الرعب

النهايات

 

أنا لست مثل أي كاتب آخر,وهذا عمل آخر يثبت لكم ذلك. إن السرد لا يكون دوما خلق لأحداث خيالية,فإن كل ما يمكن تخيله يمكن حدوثه بشكل أو بآخر. ومع ذلك لا يملك الجميع مخيلة مثل التي لدي,أو هكذا أحسب وليعفي القارئ لي غروري. وهذه مجموعة قصصية معنونة بإسم النهايات,داخل كل قصة نهاية مختلفة,يفترض بها أن تكون صادمة أو غير متوقعة. نهايات لن تخطر على بالكم. أتحداكم أن تتوقعوا كل النهايات التي سأقدمها لكم, فحتى لو نجح القارئ في توقع أغلبهم ستفلت منه نهاية أو إثنتين. وها هنا أقدم لكم ثلاثة عشر قصة وثلاثة عشر نهاية.

 

1-الأعمى

2-البيت في المدينة

3-الحارة

4-الحلم الطويل

5-الغرفة تحت التراب

6-المنقذ

7-الموز بالملح

8-بين السفاح

9-ثلاث ليال

10-لا تخف

11-مارلين

12-مصاص الدماء

13-منتصف الظهيرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأعمى

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]

الخميس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

علا صوت الأذان من المسجد يدعوا لصلاة الفجر,وضع الرجل كوب الشاي علي الحصيرة وقام خارجا من الغرفة إلي نسمات الصيف,وذهب للمسجد خلف بيته.

-يعني ما سلمتش عليا يا حاج ياسين

-أها .. لا مؤاخذة والله يا شيخ ناصر مخدش بالي,نظري بعافية اليومين دول

-يا راجل بتتريق عليا بدل ما تقولي إيه إلي شاغل بالك

-ربنا يباركلك يا شيخ,لو فيه حاجة مش هاخبيها

صلى الفجر ثم تمدد علي الأريكة نائما على صوت القرآن من الراديو.

 

صحى علي آذان الظهر فقام يؤدي الصلاة. دخل المسجد ليجد حفيديه عمر ومحمد ذوي الخمس والسبع سنوات بانتظاره للصلاة بجواره.

ذهب الطفلان مع جدهما إلي بيته,وبيته هو غرفة صغيرة في وسط الخلاء,الباب والنافذة جهة الغروب حيث الصحراء أمامه والمقابر علي يمينه والقرية من خلفه. ثلاجة صغيرة وتلفاز كبير وأريكة للنوم وأريكة أخرى للجلوس,هذه هي أكبر الأشياء التي إحتلت فراغا بالغرفة الصغيرة حيث توزعت في أرجاءها بإتساق جميل.

جلس الطفلان علي الوسائد لمشاهدة مسلسلات الرسوم المتحركة علي التلفاز,وقد وضع جدهما بيضا وجبنا وفولا وخبزا أمامهما,من الذي أحضرته إبنته له أثناء صلاته,ولازال الطعام ساخنا.

 

خرج محمد وعمر ليلعبا مع الأطفال من أقربائهم وجيرانهم في الباحة أمام بيت جدهما بينما يصلي العصر في المسجد,خرج الرجل وقد أدي صلاته وأصوات الأطفال تداعب أذنيه وهم يلعبون ويتضاحكون,ثم دخل يتناول قطعة من الجبنة القديمة في طبق ونظر للمرآة خلف الباب فلم يري إلا الظلام.

جلس بالخارج يتناول طعامه علي الأريكة أسفل النافذة,تناول وعاء المياه الفخاري (القلة) والخبز من علي النافذة حيث تضعه له إبنته هناك أثناء صلاته,وأخذ يأكل مستمعا لضحكات أحفاده شبه راضيا عن حياته؟.

 

مشي كثيرا حتى وصل إلي كوخ صغير من الطين والصفيح يسمى حماما,ويقع الحمام في عزلة كئيبة ومخيفة بعيدا عن بيت الرجل وعن المقابر وعن القرية.

سمع الآذان فتوضأ بالمرة وذهب لتأدية الصلاة وقد شعر في مؤخرة رأسه بالحرارة الآتية من الأشعة الأخيرة للشمس الغاربة تلامس وجهه,الشمس..لكم تمني أن يراها,,,,

عقب صلاة المغرب أوصله الأستاذ حامد -وهو زوج إبنته- إلي بيته,ساعده ليجلس علي الأريكة بجوار الباب وناوله (القلة) ليشرب منها,ثم طلب الإذن ورحل.

جاء رجل كثيف شعر الرأس والشارب,مستطيل الوجه طيب الملامح,طويل القامة,كبير السن قد تجاوز الستين من عمره,

-تعال إقعد يا حمدان

-عرفتني برضو يا أبو أنس

وقعد جلبابان يرتديهما شيخان علي الأريكة شبه الأثرية في جلسة من الضحك والكلام وتدخين السجائر وشرب الشاي ومضغ اللبان.

 

بعد صلاة العشاء أحضرت سميرة القهوة لجدها وجلست علي الأرض بجوار قدمه,ثم بعد قليل أتي علاء -أبو الطفلان عمر ومحمد- ومحمد -إبن العجوز الذي لم ينجب بعد- وصبري وحامد وزوجته أسماء والأطفال وباقي أفراد العائلة يجتمعون في أمسية جميلة هانئة علي الطراز الريفي الصعيدي المشهورة به العائلات المصرية.

افترشوا فراشا بلاستيكيا بسيطا (حصيرة) على الأرض وعليها الوسائد وأتت سامية -أخت أسماء- ومعها صينية العشاء الكبيرة وفوقها الأطباق الشهية من المأكولات,هذه من اللحظات الجميلة لدى العجوز التي تنتابه حالة رضا تامة عن حياته مستمتعا بالوقت الآني في سعادته وسط عائلته.

***

الجمعة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الساعة الحادية عشر وقد ذهب الجميع عداه,تمدد قليلا يتأمل النجوم وهو نائم على ظهره,تبسم من سخريته من نفسه,أمل أن يأتي أحد ليجالسه,تمنى أن يرى ثانية,تمنى أن يسمع صوت أخاه ويراه ويرى أباه,تمنى أن يعود طفلا,وتخيل نفسه أنه قد يفتح عينيه ليرى غير هذا الظلام.

بينما هو غارق في أمنياته شعر أنه قد مرت ساعة عليه والنوم يتسلل إلى عقله,فاستسلم للنوم وأزداد الظلام ظلاما…….

 

استيقظ على مقدم هذا الضيف,فقام من مضجعه

-أخيرا أتاني جليسا

-السلام عليك يا حاج

-…….

-ألن ترد السلام يا والدي؟

-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته,ومن أنت يا ولدي؟

-هل تأذن لي أن أجلس جوارك؟

-تفضل

-أكرم الله أصلك وزاد من فضلك

وجلس الغريب جوار العجوز,وشعر العجوز بنسمات باردة تلفح وجهه,وأتاه الصوت العميق مرة أخرى

-كيف شعرت بمقدمي؟

-سمعت خطوات قدمك ولكني لا أسمع طرقات قلبك!!

-لا أحد يمكنه سماع خطواتي

-أنا سمعتها

-وكيف ذلك؟

-العميان أشد سمعا من المبصرين

-لا يمكن لأحد يمكن أن يسمع صوت مني,عدا صوت كلماتي.

-لهذا لا أسمع صوت تنفسك

-لكنك شعرت بيّ

-بماذا تخّرف يا ولدي؟

-ربما شعرت بحضوري رغم أن ذلك غير بادي عليّ

-ماذا تقول؟

-ربما أنت مبصر أكثر مني

-إلا إنني أتمنى أن أبصر مثلك

-ومن قال لك أنني مبصر؟

-هل أنت أعمى مثلي يا ولدي؟

-لا لست أعمى

-هل تسخر مني؟

-لا أفعل

-…….

صمت ولم يتكلم وكذا فعل الغريب فشعر العجوز بالسكون يطبق على صدره والظلام يغشى عقله فنطق بمخاوفه

-ما خطب صوتك يا هذا؟

-ينطق لسانك بأفكارك

-من أنت يا ولد؟

-وأول ما نطقت في حضرتي هي حاجتك إلى من يجالسك

-في حضرتك؟ ومن أنت يا سعادة الرجل المهم,تحب أقول لك يا (باشا)

-ألقابكم لا تعنيني

-من أنت؟

-أنا جليسك طوال الإسبوع الفائت

-أنت؟!!

 

استيقظ قبيل الظهر قبل بدء صلاة الجمعة بقليل,ناداه الأولاد فأخذهم معه إلى حمامه في آخر الحضر وأول القفر يعلمهم الوضوء بيديه ويناديهم إلى الصلاة بصوته,وقد شعر الصغار بالتوجس والقلق ولم تغنهم كلمات جدهم المطمئنة عن خوفهم,وقد سبقوه إلى المسجد مهرولين يفترشون حصيرا على أطراف الجمع الجالسة يستمعون للخطيب حتى انتهاء الخطبة وبدء الصلاة وقبيل أن يرفع العجوز يديه بادئا الصلاة متتبعا الإمام فكّر أنه لن يأخذ الأطفال إلى الحمام مرة أخرى.

 

يقبض روحه حين يأتي عليه وقت العصيرة ووقت الغروب,وقد شكلت مواقيت الصلاة مواقيت يومه وعقارب الساعة التي يسمعها بأذنه,فإذ به يسمع آذان العصر ويعرف الوقت يشعر بمزيج من الطمأنينة والقلق,الطمأنينة التي يبعثها سماعه للأذان بأن حان وقت الصلاة لربه,والقلق لمعرفته أن اليوم إنتصف دون أن يبصر شيئا من جماليات الدنيا تحت أشعة الشمس الدافئة. وهي دافئة دوما عنده مهما أشتد قيظها صيفا.

 

وقد أتاه صوت أذان المغرب معلنا انقضاء يوم آخر ومجثما بمزيد من الكآبة مع آخر أشعة الشمس تتلمس جبهته مودعة إياه إلى يوم جديد,ولم يتلقفه من كآبته إلا يد حفيده عمر يدعوه أن يأخذه معه للصلاة. تبسم العجوز وفرح لهذه الدعوة وكان الأذان لم ينتهي فتأمل كلمات الشهادة دلالة المسلمين وعاد له اطمئنانه وبعض الرضا عن حياته وذهب متناولا يد حفيده وسائلا إياه عن أخيه ليقضي صلاته في المسجد.

 

أدى صلاة العشاء ومرت الساعات حتى انتصف الليل وسمع وقع خطواته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[2]

السبت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذه المرة قضى ليلته جالسا ثم نائما على الأريكه حتى أيقظه دفء الخيوط الأولى من أشعة الشمس ولحن يتكون من زقزقة العصافير وصياح الديوك.

 

شعر بإرهاق وصداع ربما يكون ناتج عن السهر فصرف الأولاد اللذين يلعبون أمام غرفته وبيته إلى ساحة مناسبة للعب أمام المسجد بعد أن أُغلق عقب صلاة الظهر.

 

شعر بخمول وكسل يمنعاه عن تلبية أذان العصر وكانت كلمات الأذان انتهت وصمت نداء الصلاة عن كل المساجد حين استطاع القيام بعد دقائق من استيقاظه.

 

توجه إلى الصلاة بينما حرارة الأشعة الأخيرة من الشمس الغاربة تلامس وجهه.

 

أدى صلاة العشاء ثم ذهب إلى النوم.

 

الأحد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شعر قليلا بالبرد فسحب غطاءا من أسفل قدمه ليضعه على كتفيه باسطا إياه حتى قدميه متدفئا بقماشه حتى استقر على سخونة الفراش ومداعبة النوم إلى أن أتاه أذان الفجر وكاد يستسلم لنومه إلا أنه نزع الفراش عنه وقام يؤدي فرض الله عليه.

 

وقت الظهيرة وانتهى المنادي من نداء الأذان فلم ينتبه إلى المؤذن إلا بعد أن أتاه صوت مشي غير مستقيم يخالج صاحبه بعض العرج

-محمود ولد رمضان من يقف أمامي؟

-نعم يا أبو أنس,كيف عرفتني؟

-من مشيتك يا أعرج

-سامحك الله يا حاج

وأتته ضحكة محمود فتبسم الرجل العجوز.

 

حين أتاه صوت أذان العصر أترك أنه انشغل بالحديث مع محمود الأعرج حتى فاتته صلاة الظهر. وللتو ذهب محمود الأعرج إلى بيته وذهب ياسين العجوز إلى المسجد.

لما انتهى من الصلاة غرق في تفكير عميق أثناء ارتدائه للنعل (الشبشب) فقام بإعاقة مسيرة الخارجين من المسجد عن دون قصد حتى سأله أحد الشباب العارفين له من جيرانه.

-أساعدك يا أبو أنس؟

أدرك نفسه ثم ذهب لحاله رادعا أي مساعدة وجهت له ومتفكرا في أمره وهو للمرة الأولى منذ عشرين عاما تمر عليه صلاة دون أن يؤديها في ميعادها.

 

ظل جالسا على أريكته أمام غرفته منتظرا الليل حتى أتاه الغروب به,ومعه إبنه محمد الذي جاء يسأل عنه فقيل له من قبل الصبيان أنه في المسجد.

أدى صلاة المغرب ثم ذهب ليجد ولده ينتظره,فرح به وجلس معه,وسأله إبنه

-ما تيجي تنورنا في البيت يا حاج

-البيت لم يعد عامر من بعد رحيل عامر

 

اشتد ظلام الليل وجاء الشتاء بعد صلاة العشاء في منتصف المساء وقد انتشرت برودته في الهواء وذهب الأقرباء وأتى زائر من الغرباء إلا أنه لم يعد كذلك أمام الأعين العمياء وأيضا لم يبلغ منزلة الأحباء حين أدرك العجوز أن أمامه الهيلاء آت من سماء غير السماء قيل أن إسمها العماء.

 

الإثنين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سمع صوت المؤذن ينادي النيام لصلاة الفجر وقد كان مستيقظا فكان آخر ما قام قبل أن ينام.

 

في الصباح والجو لا زال باردا وقبيل صلاة الظهر بساعات أدرك أنه كان يهلوس ليلة أمس,وتسائل في نفسه أنه صار مخرفا والظاهر أن ظلام عينيه وضع غشاء على عقله.

 

شعر بأنه لم ينم كفاية فأتاه النعاس وغلبه فصار نائما واستيقظ على صوت أذان العصر,وبعد صلاة العصر لم يكرر شرود الأمس أمام باب المسجد,فذهب إلى غرفته وجلس على أريكته في الخارج يتأمل الأصوات من حوله ويتسائل في نفسه “يبدوا أن عمى بصري أعمى بصيرتي”.

 

تزايدت البرودة من حوله فدخل غرفته وسحب ثلاث بطانيات على جسده حتى نام ولم يوقظه إلا إبنه محمد يسأله عن حاله وصحته بكلمات طيبة وأيدي حانية,ساعده برفق على النهوض وجلس إلى جواره,واستغرب يس العجوز أنه فاتته صلاتين وصوت قرآن ما قبل صلاة العشاء آت إلي أذنه من المسجد,ولكن الأكثر استغرابا بالنسبة إليه أن ولده يشتري شاشة عرض له!.

 

وفي منتصف الليل شعر بأنه يفتقد الصحبة الشيطانية التي كانت ترافقه.

 

 

 

 

الثلاثاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

معظم سنوات حياته الأخيرة كان ينام بعد العشاء ويستيقظ قبل الفجر,إلا أنه صار ينتهج نهجا مختلفا في الأسابيع الأخيرة,منذ أن أتاه الزائر,وقبل أن يدركه حتى كأنه شعر بمقدمه.

ظل مستيقظا من بعد صلاة العشاء حتى أتاه صوت صلاة الفجر فقام يؤديها ثم نام منتويا الإستيقاظ لصلاة الظهر دون أن يفوتها.

 

أدى صلاة الظهر

 

وفوت صلاة العصر

 

ولما استيقظ في الغروب أخذ يبكي على عينين بلا ضوء ووقت بلا صلاة.

 

وبعد العشاء تجمع حوله أفراد أسرته وهو سعيد بمؤانستهم وقضوا الليل في سهر وسمر كأنهم يشعرون بثقل الأيام على قلب العجوز وثقل الظلام على عينيه.

 

أثناء جلوسه وسط عائلته المحبة أتته ذكرى تلتها ذكرى,فأما الأولى فهي التي أفقدته بصره أثناء مشاهدته لأخيه يحترق وضاع نور عينيه مع فقدانه أغلى من يحب.

 

أما الذكرى الثانية والتي لا تقل هولا عن الأولى,هي مجموعة الزيارات التي استمرت لشهرين,وهو شعر أنه قد نسيها تماما,إلا أنه عاودته ذكراها وصار يتذكر المشهد كأنه يراه. زيارت عديدة لذلك الزائر,إلا أن الغريب فرض حضوره بالذات في ذلك الحادث.

 

التفت حوله الذئاب الآتية من الصحراء,سمع عوائها وشعر بمقدمها عند الحمام على أطراف القرية,الحمام الذي لا يستخدمه أحد غيره. ربما لخطر الموت بين أسنان ضواري الصحراء. وربما الصورة المخيفة للمقابر القريبة والمتجلية بنفوذ وسط الخلاء. ويمكن لأنه الأعمى الذي يستخدمها والجميع لا يريد مشاركته في بيت راحته. وربما بسبب هذا الزائر الذي هيمن بظلاله على القرية فلا يخرج أحد من بيته بعد أن تغيب الشمس عن سماء القرية.

 

الآن نحو سبعة ذئاب أمامه,هو يعلم عددها بسبب سمعه الحاد والدقيق والذي يعطيه الكثير من التفاصيل,مثل تكشيرته وضربات أقدامها على الأرض استعدادا لإلتهامه. كان خائفا,وفكر أن يستغيث,لكنه أدرك بأذنيه أن لا حد قريب منه. وأخذت التفاصيل لمشهد موته تتوالى على اللوحة السوداء المشكلة لذهنه. أنياب,مخالب,لعاب,دماء -يبدوا أنها إلتهمت كائنا ما قبيل هجومها الجرئ على القريبة بادئة به- فكر حينها في نفسه والميتة البشعة التي تنتظره ثم فكر في أحفاده. واستمرت التفاصيل,الكثير من الشعر الحيواني الرمادي,برودة الهواء تضيف لمستها,صوت لهاثها,زئيرها. أنفاس كائن لا يتنفس. ثم أدرك لماذا لا تهجم,ولم تهجم,ولن تفعل. مر السيد الغريب من بينهم كأنه شيطان جبار أمام مجموعة من الوحوش الصغيرة. كائن أسود من العالم الآخر. أكثر سودا من السواد الذي يغلف عينيه.

 

لما سأله حينها

-كيف فعلت ذلك

-استطيع أن أفعل شيء

-هل تستطيع تلبية طلبي

-استطيع أن أفعل أي شيء

 

وقد أتاه هذا الكائن في تلك الليلة كما يأتيه كل يوم,تذكر أنه قد دخلت الأيام به إلى الشهر الثالث من زيارات ليلية لا تنقطع حتى حين يشعر أنه لم يأتي إليه هذه الليلة,يكون حاضرا وهو لا يدري,وقد أدرك كل ذلك فجأة هذه اللحظة التي ختمت نوبات الصحوة في ذاكرته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[3]

الأربعاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لما أتاه أذن الفجر,شعر بقلبه بعكس الراحة التي كانت تواتيه,مشاعر مختلطة تراوده للمرة الأولى,وأحاسيس قبيحة صارت تداعبه. نفسيا جمع بين النفور والإنزعاج والغضب. جسديا جمع بين التكاسل والخدر والإرهاق. وأكمل نومه دون أن يستيقظ.

 

بلغ مسامعه أذان الظهر,إلا أنه كان لا يزال ناعسا,قام ساعة,ثم نام ساعة.

 

وبعد أن ترقب ارتفاع أذان العظر انفجر غاضبا لسماعه,حتى أرعب الأطفال اللذين كانوا يلعبون حوله,وهو في غفلة منهم. ذهب إلى الحمام ووجد أن الأطفال يتبعوه,كانوا يريدون قضاء حوائجهم فأخذهم معه. بعد مسيرة خطوات بدئوا بالبكاء لذهابهم إلى الحمام,وقف في منتصف الطريق لا يعرف هل يرجع بهم أم يجبرهم على الذهاب معه.

 

-هل تستطيعون العودة وحدكم؟

-نعم؟

أجابه طفل ما ليس حفيدا له,فتركهم لحاله وذهب إلى حمامه وحده.

 

مع الغروب وقبيل أن يأتيه الأذان,شعر أن المكان خالي,وأدرك حتى أن وقت الغروب قد حل ولم يقم أحد للصلاة. جالسا على أريكته متكئا بكوعيه على فخذيه. السيد الغريب واقفا أمامه.

 

سأله العجوز

-هل تستطيع أن ترد إلى بصري

-نعم

-هل تفعل؟

-نعم

-إذن هبني بصري

-أنا أحذرك,ذلك سيحتم عليك أن تراني وإلا سأسلبك إياه مرة أخرى

 

خفق قلبه بشدة

-لا بأس لن يكون أسوأ من الأشياء التي رأيتها في حياتي

-والآن افتح عينيك

 

أول ما رأى كان قرص الشمس الغاربة في البعيد,ثم رأى الغريب. لو عاش قرنا على عمره لن يرى أبدا ما هو أكثر بشاعة مما يراه الآن. لم يستطيع أن يعقل حقيقة الذي أمامه. دخل إلى غرفته تناول إبرتين من أسفل المرتبة وطعن بهما عينيه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البيت في المدينة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]

أراح كارل رأسه علي عجلة القيادة وأخذ تنفسه يتسارع مع تزايد ضربات قلبه. أفاق بعد برهة وأدار محرك السيارة وخرج من باحة المستشفي. في الطريق عاوده التفكير في هذا الكابوس الذي خرج منه توا,فلم يحتمل أكثر حتى توقف أمام المقابر. ترجل من سيارته متجها إلي أعلي التلة الخضراء تحت شجرة كبيرة وجلس يستريح حتي نام. صحي من غفوته متعرقا,نظر حوله,شرد بذهنه,تفكر قليلا,ثم قام مسرعا.

