدام سليمة معافية لكنها كادحة,وأقدام أخرى ناعمة كأنها لم تطأ على الشوك يوما.
أقدام كبيرة جدا,وأقدام رفيعة مثل طفل رضيع طالت المسافة بين إصبعه وكعبه. وأقدام صغيرة بعضها لا يكاد يراها أسفل سيقانها.
أقدام ذكورية وأخرى أنثوية.
أقدام عجوزة جدا,يرتديها شيوخ ذو جلود بالية ومترهلة,وأقدام طفلة أو صبية أو شابة. أقدام من أعمار مختلفة,كل حسب العمر الذي وصل إليه.
أقدام ثرية مطوقة بالذهب,وأقدام تدل على جوع صاحبها,وكل قدم حسب الطبقة التي تنتمي إليها.
أقدام تنتعل أحذية سوداء,وأخرى تنتعل أحذية رياضية (كوتش),أو شبشبا,أو حتى قبقابا لمصلي للتو خرج من المسجد الكبير بعد أن سرق نعليه. أحذية ذات كعب عالي,أحذية غالية الثمن بعلامات عالمية,وأحذية تمزقت أمعاءها حتى خرج لسانها. وكان يحب أحيانا أن يهون على نفسه من خلال تصنيف الأقدام حسب الحذاء.
أقدام طفل صغيرة,وأقدام رضيع أصغر,وأقدام أكبر,وأخرى لرجل أضخم. أقدام مشعرة, وأخرى ملساء بلا أي شعر.
أقدام بها نتوءات كأنها عيون تنظر له,أقدام فيها جروح,وأخرى فيها نتوء,وثالثة بها دمامل,ورابعة بها حبوب بسبب الحساسية. وأقدام سليمة عفية ليس بها أي سوء.
أقدام أعيان البلد من الباشوات وذوي المناصب المهمة,والأثرياء ورجال الأعمال والفنانين, وكل تلك الأقدام الفخمة التي لا يمكنه رؤيتها إلا على صفحات الجرائد التي لا يقرأها أو شاشات التلفزيون أو المحمول التي يمقتها. ثم هناك أقدام المساكين مثله من الفقراء والعمال والكادحين والمتسولين,والطبقة الدنيا التي لازالت تتشبث بأظافرها وأسنانها وأقدامها بما يجعلها تشبه الطبقة الوسطى.
أقدام نظيفة ذات رائحة جيدة أو بلا رائحة,وأخرى متسخة تفوح من بين أصابعها العفونة.
أقدام سوداء,وأقدام بيضاء,وأقدام ذات لون قمحاوي,بني,أصفر,أحمر,أو حتى رمادي.
أقدام ذات أصابع تتوجها أظفار مقلمة,وأخرى مخلعة أظافرها عن أصابعها.
أقدام النساء وأقدام رجال وأقدام أطفال صغيرة,وأقدام عجوزة ذات جلد مترهل يتساقط دون أن ينزع عن لحمه,وأقدام ميتة عفنة يتساقط الجلد عنها فعلا. أقدام سمينة وأقدام عضلية وأقدام مشعرة وأقدام محترقة. وهناك أقدام حيوانات,وأقدام أشياء أخرى لا يعرف ما هي, وأقدام جنود وأقدام خشبية ومعدنية كأنها أطراف صناعية. وهناك أطراف لم يفهم هل هي أقدام أم ماذا؟. هناك أقدام مقلوبة وأخرى مخلبية وأقدام ضخمة جدا,ولاحظ أنه لم يعد يرى أقدام النساء. ثم أقدام شيء ما طويل ومخيف غير معروف وغير موصوف.
هناك حتى -وإن لم يكن يتأثر بها كثيرا- أقدام البيوت متمثلة في أعتابها,وأقدام / سيقان الكراسي والمناضد والأرائك والأسرة والمساند وغيرها من أثاثات البيوت والعمائر.
وأنواع الأقدام أكثر من أن يقدر على إحصاءها كلها,ولا يريد أن يعذب نفسه أكثر.
أسرع الخطى يعود للبيت,وبات لا يعود إلا قادما من عمله,فلم يعد يذهب إلى (مشاوير وسط البلد) أو أي فسحة من أي نوع,إلا فيما اضطره إلى ذلك. ولم يعد يحتمل حتى الجلوس على المقهى القريب من بيته في نفس الحارة. حيث أقدام على أقدام في علياء وغرور مصطنع يوفره المقهى لرواده,وحيوانات قذرة تمر من أسفل الكاراسي وأسفل الأحذية تريد اللحاق بنصيبها من الفتات المتساقط عند الحاتي والذي تلهب رائحة دخانه معدته. حيوانات لها أقدام! والكراسي والطاولات لها أقدام. وهو نفسه يسير على قدميه.
فتح باب شقته الأشبه بحوش منسي فوق سطح العمارة,دخل إلى غرفته ليفاجئ بوجود ضيف. شخص دخل إلى الشقة التي ليس لها سوى مفتاح واحد. في يده الآن. ومفتاح آخر لقفل باب الغرفة الذي كان مقفولا من الخارج على الراقد في الداخل. ليس لصا,لأنه مستريح تماما تحت غطاء يخفي جسده بالكامل أسفله. رجح أنه أحد أصدقائه أو أقربائه يصنع مقلبا معه. أو أن صاحب البيت طرده وأتي بساكن جديد محله,في مقلب أكثر مرارة من حياته اليومية.
اقترب من الفراش,فوجده جسد واحد تحت الملاءة,سرّ أنه ليس رجل يقضي نزوته مع إمرأة في غرفته. نزع الغطاء عن رأسه ليفاجئ ذلك النائم بملامحه الغاضبة فإذ بها قدميه,نزع عنه الغطاء من الجهة الأخرى ولا زالت هناك قدمين. تفاجأ هو وقد تغيرت ملامحه إلى الخوف على الفور.
[2]
على الضوء الخافت المنبعث من غرفته,وحيث المصباح الوحيد في السطح كله معلقا من سقف الغرفة,انتهى إيهاب من رواية جديدة لدان براون وأغلقها مستمتعا بكم الإثارة الذي كانت تحتويه. الآن عليه أن ينام باكرا حتى لا يتأخر عن العمل صباحا. ويرتاح إيهاب لوظيفته,أو على الأقل يراها أفضل الوظائف التي تناسبه ضمن المتاح له,فرغم أنه يشقى فيها شقاء لا يجعل للطعام طعم,ولا للنوم سكينة,إلا أنها تظل مصدر دخله ولقمة عيشه وقوت يومه. والأهم من كل ذلك,وبغض النظر عن كونها مهنة متعبة,ولا يحبها,ولا يتعلم منها شيئا,ولا يجني مال أكثر مما يزود به عن نفسه ويغنيه شرّ العوز (رغم أن عليه ديون). إلا أنه يرتاح فيها نسبيا لإبتعادها تماما,وهذا هو الأهم,عن المهن والأعمال الأخرى المرتبطة بالأقدام.
مثل الإسكافي,وهي واحدة من أسوأ المهن,الذي يصنع أحذية ترتديها مختلف أنواع الأقدام.
والأدنى منه ماسح الأحذية,هو لا يصنعها,بل يعمل على تنظيفها وتلميعها,حيث يمسح عليها وعلى القدم التي تلبسها.
والأدنى منها هو تاجرها وصانعها في الشركات الكبرى مثل أديداس وبوما؛هؤلاء شرّ البلاء
الأدنى منهما حارس الخزنة في المساجد الكبيرة,الذي يتقاضى مالا حتى يحفظ للمصلي نعله من الضياع أو السرقة. وإن لم يفعل يسرقها هو بنفسه كأنه يسرق أقدام الناس.
والطبيب قد يحتاج للكشف على القدم لمعرفة علة المريض وطبيعتها. هذا غير الجراح الذي يكشف دواخل القدم فعلا. أو يبترها (ربما هذا أحسن ما في الأمر).
مهندس المساحة يبني مخططات للأراضي التي ستمشي عليها الأقدام,والمقاول يبيع مثل تلك الأراضي,والأسوأ منهم صانع وتاجر السجاجيد,الذي يصنع أقمشة خاصة كي تطأها الأقدام.
المبلط هو الآخر يرصف بلاطا (بلاط / سيراميك / بورسلين) ليطأه الناس بأقدامه.
وبعض الشعراء الذين يتغنون بجمال أقدام محبيهم,أو ملوكهم.
كان أيضا يكره الرسامين والنحاتين والمصورين والسينمائيين,لأنهم يخلقون صورا تشمل أشخاص ذوي أقدام,وبعضهم يركز أصلا على الأقدام,مثل تارانتينو العاشق لأقدام النساء.
الإباحيين ذوي النصيب الأكبر من مقته,لأنهم يستغلون الأقدام كعنصر جنسي ويملئون بها الشاشات والمجلات.
يكره القوادين وأصحاب بيوت الدعارة والعهرة -ولا يعرف لماذا تذكر فجأة الفتاة التي تسكن في الشقة تحته- لأنهم يجمعون بين الأقدام الذكورية والأنثوية. ويتخيل نفسه دائما منقادا إلى غرفة تنتظر فيه إمرأة شوه جمالها حرقة الإنتظار,تفتح إليه فرجها بين ساقين وقدمين كأنه قبر مفتوح ليبتلعه.
هناك المدلكين,الذي يتقزز جدا منهم,فهم يحصلون على مالهم,ليس من عرق جبينهم,بل من عرق أياديهم,التي تدلك أقدام الناس.
وهناك من يحصلون على قوت يومهم من عرق أقدامهم,مثل بعض العجانين الذين يستخدمون أقدامهم في العجن. أو الذين يعملون على ماكينات تعمل بالقدم (مثل ماكينات الخياطة). أو السائقين الذين يعملون في قيادة السيارات. سائق السيارة يضغط بقدمه على زر الفرامل متأخر دوما فلا تنقذه قدمه من حادث أليم ومميت.
تجار المخدرات والخمور أيضا ضمن المهن القذرة,ليس بسبب طبيعة التجارة نفسها,بل لأنهم يبيعون موادا,قد تسقط رأس السكير أو المسطول على الأرض تحت أقدام الآخرين.
هناك الخدم,الذين يحنون رؤوسهم بإرادتهم تحت أقدام الآخرين.
العاطلين عن العمل ليس أفضل حالا,فهم متفرغين فقط للعب بأصابع أقدامهم تزكية للوقت, وتنظيف أظافر القدم أو ما بين الأصابع,أو التمشية على أقدامهم هنا وهناك.
العاملين في الموت,لهم صلة بالأقدام أيضا,المغسل والمكفن وحارس المشرحة وطبيب الموت والحانوتي الذي يدفن.