***

علي أريكة لا تريح الجالس تحت سقف لا يحجب شمسا ذات أشعة تكوي جلده كحديد منصهر,وذباب أعلن الحرب عليه بلسعات كالرماح والسياط تنهال علي وجهه ورقبته ويديه,بل ويتسلل من طيات ملابسه إلي الجلد ليزيد العذاب عذابا,ولا مكان في المحطة ليستظل من عين جهنم التي تنظر له من قلب السماء.

“كل هذا ولم تمر سوي دقيقتين فحسب”

هكذا فكر,ثم جاء الرجل أخيرا يتلفت حوله؛رث الثياب,طويل القامة,محني الرأس,ذائغ النظرات,يضع يديه في جيبي معطفه البالي. إقترب منه وسقطت نظراته عليه,لتقابلها حركة أنفه دلالة على أشمئزازه من رائحة الرجل القذرة,وملامح وجهه البشعة. صار معتدلا في جلسته,بينما أخرج الرجل يديه من جيبه مناولا إياه ورقة صغيرة مطوية بيد ومتناولا بضع ورقات نقدية بالأخرى.

***

في طريق عودته فكر توم في المحادثة التي خاضها مع د. ألبرت كريس,والتي انتهت بعد سرد للأحداث والأقاويل الغامضة حول مدينة سراي التي لا يعود منها أحد على هاتين السطرين.

 

ألبرت: حتى حكومة البلاد حظرت الاقتراب من هذه المدينة,فهل ستنجو أنت؟

توم: نعم,لأن لدي مال أكثر مما يملكه الرئيس نفسه,ميزانية دولة في جيبي يا حبيبي.

 

والطبيب ألبرت يتفق مع زميله في المهنة الدكتور كارل ماركس في كون الجثة التي تفحصها الأخير أولا غير بشرية,ولا تمت لأي فصيلة حيوانية. ولكنها تشبه التكوين البشري ولا تمت للبشر بصلة في نفس الوقت. وتحتفظ بخصائص علوية ترقى عن أي عين علمية لفحصها أو أي عقل منطقي لاستيعابها.

***

هاتف توم مدير أعماله ليخبره أنه نفذ ما طُلب منه بالفعل,ووعده أن الحكومة لن تنظر في أمره وستغض الطرف عنه تماما,فجمع مدير الأعمال لرئيسه طباخا اسمه لينغارد من ريف النمسا ومشهور بين المزارعين هناك. ثم هناك الطبيب كارل وهو على معرفة مسبقة مع توم. والمكتب 8 أرسل رجلهم الذي سيقابلوه اليوم. وآلان هو يقف أمام محطة القطار شبه المهجورة متكئا على سيارته التي ترجل منها ثلاثة أشخاص غيره. كارل وروز وصابرينا. كارل الطبيب والجراح المختص في المخ والأعصاب والحاصل كذلك على شهادتين في علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء وروز كوك الخبيرة والباحثة في الماورائيات بصحبته. والثالثة هي صابرينا صديقة توم.

 

المكان كله خال,وعبارة عن طريق يشق الغابة وصولا إلى محطة القطار,ولا وجود لأي أثر لحياة بشرية عدا في بيت واحد. كان الوقت فجرا وانتظرا سويعات قليلة والشمس تشرق عليهم من الجهة الأخرى لسور مبنى محطة القطار. حيث تقبع تلك المدينة الغارقة في الظلمات. ظلمات ما قبل انبلاج الشروق. والبيت يطل عليهم من بعيد بين الأشجار بعين البيت أي النافذة المضاء منها مصباح واحد دلالة على أن هناك أحدا مستقيظا بالداخل. يعلمون أن لا أحد في هذا البيت سوى رجل عجوز وزوجته. حيث طلب توم من مدير أعماله تخصيص فريق لعمل التحريات عن المدينة والمنطقة المحيطة بها. بعد قليل أتت السيارة الثانية والركاب فيها هم تود فيليبس وزوجته هيلغا. ثم لحقتها السيارة الثالثة وترجل منها زاراك ليناكاتشي الحارس الشخصي لتوم,وله معه تعاملات سابقة,حيث استأجره من قبل في عدة مهمات. هذه المرة مهمته تقتضي حمايتهم جميعا,وقد تمنى توم أن يستأجر طاقما من الحرس لأجل هذه المغامرة,لولا أنه لا يريد أن يلفت الإنتباه إليهم حتى لا تفضح نواياهم. وهو يعطي ثقة كبير لزاراك. وذلك لعدة أسباب؛أولا هو اختبره وجربه في أكثر من مهمة لا يخذله فيها,ويشهد له أنه يتمتع بقدرات خاصة,يظهر دوما ردود أفعال سريعة, ويتغلب على خصومه أيا كان عددهم,وأنقذه في أغلب المرات -فهو لا يستأجره إلا وهو موشك على مصيبة- إحدى تلك المرات كانت من خطر محدق مات في مواجهته رجلين آخرين كانا معه حارسين له. وتمكن ليناكاتشي وحده من قتل سبعة رجال دون أن يهرب منهم أحد مسددا بقوة رسالة إلى إدارة الشركة التي كانت تستهدف تصفية توم,صاحب الشركة الكبيرة المنافسة,وتوم حاليا ترك إدارتها مرة أخرى لأبيه المؤسس الفعلي. ليتفرغ لمشاغباته التي لا تنتهي. وقد تجاوزت مغامراته العبث مع منظمات إجرامية في مدينة شيكاجو إلى مطاردة كيانات ماورائية في مدينة سراي. ثانيا بالإضافة إلى ما رآه,هناك الكثير من السمعة السيئة عن الرجل وعن أمور يستطيع فعلها لم يراها بعينه. ناهيك عن كونه قاتل مأجور -غير كونه من اليابان بلد الياكوزا والساموراي- ولهذا يعمل لدى المكتب (8). ثالثا وهو السبب الأهم,أنه استأجره من المكتب ثمانية ذو الشهرة الكبيرة عالميا ووظيفة هذا المكتب التابع لمنظمة إجرامية كبرى أو المستقل بذاته -لا أحد يعرف- هو تصدير القتلة المحترفين لتأدية مهمات مختلفة ومتنوعة. بدءا من الحراسة مرورا بالبلطجة وصولا إلى القتل.

 

صعدوا درجات السلم الذي لا يصعده أحد,لم يجدوا حارسا أو ضابطا أو عامل نظافة أو حتى عامل تذاكر. دخلوا المحطة ووقفوا على الرصيف وقد تأكدوا أنه لا يوجد بها أحد. المحطة مهجورة تماما ومع ذلك لا زال القطار يمر بها ويقف عندها. ولا زالت أبوابها مفتوحة غير مغلقة. غابة مهجورة من بشر أو حيوان,ومحطة مهجورة من ركاب أو مسافرين. المحطة الأخيرة في خط القطار لا يذهب إليه أحد عدا شخص أو شخصين وبحد أقصى ثلاثة أشخاص حيث ينفر المسافرين من الذهاب إلى محطة هيل تاون حيث قرية السعادة الجميلة وواحدة من أكبر المزارات السياحية من خلال القطار. رغم أن القطار هو أسرع وأسهل وأرخص طريقة للوصول إلى القرية وربما الأكثر أمانا -بلدة سراي مخيفة لكن كل أحداثها الغامضة لم تتعدى قط حدود البحر والغابة- إلا أن أغلب الزوار يفضلون الطرق الجبلية الصعبة والوعرة الملتفة حول الغابة وصولا إلى القرية,بسياراتهم أو بحافلات سياحية,أو تسلقا وهبوطا من الناحية الأخر في مسيرة شاقة جدا. أو عن طريق البحر من جزيرة كيراثيا. أو حتى عن الطريق الجو بالمروحيات أو طائرات سفر تحط في مطار على حافة القرية بالقرب من منطقة عسكرية. أما من يذهبون إلى القرية بهذا القطار فهم غالبا من المقيمين فيها أو سكانها. وعادة لا يرجعون من هذا الطريق في قطار العودة. حتى لا يمرون على مدينة سراي المشؤومة تلك. ويظل سائق القطار البائس هو من يذهب ويعود وحده مارا بهذا الطريق. لذا لا يمر القطار من هنا ذهابا وعودة إلا مرة واحدة في اليوم. وهم جالسين بانتظاره هذه المرة ومسافر واحد على متنه يأتي إليهم بعد وصول القطار.

هو الكاتب ويليم ويلسون اللذي أتى وصحبته دفتره وصبي في الثالثة عشر من عمره.

 

سأله توم

-لماذا أحضرت الفتى

-إنه صديقي ورفيقي في هذه الرحلة

-لكن أنت تعلم أنها رحلة خطرة

-الفتى وأبوه موافقان

سأله بتبسط

-وإذا كنت أنا غير موافق

أجابه بغير تعنت

-ولكن إذا كنت أنا موافق

تبسم توم

-إذن لا بأس,ليحضر معنا

 

فوقف جوراهم ووجوههم قبالة الرصيف الآخر ينظرون إلى المعبر للجهة الأخرى التي كأنها ستفصلهم عن بقية العالم,والمعبر الوحيد للمدينة هي محطة القطار تلك. لا يوجد نفق أو جسر للمرور إلى الناحية الأخرى. لا يوجد طريقة سوى المرور على القضبان وصولا للجهة المقابلة. نظر توم في ساعته,وكانت هيلجا تحسب أنهم سيبدأون التحرك فأدركت أنهم بانتظار شخص ما وجلست تستريح على مقاعد الإنتظار. تبسم توم وهو يقول بصوت خافت “لا يمكننا الرحيل دون طباخنا”. قال تود ساخرا “أحضر معه طباخ أيضا!”. وقد أتى الطباخ ومر الجميع على القطبان الحديدية الباردة إلى مصائر مجهولة في المدينة التي لم يعد منها أحد.

 

 

 

 

[2]

ساروا جميعا معا لمدة عشر دقائق إلى أن وصلوا لدكان الرجل اللذي سيقابلونه,واسمه جوناثام

-جوناثان؟

قالها توم له مصححا

-لا لا,جوناثام,هذا هو النطق الصحيح.

 

وجوناثام هو صاحب نزل من نوع خمسة في واحد,ليس خمسة نجوم؛متجر وحانة وملهى وبيت دعارة ونزل للزائرين حيث دليل سياحي لمعالم المدينة. قال جوناثام في نفسه ربما يصير هكذا مقدما لستة خدمات وليس خمسة باحتساب الدليل.

 

قبعا قليلا معا في الاستراحة,ثم قام كل واحد يصنع شيئا مختلفا. ظل توم جالسا في صالون الاستراحة ثم جلس على الحانة وطلب كأسا أو كأسان. أتاه الساقي وصب له الكأس كأنه يصب سما غير الخمر. ينظر له طاردا إياه من حانته,نظرات كراهية صريحة تدعوه للرحيل في الحال. بل تأمره أمرا. وتذكر توم أنه لم يجد الدليل فسأله عنه.

-وماذا تريد منه؟.

قالها الرجل متبجحا

-وما شأنك أنت.

نظر له متحديا

وأمسك الرجل بكتاب سميك من على الطاولة بجوار زجاجات الخمر يناوله إياه أو كأنه يقذفه

-هاك

أخذ يقلب في صفحاته وطلب كأسا آخر,وشعر بالحضور الإنثوي فألتفت إلى يساره ليجدها جالسة بجواره,الجميلة الرشيقة سارة ودليلهم الأهم من كومة الأوراق بين يديه التي تصارع مع الساقي لأجلها.

***

ذهبوا يتجولوا في المدينة,وأخذ توم يتأمل المظاهر المعمارية منبهرا بآيات الرعب والجمال المتفجرة منها. بنيت المدينة على الطراز القوطي,والعمارة القوطية هي طراز نشأ في فرنسا وازدهر في أوروبا خلال القرون الوسطى. تطور هذا الطراز من العمارة الرومانسيكية وتبعتها عمارة عصر النهضة. واستخدم على نطاق واسع خاصة في الكاتدرائيات والكنائس. وقد صار توم ورفقته يمشون في طريق بلا بيوت,بل كنائس عملاقة كأنه مخصصة لكائنات غير البشر أو أجدادهم العمالقة,تزاحمت على جانبي الطريق. وبالرغم من الشطر الأكثر رعبا هو تأمل هذه المباني ذات المداخل العميقة ممرات كأنها بلا نهاية,وبوابات مرتفعة كأنها تتبارى مع أبراج المباني من يناطح السماء أولا.

 

الناس تنظر لهم نظرات ارتياب وكراهية,ولما بلغوا مبنى السوق الأشبه بالقصور منها تجمع للتجارة,تزايدت تلك النظرات,حتى أن الحارس / الصياد / القاتل أمسك وضع يده على مقبض سيفه بدلا من مسدسه كأنه يحسب نفسه آرثر أو زورو.

 

مروا من السوق إلى المزيد من الأبنية المتنوعة وازدادت تنوعا عند وسط المدينة؛

 

تميزت بالأسقف المعلقة والمقببة وشبكة المتاهات المكونة من الردهات والممرات والأنفاق الأقبية,والأبراج. والنوافذ تتحدى الأبواب في أيهما أضخم وأكثر اتساعا. والزجاج يتباهى على باقي عناصر البناء بألوانه وزهاء تصميمه.

 

بلغوا طريق بناءاته أكثر ضخامة مما رأووه,وفي نهايته يقع البيت وقد عرف توم أنهم هكذا بلغوا حدودا المدينة. البيت القابع في نهاية الشارع فوق التل المطل على البحر.

 

هنا بدأ توم يشعر بالذعر,بحسب ما قيل له,أن أغلب سكان المدينة مسالمين ولكن ليسوا وديدين. إلا أنهم لا يؤذون أحدا. هم فقط يحاولون طرد الغرباء كي لا يتأذوا,والأذى لا يطال سكان المدينة. أي نوع من الأذى. كل الغموض ملتف حول البيت الحجري في آخر شارع آرخام. ذو المباني العملاقة التي تقف أمامها منحوتات طول أقصرها ثلاثين مترا. تماثيل تصور فرسان يمسكون سيوفهم أو فؤوسهم. فرسان ذوي أجنحة. ويرقد فوق أكتافها أو على أذرعها حيوانات الغرغول. تماثيل عملاقة مهيبة مخيفة تحرس بوابات الأبنية. كيف يتغاضى الجميع عن رعب كل بناءات المدينة,ويقلصوه في هذا البيت فقط!.

 

ثم بلغوا زقاق ضيقا همست له سارة في أذنه,فاجتازوه ذاهبين إلى المشرحة. هناك جثث لشياطين حاولت الخروج من البيت فاحترقت. وقد رأوا الأجساد وتيقنوا أن أصحابها ليسوا بشرا. وعرفوا لماذا سكان المدينة يعاملوهم هكذا. ولهم الحق في ذلك. لا يوجد إنسان يرضى أن يقع أخيه الإنسان فريسة بين أيادي هذا النوع من الكائنات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[3]

لما حل الليل تفرقوا,وصاروا ثلاث فرق

 

ويليم ويلسون ذهب وحده إلى المكتبة في منتصف المدينة

 

توم وروز وتود وهيلجا ونانسي والآخرين ذهبوا إلى البيت في طرف المدينة

 

بينما ظلت فقط صابرينا ومعها الصبي مايكل قابعين في الفندق

***

ثمانية ظلال قررت أن تسبح في ظلمات البيت يخيم عليهم سحب من التوقع لمصير مشؤوم حيث سيغرقون.

 

قبيل الليل والباب مفتوح يطلب منهم الدخول,فدخلوا,وتأملوا الخرابة أثناء عبروهم بها,خرابة المنزل هي حديقة لشياطينه بدلا من يفترض بها أن تكون حديقة للبشر. وبلغوا الباب الكبير التالي ذو الدرجات السبع. ولما دخلوا المنزل فتشوا في غرفه السبع. فلم يجدوا أحدا,ولم يجدوا ما يخيف. وكان التحدي أن يقضيا ليلة فيه. وعلى منضدة قديمة جلس الأربعة ملتفين حولها وخامسهم قاعد على كرسي بجوار مدفأة. بينما زاراك يقف على رؤوسهم مثل الوحش. ضخم الجثة يخيف الناظر من كبر عضلاته وثقل وزنه ومع ذلك كان رشيقا مثل محار أو قرش في المحيط. الطبيب كارل يتفحص المكان محاولا استكشاف أي آثار تدل على ساكنيه. بينما لينجارد انشغل بإخراج محتويات حقيبته الكبيرة وهي مكونات لتحضير الطعام.

 

أخذوا يتسامرون ويمارسون عدة أنشطة للتغلب على الخوف ثم أتاهم الخوف فجأة متجسدا في ظل واقفا خلفهم ينظر إليهم,والتفتوا إليه كلهم متفاجئين وقاموا من مجلسهم منتفضين متوترين لا يدرون ماذا يفعلون. ونظر زاراكي إلى توم كأنه ينتظر الإشارة. تمتم تود:

 

-إذن البيت المسكون

 

وأتاه الرد من الشبح الواقف أمامهم بعد أن طالت وجهه إضاءة النيران والشموع فكشفت الظلام عنه

 

-أنا بشري

 

وقد كان بشريا من الناحية البصرية فقط,لذا لم يزول الشك لديهم تماما.

 

وأتى السؤال التقليدي

-من أنت؟

 

ثم سؤال نمطي آخر يمت إلى عوالم الرعب الشبحية

-هل أنت بشري؟.

 

رغم أن الرجل -لو كان بالفعل رجلا- أجابه,إلا أن كارل قام يتفحصه بعينيه ويتلمسه بأصابعه بكل وقاحة ليتيقن بعدم وجود تلك الأشياء الهلامية الموجودة في الجثث.

 

أخذ توم يفكر وقد أتى في خاطره أنهما فتشا البيت جيدا.

 

لما جلس واطمأنوا إليه,تجرع شربه من الماء وروى لهم قصة هذا البيت.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[4]

قصة هذا البيت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذات يوم جاء رجل صالح وعرف حجم الفساد المتغلغل في بنيان هذه المدينة وناسها. أصلا ناسها ليس من البشر,إلا بضع عائلات لا يعرف ماذا جاء بهم هنا. كان يتمنى إبادة المدينة من على الأرض لتخليص الشرّ منها. وأشفق على البشر القلائل فيها. لذا استعمل نفوذه الهائل واكتسح المدينة على رأس جيش من الجنود. الجيش الأمريكي ومجموعة متنوعة من أجهزة الدولة أرسلت جنودها؛مركز الأمن القومي,ومركز الشرطة,والمركز الفيدرالي, والمخابرات المركزية.

 

الرجل لم يكن خائفا على نفسه,ولكن الشر لو خرج من هنا من الممكن أن يطال زوجته الصالحة أو أخاه أو أبناءه.

 

وبالغصب والإكراه بنى رجل الخير كنيسة ومسجدا ومعبدا ومستشفى وجمعية خيرية وأبرشية ومدرسة ومكتبة وروضة للصغار والكبار,وملجأ أيتام. والكثير من الأجنحة الأخرى ذات عظيم الفائدة في المبنى العملاق.

 

ومع مضي الأيام تلاشى كل هذا من المكان,وظل المبنى الذي اطلق عليه البيت قائما مثل شبح ذكرى قديمة تدل على ما قد مضى ولن يعود. أما من بالداخل فكأن قبس ملائكي حل عليهم فصاروا لا يموتون حتى ولو تمنوا. لا يطالهم الموت إلا إذا خطت أقدامهم الخارج. وحينها ستطالهم أيدي الشياطين المتربصة لهم بالخارج. إذا دخل أحدهم ساحة البيت محاولا اختراق جدرانه يحترق قبل أن يصل إليه.

 

-إذن الجثث التي تفحصناها

-نعم هي جثث سكان المدينة,وليس شياطين هذا البيت.

 

وقع الأمر عليهم كصدمة أشد هولا مما قد يتخيلوه. وقد أتى الليل.

 

-هل يمكنهم الدخول إلى هنا

-نعم,ولكن لن يستطيعوا إيذائنا,فقط أنتم إلا إذا اخترتم الخلود بيننا.

 

 

 

 

 

 

[5]

غرباء في المدينة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هرب ويليم ويلسون تاركا رفاقه وحتى الطفل وراءه,هو أصلا أحضر الطفل حتى يكون ورقة ضغط عاطفية ورجاء لنجاتهم لعلهم يشفقون على إيذاء طفل إلا أن الأمر تخطى كل تصوراته.

 

وفي المدينة,وفي الليل,وفي الخارج,انبعثت الشياطين من رقادها,ولم يعد حاميا لبشر إلا الله في بيته,وما خارج البيت كأنه رفع يده عنه,البيت في المدينة.

 

وداخل البيت عرف توم ورفاقه أنهم حبيسين هاهنا ربما أشباحا للأبد خير من أن يقعا بين أيادي الشياطين,أيضا للأبد.

 

وعلت الصيحات بأصوات غير بشرية تصرخ وتقول؛غرباء في المدينة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحارة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كانوا كالأشباح لم نزلوا على حارة المحلاوي مهاجمين سكانها,في البيوت وفي المحلات, اقتحموا المخادع وهتكوا المضاجع. وعلت أصوات النصال البيضاء وهي تمضي في الجلد أو القماش,والعصي الغليظة وهي تحطم رأس أو فخار,والأسلحة النارية وهي تفرقع لا تنظر إلى أين تصيب. واختلطت الشظايا المتكسرة للخشب والزجاج مع حديد الخرطوش ومع دماء الجرحى والموتى ومع الأشياء المحترقة لما اضرمت النيران. واشتدت الروائح الممتزجة بين رائحة الدخان السابح فوق أكوام النيران,ورائحة الدماء النافذة من الأجساد,ورائحة البارود المتطاير في الهواء. وأسدل الليل ستاره على سبعة قتلى والكثير من المصابين ما بين كسور وجروح. وحتى بعد أن هدأت أصوات المعركة بددت سكون الليل صرخات النساء وآهات الرجال وبكاء الأطفال,وهدير النيران وطقطقة الزجاج تحت أقدام السائرين,ونباح الكلاب وهي تضرب من أصحابها وقد خيبت ظنونهم في المعركة,وعواء الرياح وهي تمضغ معاطفهم وجلاليبهم أفضل مما فعلت كلابهم مع أعدائهم.

 

اشتد البرد عليهم ولم تنجح النيران التي لا زالت مشتعلة في تدفئتهم,بل أججت النار داخلهم والتي توقدت من هجوم عدو غير مرغوب فيه ولا هو كان متوقع. فهم لا يعلمون سبب المعركة الحامية,وكانت المفاجأة قاسية تسببت في خسائر كثيرة,ولم يسقطوا رجلا واحدا. وشعر ساكني الحارة وحلفائهم من أهالي الحي بالخيبة. وفي الأخير دخل القوم إلى بيوتهم بعد أن لملم المبتلين مصابيهم,ودفن الأحياء أمواتهم,وخمدت النيران أخيرا. ولم تقم أي جنازة أو عزاء في تلك الليلة السوداء.

 

وفي الصباح ذهب كبار القوم ووجهاء الحي والمعلمين وأصحاب المتاجر في مجموعة من عشرين رجلا كل واحد منهم قادر أن يرعب منطقة بحالها وناسها ورجالها,وأن يحضر بنادق آلية وليس خرطوشا,حي يقتل بلا هوادة خير من كرات معدنية قد تميت أو تعمي أو تصيب. وقادر أن يجلب من الرجال أعدادا غفيرة بمثلها حروب. حتى أن الأمن العام توتر في المناطق المجاورة,وبلغ الأمر قسم الشرطة وأرسل إلى أقرب قسم له يهيئهم لطلب الدعم في أي لحظة قد تضطرهم إلى التدخل.

 

كان المعتدين يصرخون بجملة واحدة في صرخات متجاورة ومتتالية ومتعالية حتى كادت أن تغطي على أصوات الاشتباك والقتل والتكسير. “الصعايدة مبيسبوش حقهم”.

وذهب الكبار إلى الحاج إلى بيت الله,الحاج رجب كبير كبراء الصعايدة في حي السرايا, وأكثرهم هيبة وثراءا وقوة,وأكثرهم حظا في نيل المحبة من أبناء قومه من المنيا إلى الأقصر. وبالطبع أكثرهم دراية بغايتهم المنشودة. وكل عائلات الصعيد القاطنة في حي السرايا الرئيسي -وربما حتى الأحياء الكبيرة المجاورة مثل المرج والخصوص والسلام والخانكة- ترجع إليه في خلافاتها وخصاماتها قبل تتطور الأمور وتسيل الدماء. وهي عائلات تنتمي إلى عائلات أكبر؛الطوابية والعربان والهوارة والأشراف وكبرى عائلات البلاد. ولما كان السلام قائما بينهم,لا تطالهم أي مشاجرات أو نزاعات خارج المنطقة. كانت هجمة الأمس حدثا غريبا وغير مستساغ من قبل الصعايدة قبل السراوية (قاطني حي السرايا).

 

-الحق إن من ساعة خناقة عائلة المحلاوي مع عائلة صعيدية من سبع سنوات لم يحدث أي خصام قد يولد إنتقام.

 

-أمال يكونوا مين دول يا حاج رجب

 

سأله أحد كبار الدوابشة (عائلة من أرياف الشرقية ومن كبرى العائلات في السرايا) الذي كان حاضرا في وساطة منه بين المحلاوية (قاطني حارة المحلاوي) والصعايدة.

 

فكر رجل قليلا في صمت,ثم أخرج همهمة غريبة تشي بجهله الذي صرخ به أخيرا

-والله لا أعرف,ولكن اعطيني يومين بالكتير أعرف لكم

 

وفي نفس اليوم في آخر نهاره وختامه وبداية ليله,عاود الصعايدة الكرة مرة أخرى,ولكن كانوا متحضرين لهم هذه المرة. ومع ذلك,ورغم إجتماع نحو مائة مقاتل ضد المعتدين. انهزمت حارة المحلاوي وخسرت فقيدها الأحب ومقاتلها الأشرس رضا زكريا. رغم أن رضا كان على رأس مجموعة قوية,نحو عشرين شابا لكل منهم سجل حافل في الصياعة والبلطجة والخناقات. وعشر رجال من (المحترمين) في الحارة,ولكن مخضرمين في التعامل مع المشاكل من هذا النوع. والبقية (استكمال الستين) هم مجموعة متنوعة من شباب خضر الشوارب,والصبية الذي يمكن أن يقال عنها شبابا,وشيوخ ورجال وكلهم ليس لهم أي بالمشاجرات ولكن دخلوها اضطرارا لأن الخراب حل على الجميع. وأربعين إمرأة وطفلا يلقون الحجارة والزجاج وأكياس حمضية من فوق الأسطح. ورغم كل تلك الإستعدادت وما صاحبها من أسلحة متنوعة. جرح أغلبهم ومات واحد آخر منهم.

 

ولكن من المعتدين شاب وصمته عينه المفقوءة بعلامة مميزة تعرفوا عليه من خلالها, وحفظوا وجهه وتذكره شاب (غلبان) يقال أنه ذو بركة ودائما في حاله. وتذكر أنه ساكن ناحية مطلع الزرائب. وسألوا على الأعور واستدلوا على حارته بدقة.

 

وجمع المحلاوية أنفسهم في حملة كبيرة,ونحو مائتى رجل مسلح وقادر على إسالة الدماء وتلقي عواقب المعارك بصدر رحبة. حيث اشتملت عصابتهم على رجال صعايدة من طرف الحاج رجب,ومن طرف عائلة الدوابشة وعائلات أخرى,وحتى بعض الناس من الزرائب راحوا معهم حتى ينهوا الأمر تماما ولا يجلبوا لأنفسهم وبالا معروف عن حارة المحلاوي أنها قادرة على إنزاله بأي منطقة. من الزرائب إلى الخرائب,وحتى ربما في شارع السرايا حيث قصور الوجهاء والأغنياء.

 

ذهبت حارة المحلاوي وهي في ذهنها بعقل واحد يجمع غايتهم,هو استرداد صورة المحلاوية التي اهتزت منذ رحيل عائلة المحلاوي. وها هي ربما قد تكون انشرخت مع الهزيمة التي لحقت بهم مرتين متتاليتين. عيبة كبيرة أن يهزموا مرتين,وإذا أتت الثالثة انكسرت عيونهم وتمخضت رؤوسهم بالتراب. (تخدعني مرة عيب عليك,تخدعني مرتين عيب علي).

 

وحارة الأعور كانت خالية إلا من أشباحها,بها بيوت لا يسكنها أحد,ولم يبقى الناس الغضبى على حجر إلا قلبوا,ولم يتركوا بابا إلا حطموه,ولا بيتا إلا اقتحموه. ولكن لا شيء. وانقضى النهار وهم كامنين هناك,حتى أتاهم خبر هجوم ثالث على حارة المحلاوي. وبهذا تكون المنطقة (علم) عليها ثلاث مرات متتالية. ماتت هذه المرأة إمرأتين,إحداهما تفجر نصف وجهها بطلقة خرطوش. وهو تجاوز لم يكن ليتجاوزوا عنه. أرسلوا شبابا ليحرقوا كل البيوت فعادوا خائبين وأتتهم اعتراضات معلمين منطقة الزرائب المدعومة بإسم صاحب تلك البيوت. وهو المعلم سيد العطار,أكبر مالك عقارات في السرايا كلها. وكل البيوت الغير مسكونة ملكه. ولم يهتم المحلاوية بذلك مع ثقل إسم الرجل لكن المصيبة التي حلت عليهم أكبر. وذهب عم رزق وهو محسوب ضمن كبار الحارة,إلى العطار يسأله عن بيت الأعور.

 

-الأعور ده ميت من زمان قوي,فقول للعيال عندكم بلاش تهور ويعملوا حوار مع هوا,أو معايا أنا بقى لو ده قصدقكم

-لا أبدا يا معلم,بس الأعور ده ميت من إمتى وفي إيه,ويمكن يكون في واحد غيره ساكن بالقرب من المنطقة؟

-لا يا عم,معنداش لا أعور ولا أعمى. ولو هو عوق كده كنا عرفناه أكيد. مفيش غيره واحد صعيدي من أسيوط,عائلة غير معروفة,وماتوا كلهم في خناقة قديمة مع عائلة المحلاوي من سبع سنين.

 

-يا بويا!

 

وبحث الجميع عن أعور حتى تيقنوا أن لا أحد غيره ذلك الميت,وتوالت الأوصاف واستذكر البعض المزيد من المهاجمين في اليوم الرابع والخامس. وفهم الناس أو خمنوا أن تلك العائلة الصعيدية الميتة,تبغى الثأر رغم مرور سبع سنوات على جثثهم المتعفنة تحت التراب.

 

وتبقت مشكلة واحدة,أن عائلة المحلاوي,وهي من العائلات المؤسسة للحارة,وبإسمها تسمت,تلك العائلة مات آخرهم هذا العام. ولم يبتقى منهم أحد. ولو ظل أحدهم حيا فقد رحل عن المنطقة وعن حي السرايا بالكامل. وكل القاطنين بالحارة سموا بالمحلاوية تيمنا بإسم عائلة المحلاوي ذات السطوة والنفوذ. العائلة البائدة التي تطلب الثأر منها العائلة الزائلة.

 

وفي الليلة السابعة,لم تجد الأشباح أحياءا لتقتلهم,فقد رحل الجميع عن الحارة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحلم الطويل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يقولون أن النوم شقيق الموت,هو الموت الأصغر,وفي الآونة الأخيرة تزوره أحلام غريبة سوداء ينقبض لها صدره. هي التجسيد الحقيقي لمفهوم الكابوس. بلغت قتامتها وبشاعتها أنه تمنى لو يكون ميتا بالفعل حتى لا يحلم بشيء.

 

مكان باهت كالكوابيس,وجدار كبير أسود,قديم للغاية لكنه متين,في منتصفه شق يخرج منه ضوء خافت,تنظر منه وتري الرعب في كل صوره,تكتم أنفاسك ذعرا,تريد إن يتوقف قلبك عبثا,لكي لا يصدر صوتا منه,تريد أن تغمض عينك فلا تطيعك,وتتكرر ذات الصورة هنا, ولكن متمثلة في هيئة باب مغلق.

 

الشق,ومنه توالت الأحلام,أحلام مرهقة.

 

يظل يسقط في هاوية عميقة وفي كل مرة يستقيظ قبل أن يصل إلى قاعها,ليجد نفسه داخل حلم آخر. أو ربما لا يتذكر ما هي عودته من يقظته. وقد قرأ أن معنى هذا النوع من الأحلام أنه يعيش في وضع مزعج منذ مدة طويلة,وربما لا زال محاصرا في هذه الظروف الصعبة.

السقوط السريع يعني أنه هو ينزع يده عن أمر ما,بينما السريع معناه أن أمر ما يفلت من يده. حاول في كل مرة تبيان سرعة سقوطه فلم ينجح سوى بالإنشغال بالذعر الذي ينتابه في كل مرة. لما يستيقظ سيحاول الاسترخاء وتخفيف المشاكل التي تثقل كاهليه,لن يحمل الأمور أكثر مما تحتمل.

 

وتكرر حلم السقوط,مرة ثانية أو مرة أخرى,فلا يعرف كم مرة أتاه ذلك الحلم,السقوط من مكان مرتفع وكالعادة يستيقظ قبيل الوصول للهاوية. شعور مرعب يخالجه قبل السقوط وأثناء السقوط وعند قرب النهاية التي لا تأتي لأنه لا يلمس الأرض.

 

وبالرغم من الفزع الذي ينتابه في كل مرة إلا أن مرات قليلة كان يشعر بالراحة أثناء السقوط,لأنه كان كأنه يطير,أو ربما يسقط بأناقة مثل تلك اللعبة أو مثل غرقى التايتانك.

 

المزيد من السقوط,السقوط من مكان مرتفع,السقوط من الأعلى,وقبيل بلوغ القاع يستيقظ ليكتشف دوما أنه لازال نائما,ولا زال يحلم.

 

ومن السقوط إلى الطيران,ولكن بعد أن كان يسقط في هوة يجهل منتهاها,صار يطير فوق حشود من كائنات لا يتبين ملامحها,أو حتى تفاصيل جسدها.

 

سقوطا مدويا ومخيفا في البداية,ولكن بدأ يسيطر عليه,ويطير,قرأ في مكان ما أن هذا معناه شيء يريد الهروب منه. ولكن هناك بعض العارفين -أو ربما هم دجالين- يقولون أن تأويل حلم الطيران أمر جيد,وأنه يدل على إرادة أو شخصية قوية. ولكن كيف ذلك وكل ما يفعله هو محاولة الإفلات من الكائنات بالأسفل تمد يدها للأعلى في محاولة الإمساك به. قيل ربما هو ثقة في مواجهة التحديات,ولكن أي تحديات يواجهها هنا وأمامه مثل هذه الشناعة متجسدة في أجسام تتحرك!. كان يشعر بخوف أكبر بدرجات من خوفه السابق في أحلام السقوط. وتساءل عن حقيقة ما يحدث في حياته,ثم قرر أنه لما يستيقظ سيعرف.

 

ثم رآه.

 

الكائن الأكثر هولا بينهم,وأضخمهم لو كانت الضخامة مقياس لفظاعة تلك الأشياء. كل الأشياء / الكائنات لم تكن تطاله,إلا هو أخذ يتقافز يكاد يمسك به. ويسير في خط موازي تحته بينما يطير فوق حقل من رؤوس هؤلاء. ارتفعت بطيرانه وأسرع فيه. أسرع نحو السماء محلقا بين دفقات من الهواء البارد. شعر أنه يعشق الطيران الآن لولا أن رأى مخلبه يقفز أمام وجهه. لقد اقترب الشيء منه كثيرا.

 

طار مخترقا قلب السماء,ومتجاوزا هذا الحلم إلى حلم آخر

 

فإذ به يجد نفسه وحيدا في ممر,وذلك الكائن خلفه. لم يتوقف عن الركض حتى بعد أن لامست أقدامه الأرض,وهو يركض خلفه. ويفترض بحسب ما يقول المفسرين أن يركض في الواقع خلف ما يركض خلفه في الحلم. (هل أقف وأواجهه). تسائل. (كلا,مستحيل. ما هو هذا الشيء أصلا الذي يطاردني في تلك الأحلام المتكررة؟). سواء سقوط أو طيران أو هروب.

 

أحيانا يكون معروف يتمثل في أشخاص من حياته اليومية,وأحيانا مجهول لا يتمثل حتى في صورة إنسان أو حيوان. تضايق كثيرة لأنه يعرف أن هذا الحلم يأتي إلى النساء والجبناء فقط,ليس حلما عاديا بل واحد من أكثر الكوابيس ذيوعا في العالم بعد كابوس السقوط الشهير.

 

تكرر الحلم ثانية,وكان ينظر من نافذة في أحد الأحلام,ولم تكن الحشود الهلامية لتلك الكائنات موجودة وقتها,ثم شعر بتهديد خلفه,والتفت.

 

هذا الحلم هو أخافه وأنهكه جسديا ونفسيا أكثر من سابقيه,هو دوما مطارد,دوما يتعرض للملاحقة,دوما في حالة هروب. ولم توقف هذا الحلم عن التكرار,توقف فقط ليحل محله حلم آخر. أو كابوس آخر.

 

كان عاريا,ونظر في المرآة فلم يجد عينيه,ثم بدأت تتساقط أسنانه حتى فقدها كلها ونظر له فمه من هناك خاوي من أي شيء,لا لسان ولا أسنان. وكان يقص أظافره وشعره,أظافر نتنة وشعرات عفنة,وتنمو مرة أخرى لتتساقط بعدها,كأنها ترفض أن يسقطها هو. وانشق صدره كاشفا عن قلبه,وتبعه بطنه التي فتحت فاها في أغواره المعدة قابعة. وأخذت تبصق الكلى والكبد,وتخرج لسانها المتمثل في أحشائها. هنا لم يعد يهتم بتفسيرا الأحلام وكاد أن يجن جنونه. لقد سمع في تفسير ذلك أن ثقته بدأت تنهار,ربما إدارة الشركة تتلفت من بين يديه. يفقد ثقته بنفسه أو سلطته على غيره كلما فقد جزئا من جسده,وقيل عزيزا عليه بالفقد أو بالموت. وفي أقاويل أخرى يرتبط بالجنس الفرويدي,حيث كثافته علامة الفحولة وهشاشته علامة الخمول,أما قصه فيعني فقد الشهوة أو موتها. في حال أن تساقط الأسنان يعد دليل على رغبة جنسية عارمة. وفي رأي ثالث يرتبط بالموت. وأحيانا ما يقول البعض ببساطة أن فقد الشعر هو تعبير مباشر عن الخوف من الصلع, وللأنثى هو قلق من تساقط شعرها. ينصح الناصحين أن يهدأ الحالمين لما يستيقظوا ويفكروا تفكيرا سليما بعيدا عن تلك المخاوف. (لما أستيقظ سأحاول مسح تلك الكوابيس بممحاة).

 

كان معدته مستمرة في البصق,حتى تقيأت طفلا داميا,والطفل أسنانه نامية,وكان يخلعها بنفسها بيد قوية,والشعر ينمو في جسده ليتساقط بجوار أسنانه. شعر بالدوار واستند إلى حائط بجواره,ولكن يديه تفككا عن معصميه لتسقط أمام قدميه. حتى أن هناك أشياء أخرى لم تسلم من التساقط. ولاحظ في جزع أن العفن والتحلل يغزو باقي جسده كأنه مرض ينوي ألا يترك شيئا ورائه باقيا.

 

جن جنونه ونظر بعينين غير موجودتين لباب الغرفة المغلقة عليه,استجمع بقايا جسده,وجعل لنفسه أمسك بها مقبض الباب وفتحه. ليخرج سليما معافيا وعاريا في شارع عاصفة أجواءه, وبارد هواءه. وبرغم البرد شعر أن ذلك أهون,وعرف أنه في حلم آخر مختلف. وعاودته عادته في تفسير الأحلام. كانت هناك عيون تحدق فيه,ولا يعرف هل يشعر بالحرج أم الخوف,ولكنه قطعا يشعر بالبرد يحطم عظامه ويفكك أوصاله. سمع أن معنى هذا الحلم هو تعرية الناس له,وافتقاده للتعبير عن نفسه وشخصيته. فالعريّ حالة قبيحة,ترمز عادة إلى واحد من تلك السموم؛الضعف,الخوف,العجز,الخضوع,الخيبة,الشهوة. الأخير تحتاج أن يكون هناك ممارسة جنسية كي يكون ذلك معناها. مع من يمارس الجنس. هناك وحوش تحدق فيه,وستغتصبه إلتهاما بنظراتها قبل أنيابها.

 

اشتد عليه الخوف والقلق والتوتر,وأخذ يترجف على ذلك بسبب البرد (قد استيقظ وأنا عاري,ولكن لماذا لا استيقظ؟).

 

واستيقظ ليجد نفسه في غرفة مغلقة,مهجورة إلا منه,مظلمة وباردة,أكثر بردا من الخارج. وحيدا عاريا يرتجف فيها. فيها إلفة قديمة مغلفة بالخوف,لكن لا يمكن تذكر ما المألوف فيها؟. هل هي إحدى غرف المنزل؟. منزله! هل استيقظ أخيرا؟ كانت غرفة كبيرة بشكل شاسع,وعميقة وشعر كأنه يغرق فيها. ولكن فجأة ضاقت الغرفة أكثر فصارت مثل كوخ, وضاقت عليه أكثر حتى صارت صندوق ثم استمر صغرها لتتحول إلى علبة فارغة ومقفلة عليه,وحتى صارت ممتلئة بأشياء عديدة بدت له ضخمة,مثل مصباح ومسامير وكتاب لم ينظر إلى عنوانه. ثم صار في علبة كبريت.

 

وبطريقة ما خرج ليكون في ممر به غرف كثيرة مغلقة,فتح أول باب قابله ليجد غرفة أخرى مهجورة ومجهول مصيره داخلها. تراجع وأخذ يفتح أبواب مغلقة,ويحاول فتح أبواب أخرى أكثر استغلاقا. أحد الأبواب عبر به إلى ما يشبه استرجاعا لشريط حياته,وتحديدا في اللحظات المرة بها.

 

-اختبار في المنزل أمام أبيه لما كان طفلا,وسط أفراد من عائلته,كبارها وصغارها.

-اختبار في المدرسة لما كان تلميذا.

-ثم آخر في الجامعة لما صار طالبا.

-اختبار في التجنيد لمعرفة هل هو مناسب للإلتحاق بالجيش أم لا,وسر لنجاته من الخدمة العسكرية.

-اختبار في العمل في أول مشواره المهني,للإلتحاق بوظيفة إدارية مهمة,وفي قلبه أحلام بالنجاح والتفوق.

 

هنا لم يعد يهتم تماما بأي تفسيرات لهذه الأحلام,كان مراده الوحيد,الذي صار أملا بعد أن كان توقعا,هو الاستيقاظ. بدلا من الخضوع لاختبارات من أي نوع. لم يكن يريد اختبار السمات المميزة والمخيفة للاختبار. الخضوع,وعدم الجاهزية لأي امتحان مي أي نوع,ثم عدم الاستعداد حتى لو كان جهازا,وهناك الخوف من الوصول متأخرا,وكذلك الخوف من الاختبار نفسه,صعوبته والمرور به.

 

رجع مرة أخرى للممر,وأختار بابا آخر أدلى به إلى ظلام,تراجع بسرعة,وفتح باب آخر فإذا بعيون حيوانية تنظر له,تراجع ثانية وفتح باب آخر فإذا به يجد نفسه في طريق خالي بالخارج. قرر أن يسير في ذلك الطريق.

 

الآن مكبل بالشلل الكلي والعجز التام! شعر أنه مستقيظ لكنه غير قادر على النهوض أو أن يحرك رأسه أو يفتح عينه أو يبذل جهد من أي نوع.