هناك الوظيفة والرياضة الأكثر شعبية؛كرة القدم. يكرهها كثيرا ويرى أن الأمريكية أفضل منها. وهو يكره العديد من الرياضات الكروية أو القدمية. مثل التزلج أو السباحة التي تتضمن ركل الماء. يكره الرياضات الخطرة مثلما يخاف من الحافة التي ترتبط في ذهنه بذلة القدم.
ومن بين كل الوظائف التي قد تخطر بباله,أو لا ترد على ذهنه,اختار وظيفته. من أكثر لحظاته عذابا وألما وشقاءا في عمله,هو معاناة إرتداء الحذاء,ويتذكر أمه حين كانت تضربه بنعلها (الشبشب). وتذكر أبيه الذي كان يعمل نحاتا في الجبل,وتخيل جثته المنسحقة تحت صخرة كبيرة سقطت عليه. تخيل أنها قدم عملاق. ولا زال يتذكرها هكذا. لكن عليه أن يرتدي حذاءه,عليه أن يذهب إلى العمل.
[3]
داس على مسمار مرة زمان حين كان طفلا,لم يتوقع أبدا أن يطأ مسمار عن طريق الخطأ, فقد كان حذرا ويجيد تجنب حدوث ذلك. ولكن الظاهر ليس بما يكفي.
كان يكره المساجد لأنه يركع أسف أقدام المصلين وليس الإله. الإمام فقط هو من يركع للإله. وكذلك يكره المدارس,في مدرسته تم مده كثيرا على قدميه,وكان يكره أكثر ما يكره الذهاب للعمل مع أحد خلانه.
داس على مسمار مرة أخرى وهو رجل بالغ,كان فوق السطح في يوم جمعة,يتأمل الموجودات في العالم حوله,ولكنه بالأساس جالس على الأريكة القديمة التي يجدها دوما فوق الأسطح. نفس الأريكة ذات اللون الأحمر في وسائدها وقد ذهب عنها,وتعرى خشبها النحاسي أيضا من لونه,فصارت باهتة مثل حياته. تأتيه انقطاعات أثناء القراءة,يتشتت بسبب الزعيق والصياح والصراخ الذي لا ينتهي ولا تنتهي معه المعارك الدائرة في الشارع تحت. هم بالأسفل حيث الأقدام,وهو بالأعلى حيث يكون بعيدا عن الأقدام. إلا أن هذا التشتت يجعله يدور في الشقة العارية من سقفها ونصف جدرانها,مثل أسد حبيس في قفص كبير,لتطأ قدمه على مسمار,ويدخل المسمار ببطء ولكن بعمق مخترقا الجلد إلى اللحم.
ليس لديه أي أدوات طبية,نزل إلى الطابق السفلي,خطا خطواته وهو يلعن ويسب ويزداد نفورا من خط الدم الذي خلفه خلفه على الأرضية والدرجات,وصوت الطرقات يصم أذنيه. فتحت له معشوقته,وتأمل جمالها وجمال وجهها بين الحجاب الأسود,ولكن الصدمة الأكبر كانت لما رأى قدمه الدامية في عينيها. عين فيها قدم!. قدم ساقطة في بئر؟. هل هذه واحدة من الأوهام التي تراوده دائما؟.
تمنى لو يمكنه أن يخنقها,هو يعرف أن أمها في السوق الآن حيث تعمل,والفتاة وحدها بالمنزل. ولسوف يمسح بصمات يديه. هل هناك بصمات للأقدام؟. تسائل وهو يتخيل الدماء خلفه. الفتاة تحدق في وجهه الآن. تحسبه مجرد خجل وليس خبل. إيهاب محاصر الآن بين بصمات اليدين وآثار الأقدام. تكلم أخيرا.
-أعتذر عن الإزعاج .. هل لديكم أربطة ومطهر؟
أخذ يقرأ كتابا محاولا أن يتناسى الثقب في قدمه,رواية ممتعة لنيل جايمان اسمها المحيط في نهاية الدرب. وقد أخذته بعيدا خلف بحر الخيال إلى أن استوقفه الفصل السادس.
“-ماذا تفعل؟
-انظر إلى قدمي
كنت أتطلع إلى أخمص قدمي اليمنى. كان هناك خط وردي يمتد عبره من المفصل الكروي وحتى الكعب تقريبا,حيث كنت قد دست على زجاج مكسور وأنا صغير. أتذكر استيقاظي في سريري النقال في الصباح التالي لهذه الحادثة,وتطلعي إلى الغرز السود التي اغلقت حواف الجرح معا. كانت هذه أقدم ذكرياتي,وقد تعودت على وجود الندب الوردي,أما هذا الثقب الصغير إلى جواره في قوس قدمي فكان جديدا. كان في المكان الذي شعرت فيه بالألم المباغت الحاد,وإن كان لا يؤلمني الآن,بل مجرد ثقب.” إلى آخر الفصل الذي أرهقه ولم يكمله.
ذات مرة,وأثناء عودته من العمل متأخرا,وفي إنتظار وصول القطار بإحدى محطات مترو وسط البلد. حدث شجار بين رجلين كانا على إنتظار مثله,ويبدوا أن الشجار هي الوسيلة الأفضل لديهما للقضاء على الملل بأن يقضي أحدهما على الآخر. أمر عادي مثل هذه الشجارات. الغير عادي هو عدم تدخل أحد. قد يبدوا عاديا ولكن ازدحام المحطة دوما يعطي فرصة للمتشاجرين بتدخل أحد. لأن الناس كثر جدا وليسوا جميعا جبناء مثله أو أوغاد يشاهدون للمرح دون أي تدخل. كما أن لا الأمن ولا الشرطة تدخلا! وهذا لا يحدث في العادة,خاصة داخل تلك المحطات النفقية التي يزداد فيها شعوره بالأمان في ظل الوجود الكبير لعناصر الشرطة,لكنه يزداد خوفا أيضا بسبب تزايد عدد الأقدام,هو يريد حشودا بلا ناس أو ناس بدون أقدام. الغير عادي أن التعابير على وجهيهما حولتهما إلى ما يشبه الشياطين,وتذكر إيهاب ما رآه في فيلم إسمه سلم يعقوب أيام كان يشاهد أفلاما. ملامح قبيحة حتى أنه نسى خوفه من أقدامهما وأقدام الناس المحيطة به. وما أن وصل القطار حتى قام سريعا من مقعده فارا من المكان,ولم يستطع أن يبعد نظره عنهما من خلال الزجاج بعد أن سار القطار مبتعدا وشعوره بالأمان يتزايد.
تبدد شعوره بالأمان لدى عودته لبيته,ذلك المبنى الكئيب ذو الستة طوابق سابعهما السطح حيث يسكن هو. ولا يسكن لوحده,ولكن يفضل الساكنين الآخرين على أن يبيت ليلة تحت سقف واحد مع أقدام الآخرين من البشر. رغم أنه لا ينجو من أقدام الجن أيضا. يخطط لترك ذلك البيت يوما ما قد يكون قريب أو بعيد.
وقف أمام الباب,وتذكر ذبح العجل,لما كان يمر بمحلات الجزارة بالصدفة,والضحية ترفس بأرجلها الأربعة رافضة ما يحدث لها. نعم .. العيد اقترب.
فتح باب السطح,وقابلت عينه قرص الشمس الغاربة في الأفق,وقف على الباب قليلا خائفا من الدخول رغم سنه الناضجة تلك,وقد أوشك على الثلاثين بقليل. وقريب له يقول أنه قد تجاوز الثلاثين بينما يرى نفسه لازال صغيرا. وكلما أراد أن يتحقق من شهادة الميلاد ينسى ذلك أو تضيع منه. وهو لا يحمل بطاقة هوية. ظل في أفكاره يؤنس وحدته بتأمل شقته المكونة من ساحة السطح الواسعة كأنها صالة كبيرة,وغرفتان واحدة بدون سقف والأخرى صالحة للعيش وهي التي بها فراشه وكتبه. ارتاح لمنظر الأريكة المقابلة له أسفل سور السطح القصير مثل شرفة. ظل واقفا لفترة حتى أظلمت السماء فوق رأسه,وتخيل الظلال خلفه على السلم. نظر لتحته فأرعبه رؤيته لقدميه,فحركهما في خطوات سريعة إلى الداخل. وبسبب رعشة يديه أسقط المفتاح أثناء محاولته فتح القفل الكبير على باب غرفته. مال إليه وهو يتخيل أنه سيرى على الفور قدمين لشيء ما تحت ضوء النجوم ومصابيح الأسطح المجاورة التي لا تضيء شيئا. قدمى ماعز مثلا. ولكن المكان كان مظلما,والظلام كان حالكا. هذا أفضل. تحسسس المفتاح واعتدل وفتح باب غرفته. دخل على الفور إلى صندوق الأمن والأمان وجلس على الكرسي المجاور للباب بعد أن أضاء مصباح غرفته ذو الإضاءة البيضاء الشاحبة والشبحية. ورأى شبحا لما مد يده يغلق الباب. رأى قدمين,ولكنها أقدام بشرية. تتقدم نحوه آتية من الظلام إلى حيث النور,اضطر أن يرتفع ببصره ليرى من هذا,ولكن نظره انتهى عند النصف السفلي من جسد غير موجود نصفه الآخر. القدمين تمتد عبر ساقين لتنتهي عند قمة الحوض حيث الحزام وقد كشف الضوء تماما عدم وجود شيء آخر فوقها.
[4]
يعيش إيهاب وحيدا,لا أخ ولا أب ولا زوجة وطبعا لا إبن. وتتمحور حياته حول أمرين؛ العمل والقراءة. تتخللهما بعض الزيارات الإجتماعية من حين لآخر إلى عائلته في الصعيد حيث تقطن أمه العجوز والعاجز –فجأة تذكر شقيقه القعيد الميت- في دار أهلها تحت رعايتهم,فخلانه كثر وفي وضع ميسور الحال ولكن علاقته بهم ليست جيدة. ولا يستطيع البقاء مع أمه كثيرا كي لا يتشاجر معم, ولكي لا يبدد ظنها به حيث تحسبه ذو شأن في القاهرة,وبالكاد يتفرغ لمثل تلك الزيارات العائلية. وهو لا وقت لديه بالفعل,ولكن بسبب ضغوط العمل الذي يساوي بينه وبين أي شخص آخر,مجرد مسمار في آلة. لم يرتقي إلى مستوى المشغلين لهذه الآلة,لكنه يفضل عمله على مسلك العاطلين. وربما كل شهر أو شهرين يمر على صديق قديم. كأنه يتمسك بمن تبقى من أصدقاءه بعد أن مات نصفهم في حريق أصاب دار سينما كبيرة. ماتوا كلهم تحت دوس الأقدام. سبعة من أعز وأقرب أصدقاءه إليه.
كان لديه فكرة مشوشة عن كون تلك الحوداث سببا في كراهيته للأقدام,ربما فرويد قد يقول هذا. ولكنه يعلم يقينا أنها تولدت معه منذ وطأت قدمه هذه الدنيا. في غرفة مغلقة عليه, معزولا عن العالم,يقرأ كتابا نقديا عن السينما. ومع تقليبه للصفحات تتوالى في ذهنه مشاهد من أفلام يكرهها.
الحركة الأخرى التي يقوم بها,غير ذهابه إلى العمل,وشراء الكتب,والزيارات الإجتماعية, هي تنقله من سكن إلى آخر. هو يكره الخروج للشارع,ولكنها تنقلات ضرورية جدا. العمل هو مصدر رزقه,ويشتري الكتب لأنها تؤنس وحدته وتخفف همومه,والزيارات لكي يشعر ولو بالكذب أنه فعلا غير وحيد في هذا العالم. أما عن تغيير سكنه,فذلك بسبب الأشباح والعفاريت التي تسكن معه في تلك البيوت. وهو على قناعة تامة بأن تركه للبيت المسكون يكفيه شر هذا البيت. لأن الجن لن يخرجون منه إليه. ولديه إعتقاد كبير بأنه صار قادرا على التمييز بين أشباح هذه البيوت,والأشباح التي هي أوهامه الخاصة,وتطارده في أي مكان. وهو لم يعد يحتمل الفزع من الجهتين. لذا يكتفي بالمطاردين ويهرب من الساكنين. حتى المطاردين يختفون أحيانا,ويتغلب عليهم بذهنه في أحيان أخرى,ويعرضوه للخطر في كثير من الأحيان. خطر الموت فزعا أو التلبس أو التشوش أمام خطر مادي (مثل الهلاك على قضبان القطار أو أمام سيارة مارة) أو أشياء أخرى لا يريد أن يتخيلها. ولكنه لازال قادرا على التخلص منهم. الشيء الوحيد الذي لا يمكنه التخلص منه هو الأقدام. لا بالهروب إلى مكان آخر,ولا حتى بإغلاق العينين والنوم,فالكثير من الأقدام تزوره في كوابيسه,أقدام لأشخاص غير واضحة معالمهم. ذات مرة تحدى نفسه ولمس قدمه تلبية لوسواس قهري باغته,منحنيا معرضا ظهره للعربات المارة تسب له بأصوات أبواقها وشتائم سائقيها.
هو لا يرى الأقدام فقط,بل أحيانا الأجساد,كل الأشياء مرئية أمامه,ولكن الخوف يتنامى ويزحف حتى يطال باقي الجسد. فينظر إلى ثديي إمرأة فزعا,أو فمها الصغير. أو يد خشنة لرجل أو ذقنه المدببة. ذات مرة وأثناء زيارته لقريته في سوهاج من أجل حضور العزاء في خاله الأكبر,وكان ذهابا لا بد منه. اضطر باكيا من الخوف أكثر منه حزنا على خاله,أو ربما لم يحزن أصلا. اضطر أن يمشي في المسيرة الجنائزية وصولا حتى المقابر,أن يمشي وسط عشرات الأقدام المهرولة هنا وهناك. لطالما كان يخاف الحبس,لأنه سيسجن مع أقدام يراها بدون انقطاع لمدة لا يعلمها إلا الله. لربما تكون مدى الحياة لو كانت مصيبته كبيرة. وهم الآن ذاهبين إلى سجن لا خروج منه. دبات / دقات الأقدام على الأرض تستحضر في ذهنه مخاوف عديدة غير السجن. خوفه وتهربه من العسكرية. خوفه من الأقدام الزجاجية للنمل في الجحور. الحشرات تتميز بأقدام عديدة. هناك أمهات الأربع وأربعين وذوات الألف قدم. وتذكر مع تعالي الضجة ذات مرة أثناء عودته من العمل,مداهمة عسكرية لقوات فض الشغب للتصدي إلى إحدى المسيرات التظاهرية. تقيأ يومها وهو يفكر كيف سينسى أصوات أقدام الحشود الماشية في ثبات,والهاتفة في غضب. وأصوات الجنود ذوي الأقدام الحديدية التي تدفع الرهبة في قلوب أشد الجيوش ثباتا.
الآن بعد عودته إلى المنزل,يسمع مرة أخرى أقدام الراكضين تحت ليشتكبوا في مشاجرة دامية يجامل فيها القريب والغريب,ويحصى المتفرجين عدد الساقطين بين قتلى ومصابين.
جلس يبكي وهو يفكر في قطع قدميه,ولكنه سمع عن ظاهرة الأطراف الشبحية,أي أن ذلك لن يخلصه من مشكلته.
ذلك دعاه إلى تذكر كل الجروح التي أدمت قدميه طول العقود الثلاثة المكونة لحياته الشابة التي أرقها اليأس والخوف من الأقدام. جروح القدم هي أول اكتشاف لمخاوفه تجاه قدميه ثم أقدام الآخرين. منذ أن وطأ ذلك المسمار اللعين,وكذلك داس في حياته على بعض شظايا الزجاج المكسور. هناك حادث أليم يصيبه مرة كل عام ويكسر قدمه. هذه الحوادث السنوية تجعل ذكرى المسمار تبدو هينة وخافتة,ومع ذلك يظل صورة المسمار وجده يحاول بقوة بمساعدة خاله أن يسحباه من قدمه هي الأكثر رسوخا في ذهنه ومخيلته وذاكرته. وكانت إصابات قدميه تغرز المسمار أكثر داخل جمجمته.
مرة لما كان في السادسة من عمره,يلعب مع أقاربه وأصدقاءه في ملاهي القرية,يركبون جميعا على عربة يجرها حصان. تحتك خشبة العربة بعربة أخرى. كل الأولاد رفعوا سيقانهم بسرعة إلا هو فعل متأخرا.
[5]
تذكر أو حلم بمشهد أمه أو أم صديقه,أو هي شقيقة صديق آخر .. لا يذكر,تزحف هاربة من ضرب أبوها / خوها. وجهها على الأرض كأنها تلعق التراب (لهذا يكره التجنيد العسكري / الجيش). تبكي.
تراوده الكوابيس دوما,وهذا مكان باهت كالكوابيس,وجدار كبير أسود,قديم للغاية لكنه متين,في منتصفه شق يخرج منه ضوء خافت,ينظر منه ويري الرعب في كل صوره. يكتم أنفاسه ذعرا,يريد إن يتوقف قلبه عبثا,لكي لا يصدر صوتا منه,يريد أن يغمض عينه فلا تطيعه. تتكرر ذات الصورة هنا, ولكن متمثلة هذه المرة في هيئة باب مغلق.
أول مرة رآه كان جدارا تم رفعه في منطقة زراعية جوار المقابر,أرض خلت من أي محاصيل,واستقر الجدار فيها مثل قطعة كئيبة خالية,إلا من بضعة جثث وأحجار,ومنعزلة عن العالم كله.
حلم رواده ذات مرة,لما كان يمشي داخل الحلم في أرض ممتدة حتى الأفق من كل الإتجاهات. أرض خربة لا تحمل سوى شظايا الزجاج التي يسير فوقها عاري القدمين.
حلم بالحادث الذي أصاب شقيقه,دراجته النارية تم إلتهامها ودهسها تحت عربة كبيرة للغاية. اصطدام بين عربتين. الدراجة كانت في المنتصف. قائد العربة الكبيرة,وكل ركاب العربة الأخرى موتى. الحديد اختلط باللحم. نجا شقيقه بإعجوبة وكان هو ينظر إليه وقد سقط عن الدراجة قبيل الالتحام. يراه وهو يخرج مجرورا مسحوبا من المنقذين الذين تجمعوا حول الحادث. يسحبوا جسده وجسده يسحب بقاياه خلفه مثل ذيل أحمر دامي. حيث لازالت إحدى ساقيه مربوطة بخيوط رفيعة من القماش والأنسجة واللحم والدم والعظم المتكسر. الساق الأخرى استقرت أسفل العربة ولم تخرج معه. لن ينسى أبدا ما حيي علامات الألم الفاضحة والصارخة التي اعتلت وجه أخيه وكادت تضج منه وتطلق الرصاص على قلبه.
والآن هو واقف يمسك رأسه ألما من صداع عنيف يجتاحه في عاصفة من الأفكار,ذكرى تطفو على السطح لوقت ما كان يجمع فيه الأبواب,أو ربما هي ذكرى لشخص آخر.
تبا لعادته وهوايته وشغفه وعمله في جمع أبواب البيوت المهدمة. بيوت سقطت بسبب أخطاء في هندسة البناء,أو عوامل طبيعية مثل زلزال أو إنهيار جبل أو فيضان,أو تم هدمها من قبل الحكومة لأنها بنيت مخالفة للنظم التي وضعتها الدولة,أو هدمها أصحابها لأسباب مختلفة سواء سلبت منهم,أو يبنون مشاريع,أو باعوها لأحد يريد أرضها,أو بنوا مسجدا,أو حفروا كنزا. هناك بيوت سقطت لأنها سقطت,دون سبب محدد. -تذكر النائمين تحت .. تحت أي شيء,هو يكرههم أيضا- ولم تقتصر الأبواب على البيوت فحسب,فكان لديه أبواب مخلوعة عن تشكيلة كبيرة من المباني؛مدارس,مستشفيات,مساجد, كنائس,أقسام شرطة,وحدات عسكرية,محلات ومتاجر ومعارض,أبراج وقصور,زرائب,مكتبات,دور سينما ومسارح متنوعة,مؤسسات إجتماعية أو قضائية أو سياسية,حدائق,وأيضا العربات والثلاجات والخزائن,وحتى أبواب القبور. كل الأبواب.
والخامات من كل الأنواع؛خشب,معدن,بلاستيك,الوميتال,حجر,وغيرها من المواد التي تدخل في باب الغريب بالنسبة لاستخدامها في صنع الأبواب.
واحتلت كل موضع من قصره بابا لا ينتمي لبيته؛باب المطبخ,الصالون,الشرفة,الحمام, الحديقة,القبو,العلية,الثلاجة,المخزن,الصندوق,أقفاص الحيوانات,النوافذ,الباب السري,باب دخول الكلب.
وكان دوما يشعر أن خلف كل باب بابا,أو شخصا,أو شيئا,أو قدما. هذا البيت الكبير الذي ورثه من عم له. ملأه بالأبواب. لماذا هو فقير هنا في السرايا مع أنه غني في الصعيد!. حاول بيع هذا البيت الكبير,لكن شدد عليه خلانه أنه لا يمكنه فعل ذلك. وانشغل بالحياة أو شغلته الحياة عن طريق الثراء.
وخلف باب غرفته استند بكرسيه وأخذ يقرأ مجموعة من القصص.