 

بدأ يسمع ضوضاء تعلوا تدريجيا,وأصواتا تنادي بإسمه,وصويتا وصريخا ونواحا وبكاءا. كل هذا يحدث بإسمه. إن البكاء كان عليه هو. شعر بجسده يتحرك دون أن يملك أي مقدرة على التحرك. تذكر يوما قال له أحدا أن الموت هو فاصل بين نهاية وبداية. لا يعرف كيف؟,ولكن هذا الحلم بالذات,وهو متكرر مثل إخوته,بل والأكثر تكرارا,بدأ يأتيه فيه هاتف خفي يخبره بحقيقة ما هو فيه. والحلم دوما يأتيه كأنه ذكرى ما.

 

وبطريقة ما أدرك الحقيقة.

 

كلهم موتى .. كلهم وهم,وشعر بكراهية الموتى تجاه الأحياء. وتذكر يوم انزل إلى القبر وأتاه هاتف من قبر مجاور من فم ميت وسعيد. يقول (لأنكم أحياء ولأننا موتى).

 

إنه ميت.

 

مات ويحلم بالكوابيس!.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الغرفة تحت التراب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]

بدأ يتحدث الناس عن اختفاء الناس الآخرين,وظهر خوف واضح في العيون أن يأتي الدور على أحدهم ويصير من الآخرين,ولما تظهر حادثة اختفاء أخرى كل واحد يتمنى أن لا يكون هو التالي. واشتعل الغضب بين الأهالي وأخذ يبحثون في البيوت والمخابئ,ويحققون مع الجيران والأصحاب,ولم يقعوا على نتيجة أو حل للأزمة الواقعة عليهم.

###

كثرة الإختفاءات بما لا يطاق,وتعددت الآثار الدامية تدل على الأحداث الدموية الواقعة في أماكن مختلفة,المرأة التي شق وجهها على الطريق,الرجل الذي قطع رأسه,والشاب الذي يتبول وقد استقر فيه موضع ضربة فأس بدلا من قضيبه.

###

أثناء الهرج والمرج الحادث في ساحة القرية الرئيسية,على حوافها كان الفتى يركض وشقيقته تلعب معه تحاول أن تمسكه,غير عابئين بما يحدث في البعيد عنه. وبدا لهم القاتل مجرد شبح ليلي يخافا منه قبل النوم,ويتلاشى رعبه من طلوع الصباح,والشمس الآن صارت في كبد السماء تحرق جميع أشباح النهار. لا يوجد أشباح في النهار,هكذا فكر الفتى وهكذا تحول القاتل المتسلسل إلى مجرد شبح وهمي. وفي الوقت ذاته يتحرك شخصان,الأب المسكين وسط الحشد يبحث عن طفليه وقد بدأ الذعر يتسلل إليه. والسفاح يطارد الطفلان دون أن يشعران مهنئا نفسه بالحصول على ضحيتين في صيد واحد.

###

جن جنون القوم وخاصة بعد اختفاء الطفلين الذي كان ثامن حادث اختفاء لأطفال,وجرى اتخاذ إجراءات صعبة في تمشيط كل المنطقة من أجل العثور عليه,وتلوح في الأفق تصديقات وتأكيدات على حقيقة وجود السفاح كما تتحدث التحقيقات. كان التفتيش والبحث يتم على قدم وساق من قبل أبناء القرية وبعض سكان القرى المجاورة وأفراد الشرطة وحتى أن مؤسسات خيرية بعثت أعضاءها من المدينة.

###

في الليل خلت البيوت من سكانها,وخلت الشوارع من ناسها,حيث ذهب كل أبناء القرية وبصحبة المتطوعين من فئات المختلفة,لتمشيط الغابة وهم على كامل الإستعداد من سلاح وذخيرة وكلاب وعربات ومعدات تسلق وصيد من فخاخ وحبال وغيره,ومن لا يملك سلاحا ناريا جاء متسلحا بعدة المطبخ أو الجزارة من النصال البيضاء. وباءت جهودهم جميعا بالفشل.

###

أرسل هوك رسالة يطلب فيها مساعدة من رفيق له في المهنة,سفاح لا يشق له غبار,لمع نجمه في مدن الصقيع والضباب وعاصمتهم لندن. قتل خمسة نساء حتى الآن,ولكن بالرغم من أنه لم يصل حتى إلى ربع من عدد الضحايا لـ إلا أنه حقق شهرة منقطعة النظير.

 

لما خرج وجد فتاة,كأن الأطفال فقط يخرجون للبحث عنه ويضيعون من أسرهم آتين لحتفهم. استقر الفأس في رأس الطفلة,وأمسكها من قدمها يجرها إلى الغرفة.

###

وفي الغابة بدأت مجموعة متفرقة من الأشخاص تسأل عن الأشخاص الذين يخصونهم,أي أقاربهم أو أصدقائهم أو معارفهم ممن ذهبوا معهم للبحث. ليكتشف الناس وفرق البحث أن شطرا منهم اختفوا في الغابة. ودلت بعض الآثار على أن السفاح اخترقهم.

 

[2]

في القبو تراكمت الجثث,كان يعرفها جميعا,هذا جون الأخرق ينظر له وقد فقد إحدى عينيه, وهذه سالي لازالت جثتها طازجة وعلامات الخنق الوتري على عنقها. الأم المحروقة وفي حضنة تفحمت جثة رضيعها.

 

قبو مخيف مظلم بارد,تدفأ بالأجساد الدافئة لطزاجتها لذوي الميتات الحديثة,ماتوا جميعهم على أيديه. وكان يخشى من برودة القبو فيسرع بتدفئته بإضافة جثة أو إثنتين.

 

رأى أدورنو الأحمق ولازال المسماران في عينيه,ورأى ميلكا وهيلجا وميغيل ونومان, الرفاق الأربعة الذي قطع أوصالهم,وبالرغم من أن أطرافهم تفرقت,إلا أنه لم يقم بالتفريق بينهم. هو يكره التفريق بين الأحباء,وهناك عائلة أضرم النيران في بيتها لكي يمتزج اللحم المنصهر مع بعضه فيصير جسدا واحدا. وطرق الربط كثيرة؛رؤوسة تراصت متجاورة,أو أشلاء خطلت ببعضها,أو دماء امتزجت معا من ثقوب تنتمي إلى أجساد مختلفة,قبل أن تحدث وحدة الدم بالمعنى الحرفي. ذات مرة ربط مجموعة من النساء برباط فعلي,وتر شده على رقابهم وصارت الواحدة تفدي أخريتها -أختها أو إبنتها- حقا برقبتها,ولكن دون جدوى. كلهن ماتوا ليظللن معا إلى الأبد.

 

لما لم يسع القبر بعض المقبورين,هناك أجساد دفنها في التراب وبذلك توحدت مع بعضها, هذا غير كون القبو / القبر نفسه وعاءا كبيرا يضمهم جميعا ويوحد بينهم,هي وحدة الموت ووحدة المكان في نفس القبر مدفونين أو غير مدفونين,ووحدة القتل فكلهم أموات بين أيديهم.

 

كان يريد أن يتذكر بقية الأسماء؛جاي أو ريد أو نكلرس أو فيونا. أسماء كان يعرف أنها لأصحابها,وأسماء يضيفها هو من أجل أن يتعرف على ضحاياه أكثر. وهو لا يسميهم ضحايا.

 

وكانت هناك ثلاثة فتيات ذوات أسماء غريبة عليه,ميسون وميساء وميسة,وقد شقق وجوههن دون أن يدري لماذا أطلق أسماء مثل تلك عليهن,ولكن أقله يعرف لماذا قتلهن.

 

هناك العديد من الجثث ذوات حرف الميم في أوائل أسماهم؛مايكل,ميغيل,ميشيل,ميلسون, ماري,مانويل,موج,ميغال,مينا,مورا,مارجريت,مابي.

 

ونظر على جانب فوجد أسرة كاملة من إخوة وأبناء وآباء وزوجات لم يفرقها القدر في حياتهما,ولن يفرقهما هو في مماتهما. للأسف لا يوجد مكان يتسع للمزيد من تلك الأسرة. القبو مكتظ بالجثث.

 

وهناك ريجينا الحسناء التي لم تعد كذلك,وبعد رحيل جمالها,وقد كانت أجمل من قتل,جلب لها والدها بعد عام من مقتلها,وهي من أوائل ضحاياه,ليكف أبيها عن البحث عن إبنته ولينضم إليها. هوك يكره أن يفرق بين الأحباء.

 

[3]

طرقات قوية على الباب,نظر هوك مصدوما بالأمر غير مصدق له,وفأس يشق لوح الخشب المشكل لبابه. بضع دفعات أخرى. ضربة فأس ثانية. وسرعان ما يتهاوى الباب بقوة محدثا دويا معبرا عن سقوط السفاح في أيدي الأهالي.

 

قام هوك يمسك بندقيته ولكن الأهالي كانوا قد ملئوا المنزل,ضغط الزناد مطيحا برأس أحدهم,ليبادله آخر برصاصة استقرت محتوياتها المعدنية في معدته. وهجموا عليه وأسقطوه على الأرض بعد أن أطاح بعنق واحد وشق رأس آخر. ضحاياه ثلاثة,ثم صار هو ضحية ثلاثمائة رجل غاضب. قام أحدهم بضرب الفأس في منتصف ركبته ليستقر هناك لا ينزعه أحد. استقرت عدة ثقوب في ظهره بعد نزع النصال منها ليضرب الفراغ بدماءه إلى الخارج. خلعت ملابسه وتم جره سحلا على الأرض ذات الحصى. وأخذت النسوة تنثر الزجاج المكسور أمام الطريق المسحوب إليه,حتى يمر جسده عليه,وتستقر الشظايا مولدة جروح جوار جروح.

 

الأطفال كذلك يجرون وراء أهاليهم يضربونه بالعصا ويرمونه بالحجارة,حتى أدموه من كل مكان.

 

لما بلغو المكان الذي يقصدوه كان هوك قد فقد ضمن ما فقد عينا. لم يكن يهتم. فقد إهتمامه بأي شيء. فقط لما عرف بما هم موشكين عليه صدم وبلل نفسه بعرقه وبوله.

 

[4]

حبسوه مع ضحاياه,سيموت نزفا أو اختناقا,وأحكموا إغلاق المكان عليه,بعد أن أحكموا ربطه جيدا حتى لا يتسنى له أي حراك. فكر أحدهم أن يكتم أصواته بكمامة ولكن رفض الآخرين مبتغين التمتع بصرخاته.

 

وقد كان وبلغتهم صراخته المعبرة عن أن الجحيم قد انفتح عليه بابه من تحت الأرض. ومن عينه الباقية التي كانت نافذته الوحيدة للعالم. رأى هوكر أشباح موتاه تؤنس وحدته. صرخ حت صمتت صرخاته. وفي الصباح الباكر وجدوه ميتا,نازفا أو مختنقا أو خائفا. الأشباح لم تكن موجودة إلا في خيالاته. وانتهت أسطورة هوك السفاح بشكل سيظل عالقا في الذهن مدى كانت العين تبصر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المنقذ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]

دعاها التاجر للدخول,وقفت على الباب تنظر إلى السلع المعروضة ثم خمنت أن بالداخل سلعا أكثر قيمة بالتأكيد,والرجل يدعوها للدخول. ولما دخلت لم يخب ظنها,ووجدت من التحف ما يسيل له لعابها. وسال لعاب التاجر عليها لما أخرجت تفاحة وأخذت تقضمها وتمضغها وتبلعها في تأني انعكس بصورة شبق لدى التاجر. ترتدي حلة زرقاء من الجينس وقميصا ذو أزرار تغلقه على صدرها وبنطال ذو أزرار تزينه على مؤخرتها. وما بين ذهاب وإياب بين المؤخرة والصدر وقعت عينيها على عينيه. فخرجت على الفور.

 

وتحت شمس الظهيرة وقفت تستنشق الهواء الخانق بدوره والغير الصالح للاستنشاق,لكنه الموجود وعليها أن تتنفس على أي حال. لازال في عينيها بعض نعاس من سهرة أمس في الاحتفال القومي,وقد كان احتفال مزدحم حصلت فيه جريمة قتل,وتاهت عن حبيبها.

 

لكنها لم تكن من النوع الذي يخاف بسهوله,غريبة في مكان غريب بعيدة عن موطنها,بعيدة عن أصدقائها القابعين في الفندق يتأملون المناظر الجميلة من شرفاتهم دون أي تجوال حقيقي بأقدامهم,بعيدة عن والدها الذي اصطحب والد هاري حبيبها في رحلة عمل. ومنتشية بفكرة أنهم قلقين عليها الآن خاصة هاري بعد أن أغلقت هاتفها فلا يدرون كيف يصلون إليها وهي لم تعد بعد إلى الفندق.

 

كان المهرجان هذا العام في أوج تألقه,مزدحم بالزائرين المبهورين وبالعروض المتنوعة.

وقف هاري منبهرا كطفل وجد أمامه صندوق ممتلئ بالحلوى من كل الأصناف,فيتصارع في نفسه بماذا يبدأ,هكذا شعر هاري وقلبه يطرب في صدره,وجسده يرتعش من الفرحة, شاب صغير بالكاد تخطي العشرين من عمره ببضع سنوات,تكاد عيناه تدمع من شدة سعادته بجنة الأحلام التي أحضره أباه فيها. وقد كانت ساندي تؤدي دور أمه ببراعة دون أدعاء أو تمثيل,فهي تحبه,تعشقه,وترعاه,وهو أعطاها جنسا جيدا ليلة أمس,وهو قلق عليه الآن. كأنه طفل تاه من أمه. كانت حازمة معه,وهو يلبي دوما مطالبها أو أوامرها بمزيج من الحلم والخنوع. هي أكبر منه بثمانية سنوات,في السابعة والعشرين من عمرها. وهي في ذروة جمالها. لاحظت أن هناك شاب يراقب تقليب لسانه لقطع التفاح في فمها. فابتعدت. (ما بال هذه المدينة المسعورة جنسيا).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[2]

كل ما يختلج في قلب هاري هو لا شيء بالنسبة لما يشعر به مارتن الآن,حتى إنه لا يأبه أين ذهب صديقه جون,لقد أضاع ساعتين فحسب في مشاهدة كل العروض قبل أن يجربها,ولكن بلا جدوى فالعروض كثيرة جدا في هذا المهرجان الجبار.

 

أنتصف الليل ووجد مارتن نفسه يراقب الألعاب العملاقة وهو جالس علي الضفة الأخرى من نهر المرح,وحيدا تحت شجرة ينظر للأضواء المتلألئة متأملا الألعاب في انبساط وطرب,القطار السريع,العجلة الرأسية,القرص الدوار,برج الهلاك,هذا غير المسرح والسيرك وبيت الرعب وسيارات التصادم وسيارات السباق,ومخيمات السحرة والعرافين,وسباق الخيول والألعاب الثقيلة كمبارزة السيف ورمي الكرة الحديدية وجر العربة,والألعاب الخفيفة المدهشة وحفلات الطعام والرقص.

 

الكثير من صور المهرجان ظلت تتوالي في رأس مارتن السعيد,متخيلا يوما آخر سيقضيه غدا في الجنة,ارتخي جسده ممدا علي العشب ناظرا للسماء,ثم أغمض عينيه والبسمة علي شفتيه ونام علي صوت موسيقي تعزف في عقله. وجد ساندي تجلس على بطنه,وتميل بوجهها إلى وجهه وتعطيه قبلة رائعة. ومارسا الجنس في هذه القطعة المتوارية من الأرض الفسيحة.

 

صرخات امرأة

***

أخذ هاري يجول بها لإلتقاط صور عند المسبح,والحديقة,والملهى,والملاهي,والنهر,والجسر ,والقصر,وغيره من معالم المدينة التي تجمع بين القبح والجمال. وها هم ينظرون إلى نصفها الجميل. ثم افترق عنها للمرح قليلا مع أصدقائه جون والآخرين. ثم أتته نائما وقضيا وقتا ممتعا بين جنبات الحديقة متسترين بالأشجار والأعشاب العالية.

 

صرخات إمرأة

 

لما وصل المنقذين من الرجال لها,وجدوا إمرأة مخنوقة بقبضة قاتل لا يرحم,ولم يشفع لها جمالها. أخبرت ساندي مايكل أنها ملت من المهرجان وقد صار حانقا بعد جريمة القتل,وأنها ستبتعد عنه ذاهبة إلى السوق. طلب أن يأتي معها لكنها رفضت. وذهبت وحدها. وسحرها السوق ولم تستطع العودة منه. لم ترد أن تتصل به,وباتت ليلتها في فندق. وفي الصباح مرت على بائع تفاح لتشتري تفاحا,وأخذ البائع يحدق في التفاحتين البارزتين من تحت قميصها. ابتعدت عنه ولم تشتري سوى تفاحتين بعد أن نقدته أكثر من ثمنهما.

 

 

 

[3]

تمشت قليلا هنا وهناك,وعند وقت العصيرة وجدت نفسها تدلف في زقاق ضيق وهادئ ومنعزل عن بقية السوق قابع في أغواره. وفيه حانة,دخلت وطلبت كأسا,ولما أخذت ترتشفه لمحت الساقي وهو ينظر إلى رقبتها التي تنضخ بالإثارة والدماء كلما أمالت رأسها لتسكب النبيذ الأحمر في جوفها. نقدته الثمن ورحلت. (كلهم كلاب مسعورة).

 

بعد عدة مداخل وحواري وزقاقات,أدركت أنها ضائعة بالفعل,وقد ابتعدت عن المهرجان وعن السوق. بدأت جريمة أمس تعود إلى مخيالها,وقد تأثرت من اقتراب المغيب فشعر بشيء من الخوف. الآن هي وحدها في منطقة ما واضح من جدران بيوتها ومزابلها ونوافذها وأناسها القليلين الذي لم يعد ظاهرا أحد منهم. واضح أنها منطقة خطرة ومتدنية وقد تسلب أموالها,أو تقتل في أي لحظة. وربما لن يجدوا حتى جثتها. أمسكت هاتفها وأجرت اتصالا وهي تتنهد مرتاحة أنه يوجد إشارة. (لسنا في فيلم رعب هنا). وقبل أن يأتيها الرد سُحب الهاتف من يدها على غفلة من أمرها. ومحاصرة بين أربعة شباب من كل إتجاه. في زقاق ضيق لا فرار منهم. أولهم وهو حامل الهاتف وربما قائدهم,ألقى بالهاتف على الأرض وأخذ يطرقه بمضرب كرات معدني حتى سحقه تماما. تحلقوا حولها وضيقوا عليها. واحد يمسك مضرب والآخر مطربة وإثنين أخرجا سكينيهما. شعرت بذعر حقيقي. أمسكت الدموع من عينيها حتى لا تثيرهم أكثر للإستمتاع بتعذيبها. حاولت أن تكون صامدة باردة توحي بأنها لقمة غير سائغة. لن تكون هينة أو طيعة. ولكن تجمدت حين نظرت وعرفت أنها ميتة. نظراتهم تؤكد ذلك. وأنقض ذوي السكين,ورفع المضرب والمطرقة. وسقط الأربعة قتلى بسرعة خاطفة. أربعة رصاصات استقرت في الرؤوس أو الصدور,لا تدري. وتناثر الدم عليها,واختلط بدمعاتها ولكنها مسحت الدم والدمع واطمأنت أنه تم إنقاذها. نظرت لمنقذها فوجدته شابا ضخما في الثلاثين من عمره. قوي البنيان. ويتضح جليا أنه ماهر في استخدام المسدس تشهد على ذلك الجثث الأربعة تحت قدميها. وجهه يمزج بين الوسامة وسحنة مخيفة. سألها

-هل آذوك؟

-لا

 

شعرت بالبرد,فخلع سترته وغطى بها كتفيها,امتنت لذلك. أخرج من حقيبته زجاجة مياه. وأعطاها لتشرب. أمسكت الزجاجة كأنها تمسك المياه داخلها شاعرة بمزيد من الأمان. خمنت أنه سائح مثلها. أجلسها على حجر. وقف خلفها كأنها يحرسها. أخرج هاتفه وناوله إياها

-هل لك أحد تتصلين به؟

 

ابتسمت

 

شعرت بموجة عارمة من الامتنان. ذلك هو المنقذ بحق,دارت تلك الخاطرة في رأسها,بينما هو يفكر في شخص ما. قال بصوت مسموع كأنه يحادث نفسه كاشفا عن أفكاره

-أنقذته لقتله

 

كانت قد رفعت الزجاجة تعب ما في جوفها,وجنجرتها تتحرك مع الشرب والإرتواء,وهو ينظر إلى عنقها من سبائك الذهب الأسود الماثل في خصلات شعرها. أو هي خيوط من الحرير. في لحظة ما,وقبل أن تفهم معنى كلماته,ضغط بيسراه على رقبتها معتصرا إنبوب الهواء ذاك الذي فتنه. مثبتا ضحيته بيمناه لا يتيح لها سوى يدها اليسرى تمسك بيده اليسرى محاولة نزعها عن رقبتها. الحياة تعتصر منها,وإن كان أعطاها الماء فهو يسلب منها الآن الهواء. رأسه ملتصق بوجهها. لا تفهم ولا تصدق. صراع مرير تخوضه الآن. ووسط غشاوة الظلام,ومن بعيد أتاها صوته

-لم أكن لأتركهم يفسدون هذا الجمال.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الموز بالملح

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تراخى محمد وولفاغن على مقعده في الطائرة وقد ركبها وعقله متأجج بالأفكار حتى كاد أن ينفجر, هاربا من الناس راكبا الطائرة مستمتعا بمقعده مسندا رأسه,شاعرا بالأرض التي تبتعد عنه بينما تصعد الطائرة محلقة بين السحاب. متمنيا أن تطأ قدمه الأرض ثانية,ويمخر رأسه في التراب أو يصدمها بالحجارة منتشيا بفرحته للوصول.

 

ضغط زر استدعاء المضيفة ولما أتته طلب منها الغداء

-هل تريد شيئا محددا؟

-أي شيء,اختاري أنت لي.

-حسنا

 

ثم أتته بطعام فاخر فرفضه طالبا أربعة ثمرات موز وقليل من الملح. تعجبت المضيفة لطلبه واسمها إسراء. وذهب إسراء تحضر ما طلبه منها. فعادت له بأربعة موزات وحبة ملح. الملح كان في وعاء صغير جميل قام بفتحه وسكب ما فيه على ورقة وضعها على فخذه.