هذه أبشع أقدام قد يراها في حياته,مخلوق عظيم آت من الفضاء,عبارة عن قدم عملاقة تخرج من جذع شجرة أو أخطبوط. يمكنه أن يركل الكوكب مثل كرة قدم بالنسبة للبشر. لكنه غافل عن الساكنين في الأرض,تاركا مصيرهم لوحش آخر خرج من أعماق المحيط. ركلة واحدة وإن لم تكن بقوة مخلوق السماء إلا أنها دمرت العديد من المدن بسبب موجات تسونامي الناتجة عنها. وخرج وحش البحر فاتحا أفواهه المتمثلة في كعوب أقدام تخرج من أطراف اخطبوطية. واستيقظ.
يوما بعد يوم تتزايد عليه الكوابيس في نومه والهلاوس في صحوه,الأسوأ من ذلك,أن ما وراء كل هذا,ليس وهما. أو هذه هي الفكرة المسيطرة عليه. أحيانا تكون ذات حضور واضح وفي أحيان أخرى تصبح كأنها مجرد مخاوف ساذجة. ولكنه لا زال متمسكا بفكرة أخرى تنسب ما يحدث إلى أقدام لن تتركه,ويكفيه الشعور بقدميه تحت مؤخرته وهو جالس ينظر إلى الحائط. لا يوجد تلفاز في غرفته,ولا يحمل سوى هاتف محمول من النوع القديم ذو الأزرار,بعيدا عن شاشات التحريك اللمسي (تاتش Touch). هو يكره كل الشاشات,فما يمنعه عن قطع قدميه,غير كونه سيصير عاجزا,وغير الألم,وزيادة المعاناة. ما يمنعه عن ذبح قدمه,أنه لا فائدة من ذلك,فلن يتحقق له أبدا التخلص من الأقدام. فحتى ولو قدر له القدر أن يتمكن من قطع جميع أقدام البشر في العالم,سيقف عاجزا أسفل قدمي أمه -قدمين بلا شعور أو فائدة- والجنة تحت أقدام الأمهات. وبالتفكير في الجنة يجد أن تصور العيش فيها,في الجنة,صعب. هل يمكن أن يتاح له العيش بدون قدمين,مع ناس وحور وملائكة بدون أقدام؟.
وبالتفكير في النار,يجد أن ما يمنعه عن ذبح عنقه,هو القدم العظمى لملاك الموت,محملا على أيدي أتباعه ذوي الأقدام السوداء إلى جحيم السماء الأسوأ من جحيم الأرض. حيث يظل جسده يذوب ويتجدد في نيران مستعرة يعذب ويقلب داخلها إلى ما لا نهاية. تذوب قدميه وتتجدد وتستمر سلسلة أبدية من الأقدام التي تموت وتحيا,تذوب وتخلق من جديد.
وعودة إلى جحيم الأرض,وكوابيس في النوم,وهلاوس في اليقظة. هذه الليلة استيقظ بعد حلم من الأقدام الكبيرة,حيث كان هو ضئيلا جدا يجري مذعورا في الشارع وأقدام السائرين تدهس عليه مثل فأر صغير بعد أن تقلص حجمه. يتذكر فيلم قصير لـ كريستوفر نولان عن شخص يطارد نفسه بحجم الصرصار. شاهد الفيلم أيام كان يعشق الأفلام.
ولما استيقظ زارته هلاوسه وتذكر أو تخيل نفسه يسير في الشوراع المزدحمة بالأقدام,يتعثر في قدم أحدهم -ومن أبشع التجارب التي مرّ بها هي عندما ترتطم قدمه بقدم أحد,أو يدوس أحدهم على قدمه- ويسقط رأسه عند أقدامهم. يتحسس بخديه الأقدام الناعمة,يتشمم أريج الأقدام المتعطرة,يسمع خطوات الأقدام السائرة,يتذوق تراب الأقدام المتسخة.
[6]
في القطار الآتي من سوهاج,والمتجه إلى القاهرة. وحده في العربة الأخيرة,كان يقرأ رواية تحتوي في إحدى أحداثها شيئا يتعلق بالأقدام. بل موضوعها كان الأقدام وكانت عنصرا مؤثرا في الحبكة. يقرأها بصعوبة بالغة.
ينظر إلى الباب المفضي إلى العربة التالية. والخالية. وبين العربتين ممر يستقر وسط هوة ترمي إلى جانبي القطار الذي يقطع الأراضي الممتدة بسرعة هائلة مخترقا الحقول الزراعية متزينا بالبيوت الريفية أمام نوافذه. الوقت ليل,والحقول تحيط الجنبات المفرودة بمد البصر حيث ينظر إيهاب. مرّ رجل طويل أمام عينه. آت من الخارج كأنه قفز أو تشبث بالقطار المسرع. مر من الممر ونزل أو قفز من الناحية الأخرى. ولم يره لما صعد ولا لما نزل. راكب بعد منتصف الليل. حتى بعد غيابه عن بصره لازالت قامته الطويلة عن الإنسان العادي بفارق غير هين محفوظة في ذهنه.
قضى بقية يومه في زيارات مختلفة
أولا قرر أن يزور الفتاة التي أحبها
وهو ينزل على السلم تذكر مشهد قاسي رآه بالصدفة قديما,من إحدى النوافذ,ثم اكتشف أنه ينظر من نافذة الشقة المهجورة أو التي صارت مهجورة في الطابق الثالث أو ربما هو الرابع. لقد وجد نفسه يدخل إلى الشقة!.
وفي زيارة نادرة إلى محمد أحد أصدقاءه,بما أنه الآن يخوض الجولة السنوية أو النصف سنوية من الزيارات الإجتماعية,قرر أن يختم يومه بزيارة محمد. وجده مجتمعا مع إخوته وإبن عمهم وكلهم طلاب جامعيين من المنيا,يعملون في إحدى مصانع السرايا,ويسكنون في شقة تابعة لصاحب المصنع. ويقال أنها شقة مسكونة خنق صاحب المصنع الحاج إسماعيل زوجته الثانية بها. وتخلص من جثتها وابنها في بطنها بإلقاءها إلى كلابه المتوحشة في المزرعة.
كان إيهاب متكئا على سور الشرفة يتأمل الشارع الخالي -لحسن حظه- في ساعة غروب,لما سمع صوتا,وأبصر -بتلك العين الخلفية في منتصف الرأس لما يشعر الإنسان أنه مراقب- خيالا أسفل الباب في الشق الضئيل بين لوحه وعتبته.
تكاثرت الظلال أسفل الباب دالة علي الأجسام التي تتحرك خلف باب الغرفة المغلق,شعر كريم بالوحشة والبرد وهو يجلس علي الأرض بينما أبناء عمومته الثلاثة علي فراشه متجاورين خاصة محمود الذي وضع نفسه في المنتصف بين أخويه,ثم تشجع أكبرهم وقام مقتربا من الباب حيث تقف تلك الأشياء الشيطانية خلفه,لم تبدر أي كلمة اعتراض من أقربائه المرتجفين ولا من إيهاب الذي يراقب.
مد يده وفتح الباب ثم أغلقه خلفه. دقائق قصيرة الوقت طويلة المدى,مرت ثقيلة علي نفوسهم الخائفة,نظر الفتية لبعض ثم قام مصطفي وهو الأكبر سنا بعد محمد,وبقى محمود وحيدا على الفراش,بينما قبع كريم محله على الأرض.
-انظر فقط
قالها كريم بينما ظل محمود صامتا,فتح مصطفي الباب وخرج وقد أغلقه خلفه,مرت ثواني
-مصطفي؟
نادي محمود فقام من فوره ولم يصله ردا
-لا تغلق الباب خلفك
لم يرد عليه,فقط فتح الباب وخرج وأغلقه خلفه كما فعل شقيقيه.
-لماذا يغلقون الباب خلفهم؟!.
لازال إيهاب غارق في صمته,سمع مواء قطط,وتسائل لماذا لا تتعرض لها تلك الأشياء بالخارج. ثم أراح صدره باعتبار أن المسألة كلها مجرد مزحة لإخافته,والوقت ليلا,والهواء بارد. وهم وحدهم في المنزل. كلها عوامل تشحذ خوفه. لذا استجمع شجاعته,وقرر أنه سيفتح الباب ويقفز على الفور للخلف ناظرا إلى ما وراءه.
ولكن سبقه كريم إلى ذلك,قام وبيد مرتعشة أمسك مقبض الباب,فتح الباب وأغلقه خلفه.
مولي ظهره للشرفة,يتابع كل ما يحدث في ذعر,يتساءل عن هذا القطع حيث لا يعود أحد؟ وهو الذي كان يفكر بأن يقيم معهم لفترة,تذكر أن الشرفة تعلو الطابق الأرضي فحسب,غير مهتم بما سيبدوا عليه الأمر أمام الناس (سارق) أو أمام أصدقاءه (جبان) تجاوز سور الشرفة متسلقا للأسفل,وقافزا المسافة المتبقية لما انتهت البروزات الممكن تسلقها.
[7]
في ذلك اليوم,وفي نهار حار من أيام الصيف,وبعد انتهاءه من مطالعة كتاب طبي باللغة الإنجليزية جعله يكره الأقدام أكثر خاصة ذلك البحث المتعلق بمرض القدم الخندقية والذي جعله يتذكر دراسة أخرى عن الطريقة الأفضل لتشريح القدم حسب الاستعمالات المختلفة الجنائية والعلاجية والتعليمية,كما طفت على السطح المعلومة التي تنص بأن كل الأمراض أساسها القدم,وأنه إذا تم تدفئة القدم جيدا طاب الجسد,والدود في البطن يدخل مع الطفيليات الأخرى عبر القدم.
في ذلك اليوم تكاثرت المشاهد عليه,بدئا من الصباح لما كان ذاهبا إلى العمل,ثم تذكر أن له سنوات يرى أقدام العاملين والعمال والعملاء,فقرر أنه سيكتفي منهم اليوم ويرجع إلى المنزل (الذي لا يقل سوءا عن العمل) دون إستئذان.
أثناء رجوعه,مستمتعا بالنسمات الأخيرة من الهواء البارد قبل اشتعال السخونة في الجو. مستمتعا أكثر بخلو هذا الشارع من الناس,وهو الشارع الذي يقطعه دوما أثناء الذهاب إلى العمل,متجنبا شارع الدائري الشارع الرئيسي للذاهبين إلى أشغالهم. لا يوجد إلا بضعة بيوت متجاورة في صف واحد على يمينه أثناء عودته,يقابله حقل أخضر كبير مليء بالنخيل وخالي لحسن حظه من البشر. مرّ بالفرن (وصاحب الفرن يناوله العيش جالسا على كرسيه مقطوعة قدميه) والمتجر ومحل العصير ومطعم الكشري (وكلهم واقفون خلف واجهاتهم – Vatrina أو Stand- الزجاجية أو الرخامية أو الخشبية يناولوه مشترياته دون أن تظهر سيقانهم أو أقدامهم) وبائع الفاكهة والخضرة (وهو متربع على عربته تختفي قدميه تحت جلبابه) وسر أن مر مروره على خير.
عند الانعطافة اليمنى,وفي الأرض المواجهة لها رأى جثته معلقة على السلك بالأعلى مرفقة بخط من الخطوط التي تتقاطع مع السماء,كأنها تتحدى كهرباء البشر أمام صواعق السحب في سماء مبلدة بالغيوم. أخذ يتأمل الجسد الملتصق بسلك الكهرباء والموصل للتيار العالي الذي يضيء المدينة بأكملها. جسد ما بدا أنه رجل متفحم سرى التيار الكهربي في جسده فأمسك به شبح الموت الصاعق ولم يتركه حتى بعد أن مات. عيون الرجل تحدق فيه من بعيد,وذراعيه مفتوحة كأنه يطير,ويديه متشنجة كأن يريد أن يمسكه. ملتصق ومعلق في الهواء بالسلك الكهربائي ذو الضغط العالي.
توجه إلى الميدان كأنه يريد أن يخرج من كل الشوارع,وذاكرته القريبة لا زالت تحتفظ بصورة الجثة المتفحمة في الأسلاك المعدنية,لازال مشهد سلك الضغط العالي يخيفه ويؤلمه ويضغط عليه. وذاكرته البعيدة تلاعبه أيضا وتلهو معه وتعبث به,وتقليب المواجع يبدل المشاهد في رأسه؛باب العربة ينزلق ليغلق على ساقه,البساط يسحب من تحت قدمه,قدم تمتد لتركله ليسقط على وجهه,حجر يرتطم به ليتعثر فيه,
وإذا به يرى -مع من رأى- يد الإله -أو ربما يد الشيطان- العملاقة تمتد من السماء لتقبض على مجموعة من البشر وتذهب حيث أتت. يحسب أن الناس رأت معه ما رأى,وتجادل مع نفسه كثيرا لاحقا في حقيقة تلك الرؤية التي اعتبرها الأكثر هولا بين كل ما أتى به سابقا. حاول أن يتناسى خوفه وبدأ يميل إلى تصديق أن هذا لا يخرج عن كونه وهم آخر أكثر وطأة.
يتذكر أن هناك مشهد مشابه حكاه له صديقه,أو صديق صديقه (أوهي – وهذا هو اسمه (أوهي) وليس أو-هي) ذات مرة,تكرر أمامه في صورة قدم تنزل من السماء تدهس الناس في الشوارع والميادين. وفرق المكان هو أنه انتقل من مصر الجديدة في المشهد السابق,إلى حي السرايا في ما يحدث أمامه الآن.
ولما خرج من كل هذا ليدخل إلى منطقته حيث يسكن,ورأى الفتاة الوحيدة التي أحبها في تلك المنطقة. ولم يستطع أن يميز هل هي حقيقية أمامه,أم هذا أيضا محض تهيؤات. مشى إلى شارعه ثم حث الخطى إلى حارتهم,قابل حناء -إسم الفتاة التي أحبها- قابلها ثانية قبل أن يصل إلى بيته. شعر باشتياق إليها,ثم بنفور منها. مثلما حدث معه سابقا. ولأول مرة يدرك سبب كرهه المفاجئ والمنقلب عن حب لها. ربما لأن الحناء توضع على القدم. ولأول مرة يشعر بالأمان لعودته إلى تلك البيئة الخانقة. أمان تبدد لما تبدل الناس إلى ناس آخرين.
ناس لهم رؤوس أقدام,ينظر إلى كل جسد سائر على قدميه,ليجد قدما يعلو قمته موضع الرأس. تبددت الهلوسة لما اكتشف أن هناك معركة مشتعلة الآن في الشارع,والناس تركض هنا وهناك. الشجارات والصراعات تزايدت بكثرة في الأونة الأخيرة بحي السرايا.
[8]
قضى نهاره في بضعة زيارات غير معتادة منه,الأولى دارت به في الشوارع,والثانية استقرت به داخل إحدى مقاهي الإنترنت,وأخذ يتصفح أخبار الدنيا المعزول عنها تماما حتى وقع دون قصد على مقطع عن تاريخ الشرابات للمدعو الدحيح (أحمد الغندور),تصفح سريعا إلى عثر على قناة أخرى مقطع للدحيح عن أشهر شركات الأحذية. ثم مر على مقال عن أشهر الأحذية لآخر اسمه رايفين فرجاني. قام وذهب إلى المكتبة,وكانت تلك زيارته الثالثة والأخيرة ذلك اليوم.
وفي تلك الليلة زارته المزيد من الأحلام المرعبة عن الأقدام,استيقظ على صوت أقدام المزيد من المتشاجرين والمتخاصمين في معمعة من الصراخ والصيحات والدماء وصوت ارتطام الأحجار والنصال. هذه في الحاضر بحي السرايا,تقابلها الشجارات التي كان يراها في الماضي بقريته في الصعيد.
حاول تذكر شكل الأقدام في حلم هذه الليلة,ولكنه عجز عن ذلك دون أن يتبدد الصوت أو الخوف,هنا قرر أن عليه أن ينتقل لسكن آخر.
انتقل من سطح إلى سطح مبنى آخر واقع في المربع السكني القريب من مسكنه القديم,وقف فوق السطح ليلا يستمتع ببرد المساء,وتابع بعينيه أسطح البيوت الأخرى حتى وقع بصره على سطح بيت القديم. لدرجة أنه أوهم نفسه برؤية غرفته. وكان يرى أيضا ظلالا فوق أسطح البيوت. كأنهم أناس واقفين وينظرون إليه بملامح مبهمة وعيون لا ترى.
الكثير من الظلال فوق الأسطح في تلك الليلة,ثم رأى ظل القميص فوق السطح المجاور في الليلة التالية. رأى في تلك الليلة ظلا لشخص يقعد كأنه مختبئا,يسند كوعه على جدار المنور,ويستتر رأسه كله خلف ملابس معلقة على حبل. ظل يتأمله فترة,ثم أشار إليه. كان ساكنا بلا أي حركة تحت مصابيح بيضاء تنير السطح كله. سطح البيت والأسطح المجاورة. وكان ذلك البيت واقعا خلف البيت الذي يقع جوار بيت آخر لصيق بيتهم. ولكن بخطوات قليلة يكون عند ذلك الرجل. منتصف الليل قد مر منذ فترة,حوالي ساعة وهو واقف متسمر مكانه يحملق في ذلك الظل / الرجل الذي لا يتحرك.
وتعاقبت الخواطر في ذهنه,مبتدئا تخميناته بالقول في نفسه أنه ربما يكون صاحب البيت,أو نوع من فزاعة القش صنعها صاحب البيت ليخيف بها اللصوص,أو ظل تداعبه مخيلته به, أي مجرد وهم,أو هو شبح الرجل الذي مات في ذلك البيت,أو جني,ربما يكون من الجن فعلا.
اقترب قليلا ووجده مجرد ثوب على الجدار,فقط وهم تجمدت له دماءه.
لازال في منطقته بحي السرايا التي يبدوا أن إمكانياته المالية لا تسمح له بالفرار منها إلا إلى أحضان أهل أمه الذين لن يستقبلوه,لطالما تمنى لو يعرف أحد من أقرباء أبيه الذي مات دون أن يترك مالا ولا قريبا ولا ذكرى. انتقل إلى سكن ثالث في آخر طابق بالمبنى,وانتقلت الظلال معه. ينظر لها من النافذة الرئيسية بالطابق الأخير حيث شقته. أو من فوق السطح الذي لا يوجد أي سلم يصعد به إليه حيث يتسلق هو بنفسه صعودا للأعلى.
لذا انتقل إيهاب إلى مسكن لا يكون في الأعلى,ليس فوق السطح ولا في آخر طابق,ولكن بداية من أول شرفة صعودا لأعلى تخرج تكلفة الغرف -وليس الشقق- عن إمكانياته. حتى لو سيشارك في شقة مشتركة مع مجموعة من العمال أو الطلاب.
انتهى به البحث العثور على غرفة في بيت لا يسكنه أحد,أبى صاحب البيت البخيل أن يسمح له بالعيش في الطابق الثاني (الأول بعد الأرضي) ليرغمه بقدر ما دفع للإيجار أن يعيش شهرا واحد في مكان ذو تصميم خارجي وداخلي مختلف عن البيوت الأخرى على حدود منطقة (النزلة). معروف أن مناطق مثل الخرابة,والنزلة,والدوران,والعش,تتميز بمساكنها الملتصقة والضيقة والشاذة. ومع ذلك كان هذا البيت مختلف يدعو منظره لإنقباض الصدر وطلوع الروح.
المنزل رشق بين بيتين ضيقين ولكنه الأضيق في الشارع كله بعرض لا يتخطى المتران,وطول لا بأس به يمتد لسبعة أمتار في العمق بالداخل.
يسكن في الطابق الأرضي وليس به سوى مدخل وحمام وغرفة,الطابق العلوي به ثلاث غرف ثم الطابق الغير مسقوف المشكل للسقف. وكان الساكن القديم يربط بين الطوابق الثلاثة عبر سلمين. الأول هو السلم الخشبي الثابت خلف الباب,والذي يمر إيهاب من أسفله أثناء دخوله وخروجه. يصعد هذا السلم إلى الطابق الثاني عبر فتحة في السقف مثل صندرة مغلق بابها الخشبي بالقفل ليؤدي إلى الغرفة المتزينة بالشرفة. في تلك الشرفة يوضع سلم خشبي من الذي يحمل على الكتف,بدائي الصنع يصعد إلى السطح حيث فتحة في السور المطوق للطابق الأعلى,والذي لا يسمى طابقا إلا لأن غرفته الخلفية مسقفة بالخشب والقماش والمتروك أو المركون من أثاث وأجهزة البيت. والوسطى شبه مثقفة بالبوص والمشمع.
مشكلة إيهاب الكبرى كانت مع الباب,حيث يضطر لدخول غرفته عبر باب الحمام ذو البابين. حمام ضيق كان يفترض به أن يحتل مساحة الغرفة الوسطى في الطابق الأرضي لولا أن اجتزأ من المساحة لتوسيع المدخل.
يشعر بالاختناق,كأنه في قبر ينام فوق الموتى,جوار حمام يسمع همس الآخرين,قام وقد فارقه النوم. قد انتصف الليل ولازال به بعض الوقت قبل الإستيقاظ للعمل.
يذكر ذات مرة وقد أغلق الباب فإذ به يجد قدم بلا صاحب موضوعة جوار الشبشب في الحمام خلف باب غرفته. متكئا على الأريكة مد يده يفتح الباب واطمأن أن لا شيء خلفه, ألقى نظرة أخرى أسفل الأريكة المهتزة,لا شيء.