 

كانت إسراء قد ذهبت إلى قمرتها,بينما محمد يقشر الموزات الأربعة,وسكب الملح الذي على الورقة في كف يده اليسرى. غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض. إيناس المضيفة الثانية وصديقة إسراء لاحظت ذلك. فتعجبت من رجل غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض. فقررت أن تسأله لماذا غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض. فسألته

-لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض؟.

 

سألها:

-هل تسأليني لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض؟.

 

قالت له:

-نعم أنا أسألك لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

قال لها:

-لن أجيبك لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قالت له:

-إذن لن تجيبني لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قال لها:

-لا لن أجيبك لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قالت له:

-حسنا طالما لن تجيبني أجيبك لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض. سأشتكي فيك إدارة الطائرة وأقول لأنك غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قال لها:

-حسنا اذهبي وأخبري من تشائين أنني غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قالت له:

-سأذهب وأقول أنك غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قال لها:

-اذهبي وقولي أنني غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

وذهبت. وفي مقصورة القيادة تحدثت المضيفة إلى مساعد الطيار,قائلة له الحكاية:

-ثم أتيت لهنا لأخبركم أن لدينا راكب غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قال مساعد الطيار:

-إذن لدينا راكب غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قالت المضيفة:

-نعم لدينا راكب غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قال الطيار:

-إذن لدينا راكب غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قالت المضيفة:

-نعم لدينا راكب غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قال شخص آخر لا يعلم أحد من أين جاء:

– إذن لدينا راكب غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قالت المضيفة:

-نعم لدينا راكب غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

وقام مساعد الطيار والرجل الذي لا يعلم أحد من أين جاء وقابلوا رجل آخر في الطريق إلى الرجل طالب الموز بالملح. وقف الأربعة مساعد الطيار والمضيفة الجميلة والرجل الذي لا يعلم أحد من أين جاء والرجل الآخر أمام صاحب الموز والملح.

 

قال له مساعد الطيار:

-أنت الرجل الذي غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قال له:

-نعم أنا الرجل الذي غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قال له:

-إذن أنت الرجل الذي غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قال له:

-نعم أنا الرجل الذي غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قال مساعد الطيار:

-لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض؟.

 

قال الرجل:

-أنت تسألني غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قال مساعد الطيار:

-نعم أنا أسألك لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قال الرجل:

-وأنا لن أجيبك لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قالت المضيفة:

-إذن أنت لن تجيبنا لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قال الرجل:

-لا لن أجيبكم لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قالت:

-حسنا ونحن لن نمررها لك أنك غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

وقال مساعد الطيار

-نعم نحن لن نسكت على أنك غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

وذهبوا,وأتوا معهم الطيار,ترك الطائرة تحت القيادة النظام الآلي,وقابلوا رجل عجوز في الطريق,فال مستغربا:

-يا إلهي,الطيار يترك الطائرة!

 

قال له الطيار:

-لا تستغرب يوجد راكب غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

قال العجوز:

-حقا! هل يوجد شخص غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

قال الطيار:

-نعم يوجد شخص غمس الموزة الأولى بالملح وألقاها على الأرض. وغمس الموزة الثانية في الملح وألقاها على الأرض. ثم غمس الموزة الثالثة في الملح وألقاها على الأرض. فغمس الموزة الرابعة في الملح وألقاها على الأرض.

 

وذهب الجميع؛الطيار ومساعد الطيار,والرجل الآخر والرجل الذي لا يعرف أحد من أين جاء,والرجل العجوز,والمضيفة الجميلة,وصديقتها الجميلة أيضا. وقف السبعة حول الراكب وسط نظرات بقية الركاب.

 

شعر محمد بخطورة الموقف,وأدرك أنه محاصر,ولا مفر من الأمر. نظر له الطيار وبطريقة ما عرف أنه ينوي أن يسقط الطائرة إذا لم يجيبه.

 

سخر منه محمد قائلا

-لن تنجح,فنحن محبوسين هنا إلى الأبد. في رحلة بلا وجهة ولا عودة ولا نهاية.

 

سأله:

-لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قال له:

-هل تريد أن تعرف لماذا غمست الموزة الأولى بالملح وألقيتها على الأرض,وغمست الموزة الثانية في الملح وألقيتها على الأرض,ثم غمست الموزة الثالثة في الملح وألقيتها على الأرض,فغمست الموزة الرابعة وألقيتها على الأرض.

 

قال نعم

 

أجابه:

-لأنني ببساطة لا أحب الموز بالملح.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بين السفاح

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]

يقتل.. يقتل.. يقتل

***

Bane

***

B

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدنيا تدور حولها غير مصدقة ما يحدث أمامها,جسدها عاجز عن الحركة,حلقها عاجز عن الصراخ,عقلها عاجز عن التفكير .. مصدومة تري أخاها يُقتل أمام عينيها.

 

ما هوّلها أكثر هو القوة المستخدمة من قبل هذا العملاق في قتل أخاها,وفي لحظات تجلي لعقلها أدركت أنه حتى لو جاء أحدهم لإنقاذهم لن يتمكن من ذلك أمام القوة الجسدية المخيفة والمستحيلة الماثلة في الوحش الذي أمامها. رغم أنه رجل ولكن كم رجلا يحتاج لقتله؟!.

 

وفي لحظة تجلي أخرى أدركت أن أخاها مات رغم أن جسده مازال يرتعش من وحشية الميتة التي انتزعت بها روحه.

 

وتحت ستار الليل تسمرت متحيرة في صراع ما بين رغبتها للنجاة بنفسها من الرعب الماثل أمامها,وميلها في يأس للموت على يديه بعد فقدان أخيها. وتكشف في عقلها خيار ثالث صار مستحيلا بعد أن حدث ما حدث,وهو ماذا لو لم يذهبا إلى حفل صديقهما الأحمق؟ أو لم يمرا بسيارتهما من هذا الطريق اللعين؟.

 

ولكن قد يكون النجاة أيضا خيارا مستحيلا,وفي لحظة تجلي ثالثة أدركت أن هناك فرصة للنجاة تاركة جثة أخاها الأكبر خلفها,لتنقذ سنوات عمرها الإثنين وعشرين من النفاذ على يدي هذا القاتل الذي لا يرحم. خفتت مخاوفها وهي تفكر أنها ليست في فيلم رعب,قد يكون القاتل بقوة لا تصدق,إلا أنها لديها مقدرة لا تصدق على العدو بشهادة كل من في مدرستها وناديها ومنزلها,أصدقائها وعائلتها ومعارفها,وحتى الكارهين لها. يمكنها أن تجري ولن يلحق بها. تبددت آمالها حين فُجعت بالصورة التي وجدت عليها ساقيها,مدركة أنها حتى لو نجت ستظل عاجزة مدى حياتها,ولن تجري مرة ثانية. تصاعدت مخاوفها مرة أخرى من الأصوات المقززة الصادرة عن شيء ما يفعله القاتل في جثة أخيها وهي غير قادرة على النظر. تمزيق؟!,ربما.. لكن متى فعل ما فعله بساقيها؟

 

تحول التعبير عن ذعرها بالصراخ إلى صورة رعشة ترجف جسدها بلا رحمة أو هوداة,ولا لين حتى في تخوفها,وبعدها بدقائق أدركت أن رعشتها بسبب الخوف تحولت إلى رعشة بسبب الإختناق,مع أن خوفها لم يتبدد,بل زاد مطلا من عينيها الجاحظتين في وجهها المتلون بألوان الموت والقاتل يضغط معتصرا رقبتها. لا تدري أيهما سيقفز أولا عينيها أم لسانها.

تضرب بيديها محاولة نيل قدر ضئيل من الهواء لجسدها الذي ينتفض متذوقا مرارة الموت. حتى قدميها التالفتين أخذتا ترفس لتساعدها في عمل بلا جدوى. وعند حشرجة الموت الأخيرة بينما تغيب حدقتى عينيها عاليا,تذكرت للمرة الأخيرة إسم أخيها .. بين Bane. لا تعلم أن القتيل يتشارك مع القاتل في اسمه.

 

A

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ينتظر الباص يراوده بعض القلق في محطة يخيم عليها الصمت والظلام,هو قلق يشكل المحطة الأولى في مسار الرعب,حيث المرور البدء بالقلق ثم التوجس مرورا بالخوف وصولا إلى الذعر البهيمي. اسمه ماثيو أو مات,أو كان اسمه مات لأنه لا يعلم أن الكلمة في العربية تعني الفعل الماضي المشتق من مصدر الموت,وهو المصير المنتظر له في نهاية انتظاره الطويل.

 

أخذ يتأمل اللافتة القديمة والمتهالكة التي تُعلن عن منتج مرت عليه عدة سنوات,لم يعد تم إنتاج هذا النوع من المخبوزات المغلفة الآن,ولا أحد يأكل هذه النكهة أصلا. ويبدوا أن شركة الإعلانات لم تجد مشتريا لهذه اللافتة من حينها فلم تكلف نفسها عناء وثمن أن تزيل الإعلان القديم وتترك مساحة بيضاء لأي مشتري. كأنها تعلم أنه لن يوجد مشتري. بالطبع لن يوجد مشتري,أول شرط لوجود لافتة إعلانية هو أن تلفت إنتباه المارة,ولا يوجد أي مارة في هذه المنطقة من العالم. شعر أنها منطقة منفصلة تماما عن بقية العالم. لا يوجد أي تغطية تصل إليها,لا هاتف ولا إنترنت ولا شيء. الإتصالات والمواصلات. الثورة التقدمية للإنسان لا تصل إلى هذه المنطقة. كيف سيعود إلى منزله؟ لا يعرف,يمكن أن يمشي لأقرب محطة مأهولة ولكن بدت تلك المحطة المهجورة -مع كل ما تحمله من أفكار مفزعة- أكثر أمانا من أن يمشي في هذا الطريق الغارق في الظلمات. هو أيضا غارق في الظلمة ولكن يوجد طوق نجاة متمثل في مصباح وحيد فوق رأسه يعطي ضوءا خافتا جدا,أخفت من أن يبدوا حقيقيا. خافت لدرجة أن القمر الشاحب خلف الغيوم الملبدة يعطي إحساسا بأنه مضيء أكثر منه. بل وقد يكون كذلك بالفعل. خافت لدرجة أنه بالكاد يرى أصابعه. خافت ولكنه يبقى ضوء,خاصة وأنه يشتد نصوعا في بعض اللحظات جاعلا مجلسه أشبه بجزيرة مضيئة وسط عتمة الليل. في تلك اللحظات يستطيع تبين بعض المعالم حوله في هذا المكان الرهيب.

 

بالكاد يرى الحقيبة التي في يده وبعض المعالم من حاوله,جالسا وحيدا على أريكة قديمة بالية لا تصلح سوى للجلوس,تحت مظلة إنتظار حافلات,جالسا ينتظر الموت. من بين جميع خواطره المفزعة الأخيرة أرعبته بحق. جالسا ينتظر الموت,فكر أنها تصلح عنوان لرواية رعب,نعم,لما لا! فجميع العبارات السخيفة تصلح الآن في الرعب أو الكوميديا. والوضع لا يبشر بالكوميديا,إذن فهو الرعب. رواية رعب يكون هو بطلها. إزداد خوفا وتمنى لو يكون بطل رواية فانتازيا. ربما يكون هناك نجاة في الفانتازيا لأن جميع أبطال الرعب يموتون. حتى الأريكة التي جالس عليها تصلح تحفة رعبية آتية من ديكورات أفلام الرعب. قطعة طويلة من الخشب,تصلح أن يجلس عليها الكثير من الظلال الغير موجودة فلا بشر سواه في المحطة. غير مريحة,ليس لها أي مسند خلفي يتكئ عليه بظهره أو جانبي يتكئ عليه بذراعه. مجرد قطعة من الخشب لا تصلح إلا للجلوس فقط.

 

ما الذي جاء به إلى هنا؟ جسده غارق مكانيا في الظلام,وعقله غارق ذهنيا في خواطره المرعبة,عاجز عن التفكير عن السبب الذي أودى به إلى هذا الجحيم الأسود من هذه الليلة. يأمل فقط ألا تزداد سوادا بموته. رغم ليلته السوداء وحياته السوداء إلا أنها قد تزداد سوادا بنهايتها. ويعلق سطحا أسود مزين بكلمة النهاية مثل الأفلام. يعلق على شاهد قبره وعلى اللافتة الإعلانية. إبتسم للفكرة الأخيرة. أخيرا ستجد الشركة مشتريا,إنه ملاك الموت يريد أن يفتح تعاقد جديد بشأن هذه اللافتة. أخرج هاتفه في محاولة أخرى “ربما الواحدة بعد المائة” لفتح الإنترنت أو الإتصال بأي أحد. ليخرج من ظلمات الخوف والموت المحيطة بأفكاره. لو حدث شيء سيء له فلن ينقذه هاتفه,ولكنه سيعطيه أنس وصحبة قبيل موته مثلا. لا يريد أن يموت وحيدا,وربما مجهولا في هذه المنطقة اللعينة.

 

بدأ ذعره في إزدياد وهو يفكر في الموت وأخذ يضغط أزرار الهاتف في هيستيريا,ولكن بلا أي فرصة لعودة الإتصال. غرق في ذعره وكان الطوق الذي أنقذه من غرقه هو عودة الضوء الساطع من المصباح الوحيد فوق رأسه. تحول من الساطع إلى الخافت في المصباح هز قلبه ثم عاد الضوء مرة أخرى إلى سطوعه. هنا قام من فوره يخترق الظلمات المحيطة بخطوات واسعة سريعة شاقا سبيله إلى الطريق الرئيسي الخارج من الموقف لسان يشق الصحراء. أظلمت الدنيا حوله وأخذ يمشي متحسسا طريقه لا يكاد يرى شيئا عدا اللون الأسود,لا يرى النجوم والقمر من فوقه,ولا يرى الرمال والصخور من حوله,وبدأت أصابع يديه تتلاشي أمام عينيه تحت ضغط الظلام المثقل على صدره. أخذ يمشي في خط حاول أن يجعله مستقيما وهو يشعر بالأرض الصلبة تحت قدميه,وكلما غرقت إحدى قدميه في الرمال أدرك نفسه وسحبها فورا إلى الطريق حتى لا يتوه عنه. الظلام تغشي عينيه والصمت مطبق على أذنيه. استمر الأمر دقائق. دقائق شعر أنها طويلة جدا أكثر من اللازم. ثم سمع صوت يشق طريقه إلى أذنه. صوت خطوات. لا,ليست خطوات قدميه,فهما لا يصدران صوتا واضحا مثل هذا. خطوات تسير بها أقدام ثقيلة. وتمنى لو يجد الضوء طريقه هو الآخر إلى بصره. أو يعود القمر فوقه والذي تلاشى خلف السحب في هذه اللحظات. بدأ يشعر بإقتراب الخطوات حتى سمعها مباشرة خلف أذنه اليسرى. في هذه اللحظة إلتف إلى يمناه وعاد سريعا إلى حيث كان.

 

عاد مرة أخرى لجلوسه تحت ضوء المصباح الخافت ومع عودته عاد ضوء القمر الذي لا يضئ شيئا,وعاد لتأمله لتلك اللافتة الكئيبة وهي الشيء الوحيد الذي يمكنه رؤيته تحت هذه الأضواء شبه العمياء. ازداد العمي حين خفت الضوء مرة أخرى. وحين سطع أخذ يسلي نفسه ويخفف ذعره بتأمل الأشياء التي أمامه غير تلك اللافتة. وقد ساعده على ذلك أن الخافتة صارت مضيئة بشكل جيد بمصباحيها القديمين,وازداد سطوع المصباح فوق رأسه,وكذا فعل القمر ذو الضوء الطبيعي غيرة من الضوء الصناعي متزينا بالنجوم حوله والتي ظهرت تؤنسه بينما هو لا يؤنس أحد وحدته. كما شارك في مهرجان الأضواء الخافتة الشبحية ضوء آخر قادم من بعيد ربما من منزل ما أو مصنع أو حتى محطة وقود. وعلى هدى كل تلك الأضواء التي لا تغنيه كثير عن الظلمات الملتفة حوله,رأى آلات حفر عملاقة وعربات هدم ضخمة ومعدات أخرى ثقيلة. رجع نظره مرة أخرى إلى اللافتة ثم أنطفأ المصباح وتلاشت الأضواء وصار العمى حقيقة لا تشبيها.

 

بقى جالسا في هدوء,خائف لكن بصمت,وبينما هو غارقا في صمته,يحيطه ليل ليس أحلك من ظلمات مخاوفه,إلا أن أقسى كوابيسه رعبا خفتت تحت مطرقة إقتناعه بأنها أوهام لن تمس أمانه الجسدي,وبالتالي حافظ على إستقراره النفسي. بينما هو غارق في كل هذا,عاد الضوء الخافت للمصباح مرة أخرى -ولم تصحبه بقية الأضواء من القمر أو المنزل أو اللافتة- ليكتشف الجالس بجانبه. ولكنه ليس عفريتا,مجرد بشري آخر. تبين الجالس جواره في لحظة واحدة مع عودة الضوء,فكاد يصرخ ذعرا,من ثقل المفاجأة مع ضغط الظروف المحيطة. لم يتوقع أن يجد أحدا في هذه المنطقة بعد غياب الشمس,والساعة تخطت الثامنة, رجلا تعلوا قامته قامة المذعور المنتظر,جالسا على حافة المقعد يبتلع طعامه في صمت غريب,كأن الطعام يسقط مباشرة في جوفه,لم ينتبه إليه ولا يبدوا أنه يبالي به. لم يتبين ملامحه ولكنه ارتاح بصحبته.

 

كان الرجل جالسا في صمت حتى أنه لم ينتبه إلى جلوسه (متى جاء؟) جالس على حافة الأريكة جواره, وقد كان يعلوه قامة بفارق كبير حتى ليحسبه واقفا. (كم طول هذا الرجل؟) فطوله هو يبلغ الـ 190 سم,فكم يبلغ هذا الرجل الذي قد يعلوه مترا على الأقل. تناسى هذا وفكر أنه مجرد تعس آخر وجد نفسه في هذا المكان.

 

-مرحبا

 

فلم يرد عليه,بالطبع,هو مهموم مثله بالورطة السوداء الواقعين فيها,أقله ليس وحده الواقع فيها. خفت الضوء ونظر بأسى إلى الأفق في السماء متمنيا لو يرى أضواء الفجر المشرقة بدلا من أضواء القمر المظلمة. وقرر أن يعرض سيجارة على الضيف الجديد,ومد يده يخرج علبة السجائر من جيبه ووضعه أمام وجهه الرجل مجاملا إياه ليأخذ سيجارة,لكن الرجل لم يهتم,صامتا وغارق في الظلام. تذكر أنه لم يشعل سيجارة إلى الآن,فوضع سيجارة في فمه وأخرج قداحته ولكن السيجارة وقعت على الأرض حين فغر فاهه أثر ما رآه مذهولا.

 

لقد سطع الضوء فوق رأسه واكتشف أمرا سيحدث فرقا عظيما مؤثرا في حياته,حياته الباقي منها لحظات. يكتشف حقيقة الجالس جواره,ليس عفريتا,هو يظل بشري,ولكن أي بشري!؟. تذكر أن قدمه بالكاد تصل إلى الأرض من تلك الأريكة المرتفعة والمزعجة في إرتفاعها. رغم أنه طويل جدا بالنسبة للبشر العاديين. أفزعته تلك الأفكار مع إكتشافه أنه جالس بالفعل على حافة الأريكة,وأن الرجل المجاور ورفيقه في الانتظار جالس في وضعيه غير طبيعية.

اكتشف آندي Andy للتو أن الجالس جواره كان يجلس على الأرض بجانب الأريكة لا على الأريكة,ومؤخرته تلامس القرميد البارد,ورأسه منحني وظهره منثني بشكل منحرف تماما, (ماذا لو وقف على استقامته) إرتفاع رأسه يتجاوز المتران عن الأرض وهو جالس,فماذا إذا قام؟!!

 

ولقد قام بالفعل والظاهر أن قيامته قامت معه,وأن قبره محفور تحت قدمه. بشاعرية مباغتة أتته تلك الأفكار المنذرة بموته,مغلفة هذه بيقين بدد الأوهام. وتضائل جسده الفارع أمام الهيكل القائم لناظريه.

 

N

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ناعومي الجميلة الأمريكية ذات الأصول الإيطالية التي تعيش مع أبيها في أمريكا وتفتقد أمها في إيطاليا. وأبيها لا ينسيها تلك الوحدة,ما أن تعود من ثانويتها,ويعود هو من عمله,حتى يذهب هو ليشرب مع أصدقائه غارقا في الثمالة,وتذهب هي لتستحم في إحدى الحمامات العامة لكي تتناسى وحدتها وسط ثرثرة النساء. حادثت نفسها في جذل أن الليلة ستنسى وحدتها تماما,فهي ستقابل رفيقها في الإسم والسن والحب,نيكس. وقابلها بكل حبور. ورافقته للأبد إلى العالم اللآخر.

 

E

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسمها كان إيمي,وكان حبيبها معجبا بها وبهذا الإسم,وكانت تحمل اسم إيمي بصفتها طالبة في مدرسة روز الثانوية,ثم صارت تحمل رقم متسلسل بصفتها جثة في إحدى أدراج المشرحة.

 

[2]

ثارت الدنيا وقامت فلم تقعد,وطفح الرعب في كل وسائل الإعلام؛التلفاز والراديو والجرائد والإنترنت,وحتى على شفاه الناس في الشوارع والبيوت. تناقلت الشائعات من لسان للسان,ودارت الأخبار عن ظهور سفاح في المدينة.

 

ربطت الشرطة بين عدد من الجرائم العنيفة ونسبتها إلى سفاح واحد,وكانت مظاهر الصلة كما الآتي.

1-جميع الجرائم حدثت بصورة يومية خلال مدة زمنية قصيرة (إسبوع ونصف فقط).