تناول علبة سجائر فضية تعد من مقتنياته الثمينة,يحفظ داخلها سبعة سجائر فقط دوما,ولا يعبئها إلا لما يفرغ منها. تناول سيجارة وأشعلها,وتبقت ستة غيرها. لا يعد نفسه ضمن المدخنين. فهو لا يشعل واحدة إلا مرة كل ما لا يقل عن شهر. يستمتع بها,واحدة من الأشياء القليلة في هذه الدنيا التي تواسيه فعلا,لم يجد يدا تواسيه في حياته,بدلا من ذلك وجد قدما. مئات الأقدام في كل مكان,وكل الأزمان,وحتى الآن.
ينظر إلى الجدار,تخرج منه عدة أقدام غير بشرية,أقدام رمادية تبدوا كأنها جزء من الجدار الشاحب,مثل شحوب وجه إيهاب في هذه اللحظة.
[9]
قرأ عنوانا لكتاب قبيح (يلتهم نفسه بادئا بقدميه)!.
كان دوما يحلم بهذا البيت,بيت بلا سلالم .. يرتفع عن كل الطوابق في السماء,يرتفع عن القمر أو المريخ,فلا يكون هناك رجل مثلا يعرف بأول من وطأ أرض القمر بقدمه.
هذا حلم فانتازي مستحيل التحقق,وهو لازال على درجة من التعقل تجعله يدرك ذلك.
أخيرا سكن في بيت عادي,واقع في حارة من ثلاث حواري ضمن شارع يتفرع من شارع الجمّالين المعروف بكثرة جزاريه,خاصة في اللحم الجملي,وكثرة منافذ بيع المخدرات,والتي يطلق عليها (دواليب) جمع دولاب,أي خزينة متحركة في جيوب البائعين والمخابئ السرية لحقائبهم أو هواتفهم أو مركبتهم (دراجة نارية / عربة جرّ / ماكينة توك توك / أو حتى حصان أو حمار بدون مربط).
كان يسكن داخل غرفة في بيت يؤجر صاحبه غرفه للمستأجرين,ليشعر بالمساواة مع الآخرين الذين لا يستطيعون دفع إيجار شقة. إحدى الغرف بها عائلة كاملة مكونة من الرجل الريفي وزوجته المحتشمة وثلاثة أو أربعة أطفال في نفس الغرفة. الأدهى أن أخو الزوج يأتي أحيانا للمبيت معهم في نفس الغرفة مما يدل على مدى ثقة الزوج بأخيه,وزوجته لا تعترض والمعاملة طيبة بين الجميع. وأحيانا يزورهم والد الزوجة ليؤكد مباركته على هذه الحياة الزوجية الهانئة. وبالطبع يبيت ليلته معهم قبل عودته إلى البلد. وأحيانا يزداد الزحام أكثر بالمزيد من الأقرباء لا يعرفهم إيهاب. كل هذا في نفس الغرفة! كل هذه الأقدام.
قام إيهاب ليلا يحث الخطى إلى الحمام الوحيد والمشترك بين جميع الساكنين,الواقع في نهاية الممر المظلم المحتشد بالغرفة ذات الأبواب المغلقة على الجانبين. ينظر إلى إحدى أكياس القمامة الموضوعة على بقعة مبللة غزتها الدود أمام إحدى الغرفة. يعلو الكيس قط شارد يبحث عن غذاءه هو الآخر. تمنى ألا يجد سكيرا في الحمام المشترك بين الساكنين والآخرين. يقصد بالآخرين مجموعة العفاريت في رأسه أو في الحمام بالفعل. لاحظ أنه لا يزال يحدث نفسه,وأنه لا داع لذكر إسمهم. يفكر في عمل الغد,عليه أن ينهي دورته المائية بسرعة,لتبدأ دورة الحصول على طعامه غدا. عاد من الحمام ليجد باب غرفته مغلق. وانطرحت الإحتمالات أمامه مثلما انطرحت أمس المرأة التي لا يعرف إسمها على فراش أحد الجيران الغير مرحب بجيرتهم من قبله,وهو يسكن في أعمق نقطة بالممر حيث الغرفة المقابلة للسلم والحمام. تخيله وهو ينطرح فوقها والأقدام تتلامس بعضهما. نظر إلى باب غرفة ذلك الرجل فلم يستطع رؤيته لسمك الظلام المغلف للغرفة الأخيرة المكسورة مصابيحها. الآن أدرك أن ذلك النفق طويل جدا بحكم أنه واقف الآن أمام الغرفة الثانية في الصف الأيمن. وتساءل إذا كان الظلام دامسا لهذه الدرجة,وهم في الطابق الثاني يعلوه السطح ولا بصيص من الضوء يدخل تقريبا. فأي حلكة كانت تنتظره إذا كان من الساكنين في الممر بالطابق الأرضي أسفل قدميه,ذلك النفق الذي استكمل صاحب البيت تأسيسه الكئيب للإيجار,ففتحه على القبو ليمد في مساحته نزولا للأسفل. تذكر أنه ذكر قدميه فتسمر مكانه. أي خوف لديه الآن. من السلم أم الحمام أم الطابق الأرضي أم قدميه أم من الموجود داخل غرفته الآن. فلا يمكن أن يكون أغلق لوحده,فهو لا يغلق إلا من الداخل لأنه وجده معدا لذلك,ولم يكن معه مالا كافيا لشراء قفل صغير. ولم يكن يهتم إذا سرقت أشياءه,حتى لو كانت علبة السجائر الثمينة,ولن يهتم أحد بكتبه. والسارق لن يعيقه قفل صغير على أي حال. لم يكن معه مال لشراء مصباح أيضا,ولكن المصباح الباهت المطل بضوءه من خلف ظهره عند الغرفة المقابلة لغرفته كان يريحه قليلا.
راجع الاحتمالات مرة أخرى لسبب أغلاق الباب.
الأول أن يكون ذلك العاهر,وقد عرف أنه بلطجي أيضا.
الثاني أن لصا ما كان هنا,ولا زال هنا.
الثالث أنه أغلق بطريقة ما فقد كان واسع الحيلة.
الرابع أن الهواء الشتائي العاصف أغلقه,ذلك يعني أن القفل مفتوح,وربما يمكنه فقط دفع الباب.
الإحتمال الخامس أن شخصا ما,غير اللص أو العاهر أغلقه,وهو الآن بالداخل.
السادس أن شيئا ما أغلقه!
ها هي مشكلة الباب تواجهه مرة أخرى هنا,دوما يجد صعوبة في فتح أي باب,حتى باب مديره في العمل,كان يطرق طرقتين ويحني رأسه منتظر الإذن بالدخول. وكان الإذن يتأخر أو ينسى حتى يخرج أحد من عنده فينتبه المدير أنه لا يزال يقف هناك فيسمح له بالدخول. سمع أن مصاصي الدماء لا يدخلون البيوت إلا بعد الحصول على إذن أيضا,نعم إنهم محترمين جدا.
تذكر فيلم دراكولا,الذي كان فيه الممثل يتحول من خلال شخصية ملك مصاصي الدماء إلى حشد من الفئران,وتذكر أن الطاعون انتشر قديما من خلال الفئران,وفي هذه اللحظة مر فأر على قدمه.
-تبا,اللعنة
صرخ بصوت عالي لاعنا ذاته والناس والزمن,وضع رأسه على الباب وأخذ يبكي. لحظات ثم أدرك ما يفعل,وأنه الآن ينظر إلى قدميه من بين دموعه,نظر حوله وسرّ أنه لم ينتبه أحد له. أو ربما لا يهتم أحد به. قدميه حافيتين فهو لا يرتدي أي نوع من أنواع النعال. لا حذاء ولا شبشب ولا قبقاب,ولا حتى جورب. الحذاء الوحيد الذي يرتديه هو الذي يذهب به إلى العمل,ومنه إلى كل (مشاويره) وسفرياته الأخرى. له سنين في قدميه ولم يتلف مع أنه اهترأ وتمزق كثيرا.
تذكر مشكلة الباب وفي الصباح أصر على الإنتقال إلى غرفة أخرى لدى نفس المستأجر توفيرا للمال. شريطة أن يكون المكان في بيت آخر وهو يعرف أن الرجل لديه بيوت كثيرة يستخدمها في مجال عمله.
وكأن الرجل ينتقم منه,دفنه في غرفة هي قبر فعلي في إحدى الأقبية التي كانت طابق أرضي دفن تحت التراب مع مرور الزمن. وشق له باب من الجهة الأخرى. وصارت شرفته ذات سلم يؤدي إلى الطابق الأرضي. الطابق الذي فوقه الآن. وأعلى الأريكة الراقد عليها في هذه اللحظة نافذة غاصت تحت الأرض كلها فتم سدها بالطوب,عدا جزء بسيط وضئيل يطل على الأرضية الترابية والمتسخة للشارع. فتحة لا تتيح له إخراج رأسه حتى,يشعر بالاختناق وهو قابع تحت مستوى الأرض. لا منظر من النافذة الوحيدة في الغرفة سوى مشهد الأقدام وهي تمر من أمام عينيه غير مبالية بما يعتمل في قلبه.
[10]
تذكر حادث قديم لما كان في المدرسة,اختلط معه مع ضربات العصى على قدميه,حادث كبير لما احتشد كل الأطفال نزولا على السلالم,وانقلب الجميع على بعض.
هذه المرة قرر أن يعيش مع صديقين غريبين,متشابهان معه تماما؛أوهي وحسن. وفر من خلال صحبتهما من البيوت اللعينة التي يعيش فيها بالإيجار,فرارا مؤقتا إلى حين العودة للسكن بالإيجار مرة أخرى.
إيهاب مرعوب دوما من الأقدام,ولطالما كان لدى أوهي خوف فطري من الأعين, والموسيقى. الموسيقى لديها تلك القدرة التي أذهلت الفلاسفة على خلق أفكار في عقل المستمع إليها. أفكار تتولد من مجرد إهتزازات تنتقل عبر الهواء. أفكار تبعث على الخوف أو السرور أو الحماس أو السكينة.
هذا عن الجانب السمعي,أما الجانب البصري,فالعين هي أكثر الصور قادرة على توليد مختلف أنواع الأفكار والمشاعر. تنفرد بذاتها عن بقية حقول الصورة التي تشمل العين في رسم أو نحت أو تصوير.
نظرة واحدة إلى العين تعرف إن كانت دامعة أو حزينة أو خائفة أو خبيثة,يشكك البعض قائلين أن العين لا تقرأ بدون بقية الوجه. وهو كان قادرا على قراءة العيون دون أن يرى أي تضاريس أو علامات أخرى تساعده على الفهم. فلا يحتاج أن يرى دمعة حتى يعرف أن العين تبكي أكثر مما يسع لها أن تنزف. عين أخرى يعرف أن بحر الدموع قد جف لديها,هي لا تبكي,ولكنها حزينة مثل أي باكي في أي مندبة يصرخ موت ولديه أو أبيه. وقد نظر إلى عين إيهاب فعرف كم هو بائس بحق.
يخاف إيهاب من الأقدام,ويخاف أوهي من العيون,أسوأ كوابيس إيهاب هو أن يستيقظ ذات يوم ليجد نفسه قد تحول إلى قدم بشرية أو كتلة ملتصقة من الأقدام أو شيئا مثل هذا كما حدث لمسخ كافكا. أما أوهي فإن أعظم أحلامه هو أن يجري عملية جراحية تجعله يرى بسبعة عيون. هذا بالنسبة له هي طريقته للقضاء على خوفه من العيون.
جلس يقرأ كتاب المسيرة الطويلة لستيفن كينج ثم شعر بأن قدميه أرهقتا من المشي
بينما أوهي يتابع المارة من الشرفة,أما حسن فقد سحب الغطاء عليه,وألتف حوله مثل شرنقة دودة,يداه مضمومتان إلى جنبه,وساقيه مفرودتان بطول فراشه. وظل الغطاء يضيق عليه ويخنقه ويكتم صرخاته ويعتصر عضلاته يكاد يكسر عظامه. وصارت أكبر أمانيه أن يتمكن من الشعور لمرة أخيرة ويده متحررة خارج هذا القيد. لقد كان دوما يكره القيود,ويرتعب لما يرى جنديا يقود لصا مقيد اليدين من الخلف أو يدا بيد مع الجندي.
لم يكن إيهاب أو يوهي يعلمان بأمر الكابوس الذي يمر به حسن الآن,ولكن لديهما فكرة عن مخاوفه,وحسن يخاف من أشياء كثيرة. يخشى الأيادي,والأجساد,والنساء.
ويحكي لإيهاب دوما عن شيء قادم,تشعر أن له عبادة خاصة غير الإسلام,لـ آثينا ربة القتال أو آريس إله الحرب. لا يكف أبدا عن النظر للأعلى,أو النظر مباشرة في عينه والحديث عن القادمون بقيادة ذو النون. كائنات هائلة علوية تحطم ولا تتحطم,تميت ولا تموت.
– شيء ما يحدث في هذا العالم
إيهاب أيضا يشعر أن شيئا ما يحدث في هذا العالم,ولكنه يحدث له هو فقط,وليست هالة الرعب بتلك الضخامة الكونية التي يتحدث عنها حسن. ربما هناك كائنات مخيفة تتربص به, يشيب شعره لمجرد التفكير بها. لكنه وحيد أمامها عاجز تماما. ولم يصب عجزه بعد البشرية كلها,ولا يعتقد أن هناك مخلوق إنسي أو جني,يمكنه لوحده أن يسبب خطرا على العالم كله بهذا الحجم. حتى القنبلة النووية ستبيد البشر نتيجة تعاون منهم ضدهم على الحرب. ولا يعتقد أن هناك ذلك النوع من التعاون ضد البشر في الجانب الآخر من العالم. ربما هم يقتتلون فيما بينهم. هم الذين يشار إليهم بكونهم جنا أو أشباحا. هم الذين إذا لم يعرف يشار في غموض إلى طبيعتهم المجهولة,بإعتبارهم شياطينا أو ظلالا أو كيانات. ربما هم ليسوا أي من ذلك,وربما حتى هو ليس هدفا لهم,وإنما مجرد تقاطع وقع فيه بسبب حظه التعس.
نظر إلى حسن ثم تركه في هذيانه وأخرج إيهاب نفسه من هذيانه,ونظر إلى أوهي,الذي فرح لأنه جذب إنتباهه إلى أساطيره وخيالاته هو بدلا من حسن.
نظر إلى المصباح الباهت المعلق في السقف فوق رأسه,استثار لديه ذكريات وكوابيس,شعر أنه عالق في مزيج بين النور والنار. متى يرتاح من كل هذا؟ هكذا تساءل.
نام أوهي على الأريكة,ونام إيهاب على الأرض تحت أقدامهما,أتاه كابوس ماثل في جسد إمرأة تحتضنه وتدلك ظهره بقدميها. صحا من نومه,وتبادل المكان مع حسن بعد إيقاظه طارحا إياه على الأرض.
أثناء إقامته مع حسن وأوهي,هناك أشياء كثيرة مخيفة زادت ظهوراتها له في الأيام الأخيرة. وضغطت المطاردات على روحه ما بين نومه ويقظته.
أول تلك الأشياء هي الأقدام,خاصة لما يذهب إلى السوق مضطرا ليحضر بعض المشتريات الماثلة في مكونات الطعام نظير السماح له بالمبيت معهما. تظهر له الأقدام من تحت الحوانيت والعربات وبجوار الجدران والأحجار. أقدام لا يرى أصحابها تسير وحدها لا رابط لها ولا جسد متصل بها.
[11]
يعرف أصدقاء كثر,ولكن صديقه العزيز,شاب بلا قدمين,يظل قاعدا ليل نهار على كرسيه في غرفته المغلقة. كانا صديقين مقربين. ربما لأن نفس الحال أصاب شقيقه قبل أن توافيه المنية.
كان صديقه هذا يحب القراءة أيضا,خصوصا القصص المصورة,وهو الذي أهداه قصص المانجاكا الياباني
كان يكره قصص سبايدرمان
ترك إيهاب شقة حسن وأوهي,استطاع أن يعثر على شقة (وليس غرفة) مناسبة له جدا. تذكر كيف عثر عليها,أثناء ركوبه إحدى سيارات الأجرة وهو يكرهها. يتأمل السائق وينظر في عينيه وينظر إلى يديه. لا يريد أن يتخيل قدميه. لا تفارقه كل الأحداث التي يمر بها من ضغوط نفسية وأشياء ماورائية.
لقد عرف لماذا يعد الصفر سيد الأرقام,الرمز الأمثل لـ اللاشيء,وهو ما يصف حالة الخواء داخله الآن. خواء من الحياة,ولكن عقله غير خالي من تلك التخيلات. صفر هو الرقم الأقوى.
وقد أصابه اكتئاب عظيم وحاول أن (يفك) عن نفسه,من خلال عمل عدة زيارات ترفيهية, ليست زيارات,بل فسحات. وهي التجربة الأولى من نوعها في حياة إيهاب. نوع دخيل لم يجربه منذ كان طفلا.
الرحلة الأولى كانت في الشوارع,ورأى مشاهد كثيرة ودموية في شارعه,الناس باتوا يتقاتلون حتى الموت لأتفه الأسباب,أخذ ينظر إلى أقدامهم متخوفا من تحوله لقدم ذات يوم. لاحظ لأول مرة أن الشامة التي ساقه بدأت تتحول هي الأخرى.
أثناء سيره,استوقفه منظر سيارة بلا زجاج.
الرحلة الثانية كانت في حديقة الملاهي,ركب العروسة وركب السقالة,وتخيل أنه يركب الدوّارة. حيث تخيل عجلة عملاقة ترتفع عن أربعين مترا (يكره هو مقياس الأقدام فلن يقول مثلا أربعين قدما أو سبعين قدما) تستمر في الدوران ومعلق بها مجموعة من السقالات الدائرية التي تستمر في الدوران وكل سقالة فيها أطباق تدور وتدور. تخيلها أكبر من ذلك, بارتفاع سور الصين العظيم مثلا. تخيلها تظهر للناظر على القمر. دورانات رأسية وأفقية حتى دارت رأسه وداخ.
عاد في الليل وحيدا منتشيا بفرحته التي عكرتها منظر أقدام المشغلين,رغم أنه كان وحيدا هناك مستفيدا من بعض مدخراته النقدية في تشغيل الألعاب له وحده.
الرحلة الثالثة كانت في مكان أكثر ازدحاما,أكثر بكثير. ذهب إلى المتحف. وأخذ يستمع بإهتمام وتركيز وفي قلبه وجل من صوت دقات القلب الفرعوني. دقات مخيفة وعالية على أذنه وحده لدرجة أنه أنسته كثرة الأقدام من حوله.
الرحلة الرابعة وهي الأصعب,وكانت في متحف الفن التشكيلي,هذه بالذات هي التي دفعته إلى خوض التحدي مع نفسه بأن يتحمل كل هذه النزهات في أيام متعاقبة. لم يكن يعرف هل هو متحف مستمر أم معرض دوري. والذي استوقفه هو الإعلان عن المعرض لما لمحه في جريدة بيد أحدهم. إعلان أو خبر عن إفتتاحه,مرفق معه صورة تظهر بعض المعروضات.
أبرز تلك المعروضات هي لوحات الأقدام,لوحات رسمت فيها الأقدام بمختلف الأحجام والأشكال والألوان والأوضاع والأساليب.
الرحلة الخامسة في اليوم السابع من هذا الإسبوع,يوم جمعة كما تنص العادة في الرحلات المصيفية التي تخطط للإقامة عند البحر يوما أو إسبوعا. يوم واحد هو ما كان يريديه,وما يقدر عليه. فلا يقدر على أكثر من ذلك.
استمتع بالماء كثيرا,وغاص وسبح ومارس النشاط الثاني (بعد المشي) الذي يستلزم تحريك قدميه. وعند الغروب ارتاح منهكا ممددا على سطح البحر فاردا يديه غير طاوي لساقيه, متناسيا تماما وجود قدميه أو الأقدام المحيطة به. هي أقدام غارقة الآن تحت سطح المياه تداعب الرمال أصابع وكعوب أصحابها. تذكر الأقدام,وتذكر ستظل موجودة. تخيل نفسه على ضفة نهر قريبه من ماءه. متدلية قدميها في المياه العذبة. مشهد رومانسي وجميل لأي شخص آخر عداه هو. مشهد مخيف وقبيح. اعتدل لينزل نصفه السفلي إلى تحته,وتغمر المياه جسده حتى أسفل شفتيه تتموج عند ذقنه وعنقه. شبه متربع يتأمل الناس من حوله. كلهم رؤوسهم أسفل وأقدامهم أعلى منتصبة بشكل رأسي. إمتلأ الشاطئ بالأقدام. ولا رأس واحد يطل عليه. البحر كله أقدامه الناس فيه مقلوبة للأعلى.
هرول عائدا إلى الخارج,إلى البرّ,إلى الأمان,إلى الأرض التي لا يأمن فيها من دقة قدم عليها,فكل الأقدام تسير على الأرض. كان يحب البحر لأنه بعيد عن كل هذا العذاب. فلا يعرف ما به أو ماذا أصابه. صار بحرا من الأقدام.
يجب أن يجد حلا؟.
وصل القاهرة وقد انتصف الليل,قرر أن يصلي الفجر في الحسين,وقد فعل. هول عظيم حل عليه,بسبب أن رأسه يستاوى الآن مع أقدام المصلين. ولكنه أقنع نفسه أن هذا تأثير الصلاة في المسجد العظيم خاصة وأنها المرة الأولى منذ سنوات عديدة التي يركع فيها للمولى. لم ينحني أصلا لأي أحد من قبل. حاول أن يصدق أن خشية الله هي التي غلبت خوفه من الأقدام.