2-السفاح ترك بصمته على أول أربعة ضحايا حروفا من إسمه مرتبة زمنيا مع كل جريمة ثم التي تليها (الحروف تشكل كلمة بين).

3-عدا بعض الضحايا -مثل أول أربعة ضحايا- قام القاتل بخنق معظم ضحاياه من النساء بسلك معدني,وذبح معظم ضحاياه من الرجال بخنجر. مما يشير إلى ميوله تجاه نمط معين من القتل.

4-عدة آثار تدل على مواصفات معينة ومخيفة للقاتل,منها تحليل الجلد تحت أظافر بعض الضحايا,وتحليل لعابه الملتصق ببعض الضحايا الآخرين. تم التعرف على الحمض النووي له,وحقيقة أن جلده محترق,وثالثا من آثار يديه القاتلتين على ضحايا آخرين,وبعض الآثار الأخرى,مثل قدرته على الفتك بأي ضحية مهما بلغت قوتها أو حجمها أو عددها,مثل قتله لمجموعة من الشباب في نادي رياضي,ثم تم تكوين صورة مبدئية عن الحجم المفزع لهذا القاتل.

***

تم الإبلاغ عن جريمة في البيت الموجود آخر الزقاق,شعر الشرطيان بالأمان وسط صخب صفارات سيارات الشرطة التي تكدست أمام موقع الجريمة. أبلغ شاهد عن تواجد القاتل بالداخل,أحاطت الشرطة المنطقة كلها. تقدم الشرطيان ماكس وفانتوم وفي داخلهما تساؤل عن مصدر الشجاعة التي تدفعهم,هي مصدرها قلوبهم أم الحشد الذي خلفهم؟! هما المحققان المكلفان بهذه القضية اللعينة,النقيب فانتوم والملازم ماكس.

وقفا أمام المنزل في ملابسهما الرسمية يدخنان السيجار ويتبادلان الحديث قليلا حول أي شيء ليس له علاقة بالقضية.

فانتوم: مبارك لك مولودك الثاني

ماكس: ومتى سنرى مولودك الأول

-بعد أن أتزوج

-ومتى تتزوج

-سأفكر جديا في الزواج بعد أن أمتع ناظري بولدك الثالث

-إذن لن تتزوج

-لن أفعل

حاولا أن يضحكا ولم يستطيعا وسط التوتر الآتي من الباب القديم المفتوح أمامهم.

***

أثار مقتل جو جينيكس بلبلة وذعر لدى الشرطة والناس,الرجل المعروف بكونه أقوى رجل في العالم على عدد من الأصعدة,فهو بطل عالمي للوزن الثقيل في الملاكمة والمصارعة والفنون القتالية المختلطة. ثلاث رياضات مختلفة لإثبات قوته حقق فيهما إنجازات كبرى في مسيرة خلت تقريبا من أي نكبات أو إخفاقات رياضية. وفي عمر الـ 45 كان في ذروة شهرته وقوته ومجده معتليا القمة بلا أي منافسين تقريبا. وفي عمر الـ 45 مات مقتولا على أيدي القاتل المسمى بين,حرفيا مات على يديه بدون أن يستخدم القاتل أي أسلحة من أي نوع.

وما أن دخلت عناصر الشرطة إلى بيت الضحية روعهم وصدمهم آثار الصراع المرير الذي خاضاه العملاقان مدمرين كل شيء تقريبا في الصالة. صراع حتى الموت على من يظل حيا,وتشهد الدماء المتناثرة -حتى الآن لم يعثر على آثار دماء للقاتل رغم أنه اطلق النار عليه في العديد من المرات- في كل مكان أن الصراع كان من طرف واحد ينازع من أجل البقاء ضد الوحش المسمى بين. وكونه -بكل قوته المشهود للبطل فيها- لم يتمكن من أن يسبب أي جرح للقاتل,هو فقط كان فريسة غير هينة أكثر من كونه خصما قويا. مثل الغول يفترس ذئبا بدلا من غزالا,بالطبع الذئب له أنياب,ولكن يظل الغول غولا.

***

شابة في ربيعها السادس والعشرون وُجدت مقتولة في سيارتها أمام منزلها,عملية القتل تمت بواسطة سلك نحاسي تم شده على عنقها من خلف المقعد حتى فارقت الحياة. هناك آثار إنبعاج في سقف السيارة يشير إلى ضخامة القاتل لدرجة أنه قام بجريمته وظهره محني يصطدم ظهره ورأسه من فرط ضخامته بسقف السيارة,والباب كان مفتوحا ونصفه السفلي ممتد للخارج. مما يشير إلى أن القاتل لديه نزعة سادية للإستمتاع بخنق النساء بالسلك,حيث أن لديه القدرة الكاملة على الفتك بضحيته,تمزيقها أو كسر عنقها بيديه خلال ثانيتين. إلا أنه ومع ذلك يستخدم أداة ليس بحاجة إليها للقتل. مع أكثر من ضحية.

***

جريمة أخرى لا تقل بشاعة عن سابقاتها,زوجة ثرية عُثر عليها من قبل إبنها الذي ما أن رأى أمه المقتولة حتى صرخ عاليا وأتى الخدم على صوت صرخاته,ثم أتى الحرس على صوت صرخات الخدم. الزوجة ماتت مخنوقة وزوجها كان حاله أسوأ. المشهد كان مرعبا والطفل عمره 13 سنة وقد تم وضعه في مصحة نتيجة وقوعه فريسة للإنهيار العصبي الذي زلزل إتزان عقله الصغير. طفل يدخل غرفة والديه ليجد أمه ممددة على الأرض شاخصة العينين متدلية اللسان. والأب على سرير غارق في دمائه وينقصه رأسه وقلبه ويديه وإحدى قدميه. الطفل أختار لنفسه إنهيارا خيرا من جنونا,فالمشهد أقوى وأبشع من تخيلاته.

***

بينت التحقيقات لاحقا أن جريمة قتل الزوجة -زوجة أخرى غير الثرية- وزوجها تمت على أيدي السفاح بين,الأب تمزق على يديه حرفيا,الرأس تم شدّها من الجسد,والقلب تم إنتزاعه بيد أخترقت الصدر. ومن شكل التمزقات على أطراف دائرة الفجوة يتبين أن هذا السفاح يملك أظافر مثل مخالب الضواري.

-وكأنه يحتاج إليه لينافس الوحوش في قوته أو شراسته

كذا قال ماكس وقد أرتعشت شفتيه لتصور طاف في مخيلته,ورد عليه فانتوم

-وكأن هذا ما كان ينقصه فعلا!!

***

تسائل ماكس:

-كيف نتمكن من القبض عليه؟ هل توقف؟ أم هناك جرائم أخرى؟

فانتوم: لا تحير نفسك

-بالطبع يوجد جرائم أخرى,ولكن هل نتمكن من ردعه؟ هل يمكن القبض عليه أم لا؟

-لا تكن متشائما

-لا تكن متفائلا

صمت ثم سأل

-هل يمكن قتله؟

***

كان قد مضى إسبوع كامل دون أي جريمة,بعد سلسلة طويلة من الجرائم المستمرة خلال أيام قليلة. جريمة أو أكثر في اليوم الواحد. جلس فانتوم على مكتبه بينما أمام المكتب ماكس جالس على كرسي يفرغ له أفكاره المتشائمة. مكتب بني وكئيب ومغلق لا يدعو لأن يتفائل أحد تحت ضغط الجرائم المحيطة بالولاية. وتحت ستار الليل في الثامنة مساء ولا أحد منهما يعلم ما الجرائم البشعة التي قد تحدث في ذلك الوقت. النافذة خلف فانتوم والباب خلف ماكس والأريكة بجانب الجدار الأيمن والتلفاز عند الجدار المقابل لها,ولا يأتي إلا بأخبار مروعة عن سلسلة الجرائم الحاصلة. ووسط الجدران الأربعة والإضاءة خافتة والليل الطويل والشتاء البارد شعر ماكس بالضيق أكثر على صدره وحول عنقه. قام فانتوم بتغيير المحطات الإخبارية إلى محطة كارتونية تعرض مسلسلات أطفال.

 

دخل رجل من الباب ورن جرس الهاتف على المكتب,تحدث الرجل

-هناك ضحية نجت من المذبحة؟

وضع فانتوم الهاتف على أذنه,وتسائل ماكس

-أي مذبحة؟

-ليس هذا المهم,لقد رأى القاتل وهو الآن في المستشفى

فانتوم مخاطبا الصوت في الناحية الأخرى من الهاتف

-نعم لقد عرفت للتو

ماكس: إستدعي فرقة كاملة حالا لحراسة الفتى

فانتوم: واتصل بأي وحدات قريبة وأخبرها بالتوجه إلى المستشفى فورا

الرجل: حاضر سيدي.

***

الممرضة مشنوقة بسلك كهربائي / وتر نحاسي والفتى قد صار قطعة ميتة من اللحم الممزق والعظم المتكسر. ولم يستفد المحققان بشهادته في شيء. كان الفتى بوب شاهدا على مقتل أسرته وقد طبعت الحادثة في ذاكرته قبيل أن يلحقهم ميتا بقتلته البشعة. التي لا تقل بشاعة عن مقتل العائلة منزوعة الأطراف بتنوع سادي مخيف. الأب منزوع قضيبه والأم منزوع وجهها والأخت منزوعة حلقها والأخ منزوع قلبه والطفلة الصغيرة منزوع رأسها. عضو من كل فرد,وعملية الإنتزاع تمت أمام عينيه. مصحوبة بصورة القاتل الذي ألقاه من النافذة قبيل فراره عند مقدم قوات الشرطة.

***

صارت الشرطة تتجمع في الموقع مسرعة بسياراتها فور سماعها بوقوع أي حادث من أي نوع. وقد شهدت على مقتل أسرة الفتى يامي الذي لحق بأسرته بميتة أشنع مما ماتوا بها. صارت حالات القيء المتكاثرة أمر معتاد في وحدات الشرطة ومكاتبها. القاتل ومن يتألم لمقتل الفتى تتزلزل معدته لدى معرفته بمقتل أخته الطفلة الصغيرة أيضا. السفاح لا يرحم أحد,وما يزيد الطين بلة هو العشوائية المغرق بها في سلسلة جرائمه. لا يوجد نمط محدد يمكن تتبعه به,حتى أن الشرطة توصلت إلى أن معظم جرائمه يقوم بتنفيذها عقب خاطرة لحظية بإختيار الضحية,مارا على الطريق أو أمام بيت أو بجوار سيارة ويقتل أي من يقابله من تعساء الحظ اللذين يكونوا بالجوار في لحظة الوحي الدموي هذه. كما أنه يأخذ بعض الاستراحات الزمنية فتتشتت عناصر الشرطة وتخفت عزيمتهم وينخفض حرصهم ليتلقوا موجة أخرى من القتل كالصفعة على وجوههم,أو مؤخراتهم. أو ربما هي وخزة قاسية من ازدياد عدد القتلى. أيضا القاتل غير متقيد بمكان محدد ودائرة الجرائم تشمل الولاية كلها,بل وتم الربط بين جرائم من ولايات أخرى ونشاطات القاتل. ويصعب تعقبه لا أحد يعلم كيف يتحرك متنقلا من هنا وهناك. والكاميرات لا تطاله أو تكشف وجهه أو حتى تلمح هيئته!.

***

قتل ماكس وفانتوم وعدد من عناصر الشرطة.

***

الآن صار هناك شرطي تقريبا في كل شارع وكل زقاق,وتم استدعاء جنود من مختلف أجهزة الدولة. حاولوا عمل الفخاخ للقاتل وإغراءه لقتل ضابطة متخفية في صورة ضحية. ولكن لم ينجحوا. فإما لم يقع وإما وقعوا هم ضحايا له.

 

[3]

مزيد من الجرائم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تأمل جسده الممزق وظل عقله يصرخ بما صمت عنه لسانه غير مصدقا

-هذا لا يحدث لي

ظل يرددها إلى أن مات.

***

كاد يستسلم لفضوله ويقع في فخ القدر,آثر أن يتراجع ويعدو هاربا مبتعدا عن ذاك الزقاق المظلم,شعر بتقطيع الخنجر وهو يمر في جسده,ثم رأى ظله واقفا أمامه.

***

تصلبت من نظرات عينيه,وانحبست صرخاتها داخل فمها,كان يخنقها وهي تحسب أن هناك فرصة لإنقاذها,ولم تدرك أنها ماتت.

***

صرخت بأقصى قوتها,حتى خرجت أعتى صرخاتها,متشبثة بالحياة,سمعها الجميع تنادي للنجدة,فذهبوا ينجدوها,فوجدوها ملقاة ممزقة الثياب واللحم في ساحة الميدان.

***

لقد رأت الخنجر وهو يقترب من عينها,وهنئت بالمرور بتجربة فريدة لا يمكن خوضها إلا مرة في العمر,نهاية العمر تحديدا,وهي رؤية النص وهو يقترب من عينها,ورؤيته وهو يخترق عينها,ورؤية الظلام وهو يغلف محيطها بعد ذلك.

***

محاصرا في الزاوية عند الحائط وقد كان يتفاخر بقوته صار مثل الفأر المبلل بالماء يرتجف وقد خارت منه قواه,لا يعرف هل بفعل الفزعة التي انتباته,أم بسبب الثقل الجاثم على صدره من هذا المخلوق الشبيه بالبشر. كان يعد نفسه أقوى البشر,إلا أن أتاه ما هو أقوى من البشر.

***

اجتاحه فضول غريب لأن يحصي عدد الشظايا الزجاجية المتكسرة في جسده,والممزقة إياه شرّ ممزق. حاول أن يعلو بصوته وهو يعد لولا أن منعه أن شظية استقرت في فمه محل لسانه,لا يعلم أين ذهب الأخير ولكن شعر بالشظية تخترق حلقه والدموع تتقافز من عينه من تفافز دفقات الدماء من فمه. يشعر أنه يريد أن يبتلع الزجاجة أو يبصقها أو يمضغها أو أن تقتله,المهم أن يتخلص منها ومن هذا الألم الشديد. يغزو الألم أنحاء جسده كلها. راعه ما حل بجسدها شظايا متناثرة ومختلفة الأحجام ممتزجة بدماءه ولحمه. مثلا ساقه لم تعد موجودة وقد شطرها مسطح زجاجي وكذا راحت إحدى عينيه وقد اخترقتها وتد زجاجي. وتمكث مجموعة من الشظايا في أمعائه,وتقطعت لحمة رأسه ولا يدري لماذا لم يمت بعد.

 

[4]

ثين السفاح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تزايد عدد الجنود وصارت الولاية كأنها ساحة حرب,ثم توقف القاتل فجأة,اختفى من حيث ظهر,ولم يعد له أثر.

 

جالسا علي أريكته الصفراء القديمة,مشاهدا للأخبار علي التلفاز بأعين يعشش الجنون خلفها ويظهر في نظراتها,وقد طفى ما أختلج في قلبه إلي وجهه في ملامح تعبر عن مزيج من الأسي والفرح. شعر بالحزن علي نجمه الذي خفت ضوءه,وشعر بالفرح لأنه من ستسلم الشعلة من بعده. هكذا حدثته نفسه,ودارت الأفكار في رأسه.

 

إنه دوما يبحث عن المزيد من الطرق ليشعر بالحياة,وقد أطلق على نفسه بينه وبين نفسه اسم ثين (أو ربما ثيرن) السفاح,إلا أن مخططه ينص على إشهار نفسه بصفته بين نفسه,واستكمالا لمسيرة بين السفاح الإجرامية. تاريخ مشرف في سفك الدماء, وصار ينظر إلى عمله -الذي لم يعمله بعد- فعلا نبيلا أو مهمة مقدسة.

 

كان بول يحسب الوقت بالأيام والليالي,والأسابيع والأشهر,حتى قدر عاما بالكمال والتمام مر دون أي جريمة أخرى لـ بين السفاح.

 

قاد بول سيارته عاري الصدر وقد نقش على صدره إسم بين / ثيرن وارتدى قناع أسود مطاطي وقد اعتمرت في قلبه نية خبيثة مدفوعة بشهوته للقتل العشوائي.

 

صار يشبه بين السفاح.

 

إنه لا يملك القوة الجسدية الجبارة لدى القاتل الحقيقي,لكنه يملك خنجرا من نفس النوع الذي يستخدمه القاتل,والأهم خيالا جامحا يستخدمه لفعل أبشع الجرائم.

 

دارت الخواطر الدموية في رأسه عن كيفية إختياره لضحيته.

 

-إمرأة وحيدة في منزلها أم يقتل أسرة بكاملها؟

-يبدأ بالنساء أم بالأطفال؟

-أم يتصيد الأقوياء من الرجال؟

 

بالرغم من أنه يملك القدرة المتمثلة في قوته الجسدية –التي لا تقارن بالوحش بين- ومهاراته القتالية وجنونه الدموي إلا أنه الآن يريد فقط أن يذبح ضحية ضعيفة وحيدة.

 

يقود سيارته بجنون ثم خفض السرعة حتى لا يلفت الأنظار إليه الآن,صار يقود وهو يتلفت يمينا ويسارا باحثا عن صيد ما.

 

وجد نفسه أمام منزل يظهر من واجهته أنه كان جميلا في يوم من الأيام. وقد أوقف السيارة أمامه. والمنزل منعزل عن أي آثار للمدن أو السكن أو أي حياة خارجه بأي صورة كانت. منزل وحيد على طريق صحراوي لا يمر به أحد. أدرك ثيرن أن هذا هو أقرب جار إلى بيته ولكن ذلك لم يرقق قلبه.

 

طرق الباب وانتظر قليلا,فتحت له فتاة صغيرة في عمر المراهقة,وردة حمراء في سترة حمراء ودماء حمراء تسيل من رقبتها بعد أن مرر سكينه بسرعة خاطفة عليها.

 

وأخذ يجول في المنزل باحثا عن مزيد من الضحايا.

***

أدرك من العلامات التي بين يديه الآن طبيعة القاتل الذي دخل بيته,الخنجر في الصندوق القديم بالقبو هو نفس الخنجر. وصوره فيه بجسده العملاق بطريق غير طبيعية يوم كان وسيما برفقة زوجته وابنته. هناك أوراق بها شعر ردئ في رثاء زوجته التي على ما يبدوا ماتت أو اختفت. كيف لم تنجح الصحافة أو الشرطة في الوصول إلى حقيقة القاتل من خلال هذه المعلومات؟ ربما لأنه أول شخص يقع عليها. يقع عليها بعد أن ذبح ابنة بين!.

 

ومن الأعلى أتاه صوت صرخة,لقد وصل الرجل. رأى هيكله العملاق نازلا إليه على سلم القبو. متشبثا بالحياة أمسك بالخنجر الآخر. ولكنه ابتلع ريقه شاعرا بالخوف لأول مرة في حياته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثلاث ليال

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]

إلتف الرجال حول الجسد المسجي علي الأرض الثلجية,ليلة باردة قمرية والرجال علي حافة أعصابهم يكاد الخوف والبرد أن يدمرها,ينظرون للوحش الممزق شر ممزق,والتساؤلات تدوي في رؤوسهم.

-دب كبير هذا؟!.

-ليس دبا.

-إذن هي الذئاب؟.

-قطيع من الذئاب لن يجرؤ علي مهاجمته.

-قد يكون…

-لا يوجد من الضواري من يفعل هذا.

هذا كان رد العجوز العالم بالأمور.

هي الليلة الأولي,جاءوا لمواجهة الذئب وهم يرتعدون من رؤيته-حيا-فإذا هم يزدادوا خوفا من رؤيته ميتا.

 

حادثة الشهر الفائت ستظل كثيرا في ذاكرة تلك القرية التي أصيبت بالبلاء,البلاء الذي كان فقط يصيب القرى المجاورة قد حل عليها كلعنة من السماء,هو الموت متجسدا في صورة ذئب آدمي يقتات ليلا علي أجساد البشر في الليالي المقمرة في منتصف الشهر,ويرجع لصورته الآدمية في النهار.

منذ خمسة أشهر ما والقرية تعاني من الحرب بينها وبين هذه الوحوش,تصطاد الذئب ليلا أو تذبحه نهارا,بإستخدام الطلقات والمدى الفضية,ليعانوا من غيره في الشهر التالي,لهذا هي لعنة فما أن يقتل ذئب يظهر آخر قد تم جرحه بناب أو مخلب,عضة أو خدش واحد كافية طالما نجي أن يصير إمتدادا لهذا البلاء.

 

الليلة الأولي من منتصف الشهر السادس والرجل العجوز يفكر أمام المدفأة,جالسا علي كرسيه بجوار النار يفكر في حادثة الشهر الفائت.

الرجل هو قسيس البلدة,هو وزوجته من أكثر عشرة محبوبين من البلدة كلها,خاصة الأطفال الذين يشبعون بطونهم من فطائر زوجته العجوز التي تعدها كل حين وحين.

يعيش مع أبنه وزوجته وأحفاده الثلاثة الذين افترشوا الأرض يتناولون الطعام,والسيدة العجوز تحيك ثوبا,والرجل ما زال غارقا في تفكيره ما بين تفسير لحادث الشهر الفائت وتخيل لمصير ضحايا الشهر الحالي.

الحادث الذي يبدوا كهدية من القدر قد يكون لعنة عبثية منه.

قطع حبل أفكاره صوت العواء,نظر الولدان لأباهما بينما ارتمت الفتاة المذعورة في حضن جدها تبكي.

-لا تخافي يا عزيزتي,الذئاب لا تدخل البيوت المغلقة.

 

تحت السماء المليئة بالغيوم,في الشوارع المغطاة بالثلوج,يجول الذئب بحثا عن فريسته,الصلبان الخشبية مغروزة أمام البيوت ومنقوشة علي الأبواب.

مر من أمام الكنيسة وأنعطف يمينا وتشمم رائحة فريسة آدمية,ركض في الشارع الطويل الخالي,بضعة أبنية ثم توقف.

دوي صوت الطرقات العنيف علي الباب مصحوبة بصوت قبيح

-أفتح.

هذا ليس عواء الذئب,إنه الذئب نفسه!.