تلك كانت رحلته السادسة أما عن السابعة,فكانت قراره / فراره للذهاب إلى البلد. محطة رمسيس قريبة من الحسين,ولا زال معه بعض المال. سافر إلى سوهاج وهناك عرف أن أمه ماتت قبل مقدمه بسويعات. وكانوا يحاولون الإتصال به.
[12]
يقرأ كتاب عن الأمثال الشعبية ولازال يكره الأمثلة الشعبية,لأن الكثير منها يتضمن ذكر للأقدام (خش برجلك اليمين – مش عارف راسي من رجليا – الكذب مالوش رجلين – رجل الديك تجر الديك – مجرد رجل كرسي – يعملون على قدم وساق – على قد لحافك مد رجليك – لا تمسك رجل المشنوق – الشاطرة تغزل برجل حمار – على رجله نقش الحنه) وكان يخشى أن يقال مثلا (يكسب قوته من عرق رجله), أو (القدم البطّالة نجسة).
ناهيك عن العادات,فالإنحناء أو الركوع يعد من أسوأ الإهانات,وكذلك أن يجعل الجالس ساقا فوق الساق في وجه أحدهم. بل إن أعظم إهانة على الإطلاق هي الضرب بالشبشب فوق الرأس.
تذكر أمه وهو جالس على الأريكة يدخن سيجارة,تذكر معاناة في دفنها,وحزنه الكبير عليها. تذكر كيف مات أبوه وأخوه. لما سقطت عليهم صخرة عند الجبل. صخرة عملاقة لا ينسى كيف كان قدمها. الصخرة مثل القدم بينما تعاريج الجبل مثل ساق ممتدة للركبة عن قمة الهضبة.
مرت سنة على موت أمه وسنوات على عذاباته المستمرة,وقد انتصف به العمر بين الثلاثين والأربعين. مرت به ساعة أو أكثر وهو يتأمل الليل البهيم أمامه من غرفته. أشعل سيجارة أخرى. شعر بلسعة برد وتخيل الوحوش الكامنة في مخابئها الآن.
هناك إرتباط بين الوحوش والأقدام,مصاص الدماء مثلا لا يدخل بقدمه أي مكان دون إستئذان,وقيل أن الميت إذا تحركت قدمه إلى زاوية التابوت يعني أنه سيتحول إلى مصاص دماء.
الرجل الذئب يبدأ التحول من قدمه.
وزمان كانت جدته تحكي له عن أبو رجل مسلوخة.
والبعبع يسكن تحت السرير,ويخطف الطفل من قدميه المتدلين.
حوريات البحر لديها زعانف بدلا من الأقدام وتخطف الرجال من أقدامهم المتدلية في الماء, والساحرات تسري في الهواء دون أن تلمس قدميها الأرض,كما أن تعاويذهم تستلزم إستخدام بعض أقدام الأطفال الرضع.
الطفيليات هي مخلوقات تدخل من القدم
هناك ذلك الشيء المسمى رجل العفريت,والجن لديهم أقدام ماعز.
ذو القدم الكبيرة تم تصور وجوده بالكامل من خلال آثار أقدامه
هناك ذلك الوحش ذو القدمين المعكوسين,
هناك مجتمعات كانت تستخدم الفيل من أجل الإعدام,بأن يدهس رأس المحكوم عليه بقدمه العملاقة.
تخيل تمثالا للوحش ذو الأقدام,الرجل ذو الأربعين قدم
الثعبان حيوان بلا أقدام,وكذلك الدود. ورغم أن حضور القدم أو نفيها سببا لإزعاجه أو ذعره إلا أن الثعبان كان بالنسبة له هو الوحش الأفضل. حيوانه الأليف الذي لم يقتنيه يوما. الثعبان أفضل صديق للإنسان وليس الكلب. سمه أخف وطأة عليه من أقدام كلب تمشي على جلده البراغيث بأقدامها. أو قط يركض بأقدامه الأربعة خلف فأر يفر على أقدامه الأربعة. استرجع بذاكرته شعور أقدام الفأر الذي مر من على قدمه. هو يكره كل الحيوانات عدا الثعبان الذي يعتبره أفضل صديق. مشاهد أخرى مرت أمام عينيه. قدم خشبية عند الجزمكي. يلمس قدمه على الطريق السريع. قدم أخيه تنسلخ قبل أن يموت. وأبوه (أو تراه عمه) ألقى الماء الساخن على نفسه. المرأة يتم خنقها وقدمها ترفس.
[13]
هذا هو أسوأ يوم في حياته,ابتدأ بأن داس أحد المارين على قدمه,وانتهى بأن تم ضربه. وتوسطه أن قابل رايفين فرجاني مرة أخرى في كتاباته.
جلس على حجر يبكي ويتأمل قدميه,نظر إلى الشامة التي تحولت بالكامل إلى شكل قدم. تذكر لما أصابه خراج في قدمه ومعاناته مع ذلك. معاناة ممتزجة بالألم الجسدي لبركان القيح الذي تمنى لو ينبت الآن مكان تلك الحسنة التي تدل على أنه لم يفعل حسنة واحدة في حياته. شعر أن دمه فاسد وحياته فاسدة. وتقلبت الذكريات البعيدة في رأسه.
تذكر اليد التي سحبت قدمه من بطن أمه.
تذكر أول مرة تعثرت فيه قدمه ليجرح ركبته.
تذكر أول خطوة خطاها بقدمه إلى المدرسة.
تذكر أول مرة كسر قدمه في الإعدادية.
تذكر أول ركلة وجهها لصديق له في الثانوية.
تذكر أقدام الموتى في المشرحة بكلية الطب.
تذكر موت أبيه واضراره إلى دفنه.
تمنى لو يمكنه قطع قدميه ودفنهما في مقبرة للأقدام.
كتاب فرويد والذي جعله يحلل نفسه
على سيرة الموت تذكر العاشقين المعلقين عند أول الشارع,مشنوقين بحيث يكون أحدهما معكوس أو مقلوب للآخر. عرفت هذه الحادثة بإسم المشنوقين وتورطت فيها جهات أمنية عليا نادرا ما تتدخل في أي من مجريات حي السرايا اليومية. مهما كان الحادث عظيما في وقعه وأثره. هناك جرائم أبشع بالتأكيد,ولكن ربما أزعج المسؤولين مسألة عرض الجثث والتفاخر بإزهاق روحيهما.
إمرأة جميلة في تمام الثلاثين مثل تمام البدر على وجهها ناصع البياض,بدت نظرة الذعر جلية على عينيها إحتفظت بها ملامحها حتى بعد الموت. صدمه لما عرف أن الشاب لم يكن عاشقها بل شقيقها.
-هل نام معها؟
-لا,ولكنه لم يغسل عاره منها,فقتلوه معها.
وقد سمع أنه لم يكتفي فحسب بعدم قتلها,بل تصدى لأبيه وأعمامه وأخيه الأكبر,في سبيل إنقاذ حياة أخته. معلق من قدمه اليسرى مذبوحة عنقه,يتدلى اللسان من فم أخته,ولا زالت قطرات الدماء تتساقط من فمه. الحبل يضيق على رقبتها,والدماء بدأت تجف على رقبته.
المرأة ماتت بالخنق,والرجل مات بالشنق. ولكنه شنق من قدمه هذه المرة. وثبتت الصورة في ذهنه. منظر المرأة وقد تدلت قدميها أسفل ثوبها,ومنظر الرجل وقد علق من قدمه رأسا على عقب.
عربة جرّ يجرها حصان معتوه ينطح ويرفس كل ما أمامه,كاد الحصان أن يدوس على قدمه.
-ما تفتح يا أعمى (انظر أمامك يا أعمى)
هكذا شد سائق عربة الجرّ لجام فرسه ليهدأ هذا الفحل ذو الأربعة أقدام,ويهيج الفحل ذو القدمين,ينزل من عربته ويرغي ويزبد,يزعق ويشوح بيديه. حاول إيهاب تهدئته وكان لا يزال غاضبا بسبب الحادث وقدميه تحتي قدمي الحصان. لذا كان ما يقوله لتهدئته هو محاولة لتهدئة نفسه أيضا. غضب وانفعل وبدأت اللعاب والسباب يتطاير ويتطاير معه اللكمات الوهمية. ثم اشتبكا معا بالأيدي وركله العربجي بين ساقيه,وفي لحظة احتشد العربيجية حول قريبهم وجارهم وزميلهم في المهنة,وعلى ما يبدوا هو معلمهم أيضا.
وتحولت اللكمات التي سددها إلى المعلم,إلى ركلات تستخدم من جسد إيهاب كيسا للتمرين أو التفريغ. لم يكن يتوقع كل هذا الضرب,كما أن الأحداث تطورت خلال دقائق معدودة. تلقى ضربا مبرحا,أقسى ضرب وأقسى ألم شعر به في حياته التي ستنتهي الآن.
استمر الضرب ينهال عليه من أكثر من عشرين زوجا من الأقدام,دون استثناء أي مكان في جسمه,ليمطروه بقذائهم القاتلة على يديه وساقيه وبطنه وصدره وظهره ورأسه وعنقه وذكره ووجهه. بدأ ينزف من فمه وأنفه وعدة مواضع أخرى,وبدأت صيحات الناس تتعالى موصولا بصرخات (الحريم) وولولة (النسوان) -ومرور أحمد على المشهد مرورا الكرام وكما اعتاد في مثل هذه المواقف المتكررة في شارعه / منطقته أسرع الخطى إلى بيته.
الموت تحت الأقدام,أدرك إيهاب أن هذا هو ما يحدث له الآن,ودب الذعر في قلبه,هلع وفزع لم يشهد لهم مثيلا من قبل. هو ذاهب إلى المكان الذي يجسد أسوأ كوابيسه,بعدما تحققت أسوأ كوابيسه بالفعل. ذاهب إلى جحيم تنصهر فيه الأقدام وتتجدد إلى الأبد. أو إلى جنة محتشدة بأقدام الناس والحور والملائكة,لا يريد الذهاب إلى جنة موقعها تحت أقدام الأمهات. أو إلى العدم. ولكن حتى هذا لم يرضيه لو تحقق. فهو سيظل جثة ذات قدمين تحمل على أكتاف ذات أقدام توضع في القبور مع جثث من الأقدام. يدفن تحت الأرض. تحت مستوى أقدام كل البشر. يسير فوقه ويطأ وجهه جميع البشر.
وماذا لو عاد على صورة شبح,هل ستكون له قدم شبحية أيضا؟
تتكرر مشكلة إيهاب والباب هنا مرة أخرى.
باب الموت.
الموت تحت الأقدام.