نظر الابن من النافذة وسرعان ما تناول السيف الفضي من فوق رأس الذئب المحنطة علي الحائط,العجوز أيضا تناول البندقية من فوق المدفأة بينما تكوم البقية علي السلم,الأم تحتضن ولديها والجدة تحتضن الفتاة.

تأكد العجوز من حشو بندقيته بطلقات الفضة ووقف قبالة الباب والابن جوار الباب ممسكا سيفه بيديه في تحفز وإستعداد.

-أفتح.

-إذهب إلي الجحيم.

-أفتح وإلا أدخلت الجحيم إليك.

قالها العجوز فجاءه الرد المفجع قوي التشبيه.

الصمت مطبق والنظرات قلقة..

وتحطم الباب…

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[2]

بكي الكثير من الرجال لمرآي تلك المذبحة,وانهارت النساء.

في حانة بنبو أجتمع الرجال في الظهيرة فور أن عرفوا بالهجوم الشنيع الذي تم علي بيت آل لانستر. وفي منتصف النهار كان قد تسلح عدد كبير من الرجال,منهم من خاض معركة ديلون ذاتها,وبعد الغروب تجمعوا أمام الكنيسة بإنتظار الذئب.

 

منتصف الليل وقد مرت عدة ساعات عليهم وهم يدخنون ويشربون بإنتظار شبح القمر ليقتلوه,جاك وهو الشاب المعروف بخجله الشديد رغم شجاعته,أضطر أن يتواري عن الأنظار في شارع جانبي ليقضي حاجته,وقد تحمل وقتا كثيرا حتى لا يستمع لضحكاتهم الساخرة,ها هو يفرغ مثانته الممتلئة وهو يستمع لضحكاتهم….

أو صرخاتهم…

 

بلل نفسه وهو يقطع الشوارع ركضا بحثا عن مأوي من هذا الجحيم,إن نظرة واحدة كانت كافية ليلغي أي محاولة لمساعدتهم من عقله,يدعوا الله أن يساعد نفسه للنجاة يوما آخر.لن يفتح له أحد بابه فالمستذئب قادر علي التكلم بصوت آدمي,ولكنه أخذ يطرق الأبواب ويصرخ باكيا ويستنجد راجيا,أن يفتح له أحد.

الناس لا تجرؤ علي النظر حتى من النوافذ,إلا أنه قد أسعفه الحظ برجل تبين الخوف واليأس في صوته,هذا فريسة لا صياد.

فُتح له الباب فأنقض داخلا وفقد وعيه ما أن أغلق الباب خلفه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[3]

العجوز يفكر وقد أجتمع الرجال في حانة بنبو ومعهم ثلاثة أسري.

المستذئب إن زادت قوته وأشتد أمره يتم اصطياده في النهار,المستذئب هو وحش دموي نصف ذئب ونصف إنسان,تصل قوته أحيانا لأن يتكسر تحت أسنانه وينقطع من مخالبه,أن يمر من جدار صخري أو ينتزع شجرة من جذورها,هو نصف شيطان في الليل تحت ضوء القمر في منتصف الشهر.

مع كل تلك القوي الجهنمية إلا أنه ليس منيعا؛إن تم طعنه أو إصابته تظل ندبة مكان الجرح في النهار.

هذه كانت أفكار العجوز,الذئب مليء بالندوب جراء جراح معركة أمس,وثلاثة رجال يجلسون متجاورون علي الطاولة,يلتف حولهم البقية جلوسا ووقوفا.

إن الغضب جراء ما حصل للأب ميرين هو ما أدي إلي تلك المعركة,مذبحة ولدت مذبحة,والغضب يشتعل في القلوب والعقول.

كهل في الأربعين والشاب في الثلاثين,والإثنان تغطي جسدهما بالكامل بالجروح المختلفة,في الجذع والأطراف.وكل منهم يقدم حججه آملا في الخروج قبل الغروب,لكن هيهات أن يحدث هذا.

-أنا كنت في المعركة التي دارت منذ أربعة أشهر,معركة ديلان,كنت من الناجين القلائل,هذه طعنة داني وهذا من خمسة رجال معا و….

هذه من الكهل خشن الملامح وقد رقت ملامحه من الخوف وحبات العرق علي صلعته,والذعر بادي في عينيه.

-هذه الندوب حصلت عليها علي مدي السنين.

كانت من الشاب,قالها بمزيج من الفخر الذي حاول إظهاره والخوف الذي جاهد لإخفائه.ولم يقل أكثر من ذلك.

الثالث هو ذاك الصامت الغارق في السواد,سواد الثياب والمشاعر,وسواد الملامح رغم أنه أبيض,جالسا علي يسارهم تحيطه هالة نفسية تعزله عن الجميع,في صمت وقح وبرودة أعصاب ونظرات فجة متحدية غير آبه بأحد يمنعه التعالي لا الخوف من الإبتسام أمام أعين الجميع.

الشاب خائف لكنه لا يفصح,عيونه تدمع لكنه يظل يحك عينيه مداريا دموعه,علي عكس الرجل الآخر الذي أخذ في البكاء بلا إستحياء,في جو كئيب لا يسر الجالسين جميعا,في مناسبة مشئومة لذبح الرجلان,مع تواجد أهم رجال القرية عدا مسئول الشرطة الذي مات في معركة أمس.

الشاب بدأت أعصابه أيضا تنهار وهو ينظر لغروب الشمس,الرجال من حولهم لن يرحموهم رغم شفقتهم عليهم,فكل منهم فقد عزيز أو صديق,أخ أو إب,حتى النساء لا تسلم من الذئب في أحيان كثيرة.

(الدخان والبكاء والحكة هما أكثر الأشياء قد تزيد الطين بلة.

هكذا فكر العجوز,فإن أول علامة للتحول هي إحمرار حدقة العين,ولكن في هذا الجو ستحمر العيون فعلا ولكن ليست الحدقة وليس بسبب التحول بل إلإلتهاب نتيجة لكل البكاء والدخان,ويدب الجنون في عقول القوم قبل أن يعوا تفسيرا آخر غير الذئب.

لهذا هو موجود,مع علو كلمته قد يسيطر علي القوم بقدر ما يستطيع,لهذا أيضا جعلهم يحضرون الوغد ذو الحلية السوداء,الذي لم يجرؤ أحد علي خلعه ثيابه كالرجلان الآخران,أو جلبه بالقوة حتى فهو قد أتي معهم بمليء إرادته,ومع ذلك هم لن يرحموه لو ظهرت عليه علامة واحدة.

منذ ستة أشهر,أي منذ بدء البلاء قدم هذا الشرير الذي لم يظهر من شره شيء سوي الود واللطف وحسن المعاشرة الذي عُرف به,والشؤم الذي جاء معه,فوحش الليل قد أتي في ذات الشهر الذي أتي هو فيه,أتي وحده في الشهر كله فلم يأتي زائر آخر في الشهر المعنون,وغير بلاء الذئب فقدنا نصف أو معظم خيرة رجال القرية في المعركة المعروفة,والنصف الآخر في مذبحة أمس.

 

ذئب هذا الشهر لا مثيل له في القدرات والتصرفات,وعدا ليالي القمر فهو لا يتقيد بشيء,يقتحم البيوت ولا يخاف الفضة وقيل أن رائحته كالكبريت و…..

تحفز الرجال لقيام الشاب المفاجئ ولكن علت الضحكات ونظر الجميع لمصدرها وقد أتت من الرجل ذو الملابس السوداء,مجهول الإسم الذي يعيش بينهم دون معرفة من ومن أين أتي,ما إسمه وماذا يعمل,لماذا هو مخيف لهذه الدرجة.

دارت كل تلك التساؤلات فجأة الآن في رؤوسهم,متوترة أعصابهم ويكاد يجن جنونهم.

-إنه هو….

قالها العجوز

الضحكات لا تتوقف

الخناجر والمسدسات,تكاد النصال أو الطلقات أن تفلت من تلقاء نفسها,الدم يجري في العروق والقلوب تدوي كطبول الحرب معلنة المعركة الأخير مع هذا الشيء الجالس وسطهم,في جبروت وسيادة نفسية طغت علي الجميع.

 

توقفت الضحكات وصارت بسمة شبه مميتة,وبدأ الكلام وتراخي الجميع وهم يستمعون لكلمات الرجل.

-ذئب أحمق,جعلني مسخا بين معشر قومي,كان عليه أحترامي,أشد المخلوقات قوة تبتعد حين تجد خصما أشد قوة,حتى لو تساوت القوي لا تنطح الرؤوس,هو يشتهي اللحم والدماء,لا يبغي شرفا من المنافسة.

تحولت البسمة لتجهم ومرارة,وبرد المكان,وتناول الرجلان أسلحة.

“لهذا هو أحمق,يسير في الليل جائعا وقد أنساه الجوع الهبة التي تمتلكها مخلوقات الليل جميعا؛المعرفة…لم يعرف من أنا أو لم يبالي,هو ذئب غبي في الحالتين..

وقد نال عقابه بالفعل,لكنه كان قويا بحق,فكان من نصيبي أتعذب أكثر من مخلوقات السماء بسبب مخلوقات الليل,وكتب لي أن أعاني من القمر والشهب معا.

وأن تعانوا أنتم وأهالي القرية معي,القرية التي ستكون منسية في التاريخ,ولكن خالدة في الأساطير.

أنا من مزق الذئب تمزيقا,ولكنه فعل بالمثل معي,هو مات وأنا حبست في صورتي الآدمية وصرت مسخا ذئبيا في ليالي القمر.

أتريدون معرفة من أنا..لن أحرمكم من ذلك.

نظرته أوحت بشكل الجحيم,وكانت مثل صورة له

-الجميع سيموت.

وزادت برودة الهواء وفاحت رائحة الدماء والكبريت,الذئب والـ….

“أنا الشيطان.

وهجم الجميع,دوت الصرخات وسكبت الدماء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لا تخف

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البشر,كائنات ضعيفة للغاية,بائسة لأبعد مدى,لا ينظر إليها في هذا الوجود اللانهائي,وهذا رأي قصير أوضح فيه رؤيتي,أما عن من أنا فستعرف بمذيلة الكلمات,التي تقرأها غالبا بين صفحات كتاب أو على لوح رقمي ربما يكون متصلا بفضاء الإنترنت الشاسع.

 

والمحاور الرئيسية لما أريد توضيحه هي محورين أساسيين؛الموت والرعب.

 

فأما عن الموت,فالإنسان يموت بسبب أشياء عديدة,وبسيطة للغاية. ونجد الموت في خمسة أنواع أساسية -تعددت الأسباب والموت واحد كما يقولون- تنبثق منها كل أنواع الموت الأخرى. هي الذبح والخنق والكسر والحرق والسم.

 

أما عن الرعب,فالإنسان يخاف من أشياء عديدة,وهو محق في ذلك,تحت الأرض توجد ديدان تأكل البشر وهم أموات,وتوجد غيلان تأكلهم وهم أحياء. وحولهم هناك بشر أشد قساوة على البشر وإخافة لهم مما قد تفعله أي مخلوقات أخرى. إن الإنسان يخاف مما يجهل ومما يهدد أمنه,ومن الأجدر بتهديد أمن الإنسان سوي أخيه الإنسان. الإنسان لفظ يدل علي كيان يحمل من الوحشية قدر ما يحمل من الذكاء الهائل,فهو الذي أخترع كل الأسلحة التخريبية والمذاهب الانحلالية. متجردا من صفة إسمه,الإنسانية.

 

لا تخف,رغم أن دواعي الخوف في الدنيا كثيرة,لكن لا تخف فأنت في الجانب الآمن من هذه الأرض مهما إشتدت بك الظروف.! هذا الأمان هو أمان الجهل.

أنت من الكثرة الكثيرة في العالم الذين يعيشون ويموتون وهم غافلين. كافكا ولافكرافت عرفوا,وكذا عرف آخرين مبدعين,لهذا جن جنونهم وصبوه في إبداعهم.

 

إذن,ما الذي يخيف في الدنيا إلي هذه الدرجة,إصدقك القول يوجد الكثير مما يخيف. ولن أحاول أن أبين لك ولا حتى قليلا من هذا الكثير. لكن خذ التصنت على الأجهزة كمثال,وخذ الأرواح التي تسكن معنا في بيوتنا كمثال آخر. أو حتى العائلات التي تتحكم في البلاد كمثال ثالث.

 

يقول مستر أنجيل: “أعتقد أن أكثر الأشياء رحمة هي عجز العقل البشري عن الإلمام بمكونات الكون,لم يفهم حقيقة وضعنا في الكون سوي الفلاسفة ورجال الدين,عدا ذلك إما أن نجن أو نموت. وذلك من الرحمة الإلهية.”

 

تقول ميس آيفز:”أنا أومن بالرب,وأومن بوجود الشيطان,أومن باللعنات,أومن بالمردة والوحوش,أومن بكل شيء.”

 

الفلسفات ذات النظرة الثنائية للوجود صحيحة,فالعالم ينقسم إلي عالم مادي وعالم روحي. الأول تحكمه القوي الآلية وأهمها قانون السببية. والثاني تحكمه القوي الروحية وأهمها قانون الحروف. وبين حين لآخر يلتقي العالمان.

 

ورغم أنك ستأخذ الأمر كله علي محمل السخرية ولن يعلق برأسك مقدار ثانية أو تلتفت حتى,إلا إنني أنظر الآن من خلف ظهرك إلي الكلمات التي تقرأها بعينك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مارلين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]

الساحرة مارلين تسكن في القصر مع الأميرة ماري,في علاقة مثلية شاذة ينفر منها كل أهالي القرية والقرى المجاورة. وهم يعلمون أنها السبب في الحرائق التي تحدث بالقرى والمدن البعيدة. لهذا يخشون منها. والأدعى للخوف هو الحماية الملكية التي تحظى بها.

 

كان هذا في زمن حكم الملك ماري المستبد وزوجته فيكتوريا التي تأتي سلطتها تالية بعد سلطة الأميرة ماري (وكأن الملك تسمى تيمنا بها). وكل من يبدأ اسمهم بحرف ميم من النساء يكونن مرعبات. بدءا بـ ماما أي فتى,مروروا بماما ياغا وصولا مخلوق الـ موو.

 

وبالرغم من أنها دويلة صغيرة سوف تندثر ويتناساها التاريخ لاحقا إلا أن كل طوائف المجتمع القروي والمدني كانت تخشى مارلين أكثر من خشيتهم من الموت خاصة وأن علاقتها متوطدة مع السلطة. كل مؤسسات الدولة تتحرك بإشارة من إصبعها. وكل الطوائف أدخلت نوع جديد من العبادة على دينها يشملها. وكل الناس بمختلف جماعاتهم تخاف منها. عدا ربما جماعة واحدة. جماعة القتلة التي تنحدر أصولها من حشاشي الحسن الصباح.

 

كارلوس ومارجوس وغابرييل وآرثر. كارلوس هو قائد الجماعة,ورفيقيه ومساعديه مارجوس وآرثر,أما غابرييل فهو العضو الجديد. هناك أعضاء آخرين لكن أسمائهم غير مهمة. فالكل سيزول في تلك الليلة. تلك الليلة حيث تنتظر غابرييل مهمة عسيرة تنفيذا لرهان بين الرفاق الثلاثة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[2]

وقف في باحة القصر ينظر إلى أضواء الشموع المتراقصة في الغرفة ذات الشرفة الخاصة بمضجع مارلين,وقد سمح له حارس البوابة بالدخول,الجميع يكرهونها,حتى حراس القصر التي تقطن به.

 

كانوا ثلاث سيدات؛الساحرة مارلين التي تقدر على صنع السحر,والكونتيسة مارجريت التي تملك خزائن من الذهب,والأميرة ماري ولديها النفوذ الكامل على كل البلاد. وأحيانا يكونن ستة بتواجد الملكة فيكتوريا والكونتيسة إليزابيث باثوري والغانية هيلغا شانون.

 

مجتمع تحكمه أربعة سيدات؛ساحرة وعاهرة وطاغية وسفاحة. غير باقي النساء واسعي النفوذ أمثال ماري ومارجريت.

 

تسلل بخطوات خفيفة يملكها لص محترف ذو أقدام صامتة إلى الباب الآخر المفتوح في العادة. لما بلغ الباب,اطمأن وفرح أن أحد لم يرآه,أو ربما حراس البرج رأوه وتجاهلوه عن عمد. حذار أن يتعامل معه أحد مثلما حدث للظلال المتسللة أو المقتحمة للقصر في الأيام السابقة,وهي لازالت معلقة من أقدامها في الأيام الحالية,عارية عفنة يلغفها الدماء والذباب, وقد صارت أجساد اللصوص جثثا ميتة. وحذر نفسه أن يمسكه أحد,ووجد أن الباب مغلقا وهو غارق في أفكاره وقد أضاع وقت في هذا الرعب اللذي يجتاحه. وكان عليه استثمار الوقت في العمل على فتح الباب. وقد فعل بعد مشقة دقائق مرت مثل الدقائق التي تفصل بين طرقات أحد ضباط القصر على بيوت أحد المساكين,وفتح الغلبان للبيت. دقائق مرة صعبة عصية على النفس. ولما يفتح الرجل الباب,ليأتيه خبر هين,مثل طلب بعض الطعام لإطعام خدم القصر بدلا من طلب ابنته لتكون خادمة بينهم. لما يسمع الخبر من الضابط أو الحارس يشعر الرجل بفرحة مثل التي يشعر بها جابرييل الآن عند فتحة الباب ولم يجد خلفه أحد. وأصدر الباب تكة عالية الصوت شعر أن كل النائمين في القصر استيقظ على دويها,إلا أنه

دخل ولم يلتفت إليه أحد كأنهم يتجاهلوه بالفعل عن عمد. سار مدة في الممر ولم يتبعه أحد بعد ولكنه كان يشعر أن ظلالا تتبعه في طرف الممر وخيالات تنتظره في آخر الممر حيث الطرف الآخر.

 

يسير طويلا خائفا من الأبواب والنوافذ؛الأبواب المغلقة خلفها غرف لا يعلم ما بداخلها, والنوافذ المدخلة لضوء القمر في فرجات محدودة لا هي تنير بما يكفي ولا هي معتمة تقيه شر خيالاته. وفي الأخير رأى تراقص ضوء الشموع آتيا من الباب الموارب في آخر الممر.

 

عرف أنها غرفتها,مارلين,واحدة من أضلاع ثلاثي في القصر,أي في البلاد كلها,والليلة سيخلص الناس من شرّها,رغم أن هذا لم يكن الهدف المرجو من وراء هذه اللعبة المميتة. حيث الخطر يهدده هو قبلها هي,أمسك بالحبل الرفيع في جيبه كأنه يحتمي به طالبا الأمان منه. لقد أمره وحذره وأوصاه كارلوس أن لا يقتلها بغير الخنق. والأفضل أن يسحب جسدها إلى منتصف الغرفة قبل أن تصير جثة بين يديه. جادله متخوفا من أن تصدر صوتا والأفضل طعنها أو ذبحها,فرد عليه بأن الخنق سيخنق أصواتها ويكتم أنفاسها,وأنه الأكثر أمانا له.

 

دلف إلى الغرفة دون أن يشعر به أحد,من الحراس بالخارج,وتعجب أنه لا يوجد أي حارس أمام الباب,وعلى طول الممر. لم يقابل واحد منذ دخوله القصر. مما جعله شبه متيقن أن هناك أجواء من المؤامرة تلتف حول عنق الساحرة مثلما سيلتف حبله مضيقا عليها آخذا الحياة منها. أي أن الحراس متواطئين معه في عملية قتلها. صار واقفا في الغرفة الدافئة أمام الباب المفتوح,ولم يشعر به أحد من الداخل,لا الساحرة ولا عفاريتها,ولا جاريات أو وصيفات أو خادمات,مثلما سمع عنها. حيث تعامل الساحرة معاملة الملوك والأمراء,ويلتف حولها الخدم والحشم,والجند والحرس. إلا أن هناك سبب لخلو الغرفة إلا منها. فإما مثلما يقال أنها تصرفهم جميعا ليلا لتنفرد بجلساتها الشيطانية. وإما أن الجميع الملتفين حولها تخلو عنها الليلة بحيلة ما دون أن تدري مارلين,لتلتف أشباح الموت بدلا منها حولها وحول عنقها الذي ينادي الحبل بين يديه وقد عقده وشده مجهزا إياه للخنق المميت في مرة واحدة سريعة وحاسمة وصامتة.

 

الغرفة كبيرة كساحة متحف تليق بمارلين,ذات سقف عالي ونوافذ كبيرة ملونة,ويغلب عليها اللون الأصفر الذهبي الممتزج بالبني المخملي,على نوافذها وستائرها وأثاثها.

 

ومجلسها في طرف الغرفة بجوار النافذة على مكتبها منهمكة في أمر ما,على كرسيها توليه ظهرها غير شاعرة بالموت خلفها.

 

استغرقه التفكير في كل ذلك بضع ثواني ولكنها ثقيلة ومديدة,ولم تدرك هي بوجوده مغلقة على نفسها غارقة في عملها منكبة على ورقة تكتب فيها شيئا ما. تقدم بأقدام متسللة لا وقع لخطواتها,وهي لازالت منشغلة بما أمامها,شعر أن أحدا يراقبهم,أو هناك من ينصت خارج الغرفة أمام الباب أو تحت النافذة. وتلمس بأنامله الخنجر في النطاق حول وسطه,ثم تذكر تأكيد كارلوس بأن لا يقتلها إلا خنقا. صار خلف شعرها,رأسه فوق رأسه,شعر ببعض التردد وهي أرجعت رأسها لتنظر للأعلى إلى من يحدق فيها,شعر أنه لا تنظر إليه بل إلى شيء فوقه,لم يفكر ولم ينشغل بهوس أن هناك كائنا من كائناتها,عفريت كان أو شبح أو ايا ما يكن. ينظر لهما من الأعلى في سقف الغرفة. حنجرتها كانت مكشوفة له وصارت مضغوطة بالحبل اللذي سحبه حول رقبتها. بيديه الإثنتين يلف الحبل محاولا أن يزيده عقدة أو عقدتين,فلم يفلح ولكنه حافظ على لفه على يديه وعلى رقبتها. ضاق بأقصى ما بوسعه وأخذ يبذل كل جهده,ويشد بأقصى قوته. وهي مصدومة ظلت تحاول بيديها وكادت أن ترفس بقدميها لولا أنه كان قد رفع جسدها معه وهو يشنقها للأعلى معلقة متدلى عنقها من الحبل ويتدلى لسانها من فيهها,وفي صمت أخذت تتلوى متشبثة بالحياة,وتقاوم بأقصى ما تقدر, وتحاول أن تخرج صرخات أو أنفاس. لا شيء. لا تخرج حشرجة أو غرغرة. حتى أنه واثقا من نفسه وخائفا من حركة جسدها وخبطات يديها ورفسات قدميها أن يكونا ذات صوت,شد الحبل بيد وطوق جسدها باليد الأخرى بينما يشتد الطوق حول عنقها. عينيها تذهبان إلى حيث لا عودة. وفجأة وهي تنظر للأعلى الآن أصدرت غرغرة عالية جدا,وكانت تموت بالفعل,إلا أن خوفه جعله يمسك سكينه ويطعنها عدة طعنات والدماء تخرج من صدرها وبطنها منسكبة على المنطدة تلطخ الأشياء وتلون الورقة وتمسح على الكتابات الحبرية فيها. همد جسدها أخيرا وفي صباح اليوم التالي وجدوا جثتين بدلا من واحدة. جثة مارلين مخنوقة ومطعونة. وجثة غابرييل ممزقة تمزيقا!.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[3]

النهاية المهولة التي تكشفت عنها حقيقة مقتل القاتل وهو استدعاء ذلك الشيء. كان ينقص التعويذة بضع قطرات من الدماء تتلامس مع الحروف المكتوبة بالحبر السحري. قطرات من دم الساحرة كانت كافية لذلك المخلوق بأن يروى ظمئه. وغابرييل سكب له الكثير من الدماء. كما أنه قدم له الساحرة نفسه أضحية له,أو هكذا فهم الشيء. ثم تغذى على قاتل الساحرة. ليستقوى أمره,ويتجرع من كل الدماء التي سكبتها عائلة باثروي في تاريخها. وفي الأخير زالت تلك الدويلة من التاريخ ولا يتذكر أحد إسمها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مصاص الدماء

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]

في الماضي ولقرون طويلة كانت مصاصي الدماء هي الكائنات الأكثر رعبا في العالم قبل أن يستعيد البشر سيطرتهم على المخلوقات الأدنى كما كانوا يفعلون.

***

في المدينة القديمة,وهذا هو اسمها,ذهبت مع الرفاق في واحدة من رحلاتي العديدة,إلى تلك المدينة لزيارة أكبر معالمها. والمتمثلة في ثلاثة مباني. القصر والبرج والمكتبة.

 

وفي الصباح الباكر تمت الزيارة الأولى في البرج,وصعدت أنا وصحبتي إلى أعلى البرج حيث رأينا كل المدينة من هذا الارتفاع الغير شاهق,إلا أنه عالي بما يكفي لرؤية مدينة أغلب أسطح بيوتها منخفضة,وكذلك تلالها وشوارعها. وصدعت رؤوسهم بمدى معرفتي بهذه المدينة من قراءاتي عنها وجولاتي فيها. حتى كاد جوني أن يلقيني من الأعلى لولا أن حال ديفيد دون تحقيق ذلك. ولكن كيف أتوقف عن روي القصص وأنا أصلا كاتب؟. وحكيت لهم عن مغامرتي في مدينة سراي,وأخذت أتأمل وقع القصة على وجوههم. ولمست خوفا يفترض أن يظهر علي أنا وأنا من خضت التجربة. مغامراتي عديدة,وكل مرة مع مجموعة مختلفة, وعادة أنا الوحيد الذي ينجو. أنا لا زالت خائف من الرحلة الأخيرة في مدينة سراي. لكني مطمئن طالما نجوت وطالما ابتعدت.

 

وقبل الوصول للمكتبة قررنا المرور على الضريح,وهو معلم آخر لا يقل أهمية عن البرج والقصر والمكتبة إلا أنه لم ينل نصيبه من الشهرة مثلهم.

 

وفي المكتبة أخذت أتجول مفترقا عنهم,سابحا في ممرات المكتبة,غارقا في صفحات كتبها, ثم أتاني خاطر يدفعني للبحث عن ذلك الكتاب. قيل أنه مكتوب بواسطة مصاصة الدماء. كتاب عن مصاص الدماء.

 

وأخيرا,ولما عثرت على الكتاب,تركتهم أنا على وعد باللحاق بهم,فذهبوا بدوني إلى القصر.

 

حمل الكتاب عنوان (مسحريمة مصاصي الدماء),ولكنها اختصت بالمعلومات مصاص دماء واحد. وحمل الكتاب مدخلا فيه قصة مصاصي الدماء. ثم روع (وكان هناك خطأ كتابي حول الكلمة إلى رواعة) مصاصي الدماء. واستمرت القراءة وقد قررت أني أنهي الكتاب قبيل إنقضاء النهار.

 

[2]

في القصر كان الرفاق يتسللون داخل الممر وصولا إلى الغرفة في نهاية النفق ونهاية القصر. حيث يقبع رعب قديم,تجسيد للشرّ,وموت للجميع. وغيرها من المسميات التي يمكن أن تطلق على كيان مثل هذا. مصاص الدماء.

 

مصاص الدماء هو خفاش بشري يتغذي بدماء البشر ليلا وينام في تابوت نهارا,أو معلقا من قدميه. وغالبا ينام في القبور أو القصور. وينام مفتوح العينين يحدق في لاشيء. وجهه شاحب شحوب الموتى وبشرته بذات الشحوب وباردة. أنيابة حادة وأظافره طويلة,قوة جبارة وسرعة فائقة. يرتدي السواد ويعيش في الظلام. وتفوح منه رائحة الكبريت. ليس لخطوات قدميه صوت ويتحرك كالظلال أو مثلها ولديه القدرة علي الطيران. لا تظهر صورته في المرايا أو الكاميرا وليس لديه أي إنعكاس. لديه القدرة علي تحويل بشري إلي مصاص الدماء أو التحكم بعقله. يري في الظلام ويشم رائحة الدماء,وتتشافي جروحة ذاتيا.

 

هو خالد,وهو ليس حيا ولا ميتا,هو شيء (غير ميت),وقيل يتناسخ,حيث يموت ويعود للحياة مرة كل مائة عام.

 

برغم التهديد العظيم الذي يشكله الرعب القديم,إلا أن ويليم كان يعلم أن رفاقه آمنين بعد كل التجهيزات والأدوات والمعدات التي جلبوها معهم استعدادا لما هم عليه مقبلين. والاستراتيجيات والخطط كانت معني بها عناية فائقة,حتى كأنه لا يوجد أي خطر من تلك المغامرة,فلا أحد يعرض حياته للموت مثلا.

 

فالأدوات التي تقتل مصاصي الدماء كثيرة للغاية,وتباع في متاجر المدينة بوفرة.

 

هم دخلوا بالنهار,ومصاص الدماء يحترق من أشعة الشمس,جرى جوني يشد الستائر ويفتح كل النوافذ. وكان الوقت في الظهيرة,والشمس في كبد السماء.

 

أحضر دومينيك,ويسخر أصدقائه منه بمناداته دوما بالقسيس حتى صار لقبا له,الكتب السماوية الأربعة. أربعة نسخ أثرية من الإنجيل والتوراة والقرآن والزابور. ونسخة خامسة من كتاب ما لا يعرف رفاقه رسالته أو ديانته. لما رآه ويليم تذكر مدينة سراي ودمعت عينيه حتى كاد أن يبكي. من حقيبته أخرج أيضا الرموز الدينية: الهلال – الصليب – النجمة السداسية. وقنينة المياه المقدسة. ومسبحة من خيط متين محكم على فصوص فضية تنتهي بصليب فضي جميل ولامع.

 

بينما ديفيد وهو أقواهم كان يمسك وتدا خشبيا,وحبلا متينا,لأن مصاص الدماء يمكن أن يقتل مخوزقا أو مخنوقا. ومجموعة من النصال الحادة والفضية أخرجها من جعبته ملفوفة في لفاف خاص. خنجر وفأس وسيف وسيخ,والمزيد من الأسلحة البيضاء بأشكل مختلفة. وأيضا معه مسدس ملقم برصاصات فضية.

 

ارتدت أصلا ثوبا أبيض وقبعت على فراشها وسط كشافاتها كأنها تستحم أو ستحتمي بضوءها فحسب.

 

كان دور مايكا أن تمسك حفنات من الثوم ذو الرائحة النفاذة,وأكياس من الملح,وأجولة من الحبوب المختلفة والمختلطة.

 

بينما جلست كاثرين إلى جوار أصلا على الفراش وتحت قدمها يرقد ذئب.

 

لدى مصاصي الدماء نقاط ضعف عديدة.

 

وفي الأخير اجتمعوا كلهم في غرفة واحدة,مغلقة عليهم,ومصاص الدماء لا يدخل المضاجع إلا مدعوا.

 

[3]

وفتح الباب -من تلقاء نفسه- وظهر لهم مصاص الدماء,رأوه واقفا أمامهم أقرب لظل ما من كونه شخصا ذو هيكل وجسد. شكله على صورة مصاص دماء كلاسيكي. وكان أمرأة. في ثوب أبيض داخل معطف أسود. واقفة على عتبة الباب تغطي الظلال وجهها. وينسدل شعرها الأسود الجميل والطويل من خلفها. طلبت الإذن بالدخول.

-هل تسمحوا لي بنيل شرف الجلوس في حضرتكم؟

-لا,بالطبع لا

-.. لا

أتت من دومينيك وأصلا والبقية صامتين,وديفيد مختبئ خلف الباب,يشد على الحبل في يديه رابطا إياه على معصميه,ممسكا في ذات الوقت بسكينين فضييين.

 

-هل ترفضوا دخولي؟

-نرفض

-حسنا

وتقدمت بخطوات واثقة لتدخل إليهم,وغطت رائحة الكبريت على رائحة الثوم.

 

غرق السكينان في لحم ظهرها,بينما التف الحبل فضاق لأقصاه ومال للخلف رأسها.

 

وبعد طول المدة,دون أن تسقط مصاصة الدماء,شعر جوني أنه يريد أن يساعده,وأن يتناول طرفا من الحبل ويشد الإثنين في إتجاهين متعاكسين وهي -إن كان يصح أن نستخدم لفظة (هي) على ذاك المخلوق- تتوسطهما. ورأى أن أفضل من الخنق أن يضرب بالفأس في القلب,وكذا فعل. وتراجع مشدوها والصدمة تعلو وجووه الجميع. أسرعت أصلا تمسك وتدا خشبي وتغرزه مع الأشياء العالقة في جسدها,جسد مصاصة الدماء. ثم ارتمت على الفراش تحتضن مايكا التي انساب الثوم والملح من بين يديها. جوني نثر الحبوب من أرز وفاصوليا وغيره. وعلت ضحاكتها. ضحكات المرأة الشريرة.

 

كانت مصاصة الدماء,واقفة أمام المرآة لا يظهر إنعكاسها,ولا ظل لها يسقط على الجدار, وبالتأكيد لا تظهر في الصور الفوتوغرافية. تقدمت خطوات تدق بكعب قدميها على الأرض الرخامية دون أن يسمع صوتا لخطواتها. كل الماورائيات التي تلازم تحولاتها جلية أمام عيونهم. ولكن لم يشهدوا بعد أي تحول لها.

 

هجم الذئب بأمر من كاتلين ليعض في بقاع مختلفة من ساقيها,وقد بدا ضئيلا أمام طولها. كانت قد مزقت الحبال ونزعت النصال والأوتاد,بسهولة كأنها كانت تلهو معهم فحسب, وألتئمت جروحها في لمح البصر. هذا غير حقيقة كونها دخلت بدون دعوة أو إذن!.

 

وكمحاولة أخيرة,سحب أحدهم الستارة التي لم تكن مسحوبة,لتسقط أشعة الشمس على وجه المرأة الجميل,ولتلمع سلسلة فضية على عنقها,ذات تميمة على شكل صليب.

 

ابتسمت ماصة الدماء

-نعم إنها من الفضة

***

وعلى الجانب الآخر,أدرك ويليم أن كاتبة الكتاب,مصاصة الدماء,تتحدث عن نفسها. وعن اختلافها عن أبناء جنسها. خاصة في الفصل الأخير,لما أخذت تعرض كيف أنها تحب الملح والثوم في الطعام. ترتدي الأبيض وتتزين بالفضة. تنام معلقة من قدميها أو بحبل من عنقها. أو في تابوت,أو في قبر,أو على مجموعة من الأوتاد. وتقرأ الإنجيل قبل النوم. وتقضي قيلولة النهار تحت ضوء الشمس. إنها لا تنطبق عليها أي من نقاط ضعف مصاصي الدماء, ولكنها تملك قواهم جميعا بشكل مضاعف.

 

عرف أن أصدقائه هالكين,وتأكد لما حل الليل ولم يعد أحدهم لا إلى المكتبة ولا إلى النزل. ولملم حاجياته وهرب كما فعل سابقا. أصابه الرعب,ولم يطمأن هل رفاقه أحياء أم لا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

منتصف الظهيرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]

النار والدماء هي أقبح ما رأت عيناي والأكثر رعبا وإثارة للمخاوف بالنسبة لي,خاصة تلك الأخيرة التي لم أفهمها في حياتي قط. مادة لزجة لم تجد من الألوان كلها إلا الأحمر لترتديه ثوبا لها. وتعير ثوبها للنار أحيانا. وبرغم أن الدماء هي أكثر ما يخيفني إلا أنه ليست الشيء الوحيد الذي يصيبني بالقشعريرة حتى أصير خفيفا تذهب الرياح بي وتأتي كما تشاء. هناك أشياء كثيرة مخيفة زادات ظهوراتها لي في الأيام الأخيرة. تطاردني ما بين نومي ويقظتي,حتى ذهبت بي أمي إلى العارفين في هذه الأمور ليجدون دواءا لدائي. وما زال البحث جاري عن هذا الدواء.

 

أول تلك الأشياء الأخرى التي تخيفني هي الأقدام,خاصة لما أكون وحيدا في السوق وتظهر لي من تحت الحوانيت والعربات وبجوار الجدران والأحجار. أقدام لا أرى أصحابها تسير وحدها لا رابط لها ولا جسد متصل بها. هذا إذا نظرت للأسفل,فلو علوت ببصري يقع ناظري على تلك العيون. عيون بلا أصحاب. عيون فقط بلا أجساد. تنظر لي وقد تلونت بألوان عدة. فمنها الأسود والبني والأخضر والأزرق وما يلعب بين اللونين الأخيرين. من لون الماء أو السماء أو الفيروز أو الزمرد. وقد هون علي أنني لم أقابل بين تلك العيون من يطل علي باللون الأحمر. ويكفيني شرا وقلقا أنني أكون نائما سالما أتأمل النجوم وأتمنى الصعود إليها فإذا بإحدى العيون تحدق فيّ. ما يزيد على تلك العيون لما أرى الوجه مكتملا بعينيه وفمه العابس أو المبتسم. ولكن وجه في الهواء يسبح بلا جسد ولا تعرف ما هو. والابتسامة تشق وجهه مثل وادي يشق الصحراء.

 

وفي الأخير هناك الأيدي,أيادي عمياء تمتد تريد أن تمسك بأي شيء في طريقها. أو أحيانا تكتفي بأن تشير إلي كأنها تراني. ومثل الأقدام والعيون والأوجه,هي أيادي بلا جسد. ولكن كل ذلك لا يعني أنني تواقا لرؤية الجسد. لما تتجسد تلك الأجسام يكون حينها الرعب الأكبر.

 

ذعري يتفاقم يوما بعد يوم,لما أدرك أنهم دوما بصحبتنا وموجودين في كل مكان. في شوارعنا وفي بيوتنا,في اجتماعاتنا وفي وحدتنا. أكون داخلا إلى الحمام فأجد أحدهم خارجا منه,بهيئته الكاملة التي تخفت لها القلوب وتعمى الأبصار.

 

ذات مرة كان أخي مارا في حاله وإذ به يصتدم بأحدهم فيتلبسه,وقد عانى كبرائنا وشيوخنا في علاجه,وجعل ذلك الشيء ينفك عنه.

 

وأذكر قديما لما كنت طفلا أنني رأيت فتاة أخبرتني أنها من العالم الآخر,ونشأت صداقة بيننا لولا أنه ذات يوم تجسدت لي تلك الكائنات بهيئتهم الكاملة ونظراتهم الغريبة واختطفوها من جواري,وفرقوا بين يدي ويدها. ثم عدت أخاف منهم مرة أخرى,أو ازداد خوفي عن السابق.

 

 

 

[2]

أخذت أقرأ عن هذه الكائنات,وقيل أنهم مختلفون عنا في كل شيء,ويتشابهون معنا في أشياء عديدة كذلك,قيل أنهم يفوقننا قوة,وهم ينقسمون مثلنا إلى قبائل وعشائر. ومنهم أفراد وجماعات. مؤسسات وعائلات. مذاهب وديانات. وحتى أصدقاء وأزواج.

 

ضمن الأشياء الكثيرة التي تخيفني لما أجلس أتأمل النهر فأشعر بأنفاس شيء ما خلفي,له قلب ينبض,لكن لا يمكنني رؤيته,فقط الإحساس بحضوره. ولما آكل يأكل معي,وإذا شربت يشرب قبلي. أشعر دوما بحركتهم في كل مكان,وبأشباح صورية عن أجسادهم البشعة,منهم أقزام وعمالقة,طوال جدا ترتفع رؤوسهم عن الأرض,إلا أن البعض يسخر مني ويقول أنا الضئيل لا أكثر. أو رعبي هو ما يصورهم لي هكذا. يمكنهم التحرك بسرعة,في الهواء وفي الماء وفي الصحراء وفي الأبنية,يمتطون وحوش لم أرى مثلها أو أسمع عنها من قبل.

 

سمعت من الآخرين من جنسنا عن الآخرين من جنسهم,أنهم كائنات لديهم القدرة على الإبصار بما لا نستطيع نحن,وكذلك السمع والشم والذوق واللمس,وحتى أنهم يشعرون بوجودنا حتى وإن لم يروننا. تلك الرؤية التي يخترقها بعضهم من حين لآخر ناظرا إلينا. حتى أنهم صاروا قادرين على الطيران إلى النجوم فوق السماء بعد أن حرمنا نحن منه. فنحن ضئيلي القوة لا نستطيع الطيران,نموت بسهولة,حياتنا قصيرة. بينما هم خالدين. وأشياء أخرى مخيفة تروى عنهم. مثل أنهم أقوى مننا,لديهم طرائق سحرية للقضاء علينا.

 

هناك أشياء هلامية تسقط من تلك الكائنات,أشياء كثيرة,هم وحوش ينسلخون عن تلك الأنسجة المكونة لأجسامهم. شعر غزير كالغابات. وجلود ملونة تتقشر عنهم مثل الأفاعي. وأسنانهم مثل الضواري ومهما تحطمت تخرج من جديد كالقروش في البحر. يستطيعون إخراج معدتهم وتبديلها لتسع بطونه أكل أي شيء. يستطيعون تبديل أي جزء أو طرف في أجسادهم,أياديهم وأرجلهم,عيونهم وقلوبهم. وغيره. أخاف أن يلتهمونني يوما. لديهم القدرة على التناسخ غير قدرتهم على الإنجاب. وقدرات خارقة أخرى مثل التشكل لمختلف الألوان والتحجم لكبير أو أكبر أو صغير لا يرى. حتى أنهم يقدمون عروضا لبعضهم عن من الأقوى مثل البهائم التي تتناطح في البراري.

 

هم مثل اللاحقون على السابقون,السابقون هم الهن والبن وهم اللذين أتوا بعدهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

[3]

سمعت ذات مرة شعرا جميلا يقول

كم تشتكي وتقول أنك معدم … والأرض ملكك والسماء والأنجم

 

وقد وددت أن أستمع إلى باقي القصيدة التي تلك مطلعها,إنها أحد الأشياء التي لا تخيفني فعلا. بل وارتاح إلى سماعها. ولكن المشكلة أنه لا يخاطبني أنا فالأرض والسماء والنجوم يشاركني فيها تلك الكائنات المقيتة,سمعت أنهم حتى يشاركوننا في نبي الله وخاتم مرسليه محمد ذلك الكائن النوراني. وعلى ذكر النور فقد صاروا يصلون إلى النجوم بينما نحن حرمنا منها,وصاروا يسكونون البيوت بينما نحن طردنا منها. هم خافين عن الأعين,لكن لما نراهم تتفجر أحقادنا تجاههم. هم يتلبسوننا أحيانا ويستدعوننا أحيانا,لكننا مقتدرين عليهم. أجسادهم مخيفة,لكنها تفنى بسهولة. المعيشة النهارية هي وقتهم,في منتصف الظهيرة ونحن منتصف الليل. هم خالدين في وسائطهم وكتبهم. وكذا تتغير أشكالهم.

 

ملاعين هؤلاء البشر. أنا أخاف منهم ولكن أكثر من ذلك أنني أكرههم.

 

وعروضهم هي ما تم تسميته السينما من قبلهم. وخلودهم متمثل في خلود أفكارهم.

 

أما عن النسخ,وهو الأكثر إرعابا لي,فكانوا يتناسخون في صور ذهنية مكتوبة في نصوص أدبية,أو صور بصرية -وهذا ما يكاد أن يقتلني رعبا- معروضة في ما يسمى بـ الأفلام,التماثيل,الدمى,اللوحات,الصور,الأقنعة,الآليات. والعديد من النسخ التي نعجز نحن على الإتيان بمثلها.

 

وتذكرت صديقة طفولتي التي استدعوا شيخا ليسلبها مني,وقررت أنني لما ازداد كبرا ويمضي بالزمن عمرا وتتثبت قدراتي تمكنا. قررت أنني سأحافظ على ذاك العداء

بين الجن والبشر.

نحن وهم.

تعليق “النهايات

  1. يقول Tammy Cummins:

    Greetings! Very helpful advice within this post! It is the little changes that will make the biggest changes.
    Thanks for sharing!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *