مقدمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد سنوات من التفكير -دون مبالغة والله- استقر قراري على أن أول ما يخرج من أدبي على الساحة هو ثلاث مجموعات قصصية من أدب الرعب.
الأيام وهي تحيل جميع الأعياد في مختلف الثقافات إلى احتفاليات كابوسية.
النهايات وهي تتحدى عقل القارئ بنهايات صادمة أو غير متوقعة.
القبور وتقدم في كل قصة قبرا مختلفا عن القبور في القصص الأخرى.
تعددت الأسباب والموت واحد.
المجموعة الأخيرة هي التي أقدمها أولا هاهنا بين دفتي هذا الكتاب,هذه القصص قد تجعل القارئ يدرك أن الموت ليس أسوأ المصائر التي قد يلاقيها إنسان,بل طريقة الموت مما يقشعر لها الأبدان ويصير الموت محببا,وأن نوع القبر الذي سيحوي جسدك قد يتحدد بناء عليه طريقة موتك.
وكعادة أي كاتب رعب يحترم نفسه فأنا أعد القارئ بالكثير من الرعب,خصوصا لما يعلم أن الكثير من أحداث القصص -خاصة الممارسات الغريبة- مما استلهمته من وقائع حقيقية وأضفت عليها بالطبع من ملكة الخيال وجموحه. والقصص مرتبة بشكل عشوائي -ربما أبجديا .. لا أذكر- فلا ترتيب معين يضع الأضعف ثم الأقوى,رغم أنني آمل أن تكون كلها على قدر من توقع القارئ. وهي
1-الأسلاك
2-البئر السابع
3-الباب
4-التحول
5-الجدار
6-العجز
7-العين
8-سيارة على جانب الطريق
9-عيد الأضحى
10-قصر الزمالك
11-قمر
12-ليلة واحدة
13-الشهداء
إهداء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى كل من كان
دفنه قبل موته
الأسلاك
[1]
هذه هي أول مرة يمر ياسر من تلك المنطقة عابرا من هذا الشارع وداخلا إلى تلك الحارة وآملا أن لا يكون ذاك البيت في آخره يمثل نهاية مسدودة لطريق طويل في مشواره إلى مدرسته البعيدة. حارة طويلة ممتدة أمامه على طريق غير ممهد ومتعرج وومتلئ بالشقوق والحفر والمرتفعات والمنخفضات والحجارة,ومكون من التراب والطين والحصى. ظل يمشي فيه كثيرا حتى توقف عند منعطف يؤدي إلى شارع مفتوح على اليسار,إلا أن نهايته لا تؤكد إن كانت مفتوحة أم مغلقة. وقف قليلا متحيرا في أي الطريقين يسلك. هل يكمل في الشارع الذي دخله (أو تراها حارة؟) أم يسلك شارعا آخر متاحا أمامه الآن. وفي ظل حيرته تسائل عن لماذا لم يقابل أي شخص أو حتى كلب ينبح أو قط عابر من أمامه إلى الآن. ثم زال استغرابه لما خمن أن ذلك أمر اعتيادي في مثل هذا الوقت المبكر والصباح للتو طلع بشمسه. في ظل تساؤلاته كان يتأمل البيت المقابل للشارع الذي شكل انعطافة لسيره. لفت انتباهه بشكل غريب أرجع شعوره بالاستغراب تلك الأسلاك الكثيرة في ذلك البيت. ثم رجح أن أغلب البيوت صارت لديها كل تلك الأسلاك تكاد لا تستغني عن أحدها. سلوك صاعدة وأخرى هابطة,في حزمة تسير متجاورة على طرف البيت أقصى اليسار متجاورة مع حدود البيت المجاور يساره. وقف يسلي نفسه بأن يحدد طبيعة كل سلك منهم.
سلك الهاتف (بالطبع لأجل الإنترنت) وسلك الإنترنت ينزل من الطابق الثالث للطابق الثاني (وصلة واحدة فقط!) وسلك الإريال حيث رآى جهاز الإستقبال (راوتر) القديم معلقا في نهايته على سطح البيت (هل لازال أحد يملك إريال؟) وسلك التلفزيون (بالطبع) حيث ينتهي إلى جهاز الإستقبال الفضائي (الدش) متجاورا مع الإريال القديم على حافة سطح البيت, وسلك الكهرباء (شكلهم سارقين الكهربا ومعندهومش عداد).
وسط أفكاره الاستغرابية أتاه شعور أكثر غرابة وقاتم ينقبض له القلب ويتخمر الصدر.
###
يلتفت على يمينه ناظرا إلى الجريدة في يد الرجل,بلا أي أخبار مهمة. ثم إلى يساره ليظل يحدق في فتى وسيم وجميل وصغير لم يتخطى السابعة عشر بعد,ينظر في هاتفه الخالي من أي أزرار ذو الشاشة عالية التقنية وفائقة الجودة. يرتدي الفتى قميص أبيض خفيف فوقه سترة سوداء بلا أكمام. يطوق معصمه ساعة فضية غالية,وتطوق عنقه سلسلة فضية جميلة. ويتوج رأسه تسريحة شعر تفتن الطالبات الثلاثة الواقفات على البوابة. طوى الرجل الآخر الجريدة وظل يتأمل الفتى الثري معهم. إلا أنه ليس ثريا.
توقف القطار ودخلت من بوابة العربة فتاة أجمل من القمر,وتغيرت نظرات الحسد إلى الفتى الثري لنظرات الشبق إلى الفتاة الحسناء. حتى أن الفتى نسى أمر الفتيات الثلاثة اللواتي يحدقن به ويتهامس عنه. توقف القطار مرة أخرى ونزلت الفتاة القمرة فنزل ذو السلسلة الفضية ورائها.
###
-عمل على فلاشا!
-نعم,عمل أسود
-كيف هذا؟
-مزج بين السحر والعلم
-مفهومين متناقضان تماما,فكيف تجمع بينهما؟
-تطور يتعلق بمفهوم الغرفة النحاسية
###
كعادته يركب تامر أول عربة في مقدمة القطار الآتي من حلوان,ولما نزل سار خلف الفتاة على طول الرصيف,وقبيل وصول منتهاه لاحظ أنها أسقطت حقيبتها بشكل يوحي أنها تعمدت ذلك. نزلت الفتاة السلالم المؤدية إلى قضبان القطار الحديدية لتتجاوزها ثم تصعد الثلاث درجات للسلالم المؤدية إلى الرصيف المقابل. انحنى يتناول حقيبتها ولما استقام رأى أنها تركض وشاهدها وهي تدلف بسرعة من الباب لتخرج من المحطة. وكان القطار قد مر فأسرع يركض إلى منتصف الرصيف حيث السلالم المؤدية إلى الجهة الأخرى. وأدرك أثناء ركضه صاعدا درجات السلم الكثيرة أنه كان خيار خاطئ,فكان عليه المرور من القضبان أسرع للوصول إليها. لما بلغ الباحة الأمامية للمحطة وجد أن الفتاة اختفت بلا أي أثر يدل عليها سوى حقيبتها التي في يده.
###
سلك الهاتف
في وضعية قديمة للغاية وصارت حتى من كلاسيكيات بل ونمطيات العلاقات الرومانسية, تمددت هند على فراشها بشكل عرضي بامتداد طولها تتخبط قدميها على الطرف الآخر في نشوة مقبلتان لبعضهما,بينما تتدلى رأسها للخلف تعلو نهديها الفراش وينزلق عنقها للأسف منتهيا برأسها وهي تمسك الهاتف على أذنها وتعض على شفتيها,تلف سلك الهاتف على أصبعيها السبابة والوسطى. وتستمتع بوضعية غير مريحة لغيرها. سألت الطرف الآخر على الهاتف وهي تنظر إلى السقف.
-أنا أجمل أم هند؟
-هند من؟
-أي هند
-أنت بالطبع
-احلف
-وحياتك عندي,أنت أجمل من هند رستم وهند صبري وهند البلوشي وهند القحطاني وهند رضا وهند عبد الحليم وهند بنت عتبة وهند بنت المهلب,وحتى لو صاحب سلسلة مطاعم كشري هند لديه ابنة اسمها هند فأنت أجمل منها أيضا.
-بقولك إيه
-قولي
-تعالى
-كيف؟
-لا يوجد أحد هنا,ولكن تعالى من فوق السطح
وأتى متسللا بالفعل.
سلك الإنترنت
جهاز الإنترنت بجوارها يخرج منه أداة للفصل بين سلك الهاتف وسلك آخر يرسل الإنترنت إلى غرفة أخيها الصغير مازن القابع تحتها في الطابق الذي يليها. وهو جالس على حاسوبه يتصفح بين مجموعة من المواد الإباحية المختلفة.
سلك الدش
وكان شقيقهم الأصغر جاسر يشاهد مجموعة من الإباحيات السوداء هو الآخر,ولكنها مندسة داخل مجموعة من الرسوميات الملونة الزاهية التي تبهر العين وتذهل العقل. محملة بجرعات من العنف المشحون بالدموية والممتزج بالسادية والمغلف بالكراهية.
سلك الأريال
لقد جمع جمال وهو أبو الأشقاء الأربعة,ثروة فنية وثقافية,والأهم بالنسبة له قيمتها المالية,من التحف والأشياء النادرة من الفترة بين العصر القديم والعصر الحديث,أي الألفية الثالثة.
سلك الكهرباء
بينما يستحم هو كانت زوجته التي احتفظت بجمالها الفاتن بشكل فاتك بعد تخطيها الأربعين على بعد لحظات من زوال ذلك الجمال محترقة حتى التفحم في المياه. وذلك بسبب اقتراب بقعة الماء المنسكبة من الصنبور التالف من قطعة عارية ضئيلة في سلك كهرباء متدلي من إحدى الأجهزة الكهربائية وموصل بالقابس.
###
أثناء عودته,وقد كان راكبا عربة أجرة من نوع (الباص) هذه المرة,مكملا رحلته بدلا من القطار النفقي. فتح الحقيبة أمام نظرات الرجلين المجاورين له استغرابا للحقيبة الواضح أنها لإمرأة من شكلها وقد حسبوه لصا,ولكن لم يتدخل أحد أو يتهمه أو يسأله. وجد تامر داخلها شريط فيديو وشريط كاسيت وشريط أتاري وقرص صلب واسطوانة حاسوبية وكارت ذاكرة ووحدة ذاكرة وميضية. قرر أن يبدأ بتلك الأخيرة لما يصل إلى البيت,وهو يبتسم من اجتماع كل تلك الأشياء الغريبة والقديمة معا. “عاشقة النوستالجيا” هكذا علق ساخرا في باله.
[2]
لما رآه قادما من بعيد,تبادلا النظرات المستغربة,ثم تحولت نظرة تامر إلى العدائية,بينما نظرة ياسر إلى الشفقة,وقال له الأخير وهو يمسكه من معصمه
-رجاء لا تدخل
-يا أخي إبعد انت عبيط ولا إيه
ودفعه في صدره ولم يفهم ياسر سر خوفه.
###
كانت الفتاة تعبث الآن مع فتاها,وقد أتى إليها قبيل وصول أخيها بدقائق,هددته أنه لن يخرج حيا من المنطقة إلا بعد أن يكتب عليها,وهي جهزت الأوراق. فاجئته بالفخ الذي صنعته له وأن أبيه وإخوتها الرجال في البيت اللذين على غير علم بعد سيعلمون آلان. لم يتردد فخنقها بسلك الهاتف في غفلة من أمرها,وأجهز عليها دون أن يصدر أي صوت عالي منها. بضع حشرجات خافتة فحسب. وبضع لطمات من يديها على وجهه,وبضع رفسات من قدميها على الفراش والأرضية. علامات المقاومة الطبيعية لأي إنسان تسلب روحه. وبينما يتقافز على أسطح البيوت هاربا,كانت أم الفتاة تجف دماءها مثلما حدث لإبنتها ولكن بطريقة أخرى حين سرى في جسدها التيار الكهربي. الرجل الذي يستحم في الحمام سيجن جنونه لما يفقد زوجته وابنته (ويقال أمه أيضا) في نفس اليوم. ولاحقا قبل استيقاظه من الصدمة سيكتشف أن ثروته من التحف الغالية ضاعت أو سرقت. مما يختم عقله تماما. مصير المراهق مازن مجهول لياسر,إلا أنه لاحقا سيسمع عن القبض على السفاح الشهير الذي سيصير عليه الطفل جاسر الذي كان يشاهد الإباحيات,ويفاجأ باختفاء أبوه (في المصحة) وأخويه (مجهول مصيرهما) ومقتل أمه وشقيقته.
أحد الأخوين كان مصيره معلوم بالنسبة للفتاة حاملة الحقيبة,وهو يشغل حاسوبه القديم الآن, ويضع الذاكرة (الفلاشة),ويدخل ليفتش محتواها فلا يجد سوى اسمه يتعبه لافتة اعتراضية حمراء لم يسعفه الوقت ليقرأ نصها.
صار للأبد داخل الحاسوب,وسيعيش عمره بالكامل إلى أن يموت. لما أدرك الفتى مصيره ظل يتمنى طوال حياته أن يوصل أحد ما حاسوبه بالإنترنت. وهو لا يعلم لماذا لم يكن متصلا في تلك اللحظة المنكوبة. على الأقل كان سيتسنى له ممارسة الإباحيات الثرية في فضاء الإنترنت.
###
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في الحاسوب
البئر السابع
[1]
انسحاب .. انسحاب
دوت الصرخات تحمل الكلمة إلى آذان الجنود,وكان أكثر أمر أقبلوا عليه وأكثر ما طمئن قلوبهم الجزعة. ومن بين تلك القلوب يكاد قلب سام يرتعد من الخوف لما كان سيحل به,وطرب قلبه فرحا حين بلغت الكلمة أذنه. انسحاب,أخيرا سيعود لمعسكره الآمن,المعسكر الأكثر أمانا في تلك الحرب المروعة.
الشيء الوحيد الذي يُعرف عن هذه الحرب هي أنها حرب فرعية من الحرب الكبرى اندلعت بسبب بائع ليمون,وغير معروف تحديدا كيف حدث ذلك,ولهذا سُميت حرب الليمون. أتاه هذا الخاطر الساخر أثناء تراجعه مع القوات راكضا يحاول سباقهم إلى الملاذ الآمن لهم. لم يكن جبانا وقد عُرف عنه الشجاعة والإقدام. إلا أن أمر الإنسحاب قد أتى. وكما يركض إلى أرض المعركة يندفع أيضا إلى المخبأ. وقد أتته رصاصة في كتفه سر لها حاسبا أنه قد يرتاح قليلا في العناية الطبية. إلا أن الإصابة آلمته وشلت حركته فأسقطته على وجهه. هنا دب الفزع في قلبه. تمالك نفسه وقام يجري فنال رصاصة أخرى في منتصف ظهره. ومرت الثالثة من رأسه تخرج من عينه اليسرى وكانت عينه اليمنى مسدودة بسبب الدماء على جبهته,فحسب أنه يرى الرصاصة وهي تخترقه وتخرج مقتلعة عينه. أو ربما فعل حقا. رآها بالتجويف الخالي الذي يؤدي إلى الجهة الأخرى من جمجمته,الجهة المقابلة لوجهه والتي حملت ثقبا مظلما وطويلا كنفق الموت. أدرك أنه مات. ولم يشعر بباقي الرصاصات التي تمزق ظهره.
###
استيقظ مرة أخرى,وجد نفسه عاجز عن الحركة,وأتاه التساؤل الأول التقليدي في هذه الحالة “هل أنا ميت؟” ثم تلاه التساؤل الثاني الأكثر نمطية “أين أنا؟”
نظره كان قويا بواسطة أداة حربية مثل عينه المنظارية وقد صار بسببها قناصا له مكانته بين زملائه وأمام قادته ويخشاه جنود وقادة الطرف الآخر من الحرب. ذات العين التي كان يقتنص بها الأهداف البعيدة,رأى بها امتداد الممر الطويل أمامه الآن. والذي ينتهي بفتحة يأتي منها ضوء أبيض. “هل هذه تجربة العودة من الموت التي أمر بها؟” أدرك أن الممر هو النفق الرأسي للبئر فهاله معرفته لحقيقة الوضع الذي هو فيه.
###
أخذ سالم يركض في خط مستقيم,لا يريد أن يكون مثل الأبله يجري هنا وهناك,ولم يتخلى عن سلاحه مثل الحمقى المذعورين,رغم أنه ليس أقل منهم جبنا,إلا أنه لا يزال يقاتل ويفتح النار بوابل من الرصاص على كل من يقابله طالما ليس حليفا له. هذا قد يكون انسحابا وليس تراجعا. قدماه تريدان أن تنزلقان أسفل منه ليترمي جسده على الأرض نائما,بل ميتا إذا ما ترك التعب والألم يسيطران عليه.
###
تطايرت الرصاصات فوق رأسه هنا وهناك,كان سانشو قد أرتمى على الأرض ما أن أدرك ما يحدث,ممدا على وجهه حاول إسترجاع شريط حياته أمام عينه فلم ينجح,حاول عرض بعض من ذكرياته بلا جدوى,كانت هذه هي الصورة في مخيلته لمن يوشك على الموت.
رأي بابا أمامه,خافضا رأسه جارا ذيله إندفع هاربا منه إلى أن وجد نفسه في الطريق الرئيسي,جرى حتى تقطعت أنفاسه ولكنه لم يتوقف إلى أن أتاه خاطر غريب,أخذ ينظر متمعنا في جسده فلم يجد أي شيء,لم يصب برصاصة ولا بجرح واحد,تعجب أن قدر له أن يخرج حيا سليما.
أخذ يدور حول نفسه مسددا نظراته في الباحة,لقد استولى المعسكر الآخر على معسكرنا.
###
كان ريك يجر جسده غير شاعر بساقيه,خمن أنه مبتور من عند الفخذ أو ربما حتى من عند الحوض,الإحتمال الأخير يعطيه تأكيدا بأنه سيموت,وبكل الأحوال هو سيموت من النزيف,أي أن الموت مطارده لا محالة,ولكنه لازال متشبثا بالأرض بأظافره المتكسرة وأصابعه الممزقة,الأرض التي لن يدفن تحتها إذا مات,بل سيلقى به في البئر.
###
لا تصدق ساشا أن العدو تمكن منهم,واستطاعت قواتهم اقتحام المعسكر ويوشكوا على الإستيلاء عليه. الصدمة الأكبر كانت من زملائهما اللذين تخلوا عن رجولتهم وتحول انسحابهم التكتيكي من أرض المعركة إلى هروب مذل من أمام العدو الذي احتل أرضهم. كانت تركض لتلوذ بحياتها هي الأخرى,وقد قتلت بضع جنود من الأعداء في طريقها,وربما جندي من صفوصفهم دون أن تقصد. ثم أتتها الحمية فألتفت لتعود أدراجها لمواجة العدو. وما أن بدأت تركض في الإتجاه المعاكس وكلها عزم وصلابة,حتى نالت رصاصة واحدة صنعت ثقب في رقبتها وهي تمر إلى الجهة الأخرى. وتسائلت هل الثقب إلى الخلف أم إلى اليسار,وهي تطوق بيدها حنجرتها التي تنزف وعاجزة عن أخذ بضعة أنفاس نفيسة.
###
منزويا علي نفسه خلف الباب ملتصقا بالحائط,الغرفة مغلقة بإحكام,الباب مثبت بألواح خشبية والنافذة مدعمة بالحديد,وقد رمي مفتاح باب الغرفة في بالوعة الحمام,وأغلق باب المبنى ذو الثلاثة طوابق بالسلاسل.
وحيدا في الغرفة,وحيدا في الطابق,وحيدا في البيت كله الذي خلا من الجنود الأحياء عداه هو,وقبع المكان في الصمت والظلام رجلا وحيدا محتضنا نفسه يرتجف باكيا.
حاول الإستماع إلي بعض الأصوات الدافئة لأي من زملائه بالخارج في معمعة الحرب الساخنة,ولكن أصوات الجنود تكاد تتلاشي عن عقله تماما وتصم أذنيه عنها,رغم أن المبنى الإداري مصمم ليعزل الصوت الخارجي عن غرف القادة بالداخل.
غارقا في أفكاره,بين قطرات دمعه الساخنة,وقطرات عرقه البارده,وضجيج نبضات قلبه,اتخذ هوف قراره.
تحسس الأرضية في الظلام حتى تناول أداة الموت ذات الرصاصتين,وضع فوهة المسدس في فمه وأصبعه علي الزناد,وتسارعت أنفاسه وتذكر للحظات عائلته والصدمة التي تنتظرهم لما يصلهم خبره,تذكر زوجته وأطفاله,تذكر أمه وأخته,تذكر,,,تذكر,,,أخذت لحظات الحياة الحلوة تمر سريعا من أمامه,وتراخت يده عن قطعة الحديد الباردة,,, ولكن ومضة سريعة مرت علي عقله,فتخيل ذلك الشيء الذي ينتظره,ذلك الظل الذي سيأتيه ليلا,,,وما هو قادر علي فعله,مجرد تخيله يجثم علي صدره ويجزع عقله. هناك شرّ سيخرج من البئر بعد أن امتلأت بالدماء وهو الذي كان يسخر من الأسطورة سابقا. تسائل عن السر في بناء المعسكر حول ذلك البئر المشئوم. ربما لإخافة العدو من الإقتراب من موقعم.
يا ليته ما دخل هذه الحرب
ضغط الزناد فأتته ومضة الموت
ثم الظلام
###
شعر جون أن جسده يُلقى به في البئر,هل أصيب في المعركة. هل خسرنا الحرب. هل حاصرنا العدو,وغزو معسكرنا؟ وهو يقع في الهاوية تسائل عن سرّ إهتمامهم بإلقاء الأجساد الميتة في البئر. وعند وصوله وتكومة مع جثث الحلفاء والأعداء معا. وقبيل اللحظة الأخيرة لموته,أدرك أنهم يملؤون البئر في محاولة لإستدعاء الشرّ القديم,اتخاذا لمبدأ عليّ وعلى أعدائي,لعل الساكن في البئر يحقق إنتقام الجميع.
###
الجسد الممزق لسام يخرج من البئر,ولن يعود إلا وهو متغذي على كل أجساد الجنود من الطرفين. وسوف تسمع الصرخات لتصل إلى المعسكرات البعيدة وهم غير عارفين أنها لا تنتج عن تمزيق الرصاص بل تقطيع الأسنان.
[2]
في مساء كئيب سهروا الليل يلعبون كرة القدم التي لا يرونها تحت أقدامهم إلا من ضوء القمر الخافت فوق رؤوسهم. كانت ليلة حزينة بالكامل,من اللعب والموت بين مجموعة من الشباب ذو الأعمار الصغيرة والعقول الضئيلة. عدا سيدهم الذين كان تربطهم معه علاقة غريبة هي أقرب إلى نوع من العبادة بين السيد وخدمه,أو ما يطلق عليهم أصدقاءه.
معالم المكان هي ذلك البيت القريب,وهو منزل السيد,والبئر الملعون في آخر الساحة التي يلعبون بها,بجوار الغابة التي يميل أغلب المنتحرين أن يقضون لحظاتهم الأخيرة فيها.
عن منزل السيد
هو منزل بين كولينزي,وهو المنزل الأكثر بغضا ورعبا في المنطقة كلها. ويرجع ذلك لتصميمه المخيف,وتاريخه الأسود.
والمنزل مشهور جدا في الولاية الأمريكية,ومعروف بعبارة (المنزل الذي يتنفس) كما في فيلم القمة القرمزية,أو المنزل الذي ينمو كما في فيلم الوردة الحمراء.
عن السيد نفسه
بين كولينزي اللاعب الأقل إحترافية بين فريق الهاوين,والأكثر هيمنة عليهم,هيمنة نفسية وليست قيادية,حيث أن جون القائد نفسه ينصاع له. هواياته المعروفة هي التسكع مع أصدقائه ليلا,مشاهدة أفلام الرعب ليلا,تلو قصائد الشعر ليلا. هو مخلوق ليلي يندر أن يُرى نهارا. يحب الرعب والشعر والسلطة,حقق الأولى بواسطة رصيد من المشاهدات والقراءات المتنوعة في سينما الرعب وأدب الرعب. والثانية حققها أيضا رغم رداءة شعره وقبح صوته,ومستمع واحد متمثل في جوليا حبيبته,بالطبع يمكنه أن يُسمع كلماته لأصدقائه حتى وإن لم يعجبهم ذلك,لكنه يعتبر كلماته هدايا غالية يقدمها لعشيقته.
أما عن الثالثة فإن سيطرته ظاهرة على والديه,أقربائه,أصدقاءه,مريديه,وحتى من يتقابلون معه صدفة على الطريق أو يجاوروه في حافلة,أو يجالسوه في حانة,بل وحتى المنتحرين في غابة الموت.
عن غابة الموت
تزينت أشجارها بجثث الموتى,ما بين الأجساد المتدلية من أعناقها على حبل مربوط في غصن ما,أو الأجساد الملقاة على جذورها وقد تمزقت أوردتها بواسطة نصل ما. أو رأس تناثرت بقاياه من قطع جمجمية أو لحوم مخية أو سائل لزج ممتزج مع الدماء على جزع شجرة ما. أو عيون ميتة تحدق من وجه جامد بعد تناولها السم إلى أعين عابر ما.
على تلة خلف حد من حدود الغابة على وادي عميق تقبع مقبرة قديمة معروف أنه تم اقتباسها في فيلم ساحرة بلير وفيلم رعب آخر لـ ناتالي دورومر عن غابة الإنتحار اليابانية.
عن المقبرة القديمة
ليست مقبرة للبشر,وقيل أنها كانت يوما مقبرة للحيوانات حين تسببت في مأساة عائلة كريد,وقيل أن المقبرة مبنية على جثث الجنود من معركة ما قديمة اندلعت هنا ربما في الحرب الأهلية الأمريكية,وتتوسط المقبرة بئر جافة أقدم من المقبرة ذاتها.
عن البئر
أكثر ما اشتهر به هو أنه كان نفس البئر في الفيلم الشهير الذي تم صنعه لـ سامارا وهي تخرج منه,قيل أيضا أنه نفس البئر الذي يخرج منه الشيطان في سلسلة موت الشيطان الشهيرة.
[3]
نداء من السعير ابن سعار أصاب البئر فصار مسعورا,يلتهم أجساد الموتى ولا يمضغ أجساد الأحياء,لذا لما قفز فيه بين كولينزي ليسترجع الكرة أصابه ما أصابه,وتكررت مأساة الحرب مجددا وضحاياه هذه المرة هم كل من له صلة مع بين. وبالطبع ما حدث من نزول هاش في فيلم موت الشيطان كان تحويرا للقصة الأصلية إذا كان مقتبس منها.
تكومت الأجساد في فوهة البئر العميقة التي تبدوا للناظر لا متناهية,وإذا ألقيت حجرا يتوهم السامع أنه لا يصل للقاع,وفي آخره الأجساد غارقة في بركة من الدماء المبلول بالماء.
نفس البئر الذي ألقى فيه جون بارتريدج اللحم البشري الحي إلى بيزار الأنتاسي سيد الظلام الذي يأتي قبل الجموع. نفس البئر الذي يخرج منه بين كولينزي متعطشا ونهما للمزيد كما خرجت قبله سامارا من فيلم الحلقة.
###
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في البئر
الباب
[1]
استيقظ شاعرا ببرودة الأرضية تحت جلده كأنه عاري من ملابسه,كان يريد النوم ولكن أمران منعاه من تحقيق ذلك؛الأول هو أن البرودة التي أثلجت عظامه وهزّت بدنه حالت دون نومه. الثاني وهو استغرابه للأرض التي أتت تحته. فتح عينيه ليبصر أشخاصا أكبر منه, صحا من نومه وقد أدرك أنه أصغرهم. الأمر الثاني الذي لاحظه أنهم في غرفة مغلقة ومضاءة بمصباح أصفر باهت جدا,أو ربما الإضاءة بنية.
نظر إليه أحد الشابين الواقفين يدخنان السجائر سويا,نظر له بعينين بنيتين وهو يفكر في المأزق الواقع هو فيه,خمن أنه في زنزانة ما,واستنتج بناء على ذلك أنه تم القبض عليه,غالبا في قضية مخدرات. أشاح الشاب نظره عنه وأخذ يتحدث مع رفيقه الواقف بجواره والذي يرتدي ثياب غالية بينما الآخر ثيابه رثة يحاول الحفاظ عليها من أفاعيل الزمن. نظر الشاب ذو العيون البنية مرة أخرى إليه فتحاشى نظراته وهو يشعر بالخوف,لا يدري الفتى الصغير ما الذي أتى به إلى هنا.
عاد إلى الأحداث التي سبقت نومه فتذكر أن شبابا كانوا يتعاركون معه وأنهم تلقوا ضربا ساخنا من أبناء منطقته,وختم يومه بشجار مع أمه,ثم أنهى ليلته بمشاهدة بعض المواد الإباحية. نام واستيقظ هنا. فكر أنه غالبا مقبوض عليه,ولكنه لم يكن منتشيا,وحاول أن يتذكر هل كانت هناك مخدرات أو كحوليات ووصلت به ذاكرته أن غرفته كانت نظيفة إلا من الإباحيات. هل قبضت شرطة المصنفات عليه؟,ربما هي الآداب,ولكنه مازال طفلا,أو بوصف أدق مراهقا,إذن يفترض أن يكون مصنف ضمن قسم حوداث الأحداث.
حاول أن يتجنب تفكيره في الوضع الذي هو فيه وأخذ يحاول معرفة السجناء حوله صامتا مستخدما نظراته فقط,هناك شابان أحدهم ربما تم أخذه في اشتباه وربما يخرج في أي لحظة,بينما الآخر رث الثياب يبدوا أنه تم القبض عليه في قضية مخدرات. هناك رجل ثالث قريب من عمرهم ينام بجوار الجدار عند الزاوية المقابلة لزاويته حيث الجدار خلف ظهره والرجل النائم على يساره أم هو -المراهق- منكمش في الزاوية جوار الباب من جهة اليمين. باب غريب أراد أن يقوم ويقف أمامه حتى يتأمله لكنه لا زال تحت تأثير الصدمة من المكان الذي أتى فيه,ومذعور من الناس من حوله.
في الجدار المقابل حيث يقف الشابان في الزاوية المقابلة أمام زاويته وقفت إمرأة في الزاوية الرابعة المتبقية منكمشة مثله لكن غير بادي الذعر عليها مع ذلك,ربما أتت في قضية آداب كما يفترض الفتى. وبينها وبين الشابين كان هناك رجل عجوز ملتحي جالس على الأرض متكئا بظهره على الحائط,وكانت عيون العجوز مرتابة كأن به خلل ما. ثم لاحظ أن هناك ساقا تمتد لرأس إنسان بجواره لم ينتبه إليه إلا الآن؛رجل في الأربعينات من عمره واقفا جواره يدخن سيجارة ويرتدي قميص أزرق تطل من فتحته شعرات صدره طويلة بشكل لافت,وبنطال جينز يبدوا أنه كان أزرق تآكل لونه من الزيوت والشحم والتراب والزمن. لقد بدا له هذا مجرما,والشاب الواقف أمامه جوار المحترم أكثر إجراما,ثم استيقظ الشاب الأخير الذي كان نائما على يساره. ليتضح له أن هذا هو المجرم الحقيقي,بلطجي بمعنى الكلمة,وأن الذي أمامه ليس إلا مشاغبا. هذه كانت أفكار كرم حول من حوله.
[2]
تأمل الشاب الذي صار رفيق سجنه منذ دقائق ورجح بعد نظرة متفكرة إلى ثياب محمد النظيفة أن قضيته سياسية. ربما دعارة لكن الفتى يبدوا طيبا من وجهه ولهجته. نظر الشاب مرة أخرى إلى الفتى الآخر الذي استيقظ لتوه من نومه فتحاشى الفتى نظراته والخوف يطل من عينيه,والحيرة بادية عليه. خمن أنه مأخوذ اشتباه فقط لا غير. هناك إمرأة وحيدة لا يدري ما أتى بها في الزنزانة,لا يبدوا أنها آداب وربما أتت في قضية سياسية هي الأخرى,ويعاقبونها بتركها بين ستة رجال. أو خمسة رجال ونصف فلم يكن يحسب الفتى رجلا. أزاح نفسه جانبا حتى وقف أمام الكهل ذو القميص الأزرق,تحداه بنظرات في عينيه ولكن الأخير لم يشح بصره,فأخذ يتأمل بقع الدماء التي رآها على سرواله. إذن فهو آت في مشاجرة دموية. ومن بقية الآثار على البنطال يرجح أنه حرفي في أمر متصل بالسيارات أو الماكينات. أكثر ما ضايقه هو وجود ذلك العجوز في نفس الزنزانة,لا يستطيع تبين الصحة أو المرض في ملامح وجهه من الزاوية الجانبية التي ينظر إليه بها. وأخيرا استيقظ الشاب النائم لصيق الحائط هناك. أول شيء فعله حين قام كانت دفعة أو ركلة وجهها بقدمه إلى ساق المرأة بقربه. تضايق سمير لرؤيته يفعل ذلك وتدخل الشاب محمد بينما المرأة تنظر لكاظم غاضبة وهو لا يكظم غضبه,ما أن اقترب الشاب المحترم محمد حتى ركله في بطنه أو في فخذه.
-ارجع ياض (يا فتى)
اشتعل الشاب غضبا ولكنه آثر التراجع بينما تقدم سمير بدلا منه.
-أنا سأنادي الشاويش
-نادي من تنادي
قالها للمرأة صفاء غير عابئ بتهديدها,فأخذت تطرق على الباب الخشبي بيدها ثم بيديها,ولم تلاحظ بعد وسط ذعرها مقبض الباب الذي يدعوها لأن تفتحه. لما اقترب سمير من كاظم ركله الأخير فصد ركلته بضربة مقابلة من قدمه,ثم دفعه في صدره ليتهاوى كاظم للخلف مرتطما بالحائط,فمد يده يبحث عن نصل أو موسى يقاتل بها ولم يجد. تدخل حسن الأربعيني في محاولة لفض الشجار. وكرم وصفاء ومحمد يطرقون الباب بقوة ومنادية بصوت عالي جدا,بينما محمود العجوز ينظر ولا يبالي.
أخذ كاظم يدفع هذا ويزعق ويعلو في صوت وصياح,كان أكثر شراسة وعنفا من سمير بينما الأخير أميل إلى المصالحة والهدوء لولا أنه غاضب الآن,واستمر سمير يقاتل متقبلا لتدخل رجل أكبر سنا مثل حسن.
الجميع لم يتسنى لهم فرصة لمعرفة أسماء الآخرين,وأول من نطق باسمه هو كاظم حين دفع بغلظة في صدر حسن وركله في ساقه,فأخذ حسن يحملق فيه بقسوة.
-لا يابا متبصليش (لا تنظر إلي) كده (هكذا) لأغزقلك عينيك (تهديد بفقأ العين)
ضربة من سمير في فمه ليتراجع مرة أخرى وقد أدمته قبضته
-لا,ده أنا كاظم الحلواني
استمر حسن في بحلقته والفتى ثار غضبه وصار لا يهدأ ويريد التشاجر مع الكل.
[3]
تلفت حوله ليجد نفسه في مكان غير غرفته,أول ما لاحظه هو وجوده في زنزانة,وثاني ملاحظة كانت عن وجود إمرأة معهم في نفس الزنزانة,تلاقت أعينهم فأشاح وجهه عنها,ثم أدار وجهه ونظر إلى المرأة مرة أخرى واستغرب وجودها. استطاع أن يكون علاقة زمالة مع شاب واثق من نفسه,وعرض عليه زميله الجديد سيجارة فرفض لأنه لا يدخن.
لم يمر وقت طويل عليه حتى تشاجر معه ذلك المجنون وتراجع محمد خيفة وتوجسا مما قد يُفعل به بين أربعة جدران بلا معين أو مغيث. خاصة أن أحدا لم يستجيب لندائنا. وهكذا أقلقته أفكاره أكثر.
-متبصليش يا عم انت,كلها بتعرف تبحلق بعينيها
تغير موقف حسن من الحيادية إلى الهجوم واشتبك الكهل والشاب مع الشاب الثائر.
-أحا عليكم,أنا آكلكم كلكم يا أولاد الكلاب,دا أنا كاظم الحلواني سل عليا من المرج لإمبابة وشبرا برضوا. دانا بنيمها من المغربية (أي يجعل الناس تنام في بيوتها وقت الغروب خشية خطره).
واستمر التهديد والوعيد مصحوبا بتبادل للكمات والركلات بين الرجلين وكاظم المشهور في المرج وشبرا وإمبابة,والظاهر -بل الواضح- أنه مشهور بأعمال البلطجة وما يلزم منها.
تجاور الفتى والعجوز والمرأة في الزاوية إلى جانب محمد,وشعر هو أنه الرجل الوحيد بين هذه المجموعة المنفصلة المنشقة عن السبعة المحبوسين في الزنزانة. مجموعة المذعورين.
حاول لملمة نفسه وتقدمهم حتى يكون درعا لهم من المعركة الدائرة والتي احتلت مساحة الزنزانة كلها في تخبطات وارتطامات بجدرانها الأربعة. وقف يعطي المذعورين خلفه حماية نفسية أو وهمية وهو أكثرهم ذعرا. قرر أن يتمالك أعصابه ويتدخل لإيقاف العنف الواقع أمامه ولكنه تراجع سريعا عن قراره لسببين.
الأول أن لا أحد يستجيب لهم من هذه الزنزانة أو من خارجها,والثاني هو كم الدماء التي افترشت أرضية الزنزانة. الدماء تسيل من رقبة حسن (الظاهر أنه تم استخدام الأظافر بدل الموسى) وأنفه وعينه,ومن فم سمير,إلا أن أكثرهم تضررا هو كاظم الحلواني. دماء من رأسه (من ارتطامها بالحائط وضربة بالرأس مقابل الرأس) غزيرة تنزف عند جبهته وأعلى مؤخرته. ودماء من عينه وحاجبه وأنفه وفمه ومن يده اليسرى حيث التوى أحد أصابعه بشكل مريع. بينما تخلعت بضعة أظافر من نفس اليد.
وفي الأخير تراجع مستندا بظهره على الحائط وهو يلهث مشيرا بيده أنه كفي معلنا استسلامه والغل يطل من عينيه,وصاغرا برأسه للأسفل لكنه رفعها ناظرا للسقف,وجلس يستريح.
[4]
لما أدرك هزيمته آثر الاستسلام على موته,فلا هم يتراجعون ولا هو قادر على أن يغلبهم. لقد شعر الجميع بالتوجس فجأة وقبل الرجلين استسلامه وهدأت الزنزانة مرة أخرى. لاحظ محمد أن المعركة كانت تدور على خلفية صرخات طلب النجدة من الفتى خلفه. إلا أن المرأة لم تصرخ بالرغم من أنها شاركت في نوبة طرق الباب الهستيرية. لاحظ كاظم ذلك أيضا وقال في نفسه أنه قد يعجب بتلك (الصاروخ) حين يخرج. والحق أن الجميع كان يراها موزة (حسناء) مكتملة الأركان,وقد بلغت ذروة أنوثتها في الثلاثين وجائتهما إلى الزنزانة طازجة. كان ليفكر كاظم في اغتصابها لولا (النطعين) اللذين يقفا له كالنواطير. الأمر الثاني الذي لم يمنعه من التفكير في الجنس هو الخوف. لقد شعر بالخوف لثلاثة أسباب؛الأول العزلة الموحشة لهذه الزنزانة,فأيا كانت القضايا التي أتوا بسببها فليس من المنطقي ألا يبدي أي أحد اهتماما بهم.
-لماذا لا يرد أحد علينا؟
أتى السؤال من الفتى كرم,ووافقه الجميع بنظراتهم على صوابية هذا السؤال,وتذكر أن هذا هو السبب الرابع لخوفه.
السبب الثاني هو شكل الباب الماثل أمامهم؛باب خشبي منزلي وليس باب حديدي مخصص للسجون,له مقبض يدعوهم للخروج,وثقب مفتاح بلا مفتاح أسفل المقبض. وعدة أشياء غريبة به.
السبب الثالث هو أن الجميع لا يعرف كيف أتى هنا,هو لا يعلم عن ذاته,وقد تأكد لما وجه السؤال إلى حسن ذو القميص الأزرق.
-كيف أتيت إلى هنا؟
-لا أعرف وأنت؟
-أقسم بالله لا أعرف مثلك
-وأنا كذلك
أتت هذه من الشاب محمد ثم تبعه سمير في القول,وظلت المرأة صامتة إلا أنها وافقتهم القول في سرّها. وأخير دار السؤال على الفتى والعجوز فأكد العجوز بنعم,بينما نطق كرم بأنه لا يعرف.
أخذ الجميع يتأمل الباب المغلق,ولاحظوا بشكل غريزي وجود سبعة فتحات عبر الباب تطل على ما يوجد خلفه,سبعة فتحات قد تعطيهم مشهدا من الخارج. هم لا يسمعون أي أصوات ومرتعبون,وتلاقت الأعين وتبادلوا النظرات في فهم لما سيقومون به. وبشكل ميتافيزيقي حلقت سحابة الخوف فوق رؤوسهم.
[5]
أخذت صفاء تحصي المنافذ السبعة في الباب المغلق,باب خشبي مغلق,باب خشبي يغلق على سبعة أشخاص وله سبعة منافذ. ماذا وراء الباب المغلق؟
ظلت تتأمل المنافذ السبعة فاحصة إياهم في ترتيب منتظم داخل رأسها؛الفتحة الأولى هي الحيز الواقع أسفل الباب,ثم صعدت بعينيها إلى الأعلى حيث ثقب المفتاح أسفل المقبض بارتفاع خصر شاب معتدل الطول (تساءلت أين المفتاح؟). وصولا إلى أعلى الباب حيث العين السحرية في منتصف نصفه الأعلى بارتفاع قامة إنسان معتدل الطول حيث موقع العين. وآخر ارتفاع طبيعي لموقع إحدى المنافذ هي النافذة في علية الباب. نافذة زجاجية ذات إطار معدني مكونة من درفة واحدة موضوعة بشكل مصراع أفقي مستطيل يتم جذبه للأسفل لفتحه,وقد كان مفتوحا. أما عن المنافذ الغير الطبيعية فتمثلت في النافذة الخامسة حيث حيز ضيق في إطار الباب على اليسار في الجهة المقابلة للإطار الذي يغلق فيه القفل ويستريح اللسان. بجوار هذا الإطار تستريح نافذة زجاجية بطول الباب حتى النافذة في الأعلى,سوداء مظلمة تعكس صورهم مثل مرآة فاخرة وتضفي عليهم لمسات جميلة مثل كاميرا يمسكها محترف. وقد رجحت أو أدركت بصورة ما أن زجاجها نصف عاكس ونصف شفاف. أما النافذة السابعة وأبرزهم وأكثر جذبا للإنتباه والنظر إليها متمثلة في شق قبيح في منتصف الباب أسفل العين السحرية بالضبط,ويبدوا أن هناك دماء كانت تسيل منه وقد جفت على الخشب في خطوط متفاوتة الطول تنزل من بقعة دماء جافة أسفل الشق,ولا يمكن رؤية ما خلف الشق إلا بإلصاق الوجه في فرجة العين بهذا الشق.
بعد أن مرت بعينيها على المنافذ السبعة اعتصر الخوف قلبها,ابتلعت ريقها وأدركت أن الفتى كرم الآن يبكي,وأن ظلال الخوف ممسكة بقلوبهم جميعا,حتى أكثرنا شراسة وجرأة. وقصدت بذلك البلطجي الذي يدعو نفسه كاظم الحلواني الغاضب الذي لا يكظم غضبه. هنا ذهب الغضب وحل محله الخوف. ودار الحوار بين المحبوسين في الزنزانة.
-هذا ليس سجنا ولا معتقلا
-بالتأكيد ليس كذلك
-هل نحن في القبر؟
-كيف ونحن أحياء الآن؟
-هل تم دفننا أحياءا؟
-كف عن تلك الأسئلة المخيفة
وهكذا دارت الأسئلة المفزعة بينهم,واستمرت الحوار المقبض لخمسة دقائق بأسئلة مختلفة لم تتخيل صفاء أنه يمكن أن يسئلوها.
-ما أسمائنا؟
صدمها سماع هذا السؤال الذي صدر من أكثرنا حكمة بحكم سنه وصمته بحسب رؤية المراهق كرم وهو العجوز الذي كأنه أراد أن يؤكد على هوية كل سجين من السبعة,وكأنه أيضا أراد كسر العداوة بينهم.
وتوالت الأجوبة
-كرم
-أجدع ناس
-سمير
-محمد أحمد
-مش هنعملك بطاقة
-كاظم الحلواني
-وانت كمان!
-صفاء
-جميل الإسم مثل جمالك
-أنا حسن
-الشيخ محمود
-واضح من لحيتك
ونظروا بعضهم إلى بعض واتخذوا قرارهم,ثم نظر كل واحد منهم واضعا عينه في منفذ من المنافذ السبعة ليأخذوا صورة عن ما خلف الباب المغلق,وليرتجفوا من هول ما رأوا.
سبعة ينظرون من باب
[6]
[1] أسفل الباب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقعت عينيه على أقدام النساء أولا ثم تبين له أن هناك أقدام رجال وأقدام أطفال صغيرة,وحتى أقدام عجوزة ذات جلد مترهل يتساقط دون أن ينزع عن لحمه,وأقدام ميتة عفنة يتساقط الجلد عنها فعلا.أقدام سمينة وأقدام عضلية وأقدام مشعرة وأقدام محترقة. وهناك أقدام حيوانات,وأقدام أشياء أخرى لا يعرف ما هي,وأقدام جنود وأقدام خشبية ومعدنية كأنها أطراف صناعية. وهناك أطراف لم يفهم هل هي أقدام أم ماذا. هناك أقدام مقلوبة وأخرى مخلبية وأقدام ضخمة جدا,ولاحظ أنه لم يعد يرى أقدام النساء. ثم أقدام شيء ما طويل ومخيف غير معروف وغير موصوف. تراجع برأسه على الفور قبل أن يرى المزيد.
[2] عين سحرية في الباب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد أن رأت ما رأت -عين تحدق فيها على الطرف الآخر من العين السحرية- شعرت صفاء بأن شريط عمرها يمر أمام عينيها,وكان الأكثر إزعاجا ورعبا هو شعورها بأن العقود الثلاثة المكونة لعمرها تضيق على عنقها حتى تكاد لتخنقها ثم تنزاح سنوات عمرها عن رقبتها مثل حبات خرز قطع خيطه فانفردت حباته بعد أن خنقتها وأزهقت روحها وقطعت خيط حياتها.
[3] ثقب المفتاح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان ما رآه هو غرفة مغلقة,ليس أكثر,وأخيرا استيقظ داخله الخوف الدفين من الأماكن المغلقة الذي كبته ما أن أدرك بنظراته مكان تواجده,إلى أن أتاه فهم خفي لما ينتظرهم, وأخيرا تحولت نظراته الهائمة إلى دموع خائفة بللت لحيته.
[4] النافذة في علية الباب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معلقا ومتشبثا بدلفة النافذة خائفا أن ينكسر مصراعه إلا أنه هو من صرع من رؤيته ما رآى. لم تختلف رؤيته عن رؤية الشيخ محمود,فقط مجرد باب مغلق على الجانب الآخر. قفز من على الباب وحاول أن يقف دون أن يرتعش جسده ولكنه لم ينجح.
[5] شق في الباب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منضدة حديدية في منتصف الزنزانة المقابلة,عليها ما عرف أنه جثة تحت ملاءة. تمعن جيدا فلم يجد أي شيء آخر في الغرفة. عدا بقعة دماء أخذت تتسع في منتصف الجسد تحت الملاءة البيضاء.
سقط مغشيا عليه.
[6] الفجوة في إطار الباب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجرد هوة سحيقة بلا قعر لها في الجدار المقابل من الناحية الأخرى,لم يفهم كيف تختلط اتجاهات الجاذبية بهذا الشكل البشع,ثم شعر حسن أنه سيسقط في القاع من النظر فقط, فتراجع يسحب أنفاسه هي الأخرى من الانزلاق بعيدا.
[7] المرآة النصف شفافة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رجلا يعمل عملا,هل هو المتسبب في كل ما نحن فيه؟
طيلة حياته الأربعين لم يتخيل حسن أنه قد يخاف بهذا الشكل مثلما هو الآن.
وقعت مطرقة الذعر على رؤوسهم وسحقتهم ودفنت رفاتهم تحت طبقات من الخوف.
الطبقة الأولى في الظل الجاثم على أنفاسهم والذي يضاعف من الرعب الناتج عن ما وراء الباب.
الطبقة الثانية في المشاهد التى رآها كل منهم.
الطبقة الثالثة وهي الأعنف والمتمثلة في حقيقة أن كل واحد يرى صورة مختلفة عن ما يرى الآخر,ولا يوجد مشهد متطابق مع ما رآه الآخر!.
لقد تبادل كل منهم أوصاف ما رأوه خلف الباب,ومع ذلك ورغم موجة الاستغراب والاستنكار,لم يجرؤا أحد أن يتحقق وينظر فيما نظر زميله.
وعند التمعن في الأمر هناك طبقات مختلفة من الرعب,مثلا أن لا أحد رقيب عليهم,لا حكومة تحتجزهم ولا عصابهم تخطفهم حتى,هم وحدهم مع تلك الأشياء بالخارج. وحدهم في الغرفة ذات المستويات من الخوف.
[7]
نام الجميع واستيقظوا معا في وقت واحد,وقد شعر إثنين بالعطش الشديد وإثنين شعروا بالجوع,بينما شعر سمير بالحاجة إلى التبول وشاركة كرم الشعور ولكن كانت حاجة إلى التبرز. الأخير كان فقط يتألم من برد الأرضية والجدران. وقد قرروا معا أن يخرجوا من هنا قبل أن تتأزم الأمور أكثر.
علموا بشكل ما أن المخرج سيتمثل في رؤية واحد منهم -هناك أشياء غامضة توحي إليهم بالكثير من المعلومات- وعليه يجب أن يقوم واحد فقط بالخروج والبقية يتبعوه. وقد رأوا أن أفضل المشاهد هي تلك التي تأتي بجدار فقط. وعنده يبحثون عن باب جانبي يخرجون منه.
مد حسن يمسك مقبض الباب وتشجع وتشجع البقية خلفه,وفتح الباب وما رأوه خلفه كان جدارا فقط وحسب أن لا شيء سيخيفهم لوهلة قبل أن يخطوا بأقدامهم إلى الغرفة المقابلة. وبالرغم أن ذعرهم الأول نابع من باب واحد,إلا أنهم تمنوا لو يكون هناك باب آخر .. أي باب!
حاول أحدهم أن يعود ويعيد فتح الباب مرارا وتكرارا بلا جدوى,وجميع رؤاهم غير متحققة عدا رؤية الغرفة المغلقة.
باب وسبع فتحات ولم تعد هناك أي مشاهد,باب وسبعة منافذ ولم تعد هناك أي رؤى.
لا يوجد أي أبواب في الغرفة المقابلة ولا في الغرفة التي كانوا للتو محتجزين بها,لا يوجد سوى باب وحيد يصل بين الغرفتين,وعدا ذلك فهي جدران مطبقة عليهم بين أرضية وسقف.
***
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في الزنزانة المغلقة
التحول
[1]
قم,قم يا شمس,كفاك نوما أيها العجوز. تضع يدك علي المنبه,لا أنه لا يعمل,أنا الذي اتولي إيقاظك,أنت دائما تنس ذلك. تضع يدك علي علبة السجائر,أنت لن تتخلي عن تلك العادات إلا بموتك. تأخذ القداحة وتشعل السيجارة,تضع يدك علي النظارة,الشيء الوحيد الصواب الذي تفعله عندما تصحوا,تقوم,تستحم,تغير ملابسك,تضع النظارة ثانية,تتناول الإفطار وتجلس ثم تصلي الجمعة,اليوم الجمعة؟ إذن أنت تجلس في الشرفة تدخن ثم تكتب ذكرياتك,كنت طبيبا ماهرا وصرت كاتبا ناجحا. تقضي أيام الإسبوع تكتب ما عدا يوم الخميس حيث يزورك أقاربك نهارا ويأتيك أصدقاءك ليلا. تنام وتستيقظ فتجد كل شيء نظيفا,مرتبا,جميلا؛هذه من الخدمات البسيطة التي أقدمها لك.
أنت فقط تكتب وأنا أراقب وأثرثر معك طيلة الوقت,أنت تكتب ذكرياتك فتصير روايات,تُباع رواياتك فتصير أموالا. ولكنك لا تحتاج للأموال,أنت بحاجة للكتابة,نعم اكتب,أتذكر صديقك؟,جميل,نعم,أحسنت,أنا سأحكي وأنت تكتب.
[2]
ليلة باردة للغاية,وعلي ضوء مصباح الأباجورة أخذت أقرأ وأشاهد التلفاز وأفكر وأنا أشرب القهوة متدثرا بالغطاء علي فراشي الغير دافيء بسبب برودة تلك الليلة العاصفة,كل هذا ولم ينتصف الليل بعد,وليرحم الله من بالخارج في مثل هذا الوقت. شخص يأمل أن يصل لأسرته حيا حتى يتقي المطر تحت سقف بيته ويتقي البرد تحت غطاء فراشه,يرجوا بعض الدفيء,لا يريد أن يموت منزلقا علي رأسه أو تحت عجلات سيارة,فالموت سيكون أشد برودة من تلك الليلة العاصفة. وضع يديه أسفل معطفه لعله يدفئها قليلا,سائل لزج ساخن قام بتدفئة يديه,ورغم معرفته بكنة الشيء الذي يسيل علي يديه من أسفل معطفه,وإدراكه للحقيقة المرعبة,ولكنه إبتسم لحصوله علي بعض الدفئ,ثم سقط.
هكذا راودته ذكري صديقه المسكين,وتراءي المشهد التعس في مخيلته السوداء,في مثل تلك الليلة الحلكاء,وآه علي ذكر حلكاء!,,,هز رأسه نافيا ونافضا تلك الذكريات الكئيبة عن رأسه,فهو ليس بحاجة إليها في هذه الليلة بالذات,خاصة حلكاء,هو بحاجة إلي الدفيء,نعم الدفيء,,,ولكن المكان صار دافئا.
أمر غريب,الغرفة صارت دافئة بصورة تكاد تكون خارقة,وضعت قدح القهوة والرواية وجهاز التحكم بعد أن أغلقت التلفاز والمصباح,وألتففت بغطائي متدثرا كحشرة في شرنقتها هانئا بحياتي ودفء فراشي.
ليلة ساخنة للغاية,أزحت الغطاء عن جسدي,ثم بدأت بخلع ملابسي حتى صرت بالملابس الداخلية فحسب,ثم خلعت هذه في النهاية حتى صرت عاريا بمثل ما يقول المثل المصري (يا مولاي كما خلقتني). في البداية كنت قد بدأت أتعرق,ولكن الآن صرت ألهث وأتخبط.
غارقا في عرقي قمت خارجا من الغرفة,وحين فتحت الباب صعقت كأنما ضربني البرق. فتحت الباب وأغلقته في ثانيتين,وها أنا خلف الباب متهاوي علي مؤخرتي,تصطك أسناني ويهتز جسدي من رجفة البرد التي إنتابتني.
مرت دقائق فصرت لا أحتمل الحر مرة أخري,تحاملت علي نفسي ووضعت جسدي في الكثير من الملابس حتى أُثقلت منها,وحملت قدرا من الأغطية,ثم خرجت من جهنم الساخنة إلي الجحيم البارد مارا بصالة الصقيع إلي الغرفة الأخري,وجعلت فراشا علي الأرضية ونمت خلف الشرفة المغلقة متخيلا عذاب الأجواء الباردة بالخارج. وفي صراعي مع ذلك البرد نجحت الأغطية في تدفئتي,وأخذ النعاس يلاعب جفوني. وكأن لهيب الغرفة الملعونة يتصارع مع صقيع تلك الليلة المشؤومة,فأخذت السخونة تلفح وجهي,قمت وأغلقت باب الغرفة,ليضربني البرد في ظهري مرة أخري,وتحت الأغطية بدأت أهدأ وقد أنساب الدفء في جسدي,ولكن نوبة خوف اجتاحتني في ومضة إدراك لما يحدث لي,ثم أخيرا غفوت.
وفي قلب الليل,طبق ظلام حالك أرعد قلبي,وبرد كاسر سحق عظامي.
***
وميض البرق ودوي الرعد,وأنا جالس علي مكتبي في الغرفة المطلة علي جانب البحر,وهي غرفتي المفضلة والأحب لقلبي. الليلة عاصفة ممطرة بكثرة. باب الشرفة مفتوح علي مصراعيه والريح تطلق سهام البرد علي جسدي,وقد اقتحم المطر الغرفة وبلل سجادها,ولكن رفيقي الشبح يتولي في العادة أمرها.
أنا أكتب حكاية الهدايا العشر,قصة بدأت في إنجلترا,بالتحديد في لندن,انطفيء المصباح وفي ومضة برق رأيته,جميل,صديقي العزيز,كيف دخل؟ سؤال سخيف ونحن نتحدث عن شبح.
***
ولادته غريبة بحق وتستحق رواية كاملة عن تفاصيلها. حياته أغرب,هو إبن أحد أغني الأثرياء في مصر,قتل صديقته في غرفته بإحدي فنادق الإسكندرية الفاخرة.
عُرف أنها ذهبت معه بإرداتها,ويبدوا أنه حجز الغرفة لذلك الغرض,قام أباه بإخراجه من تلك المصيبة بحيلة ذكية وقاسية. كان صديقي قد أتصل به وهو في الغرفة جالسا علي الفراش والفتاة ترقد تحت قدميه.
علي الفور أرسل أبوه من يطلق النار علي أبنه,وتدخل الأمن وقتل القاتل في معركة تبادل الرصاص. نُقل صديقي للمشفي ونجى بإعجوبة من رصاصة أُخرجت من بطنه. والذي دفع أباه لمثل تلك الألعوبة الخبيثة هو أنه لا يريد أن يفقد كرسيه السياسي بسبب نزوة من نزوات إبنه,أو يمس ذلك مكانته الإجتماعية خاصة وأن سمعته سيئة من قبل الحادث بالفعل,فلا يريد لها أن تزداد سوءا,بأنه توسط لإبنه ليجنبه وطأة القانون.
مات القاتل المزيف وتم تبرئة الإبن لأن كل الأدلة تشير لعطية محمد,وهو ذلك القاتل الذي يُفترض أنه هو من مثل بالفتاة بوحشية صامتة كاسحة,فهي قُتلت حتى قبل أن يتسني لها رفاهية التعبير عن ألمها,قُتلت في صمت ومُزقت في صمت,كل هذا وصديقي نائم حتى أنهال عليه القاتل بعدة رصاصات لم تصبه سوى واحدة.
ورغم التناقض بين صمت مقتل الفتاة وضجة مقتل الفتى (الذي لم يتم) واختلاف الأسلحة والإسلوب,إلا أن ذلك ثبت في ملف القضية وأُغلقت علي هذا.
وتأكيدا علي جنون العائلة أبا وإبنا,حين شكر صديقي أباه لإطلاق النار عليه وأنه (أكمل تجربته الفريدة) علي حسب قوله!.
***
عرفت أن كثير من الأشياء حدثت له,أشياء أكثر من التي كان يحدثني عنها في رسائله,فليس غريبا إذن أن أجده أمامي علي المكتب في تلك الليلة الممطرة,وأن يظهر لي في غمضة عين.
سبع ليال جعلا جسدي يستمتع ببرودة الجو وينتشي كلما أزداد برودة,سبع ليال جعلتني أتعرف علي صديقي الجديد,أنا أعرفه منذ زمن,ولكني الآن أتعرف علي الجانب الأكثر إظلاما وسوداوية,الجانب الغير آدمي.
ثم عرفت المزيد والمزيد,عرفت أن تحوله اكتمل,وأنني قضيت ليلتي تلك يدفيء ظهري أنفاس وحش مخيف,أنفاس ألهبت غرفتي وصارعت قوة الطبيعة المميتة.
إن مرور عام علي تلك الليلة لا يكفي لمحو تلك الذكري عن عقلي ونزع الألم عن قلبي,رغم تقنيتي النفسية في التغافل عن الحقائق المخيفة كالأبله الذي لايدري أو الأعمي الذي لايري,ورغم نجاحها في مثل تلك المواقف إلا أنها لم تصمد حتى نهاية الليلة. ذات مرة صحوت علي شعور غريب,فإذا هو ثعبان يزحف علي جسدي,فتذكرت إني ظمآن ونمت مرة أخري,وصحوت حيا وقد ذهب المخلوق الصغير المميت دون أن يؤذيني. أمتلك مزيجا غريبا بين الجبن والشجاعة,ولكن هذا لم يساعدني في تدبر أمري مع صديقي,أو ذلك الشيء الذي أدعوه صديقي. ربما بسبب الألفة والعشرة هو يظل صديقي. ورغم تلك الليلة,ورغم ذاك التحول,ورغم قسوة عينيه,إلا أنه يظل واحد من أقدم وأقرب أصدقائي إلي,خاصة بعد التحول,فهو قد صار شيئا أساسيا في حياتي. صار قريبا جدا من روحي,بكل ما تعنيه العبارة من معاني,جميل ……. ذلك الأخ الغالي.
أستيقظت في الليلة الثالثة قبيل الفجر لأبحث عن صديقي ورفيقي,لأجده في شرفة المكتب وقد زادت العاصفة صخبا .. رعد .. برق .. مطر .. ريح .. برد .. وقف جميل غير عابيء بكل هذا,طويل,عريض,ضخم,مهيب وهو عاري الجسد. سرت الرجفة في جسدي,كان يعطيني ظهره الموشوم,وشعره النائم علي كتفيه,ويرفع ذراعيه للأعلي منتشيا بصدره كأنه يعرض قوته للسماء,كان جسده قويا أسطوريا,وصدر من جميل صوت مخيف أسود,ثم ألتفت ونظر إليّ.
***
لم يكن يضم جسدي في فراشي تلك الألياف القطنية الدافئة لفراشي الأحمر,بل طبقات جلدية لجناح أسود يمتد من فوق ذراع ذلك الشيء النائم أسفل الجدار في نهاية الغرفة.
***
كنت واثقا أنه نائم هناك عند الجدار جوار باب الغرفة,وكنت متيقنا أن تلك اليد المخلبية هي له,مخالب تمتد من هناك إليّ تمسك بذراعي,ما بدا متناقضا هو؛هل تصل أطرافه لكل هذا البعد؟
***
قريبا جدا..جدا,بشكل مقيت للغاية,الهمس في أذني,والرؤى أمام عيني,والذكريات في عقلي,والخيالات تملكت حواسي,والقلب الذي ينبض جوار قلبي,ورائحة الكبريت في أنفي وطعم الملح في فمي,وأنفاسه الساخنة التي يقشعر لها جلدي.
***
الليلة اندفعت إلي غرفة النوم,أدفن نفسي تحت الأغطية. لم أجده في الصباح,ولكنه جاء في الليل,فتح باب الشقة ورأيته يدخل مبتسما,يجلس جواري علي الأريكة محدقا بالقناة الإخبارية. أخبرته إنه خطر علي بالي قبل دخوله,لست غبيا لأسئلة عن تلك الكيفية التي يدخل بها,من الباب أو النافذة أو الشرفة,حتى لو جائني من السقف. نمت مبكرا وظل هو جالسا علي الأريكة,وصحوت بعد منتصف الليل لأجده جالسا لا يغمض له جفن,كان التلفاز يعمل فقمت بتغيير المحطة إلى قناة أفلام. نمت وصحوت قبيل الفجر لأجده علي الكرسي متحجرا علي ذات الوضعية,نمت وصحوت في الصباح الباكر لأجده وكأنه تمثال,لم يهتز ولم تطرف عينه,لم يأكل ولم يتنفس,ولا يبدوا أنه يلاحظني,أغلقت التلفاز ونمت يائسا وصحوت بعد الظهر فلم يرحل,ما زال علي نفس الوضعية.!!!؟
دقات قلبي تتزايد,ودويها يتصاعد في أذني,قطرات العرق الباردة علي وجهي,قدمي متسمرة لا تطاوعني,,هل أهزه؟أو أحدثه؟حلقي لا ينطق,لا مقدرة لي علي مناداته,أعجز حتى عن التنفس,ولا أجد مهربا في النوم,وأخيرا قررت أن أخرج من شقتي على غير عادتي -هذا لا يحدث إلا نادرا- للتمشية قليلا.
عدت عند المساء فلم أجده,تنفست الصعداء,ولكني لم أستطع الخروج من غرفتي تلك الليلة لأن حرارة جسدة ظلت باقية علي الأريكة تلهب الصالة.
***
في تلك الليلة شعرت بحرارة جسد جواري,ولكن عيني لا تبصر أحدا آخر في الغرفة. لكني كنت موقنا,حرارة خافتة ولكن ملموسة,إنه نائم هذه المرة إلي جواري,وتسائلت هل يمكن أن يطلع عليّ صباح وهذا الكلب المسعور لصيقا لي؟.
[3]
في رسائله التي كان يبعث لي بها,حكى عن تجارب مخيفة للبشر,ولكنه كان يطرب لها. ضيفا ذات ليلة عند مصاص دماء في إنجلترا,وواجه مذؤوب في رومانيا,أراني آثار الأنياب في عنقه,والعضة الوحشية في ذراعه. صاد سلعوة في مصر بعد معاناة مريرة وممتعة معها حسب وصفه,رأى غولة في ليبيا,نام بجوار وحش في كهف ما بالصين,وفي أمريكا الجنوبية شارك آكل بشر في غدائه,دُفن حيا في أفريقيا بسبب لعنة ساحرة وقد أخذ يصف لي متعة التجربة,في أستراليا قطع رأس ضابط طارد سيارته لأنها تعدت السرعة المسموح بها.
حكي لي كيف يصطاد التماسيح بيديه,بل كيف تخشاه الضواري,فهو قادر علي إفتراسها بأسنانه,وقد تساقط الرجال الأقوياء أمامه في مصارعات الشوارع التي شارك بها في الولايات المتحدة,وهي مصارعات شرسة وممتعة.
حكي لي عن كيف احترق بيته وهو فيه بسبب شبح ما,هو ذاته أحترق ذات مرة.
***
انتظرته في المساء جالسا في الشرفة وأمامي منضدة جعلت عليها بعض الطعام الشهي,ومقعد آخر كان خاليا للحظة!. وجدته جالسا عليه يبتسم قائلا:
-يا صديقي,أكنت بإنتظاري؟
-أرجوا أن يعجبك الطعام
أكل وشبع إن كان لهذا التعبير أن يطلق على هذا الكائن,وأكلت معه حتى شبعت أيضا. وشعرت مرة مثل تلك المرات أنه صديقي لو تجاوزت كل الأشياء الأخرى. نمت في غرفتي تاركا إياه في الشرفة,وحين صحوت لقضاء حاجتي,رأيت ما يشبه الحيوان بين يديه,كان واقفا في وسط الصالة,والحيوان بين يديه ممزقا,وما أن نظرت في عيني صديقي حتى ارتعدت وزادت رغبتي في التبول والتقيء فهربت إلي الحمام وإذ بي نائما فيه حتى الصباح.
***
واجه شجرة متوحشة,قد يبدوا الحادث هزليا لكنه حين أخذ يصف لي -وقد أطال الوصف-أخذت أفرغ كل ما في جوفي وتخلصت من أجاصات الورد في شرفتى. نام في مقبرة ملعونة مرة,ونام في الخلاء مرات,تحت القمر فوق الثري في العراء,والريح تمر من فوق جسده,وليست الريح فحسب ما تمر عليه.
***
ظللت طريدا من شقتي حتى عدت في الليل لأجد هذا المشهد؛صديقي هذا يقف علي باب غرفتي وأعتى إمارات الشرّ والهلاك ترتسم علي سحنته مشوهة ملامحه وقد صار وجهه لوحة كابوسية جديرة بعوالم لافكرافت أو كافكا والخيالات المريضة. مبتسما لي وهو يبتعد عن باب الغرفة فجريت مرتعدا أنادي النوم,فنمت,واستيقظت لا أعلم متى لأسمع من الصالة أصواتا مخيفة,,,,تجمدت مكاني وقد ميزت أنها ستة,ولكن المشكلة ليست في عددها,وإنما في ماهيتها؟..
وكان قد أغشي عليّ حتى الصباح من روع الصدمة,وفي الصباح لم أجد صديقي كالمعتاد.
***
اعتقد أنه تواجه مع عصابة ما في إحدى الولايات الأمريكية,هو أحترق حيا ونجا,دُفن حيا ونجا,كيف ستقتله بضع رصاصات بالجسد. “تخيل ماذا أنا فاعل بهم”
هكذا قال لي,بالطبع فتك بهم.
كُنت طريدا مرة أخرى من شقتي وذلك يتكرر عدة مرات,أجوب أحياء باريس وشوارعها, أجلس قليلا في أحد المقاهي,,,,…….
النظرة أمام باب الغرفة,ولا أعرف ماذا بعد؟
***
اصطياد الوحوش كانت هوايته,واجه شجرة متوحشة وحده,هجم علي منزل غيلان وحده, قاتل عشيرة مسوخ وحده,وقف أمام الشيء وحده,هجم عليه رجل -ليس رجلا عاديا- وتواجه مرتين مع غير ميت,وذبح ذئبا بشريا وحده,وتواجه مع سفاح,وبل أصطاد الأسود والدببة.
***
كنت جالسا علي كرسي في غرفة المكتب,وضعت الكرسي خلف باب الشرفة مباشرة. أخذت أتأمل مسدسي,ثم فُتح باب الشرفة علي مصراعيه وارتميت أنا أرضا,ورأيته بين النيران وياليتني رأيت وجهي وقتئذ. جريت مغلقا باب المكتب وقد اندفعت ناحية الممر وارتميت خلف الباب الحديدي,أغلقته بالأقفال والمتاريس. وفي لحظة أغلقت باب الحمام عليّ,وياله من وضع,صوت تكسر باب المكتب وتحطمه,ثم طرقة وأخرى فيتهاوى الباب الحديدي الثقيل محدثا صوتا فظيعا,وأنا الذي كنت قد خصصته لمثل هذا اليوم!. الصوت يهمس في أذني “احذر” أعرف مصدره وأعرف أن هذا يعني أن جميل خلف الباب الآن,أسمع صوت أنفاسه,يتنفس,بينما يوشك قلبي أن يتوقف. إنه يستمتع بتعذيبي وإرعابي,وهل سيكتفي بذلك؟ “أحذر” ,نعم ولكن كيف؟,ماذا أفعل في ذلك الوضع المزري منكمشا في زاوية الحمام الضيق كقط يحاصره كلب,بل وحش,وحش,يحاصره وحش. مسدسي,لا .. أشك أن المسدس سينفع في شيء,قليلة هي الأشياء التي قابلتها أو تعرضت لها في حياتي وكان المسدس ذا نفع ما.
من خلف الباب جاءه الصوت:
-صديقي العزيز,افتح لا تخف
صوبت مسدسي مرتعشا تجاه الباب
-أنا قادر علي كسر الباب
-وأنا سأطلق النار عليك
-أنا قلت أن لن أؤذيك
-أنت قلت أن لا أئمن لك
صمت,يتراخى المسدس قليلا,ثم يتكسر الباب ويدخل جميل,ويطلق النار عليه,أربع رصاصات ولا يتأثر. وضع المسدس في فمه إلا أنه سقط من يده واقترب جميل منه,عاري الجذع,تغرق الدماء بنطاله من أثر الرصاصات التي أصيب بها في صدره,وقد لاحظ شمس المحاصر أنه ذات الموضع تقريبا حين أصيب عندما كان مراهقا. انحني واقترب وجهه من وجهه,أنفاسه ساخنة عفنة ومسمومة كأنفاس تنين أو شيطان أو شيئا ما. ابتسم وقال:
-صديقي إشتهيت قلبك القوي,اكتمل تحولي,لكني لم أريك شيئا منه,ولا حتى أقل درجاته وهي تغير ملامحي,هناك فتاة ماتت لمجرد رؤيتها تغير ملامحي الوسيمة إلي تلك الإمارات الشيطانية..أنت شاب طيب لكن قوي القلب,لذلك إشتهيتك أيها العفن..في داخلي إنسان ووحش,وأمام صديق عزيز مثلك,بل صديقي الوحيد,قد يغلب الإنسان علي الوحش. لا أعرف هل أشتهي أخ أكثر,أم أشتهيك كغداء ليل ذات مرة.
برزت أسنانه,أغلق شمس عينه,قبلة في رأسه,ثم أختفي حضوره المهيب.
“أنا فعلا جائع لإلتهام قلبك”
هذا آخر ما سمعه.
هل يقصد عاطفيا أم دمويا؟.
[4]
التحولات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعلم من حكمة إبليس وصار رفيقا للشيطان ومنبعا للشر,وعرف البشاعة المتمثلة في ذلك الشيء الذي جعل اختيار الظلمات أمرا هينا,والشيطان يلعن البشر مثلما هم يلعنوه.
هكذا فكر هو مغتاظا منهم متذكرا العذاب الذي ينتظره,ومتذكرا اليوم الذي رسم فيه طريقه إلى هلاكه بنفسه. حين أراد ذو الجلال والإكرام عالي الشأن من لا يريد أن يعلو أحد فوق شأنه. ولكنه أحنى رأسي حتى ولو لم أسجد لآدم في ذلك اليوم. الله عظيم لا نهاية لعظمته,وآدم عظيم لأنه من خلقه. وأنا عظيم لأني من أوائل خلقه وصُنعت من نار تظللت تحت نوره. وإني لمدرك أنه أمرني بالسجود لحكمة يعلمها هو. إلا أني لا زلت على تعجبي وعلى غضبي من كنه هذه الحكمة التي تجعلني أسجد لآدم وأنا قد صرت عظيم عند أبنائه.
جميع البشر بلا إستثناء يعظمون من شأني أكبر تعظيم. لكن لماذا أنال أنا العقاب وحدي حتى أن آدم اشتهى التفاحة مثلي. وشهوته للنساء جعلت حواء بين يديه,وشهيته للطعام جعلت التفاحة في عنقه. أي أن حبه لنفسه قد فاق حبي لنفسي.
وهكذا قد تلامست الأفكار بين إبليس وجميل فصار لا يدرك أحدهما هل يفكر بعقله أم بعقل الآخر.
***
ومن أبرز علامات التحول
1-لا ظل
2-لا إنعكاس في المرايا ولا ظلال تحت الأضواء
3-عدم الظهور في الكاميرا أو الصور الفوتوغورافية أو تسجيلات الفيديو
4-التحرك بلا صوت
5-الجروح الغير دامية وإلتئام الجروح
6-عدم النمو والنمو السريع (إجتماع نقيضين)
7-البروزات المختلفة والنتوءات العديدة في جسده
8-الوجه البشع
9-الرائحة الرهيبة
10-اللسان المشقوق
11-الأنياب والمخالب
12-الرؤية في الظلام
13-الحضور الطاغي
أول ما لاحظ اختفاء ظله كان أثناء تتبع كلب مسعور لخطواته التي أخذ يراقبها وفي العادة ينظر إلى أقدامه حتى لا يهجم عليه الوحش الصغير خلفه وهو في غفلة من أمره. حيلة النظر إلى القدمين بدلا من النظر إلى الخلف يستخدمها حتى لا يحسبه الناس خائفا من الكلب وهو فقط حذرا منه. يستخدمها فقط لما تكون الظلال مختفية إما لأن زوايا الإضاءة لا تساعد على ظهورها أمامه وإما لخفوت الإضاءة أو حتى شدتها في مرات نادرة. وصار في الأخير رجلا لا ظل له. واستمرت تحولاته لاحقا على أربعة أطوار.
***
تذكر هذه المرة التي ورطت أخته أبيه وتزوجت بشاب طموح يريد أن يبتز والدها لنيل مكاسب شخصية غير محددة إن كانت نقود أم نفوذ. سأل جميل والده
-هل أقتلها؟
-لا,بالطبع لا .. لن تفعل.
وكالعادة يذعن للأمر,عدا هذه المرة. وقتل هرة شقيقته الصغرى. وحتى الآن يحاول أن يفهم كيف أنساق به الأمر إلى قتل أخته الصغرى؟!
***
أمي ماتت,وقد بكيت عليها كثيرا,فقد ماتت قبل أن أقتلها.
[5]
أنياب مثل ذئب أو غول,رقبة حمراء كالنار والدم,جلد أبيض كالثلج شاحب كالموتى,موتى من قديم الزمان,من ألف قرن,موتى لم يتحللوا قط,بل ظلوا علي صورتهم الرمادية تلك. المومياوات ملكات علي الموتى,إنهم الأكثر أناقة بينهم.
عيون مجنونة لعينة ترى ما في الظلام وما خلف الجدران,أذنان طويلتان مدببتا الأطراف, مثل آذان الوطاويط والقطط والثعالب.
ثقبت عيناه,وقطعت أنفه ولسانه وأذناه,وكسرت عنقه,ظل حيا يشعر بالألم,وكانت العجوز ماري تراقبه وقد صنعت من وجهه أعتى وجوه الرعب في الهالوين,لكن هذا لم يكن قناعا,
كان وجهه وقد شكلته كالطين أو العجين. أصابعها كوخز الإبر أو دق المسامير أو طعن الخناجر,بل كان الألم حاد عن ذلك. لم يصرخ أو يتحرك,فهذا هو الطور الثالث والأهم من تحوله,الطور ما قبل الأخير.
فراء أسود ناعم علي الرقبة وفراء بلون الرمال والجبال أعلى الظهر,شعر بنمو الفراء علي جسده من تحت أصابعها وهي تتلمسه. أجنحة قوية طويلة,فرد ذراعيه وأبتسم,أصابعه مشوهة وحادة,وأغشية جلدية معلقة من ذراعيه,جعلته كوطواط عظيم أو تنين طائر. كانت الأرض تتشقق تحت ثقل قدميه القويتين,وتكاد الرياح تحمله علي جناحيه العظيمتين,ويكاد يسمع صوت الليل يناديه. صار له عيون حمراء كالشيطان وأنف كلبي يتشمم روائح الدماء والخوف ومخالب ذئبية حادة ولسان ثعباني مشقوق وذيل طويل وجسد مصفح. وغير ذلك الكثير من الأشياء التي زادت جسده فتكا وقوة وزادت روحة شراسة ووحشية فصار آلة للقتل والقنص ليصبح أداة مثالية للصيد. هناك زوائد إضافية خرجت من جسده لن يفهمها الناظر إليها,والأنسجة المكونة لتلك المادة المسمية لحمه تشبه وحوش مدينة غريب.
***
كان ذلك هو الحلم الذي حلمت به,فأخذت أدفن رأسي تحت الوسادة أرتعش محاولا النوم, لكني سمعت صوت عزف بيانو يأتي من الغرفة الخالية التي بجوار المكتب,ثم توقف العزف أو نمت أثناء سماعه. لأحلم بذلك الحلم الشيطاني,حلم يصف شيئا آخر من تحول جميل,لقد أرسل لي ذات مرة رسالة تصف بعضا من ذلك,لكن ليس بهذه التفاصيل,أن أحلم بذلك مرتين في ليلة واحدة!.
صحوت ووجدت البيانو في الغرفة التي كنت أسمع صوت العزف آتيا منها,مرفق معه رسالة وضع فوقها شيء قديم أشبه بصافرة أو بوق,الأجدر لها أن تكون في متحف لا أن تكون في شقتي. غريبة الشكل عتيقة الصنع,ويمكن تبين ذلك من أول نظرة. حملتها متأملا,حجمها لا يتعدي أكبر أصابعي. تناولت الرسالة لأقرأ الكلمات المدونة بها:
“صديقي العزيز شمس,أيها الصغير الحبيب,أرجو أن يعجبك عزفي وأن تتقبل هديتي,وهي هذا البيانو الثمين,احتفظ به للذكرى,ولكن حذار أن تعزف عليه أو تجعل أحد يفعل,ولكن أيضا لا تتخلص منه,لأجلي أنا لا تفعل.
هديتي الثانية هي تلك الصافرة الأثمن والتي صُنعت من عظم وعاج وأنياب ومخالب وحديد أسود نادر,اجعلها معك تجدني دوما معك,فمن مثلك تحيطه الأخطار ويحمل روحه علي كفه.
سأكون أنا الرجل الخارق الذي يأتي لنجدة صديقه في اللحظات الحرجة ويحميه من المهالك.
ابقى سالما أيها الرجل الطيب
لأجلي افعل ذلك
ملاحظة:-
أنا أسمع الصافرة فقط حين أكون في ذات البلد التي نُفخت فيها
جميل
***
بعد شهر وصلتني رسالة معها قصاصة من جريدة تحكي خبر غرق مراهقة في السابعة عشر من عمرها ولم يتم العثور علي الجثة حتى الآن,فتاة من الإسكندرية غرقت في أحد شطآنها منذ ثلاثة أيام وقد تم رؤيتها وهي تغرق ولكن لم يتم العثور علي الجثة بعد.
فتحت الرسالة فوجدتها مرسلة من جميل:-
“أنت تعلم أني الفاعل,ولديك الكثير من الرسائل التي أصف فيها لك عن وجبتي الشهرية التي أتناولها من مختلف بلاد العالم. الفتاة كانت جميلة بحق,وانا استخدمت صورة من جسدي متحورا إلى ما يجعلني شبيها بالتمساح والقرش والمحار,وحشا يملك أنياب وأطراف وهيئة تلك الوحوش معا,والفتاة ذات جسد لذيذ مالح وجميل,لا تنسي أن أول من قتلتها كانت من الإسكندرية”.
تحياتي لك صديقي
جميل
***
وفي الشهر التالي قصاصة عن خبر حريق بمنزل بالدقي,ونجاة الجميع ما عدا ولد في الإثني عشر من عمره,ولم يتم العثور علي جثته حتى الآن,الحريق تم الأمس وجاري البحث حتى صباح اليوم ولا شيء سوي الأنقاض والخراب.
وفي الرسالة:
“أنت تعلم أني الفاعل,أصبح لديك الكثير من الرسائل من هذا النوع,اضطررت لإشعال الحريق لألتهم الفتى بحرية,وليجدوا تفسيرا لإختفاءه وصرخاته قبل ذلك. أعرف أنك تحتفظ برسائلي,إحرص ألا يجدها أحد وإلا ستكون في ورطة مع الشرطة”.
تحياتي لك أيها الحبيب
جميل
***
و في الشهر الذي يليه رسالة أخرى من جميل:-
“جئت من الفلبين منذ أربعة أيام,إلتهمت أربعة رجال معا هناك,ولم أخطط لأجعل تفسيرا لذلك,سواء غرقا أو حرقا وما إلي ذلك,فمثل تلك الأشياء تحدث دوما في هذا العالم.
منذ جئت شعرت بالخطر يدنو منك,لك صديق -أنت تعرف من أقصد- مهم في مثل تلك الأمور,اجعله قريب منك,وأيضا يرافقك كيان غريب ولكنه يتولى حراستك,كما إني موجود في فرنسا,ولن أرحل إلا مطمئنا عليك,إجعل الصافرة دوما معك في هذه الفترة المقلقة.
يوجد رجل إسمه سام لا تأمن له أو تثق فيه,لا أعرف كيف سيستدرجك لكنه سيفعل,لو أعرف مكانه لفتكت به وقضيت على من معه قبل أن تصلك هذه الرسالة,وأنت تعرف سرعة رسائلي عبر خط بريدي الخاص ويا لها من نكتة. صديقي..منذ مدة لم تقم بمغامرة,أنت موشك علي واحدة,أنت في خطر ومخالب الموت -وذلك أقل ما يكون- تحيط بك.
حافظ علي نفسك لأجلي
تحياتي لك يا بدر
جميل
***
وكان ذلك بداية تلك القصة اللعينة التي حدثت لي.
لقد ناداني جميل باسم أبي بدر وليس باسمي شمس.
كما أنه يستمر في إرسال تلك الجرائد من مصر واليابان وأمريكا وأنحاء أخرى.
ثم رسالة كان نصها:-
صديقي .. لا تأمن لي,سآتي متأخرا الليلة,إياك أن تنم,ابق مستيقظا,اغلق الأبواب والنوافذ, تأكد من حشو مسدسك .. أرجو أن تكون سالما.
تحذير: أطلق النار عليّ,لا تتردد. هذه المرة يفضل لو كانت معك بندقية أو شيء أكبر.
أما رسالته الأخيرة تكرر التحذير للمرة الثالثة وقد حملت كلمة واحدة “جائع”.
[6]
لم يصدق شمسا ما يراه أمام عينه حين رأى ذراعيه ملقاة عند قدميه,مقطوعة بعيدا عن منبتهما. نظر لذلك الشيء الذي كان يدعوه جميل,وقد كان جميلا ذات يوم,نزلت دموعه من عينيه,غير مصدق ما يحدث له.
اخترقت اليد الصدر لتنزع القلب,اشتهى أن يكمل وجبته فتغذى على باقي الجسد.
***
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في بطن الوحش
الجدار
[1]
طرقات على باب بيته وسمع الحاج ناصر ينادي عليه
-يا كرم .. ولد يا كرم,أنت يا فتى
وخرج إليه الفتى كرم الذي تجاوزت سنوات عمره الأربعين عاما إلا أنه يظل صبيا بالنسبة للشيخ العجوز ذو السنوات السبعين والذي يقف أمام داره بصحة جيدة.
دار بينهما حوار جعل كرم يذهب بعد انتهاء الإتفاق إلى بيت من بيوت الجيران,وطرقات مماثلة للآتية على بيته محملة برزق مرسل إليه من الحاج ناصر. وأخذ ينادي بمشهد متكرر من الكهل بعد الشيخ.
-يا رضا .. ولد يا رضا,أنت يا فتى
وخرج إليه الفتى رضا الذي ما زال فتيا لم يتجاوز العشرين عاما التي للتو بلغها,تتدفق الحيوية في جسده والنشاط في كلماته.
-الظاهر أنك آتي ومعك مصلحة يا عم كرم
-أيوا يا واد,قم بتغيير ملابسك وتعال معي
وركب الفتى خلفه على دراجة معلمه في الصنعة ليذهبا إلى العمل
*******
وقف الكهل والغلام على قطعة أرض تم تحديدها بمجموعة من الأحجار المتراشقة على خط سورها الذي لم يبنى بعد,والأرض واقعة في أرض أكبر خالية من أي شيء على امتداد البصر إلا من تراب وأحجار وأعشاب متناثرة هنا وهناك وخرائب متنوعة مكونة من كومات قمامة وملحقاتها ومجموعة من الكلاب والقطط الضالة. وفي وسط الأرض مصفوصة كبيرة من الطوب صنعت جدارا بعلو قامة إنسان معتدل الطول.
-هذه أرض ياسين يا عم كرم؟
-نعم هي
-يعني فيها فلوس
-يعني هو أنا جايبك ببلاش
-لا قصدي فيها فلوس كتير
-لا تخف سأرضيك بأكثر مما أعطيك في العادة
-حقا؟
-وهل أمزح معك!
أنزل الفتى حقيبة الأدوات من على كتفه وأخذ يساعد أستاذه في إخراج الإفطار من أكياس الطعام البلاستيكية. وهو أستاذه في الحرفة كونه أكثر صبي عمل معه وصار عجّانا -أي يصنع العجينة الإسمنتية (مونة)- ومساعدا على يديه,وبنّاءا قريبا تحت إشرافه.
وضع لقيمة الفول الأولى في فمه وأخرج لسانه السؤال الثاني
-والمطلوب نعمل إيه في الأرض هذه يا عم كرم؟
-تسويرها
-فقط,سنقوم ببناء سور حولها فقط؟
-يييه,أنت لازال أمامك عمل كثير,لا تستهين بهذا السور
غمزه بعينيه وسأله بخبث مرح
-طب وأخبارك مع خالتي صفا إيه؟
-انت عارف خالتك صفا وعمايلها مطلعا عينيا ومكرهاني في عيشتي والله
-بس هي قمر
-خدها واديني واحدة ترحم أمي وقفل ع السيرة بقى
بعد أن أنهيا الطعام قام كرم بسكب ما تبقى من فول وفتات على قوالب الطوب أثناء بناءه للجدار.
-إيه يا عم كرم اللي انت بتعمله ده,هترمي الأكل كله أمال هنتغدى إيه
-لا تخف سيأتي طعام غيره
-على الأقل اترك لي قطعة جبن وبعض الفول وطعمية واحدة,لدينا من الأكل الكثير,لقد اشتريت بزيادة أكثر من اللازم
-لك ذلك
[2]
كان العمل مجهدا على رضا حتى بلغه التعب فأسعفه قول الصنايعي كرم بأن يرتاحا قليلا وقد حان وقت الغداء ما بين العصيرة والظهيرة. أمسك الفتى بكيس الطعام يخرج ما تبقى فيه من وجبة الإفطار فأوقفه كرم.
-ماذا تفعل أسنأكل هذا الطعام بعد أن برد؟
-يمكننا أن نأكل الفول والجبن ونترك الطعمية.
-لا لا,حضر حطبا واشعل نارا أعد عليها لنا كوبين من الشاي والطعام على وصول.
-من سيأتي به؟
-ابن الحاج ناصر سوف يصل في أي لحظة الآن.
أنهى كرم رصف بضع قوالب طوب بعد أن فرد عليها بسكين البناء (مسطرين) الفول والجبن والطعمية والخبز وكل ما كان متبقي ويصلح للأكل من طعامهم متحسرا أنه لم يفعل ذلك منذ الصباح مع البقايا التي تخلص منها بين قوالب الطوب حتى لا يشعر بالذنب الذي يشعر به الآن طبقا لعادة الاستخسار التي لديه من زوجته,أو ربما هي لدى الجميع حسبما يحسب. وكان رضا قد أعد الشاي وهو ينظر إلى معلمه مستغربا,وقبل أن ينتهوا من احتساءه وصل الطعام مع حامله راكبا دراجته
-ماذا أتيت به معك يا محمود؟
-طبيخ الحاجة يا أسطى كرم
تناول منه كيس الطعام
-تعالى لتأكل معنا
-تعيش يا أسطى كرم,أنا كنت ذاهب أصلا للعمل
تناولا الطعام وأخذ الفتى يلقي أسئلته الكثيرة والسخيفة,ومن بينهم
-أي قدر من المال صرت تكنز يا أسطى كرم
-يعني ما لقيت سوى الفقير على باب الله لتسأله هذا السؤال
-عليا أنا هذا الكلام
-يلا يلا علشان نقوم
-لا بس عامل كام بأمانة
حدقه بنظرة جادة أخرسته,ثم رآه الأخير يفرغ الطعام كله على الطوب مكملا نفس السلوك الذي كان يفعله بطعام الإفطار
-انت بتعمل إيه يا أسطى كرم
لم يرد عليه
“الراجل شكله اتلط في نافوخه ولا إيه”
لاحظ نظراته الاستغرابية,فسأله
-ألم تشبع
-لا شبعت ولكن ألم يكن الأفضل أن آخذ هذا الطعام معي؟
-لا
-….!
مرت الساعات بسرعة على عكس ما كان يتوقع رضا وعلا أذان العصر الذي يؤذن بالرحيل أيضا عقب قضاء الصلاة. إلا أن الفتى لم يرحل ذلك اليوم ولن يرحل أبدا,على الأقل ليس وهو حي.
*******
لقد كانت مشاجرة بسيطة بينهما عقب الصلاة حيث أصر الأسطى كرم على استئناف العمل حتى غروب الشمس لإنهاء السور حول الأرض لتعيينها عن ما حولها,وهو سور قصير لا يستحق العمل لأجله أكثر من يوم بحسب حجته للاستمرار في العمل. وهو ما عارضه رضا موضحا ببساطة وجهة نظره أن ذلك يستلزم حساب يومين ووعده كرم في الطريق بإكرامية
-يا فتى لا تخف أنا سأعمل الواجب معك ولن أتركك ترحل إلا مرضيا
-لكن العمل يستحق يومين مع إكرامية
-ده لما تشتغل أصلا,هو انت اشتغلت ولا ساعدتني في حاجة
-لم يكن عليك أن تطرق بابي هذا الصباح إن كان لا يعجبك شغلي
لم تكن حجة الحرفي جيدة حيث أن الأمر ليس منوطا بعمل الفتى الذي كان متلكئا ومتكاسلا بالفعل وناعسا ومقصرا في العمل على غير العادة هذا اليوم. بل بكون كرم نفسه يريد أن ينهي العمل ببذل جهد كثير ودفع مال قليل. أخذ الإثنين يتحاوران ثم يتناقشان حول الأحقية بالعمل إلى حلول الليل أم ليوم تالي وتأثير ذلك على الحساب وهنا صار الكلام جدالا يكاد يتحول إلى مشادة خاصة بعد إعلان كرم أنه لن يدفع للفتى الشاب أجرته لهذا اليوم وله أن يرحل لو أراد.
استهزأ الفتى به وأهانه بقبيح الكلام وكان يبدوا واثقا من أخذه لماله وأخذ كرم يعنفه متسائلا عن كون تلك الإهانات موجهة إلى شخصه؟
وكانت الأزمة بمرور الفتاة الجميلة (ثريا) من المنطقة القبيحة (سرايا) كملاك الموت على الفتى الذي أخذ ينظر إليها متجاهلا كلمات معلمه الذي زادت نيران غضبه وتوقدت وتحطبت على دماء الفتى.
-انت مش معبرني وأنا بكلمك يا عاهر؟
وطفح كيله من استهزاء صبيه
صفعه أولا ورد الفتى الصفعة إليه
*******
بدأت بمشاجرة وانتهت بمقتل أحدهما,الطرف المقتول هو رضا الساقط جثة على الأرض تتدفق الدماء من جرح غائر في جانب رأسه. الطرف القاتل هو كرم الواقف فوق الجثة ممسكا أداة تقليب المعجون الأسمنتي (مسطرين) بعد أن غارت بحدها / نصلها في رأس غريمه.
*******
أكمل بناء الجدار فقط أمام أرض العقار ولم يسوره به,وقد جعله مبنيا من قوالب الطوب على مصفوفتين,أي جدارين متقابلين بينهما حوض مفتوح لصب الإسمنت أو التراب أو الحجارة أو أي شيء. في هذا التجويف وضع جثة الصبي وأكمل بناء السور حتى على عن إرتفاع رأسه هو.
[3]
-مالك يا كرم؟
-ماليش
-ما تقوليش ماليش أنت منذ / من ساعة ما قعدت / جلست على الأكل لم تذق لقيمة واحدة
-وأنت من ساعة ما جئت من الشغل لم تقولي كلمة واحدة عدلة توحد ربنا
-يعني أنا اللي سديت نفسك
-لا يا ستي أنا جاي قرفان لوحدي
-ويعني هطلع قرفك عليا أنا؟
-يا صفا ما تحلي عن دماغي شوية
-يعني مش طايق مني كلمة
-يلعن أم اصطباحتك ع الصبح,ما تتمسي يا صفا بقى على المسا
-ما تعدل كلامك معايا يا راجل / رجل
-يقطع أم العيشة على اللي عايشنها
-بقولك ما تكلم عدل معايا شويا يا راجل
-أنا سايبلك الأكل والكلام وقايم
-إلهي أنام أنا ما أوعى أصبح وألا شوفش صبح علشان أسيبلك أنا العيشة كلها
قام يجلس على التلفاز فسحبت عليه تلقفه ببضع كلمات سامة فألقى جهاز التحكم غاضبا وكاد أن يكسر التلفاز ثم ذهب إلى غرفته الأخرى لينام منعزلا عن زوجته. وأخذ طفلهم الصغير ذو الثمانية سنوات يتأملهما في خوف وصمت. ولقد زارت الكوابيس كرم في المنام فأتته صفا في اليقظة فاستيقظ فزعا على خبطات من يدها تنغز بها صدره وكتفه.
-إيه,عايزة إيه يا صفا
-يعني نمت بدري كده ليه
-تعبان شوية سيبيني أكمل نومي
-طب ما أتقوم تجيبلنا حاجة حلوة
-ما أنت معاك الفلوس يا صفا
-يعني أنت ما معاكش,دا أنت لسة جاي من مصلحة تبع الحاج ناصر
-طيب خدي المحفظة كلها أهه وسيبني أنا
-أنا مش قدرة أطلع دلوقت,قوم انت جيبلنا حاجة كده على ذوقك
-مفيش حاجة معينة في بالي
-يا راجل,عندك من الحلويات فاكهة ولا كنافة,ومن المشويات سمك ولا كفتة,ومن المسليات لبان أو لب,ومن العصائر كوكتيل أو كَنز (مشروبات غازية).
-طب ابعتي الواد
-لا مش بعتاه
-آآآه,يا أمي
-أنا نفسي آكل أكلة حلوة كده معاك ونترمي بعديها إحنا الإتنين ع السرير
-سيبني أترمي لوحدي الليلة دي بقولك تعبان
-يا راجل عيب عليك,بقولك عايزاك تقولي تعبان
-والله تعبان سيبيني أنام
-إما إنك رجل مش راجل صحيح
-حرام
-حرمت عليك عشتك وعيشة اللي جايبينك
-انت عايزة إيه يا بت
-إنت اللي عايز إيه يا كرم
-عايزك تروح تنامي في قوطك ولا في أي داهية ولا تلطعي لأمك أو تكلمي بنتك على التلفون,المهم تسيبني أنام
-لا من أنا عندي اقتراح أفضل,أنا أروح جايبالك رجل من ع الشارع ولا شاب صغير وعفي / قوي وأقوله معلش تعالى أصل جوزي مبقاش قادر
قام من على السرير منتفضا
-صفا علي الطلاق
-بلا تحلف بلا نيلة ما تخلنيش أوريك شمس الضهر في عز الليل
-الله يلعن ديـ…
بترت كلمته من انقطاع صوت زوجته وأنفاسه معا,انفجرت الدماء في وجهه ولم يتخيل أن هاتفه الذكي قد يفعل ذلك,ضربة واحدة في جبهتها في ذات الموضع الذي ضرب به رضا في مقتل.
[4]
وضع زوجته على السجادة ولفها حول جثته في أسطوانة قماشية أخفت الجسد.
جلس على السرير قليلا وأخذ يفكر في موقف أخيه منه,وفي تعابير وجه زوجته الأخيرة, وفي إبنته لو علمت بالأمر وهي للتو عادت من سفرها وقاطنة ببيتهم الآخر,وفي إبنهم الصغير الذي يلعب في الشارع الآن حاسبا أن أمه نائمة إلى جوار أبيه بعد مشاجرة أمس بافتراض أنها غلبته كالمعتاد. وفكر في الدماء التي لازالت على قدمه,وفي جليلة أخت المرحومة,وفي أم المرحومة بالأعلى,وفي كيفية تصريف الجثة وإخفاء الجريمة وتدبير حاله.
-أراك جننت وأنت في الأربعين من عمرك يا كرم
هكذا حدث نفسه ودموعه على خده,ثم أكمل نومه
*******
صار الجدار عاليا يحتاج إلى رافعة أو سقالة لإكماله صاعدا,وصار طويلا يتخطى عقار الحاج ناصر ويمتد في المنطقة الخالية من الطرفين شاقا إياها إلى نصفين. صار كرم يعمل بلا وعي,غير متسائل حتى عن مصدر قوالب الطوب التي لا تنتهي في يديه.
هذا الصباح طوى الجثة في السجادة ووضعها خلفه على دراجته النارية وكانت قد جفت دمائها,وخاطر بالذهاب من أمام الناس جميع إلى منطقة العمل,وآثار الدماء كانت مفضوحة إلا أن الجميع انتبه للسجادة ولم ينتبه لا للدماء ولا للجثة صاحبة الدماء.
*******
أصبح عدد الضحيا سبعة,كرم القتيل الأول ثم زوجته,ثم صفية أم زوجته صفا التي سألت عن إبنتها,ثم أم كرم التي سألت عن إبنها,ثم الحاج الذي كلفه بهذا العمل,ثم إبنه الذي جاء يسأل عنه,وهناك شخص سابع لا يتذكر أين قتله ولا كيف مرتمي مع الجثث المصوفة من الداخل على طول الجدار.
*******
كان هناك بيت وحيد في أرض الخرائب يحسب الناس أن لا أحد يسكن به,ثم صار فعلا لا أحد يسكن به,بعد أن خلت الدار من ناسها اللذين صاروا أمواتا وجثثا تغذي الجدار.
البيت في الخرابة هو البيت الوحيد المسكون في المنطقة الخالية المكونة منها والمسماة بها الخرابة,أو أرض الخرائب,أو الأرض السوداء كما يسمونها سكان حي السرايا,وهو الاسم الذي سيصير لصيقا بها لاحقا.
*******
الفتاة تمر من أمامه هي ثريا سبب كل ما هو فيه الآن,الجميلة,أو جميلة الحي حتى,ولا يدانيها في الجمال سوى ثلاث فتيات,ندا وقد ماتت,زوجته وقد كبرت ثم لحقت ندا,وابنته بسمة وقد سافرت.
*******
منذ بدأ في بناء الجدار وقد شعر أن الحائط لا يشبع,وهو لا يعرف ماذا يفعل أكثر مما يفعل وقد أدمى يديه وأرهق كتفيه ومزّق قدميه وهو يقلب كل حجر في فضاء الخراب المحيط بالمنطقة باحثا عن المزيد من المخلوقات الصغيرة. لقد أضاف ثريا إلى الجثث السبعة,ثم أضاف كلابا وقططا وفئرانا وحتى حيوانات إبن عرس,وحشرات متنوعة وطيورة عديدة وتقريبا كل ما يسير على أقدام ولا يعرف كيف أتته القدرة على تحقيق كل ذلك. ولا يعرف من أين تأتي قوالب الطوب اللانهائية,إلا أنه يحتاج إلى لوازم ومعدات الرفع. تسائل لماذا يتوفر لديه الطوب ومادة البناء ولا يتوفر له مرافع وسقالات.
[5]
لقد سئم من بكاء طفله سائلا وشاكيا غياب أمه,ولكنه فجع لمقتله,ولا يعرف كيف صارت الأدوات البسيطة في يده أسلحة سريعة للموت؟ كانت مجرد ملعقة يقلب بها بيضا يعده لطفله الصغير الجائع والشاكي من طريقة أبيه في الطبخ. الوغد يحسب أن أمه تصنع طعاما أفضل. الصدمة الأولى لما قتل إبنه ثم هدأ قليلا,ثم صُدم لما تيقن أن ولده قد مات. ضربة واحدة من الملعقة الخشبية الكبيرة في جبتهه بنفس الموضع التي تفجرت دماء منه دماء رضا وثريا وفي الأخير ابنه مصطفى.
لقد كان ينبض بالحياة فزالت عنه,كانت تنتظره أياما وأعواما فسلبها منه,كانت تتعاقب أنافسه فأخرج آخرها,كان يضج بالروح فذهبت لخالقها,كانت تراه عيناه,وكان دافئ جسده,وكان يحتضنه في صدره وآلان احتضنه الموت بدلا من أبيه.
*******
في اليوم الثالث ومع موت طفله قرر أن يعطي أقصى ما يمكن أن يعطيه,أو حتى يتخطى ذلك لو استطاع.
جمع كل ما يخبئه من ثروة,واستدعى بجزء وفير من المال مجموعتين من العمال؛المجموعة الأولى هم عمال الفراشة,والمجموعة الثانية هم عمال السقالة. ثم قرر أن يدعوا الجميع إلى فرح إبنته المفاجئ. وتعجب الجيران وسكان الحي من ذلك,خاصة وأن الفتاة تدرس في الخارج,وليس لها إلا زيارات قصيرة تزور خلالها العائلة في البيت الآخر بمنطقة مصر الجديدة. الفتاة لها سنوات لم تطأ حي السرايا بقدمها,ربما مرت على والديها بسيارتها الفارهة,لكنها قط لم تترجل منها.
أتى عمال السقالات,ونقدهم كرم مالا فوريا ووفيرا,فأنهوا عملهم خلال ساعة واحدة كما طلب,وهموا للرحيل سعيدون بالغنيمة التي اكتسبوها,ولكن لم يرحل أي منهم قط.
دعا الجميع,حتى أنه استأجر سائقي عربات (تكاتك جمع توك توك) لينادوا على من يريد الحضور,ليس من يريد هو,بل أي من يريد الحضور.
لقد جمع جميع أفراد عائلته (إبنته وأخوه) وأقاربه (الخلان والأعمام) وأصدقائه (حفنة من المقربين) وجيرانه (من بينهم الحاجة أمينة زوجة الحاج ناصر والجارة أم محمود التي لا تعي ما حولها) في فرح كبير. لم تأتي جليلة شقيقة زوجته لأنه قد سبق إليها في شقتها,وحين فتحت له الباب وضربها هذا المرة قاصدا ضربته بحجر بحجم قبضة اليد شق جبهتها في نفس الموقع الذي صارت يديه تذهب إليه من تلقاء نفسه.
[6]
بعد حدوث مجزرة أمس -والتي شملت ما تبقى من عائلته -ابنته- وأقاربه وجيرانه وأصدقائه وبعض أفرد الشرطة وقبلهم العمال وغيرهم من أشخاص لا يعرفهم- في الزفاف الكبير -تذكر الزفاف الدموي في مسلسل ما- صار كالمسعور يجمع الأشخاص والأشياء وكل ما يقابله في طريقه ليطعمه إلى الجدار,الحائط,الطوب,السور,لقد أسماه مسميات عديدة وأخذ يطعمه ملبيا نداء شيء اسمه السعير بن سعار. كيان مسعور آت من الجحيم ليأكل الأخضر واليابس. وتوالت المشاهد بشكل مأساوي.
إمرأة تمشي مع بضعة أطفال تقطع بسيرها أرض الخرائب مختصرة الطريق إلى مدارس أبناءها الثلاثة,ورابعهم على صدرها تحمله بين يديها.
طفل يلعب على دراجته هنا وهناك,يجوب الأراضي المستوية للخرائب وحيدا مبتعدا عن الخرائب المتعرجة. نظر للدراجة وتذكر سائقي الماكينات / الدراجات من نوع الريكشا الهندية (توك توك بالمصرية) واللذين سلموا من أذيته للأسف الشديد الذي يشعر به الآن.
بل وأغلق الجدار على فتى وهو حي لم يمت,وآخر كان قد قتله واتضح أنه لم يمت بعد. تخلص منه بين أحجار الجدار وأخذ يكمل بناء الجدار فاستيقظ ذلك الشخص مفزوعا قائما بجسده يحاول الخروج ولكن كانت أجزاء من جسمه قد تصلبت بفعل الإسمنت الخارق. صورة مروعة وهو يحاول الخروج متشبثا بحياته,عادت للحظة إليه إنسانيته لما تذكر صورة التى الذي أدرك أنه يُدفن حيا والجدار يبنا أمامه بفعل قوى ما تحرك ذلك المدعو كرم. صورة أخرى مروعة أتت في ذهنه لما تذكر مقتل إبنه وإبنته. استرجع صورة أخرى لإمرأة تحمل طفلها,قام بجرها من شعرها وهي محتضنة رضيعها يختلط صراخه بصراخها.
صار كرم كريما في وهبه الموت للناس,وكان أكرم في وهبه الناس للجدار.
لقد كان الجدار يأكل ويكبر.
[7]
قيل عن كرم أنه كان خارقا,ولم يقدر أحد على هزيمته,ولم يكن غالب له إلا جدار آخر مثل الذي كان يتبع أو يعبد. سلسلة من الأحداث الدامية التي استمرت بشكل يفوق وصف الرواة من الناس,مات فيها الكثير من الجند وتم محصارة الأرض السوداء (كما تسمت من الآن) من قبل قوات الشرطة التي كانت تخشى الدخول. وصُدم الناس وارتعبوا لزوال عائلة ياسين القوية التي تسكن على أطراف الخرائب في أول الهمار على يد رجل واحد. وحكيت الحكايات عن الأدوات الكثيرة التي استخدمها كرم في البطش بعائلة ياسين من بنادق آلية وخرطوش ومسدسا وقنابل مسامير ومولوتوف وحتى غازات مسيلة للدموع حصل عليها بطريقة ما. غير عارفين أنه تخلص منهم جميعا بقضيب حديد يضرب به في الجباه. وأخذوا يتحدثون عن العداء الدفين بين عائلة ياسين وبين عائلة كرم التي ذبحت في الزفاف الكبير على أيدي أفراد عائلة ياسين. أو هكذا حسب الناس,واستمرت الروايات عن جماعة مسلحة بقيادة كرم أحاطها الجيش بسور بني في ثلاثة أيام حول الأرض السوداء. غير عالمين أنه كان رجلا واحد يبني جدارا كبيرا.
*******
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في الجدار
العجز
[1]
هم سبعة,أحاطوا بي كحلقة مميتة,في البداية لم يكن لهم شأن بي,ولكنهم ألتفوا حول صديقي وتدخلي في الأمر جعلهم يضعونني في قائمة فرائسهم,ومن ثم الإلتفاف حولي كالحبل حول عنق من يعدم شنقا,رغم أن أمر صديقي يهمني,لكني أتسائل لماذا تدخلت؟
إن نظرة التحدي والعناد بل والوحشية في عيون صديقي جاسر هي ما دفعته إلى هؤلاء السبعة,سمع عنهم كلاما كثيرا,كلاما مخيفا,فدنا منهم وعرف عنهم وراقبهم,وما شأني أنا بذلك؟
لكنه سحبني معه,وأنا بالرغم مني إنجررت معه,بل إندفعت له,فهو صديقي,بل هو من الأصدقاء القليلون الذين تعمقوا في قلبي وليس كباقي أصدقائي الكثيرون. بل ربما هو أقرب من ذلك حتى,ليس مثل أي صديق,إنه كما يقول الغرب أكثر من أخ وليس أقل من زوجة. عدا أنني أكثر من الأخ والزوجة والأب وقد نشأنا معا منذ الصغر. تصاحبنا على الخير والفساد معا,لولا أننا أكثرنا من تلك الأخيرة فلكأنها أتت علينا عقابا على طيش الشباب في الصغر بالعشرينيات من عمرنا.
حاولت إبعاده وسحب قدميه من المياه السوداء التي يغرق فيها فلم أفلح. غرق حتى رأسه, مات وتركني ما بين حزني عليه وتمني اللحاق به,والخوف مما هو أسوأ.
هم سبعة
المرأة
أولهم تلك الفاتنة السمراء,طويلة وغير نحيفة,متناسقة ذات جسد مستوي,ووجه كشق القمر جميل ولصار القمر أسمرا لو رأي جمالها. شعر أسود طويل,عنق طويل,عيون بنية تلائم سمرة بشرتها,أنف وذقن غير دقيقين تضفي جمالا شيطانا عليها,الصورة الكاملة تبدوا مثل ساحرة أو راقصة شرقية جميلة,تفوح منها رائحة عطرية غامضة مما يؤكد الصورة الأولى لدي من يتعامل معها عن قرب.
كان يجلس في القطار الكهربي النفقي,وإذ بها تدخل العربة وتتجه نحوه وتجلس جواره وتنظر له
-وليد
نظر لها بإستغراب
-هل تعرفينني
-نعم,أعرفك وأعرف صديقك حاد النظرات
-من تقصدين؟
-رامي .. رامي ماهر
-اسمه الحقيقي جاسر
-أها
ابتسم
-هذا غريب,لكن تشرفت بمعرفتك
قربت فمها من أذنه
-أنا من السبعة
نظر لها محاولا الحفاظ على إبتسامته شاعرا بشيء من القلق وظهر عليه قليل من التوتر
-وماذا تريدين؟
وضعت أصابعها ذات الأظافر المطلية بالأسود على صدري بين ياقتى القميص وقالت مبتسمة وأصابعها تتلاعب ملامسة جلدي
-أريدك
الوقت ظهرا وهم في العربة الأخيرة,وهي خالية إلا منهما ومن شاب يجلس في آخر العربة أخذ ينظر لهما
-في أي يوم نحن؟
-السبت
-غدا الأحد,سأتزوج في الأحد الذي يليه
-وما المشكلة؟
-كما أنني لا أميل للنساء أصلا
-زواجك في الإسبوع القادم؟
-زواج شكلاني ليس إلا
-لماذا,أليس لديك قضيب
-يمكنني قضاء شهواتي مع أي غانية
-أها
أخذت تضحك بصوت عالي جدا لا شك أنه أثارني وأثار الشاب المتابع ما يحدث. كان عائدا من عمله بعد أن طلب أجازة,وقد ركن سيارته في البيت فركب القطار,والقطار يبطيء من حركته إستعدادا للتوقف في محطة ما,نظرت له ثم مشت (مست) بيدها على شعرها وقامت وخرجت من العربة في هذه المحطة.
***
سألت أحد العارفين فأجاب
“المرأة السمراء لم أعرف من أي مكان أو بلاد في مصر أتت,مالها أصل,لا بلد ولا عائلة معروفة,ولكنها جابت بلاد الله كلها في مصر وخارجها,من بلاد العرب لبلاد أوروبا إلى بلاد الصين وأفريقيا,اليمن,فرنسا,إيطاليا,الشرقية,من هذه البلاد كانت المنصورة,عملت مدبرة منزل في قصر الزمالك المسكون,وعملت مدرسة بإحدى القرى التي وقعت على حافة ما بين الريف والمدنية,ولكنها طردت بسبب صفعة.
صفعة لفتاة تسببت في جرح بالغ من أسفل الشعر حتى أسفل الذقن,وكُسر أنف الفتاة وكسر فكها صاحبه سقوط نصف أسنانها وشق بليغ داخل الفم وتمزق الشفتين بشكل شائه,وفقدان البصر من العين اليسرى أثر إنفجارها,والجلد كشط عن أغلب الجانب الأيسر من وجهها, وأبتلعت لسانها,مع إرتجاج في المخ,وتمزق في الأذن والعنق,وكادت الفتاة أن تفقد حياتها.
نظرت له مصعوقا وأقشعرت الشعيرات التي في صدري عندما تذكرت أصابعها وهي تلمس صدري
-لو ضربت شخصا بقضيب من فولاذ فلن يسبب كل ذلك
-ماذا تتوقع من الساحرات
إسمها إم (هل هو مريم؟) لم أعرف منزلها ولا أحد يعرف أين تقيم
***
قد يكون معتادا لو أن مطعم كبير للمشويات ومصدر طعامه من لحوم الكلاب والحمير والقوم يأكلون وهم غافلون,أمر بشع..لكن الأبشع أن يأكل الناس وهم يعلمون تماما قبل دخول المطعم من ماذا تتكون الوجبات التى ستقدم على موائدهم.
على أيمن المدخل إلى المطعم يعلوا محل الجزارة فوق درجاته البلاطية فاتحا بابه على مصراعيه بينما تقف سيدة طويلة سمراء في عباءة طويلة سوداء تقطع فخذ لحيوان ما فوق منضدة اللحوم,تُرى كثيرا في المجزر وفي أوقات أخرى جالسة في المقهى المجاور في مهابة من نوع (المعلمة) حيث يُقال أن أم الحمير-كما يدعونها- جالسة بمقهى المعلم أحمد.
يتنوع تواجدها في المنطقة ما بين المكتب والمقهى والمجزر والمطعم والثلاجة في الحارة الضيقة خلف المطعم حيث تعلق الذبائح المختلفة من عجول وماعز وحمير وبغال وكلاب وبشر….
بين برودة ثلاجة اللحوم في الحارة وثلاجة الجثث في المشرحة تتجول المرأة بين اللحم الميت الخالي من الأنفاس بإستمتاع تنتشي به روحها.
الطفل
أحد يديه دائما قابضة على شعر هذا الطفل؛أسود الجلد والشعر,نحيف قبيح,عيون غائرة وجمجمة بارزة,يديه مشوهتين,قطعة لحم في بنطال قصير وخرقة بالية على الجذع,أسنان مصفرة ولسان أبيض وعيون حمراء ملتهبة,بطن منتفخة ليست بها إلا غازات,عنق قبيح به نتوء من نوع تفاحة آدم غليظة,شعر أسود طويل خشن كشوك قنفذ,ثوبه الممزق كشف عن ظهره الممزق المليء بالكثير من الجراح عبر ثقوب وتمزقات وفجوات ردائه من نوع (فانلة أو حمالات).
والطفل ممزق الثياب حافي القدمين شائه الخلقة مخيف النظرات دامي الجسد,قبيحا قذرا ذو مظهر متوحش,شعر ممتلئ قملا وجسد يمتلئ جربا,وعيون تمتلئ وحشية وبغضا.
أسنان حادة من أثر أكل اللحوم الميتة والمخلفات البلاستيكية والمعدنية والزجاجية وأي شيء آخر يقع في يديه ويراه صالحا للأكل,أيادي خشنة من أثر الحديد والحجارة والنار وكثرة المعارك,أظافر طويلة صلبة رمادية,جسد أسود وأغبر ومترب ومتسخ دوما,رائحة فظيعة لا تدل سوى على قذارة وعفن لا منتهيان.
إحدى يديه تقبض دائما على كيس قماشي لا يُعرف ما بداخله,ولا يُرى إلا مرافقا للرجل.
لم أعرف إسم ذلك الشخص ولم يقل هو,لكني أدعوه المجنون,وهو له نصيب كبير من إسمه,
قابلته في اليوم التالي,كنت واقفا على الجهة الأخرى من الطريق أمام كنيسة “الكرمة” مترددا ما بين الدخول أو العدول عن ذلك حين سمعت الصوت الغليظ:
-أنا الثاني من السبعة
نظرت وقد شعرت بمزيج من الغيظ والتوتر,مد يده يصافحني فنظرت ليده ثم قابلتها بيدي,
وكدت أسمع صوت تكسير عظامي من قوة قبضته. كانت يده الأخرى قابضة على شعر ذلك الصبي الأسود ذو العيون الحمراء الوحشية والثياب الرثة وقدمين بلا نعلين أو أي شيء. وعلى الأرض جواره وجدت كيسا قماشيا وآخر يمسكه الصبي,لكن الذي على الأرض أكبر من الكيس في يد الصبي يكاد يكون بحجم الصبي نفسه,مليء بشيء ما,فيما بعد لم أرى ذلك الرجل ولو لمرة واحدة دون ذاك الطفل مرافقا له,رأسه في يده,والكيس في اليد الأخرى.
كدت أصرخ من فرط الألم البالغ في يدي التي لم يتركها,نظرت في وجهه؛قاسي الملامح ليس فيها ما يجذب سوى تلك العينين الحمراوتين وتلك الإبتسامة ذات الأسنان البيضاء اللامعة,ولكن ذلك يعطي لوجهه طابعا ينفر بقدر ما يجذب,يبعثان بجنونه إلى الخارج,ذلك البريق في لمعان أسنانه وحمرة عينيه. خاصة عينيه,أحمر العين بشكل فاتك,ليس ذلك الإحمرار في عينى الطفل؛حمرة قبيحة تغزو الحدقة وأغلب القرنية وتتجلى فيها الوحشية والعنف التي قتلت الطفولة والبراءة في روح الصبي. ولكن نوع آخر من من الهيمنة النفسية,
حمرة نبيتية هي لون عيونه,جميلة كتلك التي ترسم في عيون الفتية الوسيمين في المانجا اليابانية,ولكن تلك العيون الفريدة مع تلك الإبتسامة ناصعة البياض توحي بذلك الجنون.
وأنفه الذي أخذ يتسع ويضيق كأنما يشتم شيئا ما,نظرت له متحديا:
-أترك يدي لو سمحت قبل أن أكسر يدك
-وليد,رائحة الخوف بدأت تفوح منك
ثم تركني وأخذ الصبي والكيس الكبير معه.
المكسور
وفي الطريق إلى منزلي أخذت أحرك يدي شاعرا أنها كادت أن تتكسر أو تكسرت فعلا من قوة هذا السلاح المميت المسمى يده,ثم رأيت ذلك الشاب وشعرت بدافع إلى أن أنزل من السيارة لأعبر به الطريق؛مستندا على عكازيه عاجزا عن العبور,ساقه اليسرى مضمدة بالجبيرة البيضاء, جواره كلب أسود من كلب الرعي الألماني,أسود غزير الشعر,لاهثا لسانه خارج فمه.
توقفت وأخذت بيده أسنده وأعبر به,إبتسم لي إبتسامة ودودة بأسنان متلألئة من بياضهما؛ عيون زرقاء ساحرة,شعر أشقر جميل,وجه أبيض وسيم,وقميص أزرق نظيف,وجسد متسق ومثالي لولا ذلك الكسر في الساق. لما عبرت به نظر لي وقال:
-أنا ثالث السبعة
أخذت لحظة أحدق فيه,ثم أمسكت بياقة قميصه يدفعني شعور بالغضب والغيظ يزيده عجزه عن الدفاع عن نفسه,إلا إني سمعت تلك الزمجرة اللعينة من جواره,نظرت للكلب الذي أصبح شرسا ومتحفزا للهجوم,ثم نظرت لوجه الشاب,وسيم أزرق العينين يختبئ شيء مخيف خلف ملامح وجهه الودودة ذات التقاطيع الوسيمة,تركته وعدت إلى سيارتي.
العجوز
واصلت طريقي إلى المنزل حتى رأيت ذلك المتجر,والذي يبدوا بالرجوع إلى ذاكرتي أنه حديث العهد قد تم إفتتاحه من وقت قريب,ومكتوب على لافتته “بيت الألعاب”. توقفت أمامه وترجلت من السيارة متوجها إليه لأدخل من البوابة الخشبية ذات الإطاران (الضلفتان) المتأرجحان,وعلى اليمين أول ما دخلت رأيت طاولة الإستقبال يقف خلفها رجل عجوز أبيض الشعر واللحية,الملامح الطيبة في وجهه,والعمر الطويل في عينيه,والسجائر الثلاثة في فمه,وشعر رأسه الكثيف يتدلى على كتفه,وقفت أمامه قائلا:
-مرحبا ….. أريد هدية مناسبة لزوجتي
نظر لي مليا بعينيه الخضراوين تحت حاجبيه الكثفين
-أنا الرابع يا ولدي
ولكني لم أنفعل غضبا ولم أتأثر سوى بتلك العينين! إن كل لون له خاصيته؛العيون البنية الساحرة للفاتنة السمراء,والعيون الحمراء الوحشية للقوي المجنون,والعيون الزرقاء المخادعة للشاب الوسيم,والعيون الخضراء ذات التأثير الكاسح لهذا الشيخ اللعين أمامي,قلت بصبر نافذ:
-أريد هدية لزوجتي
-ضع يدك في جيبك
وفعلت فأخرجت من جيبي الأيسر تلك السلسلة الفضية الجميلة بها قطعة مثلثة منقوش عليها سيفان وثعبانان وإمرأة.
-ما هذا الهراء؟
الأعمى
جالسا بأريحية على كرسيه الفاخر خلف زجاج النافذة التي تحتل الواجهة كلها,راح يتأمل غروب الشمس قابضا على السلسة في يد وكوب العصير في اليد الأخرى,متكئا بمرفقه على مسند الكرسي الأيسر,ورغم منغصات اليوم إلا أنه على وضعيته تلك مع خضرة الحديقة أمامه وجمال غروب الشمس وأشعتها الساقطة على الحديقة,جعلاه يشعر أن الحياة لن تكون أفضل من ذلك.
أخذ يفكر في جلسته في الأشياء الجميلة الآتية في محاولة منه لنسيان الأشياء المزعجة التي مرت عليه اليوم,يفكر في قدوم صديقه بعد بضع ساعات ليتناول العشاء معه,وفي الغد الذي يتعجله ليري حبيبته هديته الجديدة,وأدرك أنه يشتاق للإثنين. وفي الإسبوع الذي يتعجل مروره ليتزوجها,مر في خاطره أن يمر عليها الليلة ولكن سرعان ما عدل عن ذلك. وفكر أن يمر على صديقه ثم تراجع عن ذلك القرار أيضا.
تحت ضوء الشمس المتجهة إلى الغروب رآه واقفا أمام منزله,واقفا على الممشى في منتصف الحديقة في صورة مخيفة,شعره الأشقر وعيناه اللامعتان,بريقها مخيف أكثر من عيون هؤلاء الذين قابلهم اليوم وأمس؛الوسيم والشيخ والمجنون والمرأة.
وعلى دوى نبضات قلبه حاول إبتلاع ريقه فلم يستطع….
اقترب الرجل ولما بلغ الزجاج وقف ينظر له من الجهة الأخرى بعينان لا تريان,وقد أدرك أنه أعمى.
الميت
لما نام بلا أحلام استيقظ بعد ساعة ليجد إمرأة بجواره,أدرك أنها ميتة,لم تقل له,ولكن أدرك أيضا أنها السادسة. هل ستقوم من موتها يا ترى. سحب الغطاء وتدثر به جيدا ونام. وفي الصباح لم يجدها.
القعيد
قابل السابعة في حلمه,إمرأة عجوز حسناء قعيدة على كرسي,تعطيه ظهرها,هناك وشاح على عنقها وتتدلى سلسلة من رقبتها. فكر أن يشد الوشاح على رقبتها ولكنه خشى أن لا يتمكن من احاطتها به,فقام بشد ذراع على حنجرتها ضاغطا بيده الأخرى بأقصى ما يستطيع. أخذ تقاوم كثيرا حتى هدأ جسدها أخيرا وماتت. وإذ به يجد عنقها يلتوي بشكل كان عليه أن يتوقعه,إنها مسخ في النهاية,وتدورت رأسها كما في أفلام الرعب وعلى رأسهم طارد الأرواح وهي تنظر له وتبتسم.
***
سحب كرسيا وجلس جواره خلف النافذة,شعره الأجعد الأسود بلون الفحم,ووجهه الأربد الأصفر بلون القمح,وعيونه الحادة الزرقاء بلون السماء,شفتاه الخفيفتان اللوزيتان بلون القرميد,وأسنانه اللامعة البيضاء بلون الرخام,تبدت ألوان الطبيعة في وجه هذا الشاب والذي إذا غضب تبدى غضبه في وجهه كعاصفة تتلون فيها كوارث الطبيعة.
-أراك سعيدا اليوم
سأله وهو ينظر إلى آخر خيوط الشمس من خلف أشجار حديقته,فأجابه وهو ينظر إلى ذات المشهد ولكن بلا إستمتاع مثل صديقه,وإن بدى سعيدا بما يقول:
-دوما سعيد طالما أصل لهدفي
-وهل وصلت؟
لا….
-إذن
-إقتربت .. أنا أجمع المعلومات
-عن السبعة
-نعم
-قابلت السبعة أمس
-السبعة مرة واحدة!
صمت لحظة وعند هذه النقطة نظر له جامد الملامح:
-المرأة والمجنون والشيخ ومكسور القدمين وكلهم.
-أنت تراقبني فعلا!!.
-والآن أستمع إلى كل ما سأخبرك به عنهم
-حسنا
وتكلم.
لربما كانت لتنفع هذه الخطة,ولكن لن يسعفه الوقت لتحقيقها,لقد كان هذا الشاب نفسه مكسور القدمين,ولا يعرف كيف تنكر إلى هذا. ثم أدرك أن استغرابه غير مبرر.
[2]
قيل لي أن أزور صاحبي ففعلت,ويا ليتني ما فعلت.
لا يرتدي الملابس ولا يتحمل الشمس ولا يخلع حذاءه,حتى آلمته قدماه ولم يمر سوى إسبوع واحد فقط,فقام بقطعها.
لا يرى إلا رمادا ولا يتذوق إلا مرا ولا يسمع إلا ضجيجا ولا يشم إلا عفنا ولا يتلمس إلا بردا.
لا يتنفس,شعور دائم وحقيقي بالاختناق,وتذكرت بصورة مفزعة وصف توماس مان لنوع من السعال في رواية الجبل السحري.
لا ينام.
لا يجلس,نعم يظل واقفا بدون جلوس أو استندا أو حتى إنثناء قليلا.
لا يتكلم,وقد وصف لي حالته كلها كتابة.
خفت فتركته ورحلت,ولاحقا عرفت أنه انتحر,في نفس يوم زفافي,اليوم الذي كنت جعلته في 17 مايو احتفالا بعيد ميلاد صديقي. مات صديقي,وأنا الذي تخليت عنه,فلحقت به. على الأقل ميتتي ستكون أقل وطأة من موته. إلا أنني في الأخير لم أجرؤ على الانتحار ففي النهاية أنا هو أنا وهو يظل هو,حتى لو ميتا. وأنا أبقى حيا,ولم أذق ما ذاقه من عذاب يفوق الوصف,ولدي زوجة تنتظرني.
[3]
من هم العجزة؟
ببساطة هم الفئة المهمشة في المجتمع البشري,كل واحد يمثل شخصا عاجزا يمثل بدوره فئة مهمشة؛الطفل والمعاق والعجوز والميت والمرأة والأعمى والمصاب. يا ترى لماذا لم يحسبونني أنا وصديقي ضمن تلك الفئات المهمشة؟ هل لأننا أثرياء قليلا مثلا؟
***
لا يعرف لماذا اخترقت رواية الشيء لستيفن كينج أفكاره. كان يعد الطعام في المطبخ مهموما ومفكرا ومتسائلا لماذا أجل زفافي اليوم؟ نعم صديقه مات,ولكن يقال الحي أبقى من الميت. هكذا أخذت الأفكار النرجسية تتوالى في عقله كأنها تحاول أن تطرد حزنه على صديقه. سمع صوت السيارة. لا بد أنها زوجته أتت لتواسيه, ولكن شعر أنه يسقط. هو الآن يصب زجاجة الخمر في البالوعة الصغيرة أسفل الجدار. بالوعة عبارة عن شق بعرض بوصة وطول شبر. كانت حبيبته تناديه,وهو يسمع صوتها. اسمها ملاك,وقد كان يعتبرها دوما اسما على مسمى. الآن هو يسقط فعلا. البالوعة تكبير بينما المحيط يتضائل. أو هو يتضائل. الظلام يغلفه,وأدرك أنه يسقط الآن في فتحة البالوعة الصغيرة. هل هو ذاهب إلى المجارير أم إلى الحمام. تشبث بحافة البالوعة وأخذ ينادي ملاك بصوت مبحوح مبلل بالدموع ومغلف بالذعر. “اللعنة أي سحر هذا” ولكنه في الأخير سقط.
ولما دخلت ملاك لم تجد وليدا,لا في المطبخ ولا في البيت كله,ولا في هذا العالم.
***
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في البالوعة
العين
[1]
ها وقد مرت ساعة من الصراخ والبكاء,أخترت لكِ عينك اليسرى,لكن عليكِ إختيار الأداة التي سأتلفها بها ما بين الموسى والإبرة والمطرقة والحمض,علما أنك إن لم تفعلي فلسوف أؤلمك بشدة ولسوف تعاني كثيرا.
مرت ساعة أخري من النويح ولم تختاري لذا سأبدأ بتعذيبك فما أن يخطر ببالك أي أداة سأتوقف يا عزيزتي.
من بين قيودك حررت يدك اليسرى,فقط يدك وباقي الذراع مكبلة.
علي الطاولة تناثرت الكثير من الأدوات المختلفة. منهم أربعة تصافوا جنبا إلي جنب؛عود طويل لامع ومدبب ومطرقة سوداء خفيفة وكأس حمضي وخنجر حاد.
تناول الكماشة لخلع أظافرها السوداء من تلك اليد البيضاء,بدء العمل متأملا وجهها وبدأ الألم مع الخنصر,وألم حاد جدا مع البنصر,تزايد الألم بشدة مع الوسطي,عند السبابة تحول وجهها البيضاوي كوجه القمر إلي لوحة من الألم العاتي والتعاسة والعيون الغير مصدقة والتي تستنجد بلا مُنجد,وبالإبهام ينتهي الأمر لكن لم ينتهي الألم. نظر لساعته قائلا:
-لم أرد إيذائك ولا أريد,لكن ساعتين قد مروا ويجب أن أنهي الأمر قبل إنتهاء ساعة أخري -ناظرا لعينيها- فأنا رجل منشغل للغاية. وأستطرد: سأعطيكِ دقيقتان لتختاري.
ناظر ليدك شاعرا بالأسى وقد مرت دقيقة,أردت أن أعتذر لكي,قبلت يدك الغارقة في الدماء مشوهة الأصابع,مددت يدي أتناول أنبوب الصمغ وجمعت أظافرك لكي أصلح ما أتلفته,فأخذت أرشقها كل ظفر في موضعه,مثلما تُرشق شظايا الزجاج فوق الأسوار. كم أتألم لصراخك!؟,لكن لن يسمعك أحد.
بعد أن انتهيت كدت أن أتوقف قليلاً لولا أن تذكرت أنه قد مرت دقائق ولم تتكلمي بعد, تناولت مفكا وكنت قد فقدت وعيك. ضربة واحدة فأخترق مثبتا يدك إلي الطاولة وساحبا إياك من رحمة النوم.
تناولت الفأس وبضربة واحدة قطعت تلك اليد التالفة,الدماء تنسكب بغزارة من ساعدك لتملأ الأرضية ودموع عينيك تسبقها.
ناظرة للسقف وفمك وأنفك ينسكبا مع دموعك من شدة الألم.
-لن يتوقف ذلك ما لم تنهيه أنت,لك دقيقتان لتقرري.
يتطاير الدماء بشكل بشع من فجوة ذراعك مكان البتر,سرعان ما شعرت بالأسف والشفقة عليكِ,تناولت المشعل,شعرت قليلا بقسوة ما سأفعل,ولكن علي إصلاح ما أتلفته,فشويت اللحم حتى ذاب مداويا البتر وتوقف النزيف المخيف,للحق شعرت أن الأربطة الجلدية ستنقطع من شدة إنتفاضتك ولكن لا فهي محكمة بشدة حتى لا تؤذي نفسك,كم أنا رقيق,تأملت ذراعك وقد أرجعته كما كان تقريبا.
احترق من الداخل شاعرا بمرارة في قلبي ظهرت في صورة دموع تنهمر من عيني.
***
أمسك ذراعها الأيسر وأخذ يشد بالمنشار عند المرفق حتى قطعه,الفتاة تصرخ وتبكي وتغرغر وتلهث,ثم أخذ يقطع قطعة من قماش بنطالها,ثم قطعة من جلد فخذها,ثم وضع خلا ثم كلورا,ثم أنتهي بجبس غلف به فخذها كله كابسا الدماء فيه.
***
وضعت جلدها الطبيعي على فجوة زراعها شاعرا بأسي بالغ ومرارة حادة,كل ما أفعله في جسدها هو التخريب والإصلاح,شيء جميل أن أصلح ما قمت بإتلافه,ليتها تتفهمني,يرتعش جسدي من مجرد تخيل مدي الألم التي تشعر به,ورغم قمة معاناتها أمسكت رأسها بيد والخنجر بيد وسحبت حد السلاح علي فمها صانعا شقة جعلت إبتسامة وجهها أكثر إتساعا,فجذب انتباهي لسانها وهي تحاول الرفس برأسها.
وضع الكلابة علي النار حتى أحمر خطافيها,كانت النظرة الملتاعة في عينيها كفيلة أن تسقط جبلا من فرط تألمه شدة الذعر والخوف فيهما. ولكن الأسوأ قد حدث بالفعل عزيزتي فمما أنت خائفة؟
رشقته رشقا مخرجا لسانها الممزق مع صرخاتها الفظيعة,هكذا تخيلت لولا أن توقفت,رأيت أصبعا له ظفر تالف في يدها اليمني,فارتأيت أن أنزعه لها,الأصبع لا الظفر,وآه من صرخاتها الموجعة.
تركتها نائمة شبه ميتة لترتاح قليلا علها تفكر في غشيتها أن تصل لإختيار.
مرت عشر دقائق قبل أن تنتزع الفتاة من ميتتها بصرخة ألم وقضيب راشق في جانبها الأيسر,نزعت القضيب ووضعته علي الطاولة,نظرت للسوط وتذكرت براعتي وقسوتي في استخدامه,مددت يدي مبتسما لولا أن تذكرت إن له دورا مميزا مع غيرها,نظرت للفتاة فإذا بالنوم يخطفها مرة أخري راحما لها من ويلات الألم,يتدلي رأسها علي صدرها غير مبالي بعذاب جسدها.
***
قام كالمجنون حين يتجلي الذكاء في رأسه صانعا فكرة جهنمية,نظر لتلك الأشياء المريعة التي تتدلي من السقف,أبشع كثيرا من الأدوات علي الطاولة,تناول خطافين,كل خطاف متصل بسلسلة حديدية تنتهي بآلة واحدة معلقة في السقف.
شاعرة كمن قذف من ظلال الجنة إلي ظلمات الجحيم,إستيقظت المسكينة شاعرة بالخطافين كالنواخير في قدميها,بينما إنتفض هو باعدا عنها وسقط علي ظهره.
***
لم أستطيع النظر إليها مع كل هذا الألم الذي سببته لها,ثم فكرت إني ربما لم أترك لها فرصة كافية لتختار,ومدفوعا بشفقة من قلبي قررت أن أساعدها.
حسنا يا عزيزتي,انظري واسمعي,ستتذوقي كل النكهات قبل أن تلتهمي أحدها,وهذا أفضل لكي فقد ذقت من العذاب ألوانا.
***
تناول المقص وشرع يقص أثوابها كاشفا صدرها وبطنها,وبين ثدييها أخذ ينخر بالموس ويشرط علامات غائرة دامية,وما أن خفت صرخاتها ضرب الإبرة في سُرتها ليعلوا صوتها بشدة أكبر,وأرتفع بشكل ألعن حين سكب قليل جدا من الحمض علي بطنها,فاتحا فمها قاذفة بلعابها وأنفاسها وصرخاتها,ثم أخذت تنظر للأعلى بعيون معذبة عاجزة.
***
ضربت بالمطرقة ضربة واحدة في جانبها الأيسر محطما ضلعا,كانت قبلا ترجوني بكلمات باكية,إلا أن رجاءاتها وتأوهاتها صارت أبلغ الآن,إنها تنفذ إلي قلبي ولكن لما لا أشعر بشيء يجعلني أتركها وكفاها ما نالت.
مرت ثلاث دقائق مغشيا عليها,كنت قد أجعل مدة راحتها أطول,لولا أن الموت قد يسلبها مني. هي بحاجة لأن تذهب إلي مستشفي,بجانب إني أردت أن انتهي من الأمر برمته لأني لدي من العمل الكثير -وأنا محب لعملي. حسنا,أعطيتها صفعة جعلت الدم يسيل من فمها وأنفها,ناظرة لي بمنتهي الذعر والحسرة. لا تخافي عزيزتي إني أهبك فرصة أخري لتختاري,ويا للأسف رغم أنها كانت مقدمة علي نطقها إلا أنها تراجعت فور إحساسها مدي الألم الناتج عن أي من تلك الأدوات المعروضة عليها,غبية لم تفكر في مدي الألم الذي صنعته بها بواسطة تلك الأدوات,والذي قادر علي صنعه. إن لدي من الأدوات والمعدات ما يسهل الأمور علي ويجعلها ممتعة ومحزنة في آن.
لذا قررت أن أوفر عليها مزيدا من العذاب,وضعت الأداة علي رأسها لتساعدني علي إجبار عينيها مفتوحة,هل رأيت عنزة تنظر إلي الجزار وهو يحد سكينه,كانت تلك نفس نظرتها لحد الموسى وهو يقترب من عينها,قبلتها في جبهتها ووضعت يدا علي عينها اليمني ومن بين دموعها مررت ببطء بالسلاح الحاد وكان منظرا بشعا.
***
أفاقت الفتاة,أخذت نفسا,شعرت به خلفها,قالت برجاء يائس “أرجوك وعدت أن تطلق سراحي”.ربت بيده اليسرى علي شعرها: “وأنا لا أخلف وعدي “خفقة أمل من قلبها,”ولكن اتفاقنا تضمن أن تختاري,أنت لم تختاري يا عزيزتي.
وتبدد أملها تماما في النجاة,ذبحها بخنجره وانتهت حياتها.
جثوت باكيا خلف جثتها الراقدة علي الكرسي,رفعت رأسي ونظرت للسلاسل الحديدية,لم أعلقها بالخطاطيف,إبتسمت,لقد ماتت مبكرا,ولكم فاتها الكثير.
عزيزتي!؟.
[2]
تألم قليلا وهو يتحسس معصمها بين أنامله,ثم أحكم قبضته على ساعدها بيده اليسرى ونزل الساطور بيده اليمنى قاطعا يد الفتاة عن الساعد. ثم أخذ يقطع بتتابع منتظم مكملا قطعه الذي بدأه وهي حية ويستأنفه الآن وهي ميتة صانعا أجزاء شبه متساوية حتى أنتهى إلى انتزاع الطرف بالكامل عن الجذع,وفعل المثل في أطرافها الثلاثة الأخرى. ليتكوم على المنضدة عدة شرائح بشرية ملطخة بدمائها من أطراف الفتاة الأربع,الذراعين والساقين. تناول الفأس وبضربة سريعة قطع الرأس عن الجذع المثبت على الكرسي بواسطة أدوات معدنية.
***
كانت المحصلة النهائية هي قطع وقصائص صغيرة من مكونات جسد البشرية التي كان يمكن تسميتها فتاة,أما ما تبقى منها فهو لا يتعدى كونه مجرد بقايا. أجزاء صغيرة للغاية من اللحم والجلد والعظم وغيره من مكونات الجسد,مقطعة بعناية على شكل مكعبات بحجم قطعة النرد,ومتناثرة باختلاط على سطح الطاولة.
***
مثل ساعي البريد توقف أمام كل بيت وهو يدور في شوارع المدينة بسيارته,واضعا جزءا منها على عتبة الباب أو قارعة الطريق أو فوق حجر أو أسفل أريكة,متخيلا وجووه رجال الشرطة لما يجمعون خيوط القضية ويبدأوا في جمع بقايا جسدها.
في النهاية اكتشف داخل بيته أن جثتها وقد توزعت في صورة قطع على ثلاثة أكياس لم ينفد منهم إلا كيس واحد حيث لم يسرف في التوزيع أثناء جولته بالمدينة. قرر أنه لن يدخر شيئا من جسدها وأمسك الكيسين في يديه وخرج من المنزل وأثناء الثواني القليلة في مسيرته من باب منزله إلى باب سيارته أتته فكرة أعجبته وهو يتخيل وجوه رجال الشرطة والسياسة. أدخل الكيسين سريعا إلى منزله,وقد تضايق من فكرة أنه سيضطر لترك هذا المنزل في تلك الضاحية الهادئة والانتقال إلى مكان آخر. هو سيكون بحاجة إلى الانتقال بعد أن يفعل ما سيفعله,وعليه التنفيذ سريعا. لسببين,الأول أن لحم الفتاة الجميلة سيبدأ بالتعفن وإخراج رائحة قذرة وهو لا يريد تخيل أن فتاته الحسناء سيتلوث جمالها برائحة قذرة ومنظر الدود ينخر في شرائح اللحم التي صنعها من جسمها مفسدا جماليات الصورة التي تلونت في الواقع المرير بلون دمائها. اللون الأحمر للدم أجمل من اللون الأبيض للدود,كما أن الدود لا يأتي وحده بل ويصحبه مجموعة من الحشرات والكائنات الصغيرة القبيحة والمتلونة بألوان تثير القرف. السبب الثاني حتى لا يتسائل أحد من المنطقة عن اختفاء أحد أفراد عائلته. هو لا يريد للشرطة أن تتدخل في عمله قبيل الانتهاء منه.
[3]
في اليوم التالي ازدحم شارع بيكر بعناصر بشرية مختلفة من رجال الشرطة والجيش ومراسلي الصحافة ومذيعي التلفزيون وحتى الناس المتفرجين والصبية العابثين والنساء النائمين حيث فقدن وعيهن جراء ما رأت أعينهم وأدركت عقولهم ولم تصدق قلوبهم. وقف الرجال في بركة كبيرة من القيء وحتى أن هناك رجل تبول على نفسه.
الطريق الأسفلتي لشارع بيكر سُفلت من جديد,وقد تم عمل ذلك من خلال فرش ونشر كومة من الجثث التي تم هرسها وإلصاقها بالمادة المكون من القطران والحجارة والمكونة للأسفلت. لا يوجد أي ملامح واضحة لهذه الجثث. ولا أحد يعرف كيف حدث هذا. وحسب الجميع أن قوى علوية تسببت في الأمر.
***
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
على الأسفلت
سيارة على جانب الطريق
[1]
نظر إلى ساعته ورن جرس هاتفه
-آيوا حبيبتي,أنا أمام البرج حاليا ..
-طيب يا حبيبي,هيثم خارج إليك ومعه الأوراق,سلام الآن لأن معي صديقتي ..
-ألا تريدين شيئا أحضره معي في الطريق؟.
-أريد سلامتك حبيبي,يلا سلام.
-سلام.
أغلق الهاتف ورفع نافذة السيارة قليلا “هكذا أفضل”,ولم يتبقى بين النافذة وإطار النافذة سوى مسافة بوصتين أو ثلاث. ظل متململا يتأمل النيل على يمينه مرة والطريق على يساره مرة حتى جائه هيثم أخيرا.
-كفّارة
-بدلا من أن تشكرني أن توسطت إليك كي أحضر الأوراق
-كنت أتكلم مع نرمين قليلا!
-(والعة يا عم) هنيئا لكم.
-الكحكة في إيد اليتيم عجبة.
-أنت تدور في الكلام حتى لا توجه إلي شكر
-اكتشفت أنك تفهم
-طيب افتح نافذة السيارة وتناول مني الأوراق يا فصيح
-ثانية واحدة
-ثانيتين لا واحدة
وبدا أنه يحاول بالفعل فتح النافذة,ثم بدأ يحاول فتح باب السيارة,أخذ ينظر لهيثم وهيثم ينظر له,واستمرت محاولاته.
-بدأنا اللعب والمزاح في هذا الصباح!.
قالها هيثم ممتعضا بينما لم يوله هشام أي إنتباه مركزا فيما يفعله,ثم بدأ يفعله بسرعة وقوة وقد بدا الغضب ظاهرا عليه. “يوووووووه” نطقها صارخا وقد نفد صبره. وكان هيثم يحملق فيه مستغربا ثم متشككا فصار متعصبا.
-أقولك على شيء,تناول المظروف من تلك الفتحة وأتركني أرحل بعيدا عن مزاحك الثقيل.
ودس له المظروف من فتحة النافذة الضيقة,تاركا إياه,حيث عُرف عن هشام ثقل مزاحه, وحدة ألاعيبه.
-يلا سلام….
-انتظر يا هيثم,لحظة واحدة أخرج لك.
-لا يا عمي,لا أطلب أي من ألاعيبك تلك,الأمر لا يحتمل.
وألتف هشام متجها إلى باب السيارة الأيمن,وتعجب أنه أيضا لا يفتح. بدأ يشعر بالتوتر وهو يلتف ويدور في السيارة متفحصا أبوابها الأربعة. ألتف أكثر من مرة وقد أتسخت كراسي السيارة من حذائه غير مهتم بذلك. ظل يدور في السيارة محني رأسه وظهره حتى تعب من الدوران والإنحناء.
تأكد أن صمامات الأمان غير مغلقة أو عالقة,ومقابض الأبواب تستجيب معه ولكن الأبواب لا تفتح. وضغط على مفاتيح سحب النوافذ ولكنها لا تعمل. ولا يدري ما المشكلة؟!.
تزايد تعبه وإرهاقه فجلس متأففا يفكر في هذا الحظ السيء الذي عطل جميع أبواب سيارته,ثم تذكر الأوراق فنظر مرتاعا إليها ليطمئن أنها مازالت مستقرة في مكانها في المظروف المرتمي على الكرسي.
رحل هيثم منذ مدة,شعر بالإختناق والحر رغم برودة فصل الشتاء وأخذ يضغط على نافذة الزجاجة بيديه في محاولة من أجل إفساح المجال للمزيد من الهواء,ولكن عبثا ما يفعله.
بعد أن سئم من كل هذا,تناول الأوراق ووضعها في درج السيارة ليطمئن من عدم ضياعها ثم جلس أمام عجلة المقود وقرر أن يدير السيارة ويرحل فظهرت له مشكلة أخرى وهي أن السيارة ترفض تماما أن تبدي أي إستجابة لأمر التشغيل,وكأن المحرك أصابته سكتة قلبية أو سقط في نعاس طويل. (ربما هو ثبات شتوي). إبتسم من التعليق الآتي على خاطره ثم صرخ في السيارة “هي ناقصاك أنت الآخر”.
بدأ يشعر بالجوع,فبحث عن المغلف الورقي على المقاعد الخلفية,تناوله وفتحه وبدأ يلتهم الطعام مفكرا ومتذوقا طعم الفول والطعمية ساخرا (أنها الأكلة الوطنية الأولى لمصر). بعد أن أنهى طعامه اكتشف أنه لم يصل لحل بعد,وأنه صار عطشان. تناول الزجاجة ليجد أن بها مقدار كوب واحد فقط من الماء,ألقى بهم في فمه,وأخذ يمتص بقاياهم بلسانه حتى تزايد عطشه.
حاول فتح الباب فلم يفتح,حاول تشغيل المحرك فلم يعمل,ضرب بقوة زجاج باب السيارة ثم ابتسم ممتنا أنه لم يتحطم. (منال ستخرب بيتي لو حدث للسيارة شيء).
تناول هاتفه وأخذ يعبث هنا وهناك متجولا بحسابه الشخصي في أنحاء الفيس بوك,طالما هو عاجز عن التجول بسيارته الفارهة في أرجاء المدينة. (سيارة أختي لا سيارتي) هكذا علق ساخرا في خاطره على خواطره الساخرة. مر بعض الوقت ثم بدأ فجأة يهتز غاضبا ويخبط في رأسه وفي سقف السيارة. وأخذ يضحك قليلا. أدار المحرك فلم يدر. يفتح الباب فلا يفتح. بحث عن منشفته -والتي تكون معه دوما- وعثر عليها وراء الكراسي الخلفية,تناولها ووضعها على وجهه وقد أراح رأسه على الجزء العلوي من كرسيه المريح. لكنه لم ينم. نظر إلى ساعته فوجدها عشرة دقائق بعد الحادية عشر صباحا. (أي إني عالق منذ ساعة تقريبا). قرر أن عليه النعاس وتمدد على الأريكة الخلفية مثنيا ساق أعلى الأريكة وأخرى ممددة بجوارها ومنشفته على عينيه,وشعر أخيرا أن بطانة كراسي السيارة مريحة جدا تحت رأسه,ونام.
[2]
لما استيقظ نظر إلى الساعة في هاتفه فوجدها تمام الواحدة ظهرا,نظر إلى رسالة صديقه محمد يسأله عن أين هو,أجاب برسالة ودار الحوار بالتراسل
-أنا عالق في الطريق
-غريب .. اليوم الأحد ونحن منتصف الظهيرة,لا يفترض أن يوجد زحام!
-أنا لست عالق بسبب الزحام
-إذن بسبب ماذا؟
لا يعرف بماذا يجيب
-هل تعطلت السيارة؟
-أظن ذلك
ثم دار حوار آخر مع صديق آخر
-هل ستأتي إلى حفلة الليلة
-نعم
-ولماذا لا تأتي الآن
-لا أستطيع
-لما؟
-السيارة معطلة
-يا أخي اركب سيارة أجرة وتعال
-لا أستطيع
-الله! لماذا؟
-لأن أبواب السيارة لا تفتح
-ماذا؟
-مثلما قلت لك
-كيف ذلك؟
-لا أعرف
-والحل؟
-لا حل
-هل تدرك معنى ما تقوله؟ سيحل الليل عليك وأنت محتجز في سيارتك اتصل بفني أو حرفي يصلحها أو يفتحها لك
-تصدق أنك محق
وقد أدرك المأزق الواقع فيه,أنهى المراسلة وأخذ يضغط أزرار هاتفه ثم واضعا الهاتف جوار أذنه فأتاه صوت الرنين وعقبه صوت رجل يتسائل عن المتصل
-أنا يا عم زكريا .. معك هشام
-يا مرحب يا أستاذ هشام كيف حالك با باشمهندس.
واستدعاه هشام فأتاه الرجل في الحال,أي بعد ساعة من الإنتظار,وقبيل وصوله كان هشام قد أرسل صبي مار ومعه أموال طالبا منه أن يحضر له علبتي (كشري),وواعدا إياه بأن يعطيه مالا لما يأتيه,وآملا أن لا يسرق الفتى المال ولا يرجع. ولما تأخر الفتى لما يزيد عن عشرين دقيقة أدرك هشام أنه قد سرق ماله وجوّع بطنه وصار ظنه في غير محله لما أبصر الغلام قادما تجاهه.
-معذرة تأخرت عليك لأن هناك ثلاثة مطاعم مغلقة اليوم ولا أعرف لما
-لا بأس يا صغيري,ناولني الحاجيات
-افتح الباب
-لا أستطيع
-وكيف ستتناولها مني
وتذكر الآن أنه كان عليه أن يطلب في أكياس بدلا من العلب
-حسنا اسمع قم بسكب العلبتين في الكيس الذي جلبتمهما فيه
وفعل الغريب بعد استغراب,وتناول الكيس بمذلة من النافذة.
[3]
رحل الطفل وتناول هشام طعامه ثم أخذ يلعق شفتيه وشعور جسدي بالعطش,ثم شعور نفسي بالإمتنان لدى رؤيته ذلك الرجل زكريا الميكانيكي واقفا بالجهة الأخرى يبحث عن سيارته فنادى هشام عليه. أول ما بلغه الرجل أخبره هشام بأنه ظمآن وسأله أن لديه ماء؟.
-لا والله يا أستاذ هشام
-اذهب بعد إذنك وأجلب لي زجاجتان مياه معدنية
وناوله المال
-طيب لما ننظر في أمر السيارة أولا يا أستاذ هشام!
-لا اجلب لي الماء أولا
-لما هذه العطلة؟
-بالله عليك احضر الماء بسرعة لأن العطش يحرق حلقي الآن
-حاضر,أمري لربي
زاد الرجل استغرابا لما وجد هشام لا يفتح له زجاج نافذة سيارته ويطلب منه طلبا غريبا
-حاول أن تسكب المياه الباردة في هذه الزجاجة رجاء
وأخرج فوهة زجاجة بلاستيكية فارغة من فتحة النافذة منتظرا تحقيق طلبه.
وما أن إنتهى من كل هذا الهراء لاعنا في سره ألاعيب الشاب المدلل,حتى بدأ يعمل على إصلاح ما في السيارة,بادئا بزجاجها الذي فهم من هشام أنه لا يفتح بجميع أبواب السيارة وكذلك الأبواب لا تفتح بالإضافة إلى أن محرك السيارة لا يدور.
خمن الرجل أن صمام الأمان به عطب فأنزل حقيبته وتناول منها سلكا صلبا أداره بشكل لولبي وهو يدخله من فتحة النافذة وأخذ يعبث بالصمام جاذبا إياه وهو يمسك مقبض الباب لعله يفتح. مرت دقائق قليلة محملة بإرهاق كثير,حتى أن بعض المارين أخذوا ينظرون إلى هذا اللص في وضح النهار,ولما أدركوا ما يصنع عرض البعض أن يقدم المساعدة. تدخل شاب يبدوا أن له باع في هذه الأمور بشهادة إحدى الندبات القبيحة على وجهه الأسمر. وبعد المزيد من الدقائق لم يفلح وخاب مسعاه ومن معه. ولم يفتح الباب لا بسلك ولا بإبرة.
زعق فيهم هشام
-يعني يا جدعان أنا نفسي أحاول شدّ الصمام ولا يفتح,ما تفعلوه بلا جدوى والله
أخذ الرجل زكريا يدور حول السيارة ثم قرر أخيرا أن يبدأ بالمحرك,وعند وقوفه أمام السيارة وصل استغرابه مداه وتحول إلى غضب وهو يحاول فتح غطاء السيارة دون أن يفلح. بعد عدة محاولات مستخدما عدة أدوات قام بإيقاف إحدى السيارات طالبا عتلة من السائق وقد وجد مع يعطيه من أول محاولة,إلا أن الغطاء لم يفتح حتى بعد أكثر من عشرين محاولة. وقد استخدم في محاولاته أدوات عديدة بدءا من المفك مرورا بالسكين وصولا إلى العتلة.
-هل تسمح لي يا أستاذ هشام أن أكسر زجاج النافذة,حتى أتمكن من فتح الباب وإلقاء نظرة على السيارة من الداخل.
-بالطبع تفضل
قالها ساخرا,وهو يشعر بقلق غريب غير مفسر. بعد فترة وجد تفسيرا داخل عقله وهو أن الوضع غريب فعلا,الرجل يحاول منذ مدة طويلة فتح غطاء المحرك أو أبواب السيارة أو غطاء حقيبتها,وتفحص نوافذها وإطاراتها وزجاجها الخلفي والأمامي وحتى سقفها وأسفلها.
ما زاد قلقه واستغرابه أن الزجاج لم ينكسر,لكن قدّر الحرفي أنه أصلب من المعتاد ليس إلا.
مارا يمر
-أي مساعدة يا خال؟
-تسلم يا خويا
وليس هو أول من يعرض مساعدتهم ولا آخرهم,وقد قضى زكريا النهار وهو يستشيط ويعمل بكل ما يملك من معرفة صناعية باذلا أقصى جهده. وقف الحرفي قليلا ثم أخذ يدور حول السيارة تارة وحول نفسه تارة أخرى ثم يضرب كفا وكفا متمتما بعبارات الحنق والغضب.
-اصطبحنا بوجه من هذا الصباح؟ .. هي ناقصة! .. لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم استمر الأمر بين ثلاثة مواقف من زوايا مختلفة؛الحبيس في السيارة يهاتف أحبائه مطمئنا لهم تأخيره وعلى وجهه تنزل علامات القلق والتوتر متجاورة مع الأشعة الأخيرة للشمس الغاربة.
-نعم يا أمي,حاليا أنا عالق في مشكلة بالسيارة,فلا أستطيع أن أمر على أحد .. لا لا تقلقي,لن أتأخر عن الحفل.
أغلق الهاتف فدق جرسه ثانية لتظهر على شاشته صورة نرمين حبيبته وخطيبته
-نعم يا حبيبتي
-إيه يا هشام لما تأخرت
-آسف قابلتني مشكلة في الطريق
-خيرا إن شاء
-لا تقلقي بالك,جاري حلها الآن,عطل بسيط في السيارة
-طيب هل تعلم من جواري الآن
-من؟
-سامية صديقتك
-والله ناوليها الهاتف رجاء
-إييه يا عم,هو العشق يأخذك مننا
-حبيبة قلبي يا سامية هل ستأتين إلى الحفل اليوم
-سآتي لو أتيت أنت
-سأتخلص من المشكلة التي لدي وآت في الحال,اعطيني نرمين
-يلا باي لكي لا تتأخر
-طيب سلام يا حبيبتي
والحرفي الذي بدأ اليأس ينال منه مع غروب الشمس وفشل جميع محاولاته وكذا محاولات من يقدمون المساعدة اللذين لم يستطيعوا زحزة السيارة وهم يدفعونها متجمعين ستة وسبعة رجال وعشرة وبلغ الأمر عشرين رجلا حتى في نفس اللحظة. أخذ العم زكريا يتفحص إطارات السيارة. ثم أخرج هاتفه واتصل برقم معنون باسم حمزة السمكري. وفي محادثة قصيرة قام باستدعاءه واعدا إياه بملغ جيد من المال.
الزاوية الثالثة تمثلت في هاتف ثالث غير هاتفي هشام وزكريا ومكالمة مختلفة من شخص ما قام باستدعاء ضابط المرور رغم أنه لم يلحقه أي ضرر مما يجري.
[4]
-يعني أنت لن تخرج من السيارة؟
قالها غاضبا وحانقا ومعاتبا ولائما ومتسائلا ومهددا وقد نفد صبره بعد استنفاذه هو الآخر محاولاته مع محاولات من سبقوه في إخراج الميؤوس منه ضحية السيارة الذي لم تدهسه أو تنقلب به,هو فقط حبيسها. تذكر هشام سيارة مماثلة في رواية لستيفن كينج,وقبل أن يغزوه الجزع أبعد هذا الاحتمال عن عقله,قائلا في سره “أن فارقا بين احتمال يتحقق وخيال لا يتحقق”.
-اكسر الزجاج يا عسكري
كان بصحبته أمينا وجنديا,فقام الجندي بتنفيذ الأوامر,إلا أن السيارة لم تنصاع لها,وجه المجند ضربة بكوعه إلى الزجاج فلم ينكسر,ولما آلمه ذراعه من التكرار ذهب ليحضر عصا غليظة وأتى مسرعا راكضا وأخذ يضرب بها ثم أنتبه لوجود أدوات معدنية أصلح من عصاته,فتناول العتلة ووجه ضربات قاسية سببت خدوشا حادة في النافذة ولكن لم تكسرها.
حاول فتح الباب مقتحما من خلال ضغط حد العتلة في التجويف بين الباب وإطاره,ويضغط أو يجذب بلا أي جدوى. وقد أكد العم زكريا -الذي بدأ يتسائل عن ضياع ماله إذا لم تنقضي تلك المصلحة- وصحبته من المشاهدين والمساعدين من الناس أنهم حاولوا كل ذلك قبله. وقف الضابط ومساعديه الأمين والمجند والحيرة تغمرهما,وعرض ميكانيكي وفني إطارات لا يعرف أحد من أين أتيا المساعدة. وحاولا برافعتهما الصغيرة والأصغر رفع السيارة بتلك الأدوات فلم ينجحا,حاول أحدهم تفكيك صواميل أي إطار وأخذ الناس يساعدوه بالضغط على (الصليبة),ثم استخدموا ماسورة طويلة ويتقافزا فوقها فلم يتزحزح مسمارا واحد من مكانه, أو دار عُشر دورة حول نفسه. وكان قد وصل حمزة السمكري ومعه حقيبة كبيرة مليئة بالمزيد من الأدوات. عرض أن يفتح لهم باب السيارة فسمحوا له وحاول مع جميع فتح أبوابها فلم يفلح وانضمت خيبته إلى خيبة من سبقوه لتصنع خيبة كبيرة تحوم فوقهم كسحابة سوداء تنذر بأن تمطر من عيون هشام دموعا وترعد في قلبه خوفا ممتزج مع الضيق للحال التي هو فيها.
رحل الرجل الذي كان قد أبلغ شرطة المرور والذي لا يعرفه أحد ولم ينتبه إليه أحد,إلا أن مكالمة أخرى انطلقت من الشخص الذي ينظر إليهم من إحدى النوافذ المطلة من نزل ما أو منزل ما. ليقدم بلاغا تجاور مع البلاغات المقدمة عن نفس الحادثة والتي بلغت عصام حمدي والذي يبدوا من اسمه ومظهره ونجومه ونسره أنه ضابط كبير. لن يذهب بنفسه وسيكتفي بإرسال ضابط أصغر هو صديقه وتلميذه إلى موقع الحدث.
###
صغير السن كبير المقام,وصل إلى موقع السيارة في شارع “كورنيش النيل” متزينا بنجومه الثلاثة ومصطحبا حاشيته المكونة من أميني شرطة وأمين مباحث وأربعة جنود وصلوا في سيارة خاصة بالضابط فؤاد محمد,وسيارة نجدة لباقي أفراد الشرطة اللذين أتوا معه.
وكان ضابط المرور قد إتخذ إجراءا أخيرا قبل تسليم القضية إلى شرطة المباحث,وهو اتصاله بعربة سحب السيارات المخالفة,والتي وصلت مع وصول عربة الشرطة.
-العربية دي شكلها ملبوسة والله العظيم!
كان ذلك تعليقا من أحد المارين,حيث لم يأبه أي من أفراد الشرطة للرجل الحبيس في السيارة,وأمروا بجرها وهو راكبها,واستمرت السيارة بعد تركيب خطافها في جرّ بائس لم يزحزح السيارة من موضعها. حتى أن عجلات عربة السحب صارت تدور حول نفسها في احتكاك مريع يكاد يحرق المطاط المصنوعة منه.
-هو أحنا أجننا والله إيه؟
قالها الضابط الشاب في سره معبرا لنفسه عن استغرابه من الحالة الجنونية للسيارة,وكان أذان العشاء قد وصل إلى مسامع الجميع,فأدرك النقيب فؤاد أن المسألة زادت عن حدها وأخذت وقتا أكثر مما تستحق. أجرى اتصالا
-أيوا يا محمود
-سعادة الباشا تؤمرني بإيه
-ارسل فورا عربة رافعة أخرى تصل هنا خلال عشرين دقيقة
ينظر له هشام من مسافة عشرين قدما,وكان يجري هو الآخر مكالمة
-لا تقلقي يا حبيبتي,هي مشكلة جاري العمل عليها كما أخبرتك
وأضاف ساخرا بمرارة
-هناك الكثيرون يهتمون بي أكثر مما أطلب حتى
-لا أنا آتية إليك حالا لأعرف أي مشكلة تلك التي تعطلك عني
[5]
منتصف الليل وبين النهر والبرج ظلت السيارة قابعة في الظلام مبتلعة أسيرها ومتزينة بأضواء المدينة اللامعة تحملق فيها. أجرى النقيب فؤاد مكالمة أخرى.
-عصام باشا
-فؤاد بيه
-سيادتك أنا مشتبه في سيارة مفخخة ضمن عملية إرهابية بالقرب من فندق ليرا Liera الشهير.
-الفندق الإسباني؟
-نعم هو
-ما الذي دعاك إلى ذلك الاستنتاج
-هناك سيارة غريبة,لا تتحرك من مكانها,كأنها ملتصقة بالأسفلت لا يمكن انتزاعها. غير قادرين على فتحها أو نقلها. وما يؤيد ظنوني هو مقدم الزيارة الإسبانية غدا في لقاء مع بعض عناصر القيادة لدينا,ومكان اللقاء هو فندق ليرا العريق.
-الكلام ده خطير يا فؤاد
-أنا بطلب من سعادتك تتيح لي كل الصلاحيات للتعامل مع هذه المشكلة
-لك ذلك
وهكذا توالت الإجراءات
الكشف عن متفجرات
فنيين لفتح السيارة
عربتين كبيرتين؛رافعة وجرافة
فأس لشق الإطارات
مطرقة لكسر النوافذ
كان قد تزايد عدد عناصر الشرطة من أفراد ومعدات وعربات,أتوا وأتت معهم شحنة عملاقة من الذعر والتوتر انتابت هشام للهرج والمرج الذي يحدث خارج سيارته. وشعر أن زجاجها يفصله تماما عن العالم. وأخذ ينظر للجزء الوحيد المفتوح وتمنى أن يتمكن المرور منه.
أصعب ما يمر به هو الضغط الناتج عن أربعة حالات تمتزج داخل نفسه؛حبسه داخل تلك السيارة التي صارت قبيحة في عينه. أهله وألمهم لألمه وهم يراقبونه بنظرات عاجزة غير قادرين على فعل شيء سوى بضع مشاغبات مع أفراد الشرطة. والثالثة هي المزلة الناتجة عن الطريقة التي يتناول بها الطعام والشراب وبعض المهدئات. وما يزيد الطين بله هما محققي المباحث اللذين يحققون معه الآن من خلف زجاج الباب,في برهة من الهدوء بعد أن تعب حشد الفنيين من محاولاتهم لتفتيش أو فتح أو حتى تدمير السيارة.
ضابط حاول كسر زجاج الأبواب الخلفية من خلال عدة طلقات من مسدسه,ثم أمر جنوده بتسليط تيار من الرصاص ببنادقهم الآلية على جهة واحدة محاولين تحطيم باب ضئيل لسيارة.
هناك زحام من العربات ما بين عربات الرفع والجرّ,وعربات الشرطة (سيارة نجدة وحافلات صغيرة (ميكروباص) وعربات نصف صندوقية للمجندين,وحافلات صندوقية للمزيد من المجندين) وحتى عربة مدرعة (أو مدرعتين). وعربات الصحافة (الصحافة أتت) والإسعاف والفنيين. وسيارات بعض كبار السياسية والقياديين في الجيش أو الشرطة الداخلية.
رأى من الزحام صديقيه هيثم ومحمد يخترقان للتحدث معه,في الأول منعهما شرطي حاسبا أنهما سينهاران مثلما أفراد أسرته فأنكرا فعلهما ذلك.
نظر هشام من بين دموعه إلى هيثم.
-فكرتني بهزر يا هيثم,قلت لك نازلك,أديني مش عارف أطلع منها خالص.
ثم تراجع بهما شرطي آخر حتى لا ينهار هشام نفسه.
[6]
وتم بناء جدران عازلة,أو وضعها بمعنى أدق,متراصة أحجارها العملاقة حول السيارة.
حيث أحيطت السيارة بجداريات كبيرة من التي تسور بها المناطق العسكرية والسياسية والأمنية. وقد بلغ مسامع هشام أنهم سيفجرون السيارة,قبل أن تنفجر في حضور الزيارة الإسبانية. تم طرد جميع المفتفرجين,وتم احتجاز أقاربه في مديرية أمن القاهرة بعيدا عنه. ومع إقتراب الفجر كان الجنون قد بلغ مداه,نوبات متكررة كل خمسة دقائق تحدث لهشام,أدمى يده في إحداها وهو يحاول كأنه يريد الخروج من التجويف المفتوح قليلا بين زجاج النافذة وإطارها. يريد أن يدخل رأسه بشكل ميتافيزيقي يتحدى قوانين الفيزياء. ولما لا؟ تسائل في نفسه طالما أن العربة نفسها فعلت ذلك وتحدت كل الأنساق المعروفة. ومع الدماء التي تنزف من يديه تتحطم نفسه أكثر بالتوازي مع الدموع التي تنزف من عيون أمه وأخته وحبيبته وشقيقته وصديقته وأبنة أبيه,رغم أنهم لا يرونه الآن. رجل مسكين ونساء يحبونه. وحتى رجال أصدقاء له. نوبة أخرى جعلته يشعر باختناق عظيم لم يكن ليقترب من مثله طوال حياته. وتزايدت النوبات حدة وتنويعا.
نوبة بكاء وصراخ.
نوبة صلاة أتت معه بلا جدوى,وأخرجت من لسانه كلمات يأس وهرطقة.
نوبة ذعر مصحوبة بمجموعة مشؤومة من الهلاوس.
نوبة عربدة ظل يستمني نفسه قضيبه على صورة حبيبته القابعة أمامه خلف الزجاج الذي يفصله عنها محاولا أن ينسى ما يحدث له.
نوبة أخرى من المذلة جعلته يتبول ويتبرز على نفسه.
نوبة أدمته نفسيا وجسديا لما أخذ يتخبط برأسه في زجاج النافذة,يصدم ويصدم كأنه قد يخترق الزجاج بجمجة حديدية.
نوبة جنون أخرى جعلته يستحم بالطعام والشراب لديه.
نوبة غريبة ألقى خلالها نظرة على الأوراق المهمة وأخذ يقهقه ضاحكا.
نوبة خلطت بين مشاعر عدة جسدية ونفسية من الجوع والظمأ والألم والخوف والشهوة والحزن والغضب.
وفي الأخير هدأ ونام ساعة قبل أن يستيقظ.
بدأت الصحافة تحضر عناوينها الصفراء من الآن؛النهر والبرج,سيارة على جانب الطريق, سيارة جوار النيل,سيارة في الشارع,السجن في السيارة. والبعض يشطح بالتسمية,مثل سيارة الموت,السيارة الشيطانية,السيارة الجهنمية,السيارة الخارقة,السيارة الملعونة,السيارة الجحيمية,الرجل الذي سيتم إحراقه داخل قبره. وهناك من سمى تقريره الصحفي ببساطه,السيارة. فقط. ولم يأتي أحد على ذكر هشام أو تلميح له في عنوان تقرير. تكريما للشاب الذي سينهي حياته بيده بعد سويعات من الآن قبل أن ينهوها هم.
[7]
هناك شبه تأكيد وإجماع على أن أحدهم؛من عائلته أو من الشرطة,ناوله أداة للموت من فرجة النافذة,ولكن يقع الإختلاف حول طبيعة هذا السلاح. البعض يقول أنه مسدس,وآخرون يزعمون أنها حبوب قاتلة,وربما حقنة هواء,وهناك قول بأنه سم مميت بشكل فوري أذابه في عبوة العصير الصغيرة. إلا أن الشرطة نجحت في التغطية جيدا على طريقة مقتله ومنعت أي تغطية صحفية من أن تطاله. ومنعت انتشار خبر التفجير الذي نفذوه بعد موته,خرجت منه السيارة دون أي خدش رغم أن الطريق المعلق على النيل تأثر وتضرر كثيرا من قوة الإنفجار. ربما هذا هو التكريم الوحيد الذي ناله هشام,وهو الذي لم ينتبه أو يتسائل أحد قط عن أهمية الأوراق في درج السيارة.
وقبيل الشروق كانت روح هشام قد غربت.
###
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في السيارة
عيد الفطر
[1]
من المثير للسخرية أن أقرب صديق إلى قلبي لم يوجد قط في حياتي,كان بيننا اتصال لكنه اتصال يتخطى حدود العقل إلى الجنون,ويتخطى حدود الواقع إلى الخيال,ويتخطى حدود الطبيعة إلى الخوارق. حدث أول مرة لما كنت مارا من إحدى البيوت ضمن مصفوفة من المنازل المتراصة على طول الطرق الملتوية وصولا إلى فرن العيش. بيوت أحفظها عن ظهر قلب,وأعلم أن لا أحد يسكن في الطابق الأرضي من ذلك البيت ذو المدخلين. مدخل يؤدي إلى الطابق الأرضي وبه شقة تم تحويلها إلى نوع من الزرائب ترعى فيه الخراف. وبه المدخل والسلم الذي يصعد بالساكنين إلى باقي الطوابق الإحدى عشر. ومدخل آخر يؤدي إلى غرفة مشتقة ومنفصلة عن الطابق الأول,عبر باب حديدي مغلق عليها دوما بقفل عملاق بصورة مخيفة تلفت نظر المارين ذهابا وإيابا. وكانت به نافذة تم إغلاقها نهائيا بلوح حديدي بلا قفل ولا مفتاح ولا فتحات أو ثقوب. وكذلك الباب كصفحة سوداء لا تؤدي إلى النظر لإي بـ ومن الداخل.
كنت قادما من الفرن أحمل قفصا متباهيا بالعيش المرصوص على أعواده الخشبية المتشابكة,وعند مروري سمعت الصوت.
-الحقوني
حسبت أنني أتخيل وأكملت طريقي,وقد تكرر الأمر أياما كثيرة,حتى استوقفتني سماع الكلمة مع بحة ممتوطة وأنين حزين للغاية,ورجاء بين ودمع هين.
-الحقوونييي
توقفت وأصغيت السمع
-الحقوونيي
الصوت آت من خلف الباب الحديدي,اقتربت وشحذت أذني مقبلا برأسي
-أيوا,حد جوا
لم يأتي أي رد
-حد بينادي؟
لا شيء .. إلا أن الصوت استمر أياما وأيام,وفي جميع الأيام اللاحقة حتى جرت الأيام وصارت ثلاث أسابيع والأمر يحدث يوميا. بل وعدة مرات في اليوم الواحد,أثناء ذهابي للعمل أو محطة القطار أو السوق أو فرن العيش أو لمقابلة صديق أو قريب. أو غيره من الحاجيات التي أقضيها في نطاق المنطقة التي أسكن بها,والتي تجعلني أمر من أمام البيت, ولكن لا تحتم علي ذلك. فيمكنني تغيير المسار الذي أسير عليه,وصنع طريق آخر يكون حتى أكثر اختصار أو قربا من الأماكن التي أذهب إليها عدا ربما فرن العيش. إلا أنني ملت لأن استمع لهذا الصوت الحزين الخائف المتألم القاسي علي سماعه. ومع مرور أول شهر ومحاولة أخرى مني لم تأتي برد حتى أن أم إسماعيل أخذت تنظر إلي مستغربة,وربما قد حسبتني جننت. سألت عن صاحب الدار فعرفت أنه المعلم محمود عبد العظيم صاحب تجارة المواشي الكبيرة في حي السرايات كلها. والتي يأتي إليها الكثير من المقبلين من أماكن بعيدة في القاهرة إلى سوق الثلاثاء للتسوق وللمرور على بيت الرجل الثاني لعقد الصفقات ربما. وحتى يأتون من قرى الأرياف والصعيد,وربما من المدن الساحلية ولكن في المواسم الكبرى بدلا من يوم الثلاثاء الواحد في الإسبوع. لما سألته وكان يعرفني بحكم معرفته لأبي برغم أنها المرة الأولى التي أتعرف عليه بها,قال لي آنذاك.
-سيد يا شعبان,سلامة عقلك يا واد
ورغم سنوات عمري الواحد والثلاثين إلا أنه كان يكبرني بأكثر من الضعف وقد تخطت سنواته السبعين,لذا لم أتشدد معه في وصفه لي بالصبي.
-وعلشان تطمن قلبك وتريح بالك,أهه,خش شوف
كنا أمام الغرفة بالضبط وقد فتح لي الباب,وكنت متوجسا من الدخول,وهو خوف حقيقي فاللحظة التي ستخطو بها قدمي إلى الناحية الأخرى من الباب,ستكون هي أكثر ما أندم عليه في حياتي كلها. سأصير حبيس تلك الغرفة إلى الأبد. شارب الرجل وحاجبيه ليسا إلا أربعة قرون لشيطان يبتسم لي الآن ابتسامة تدعوني إلى التهلكة. وأنف خنزير وجبهة مارد وعيون ذئب وصفحة عفريت تزين وجهه إن كان للعفاريت ملامح معينة. ربما المردة لها جباه عملاقة تميزهم مثل القرون التي تميز الشياطين. بيده المزدانة بالمجوهرات بسطها أمامي داعيا إياي للدخول. وحينها دخلت متغلبا على أفكاري حتى لا يفضح أمري في الشارع بأني كنت كالفأر المذعور. ولما دخلت لم أجد أي شيء. مجرد غرفة خالية إلا من جدرانها.
###
مررت مرة أخرى,فأتاني الصوت راجيا باكيا مستنجدا للمرة المائة
-الحقوني والنبي
-عليك الصلاة والسلام يا نبي
وقد حفزني ذكر الرسول لترك تجاهلي والاقتراب من الصوت
-من؟
-أيوا فيه حد سامعني
-أيوا سامعك
-والنبي,بالله عليك يا أخي طلعني من هنا,وحياة أبوك يا خويا طلعني من هنا
وبدأ في نحيب تمزق قلبي لسماعه,وعلى الفور أسرعت مهرولا متخطيا جانب البيت إلى واجهته حيث الباب الآخر. وجدت الحاج محمود يتحدث مع إثنين يبدوان من زبائنه. رآني على حالتي تلك فخاف الظاهر أن يطفش مني زبونيه,فأتى خلفي مسرعا وفتح الباب. دخلت هذه المرة غير متردد وأنا لا زلت خائف من الحبس. ولم أجد شيئا أو أسمع صوتا. لا وجود لأي شخص.
-بقولك إيه سيد,ما تكلش دماغي معاك
-بس والله
-ولا بس ولا بسش,انت هجنني معاك ليه أمال
أتى الرجلان خلفنا ومعهم جار للحاج محمود,وكذلك أم إسماعيل تنظر,وبدا أن الناس ستحتشد حولهم الآن. وعدته أن لا يتكرر الأمر,وصرف الناس ولم يصرفني وأغلق الباب, ووضع مفتاحه في صديرية جلبابه,وقد لاحظت الآن أن المفتاح على ما يبدوا لا يفارقه.
بعد أن رحل الجميع أتاني الصوت مرة أخرى
-لما رحلت؟
-أنا لم أرحل
-طب بالله عليك افتح لي الباب
-والله ما أستطيع
-لما,ونبي هموت من الجوع والعطش,ومش قادر أتنفس,والأرض باردة,وتعبان مفيش حيل حتى أخبط على الباب,بس بخبط ومحدش سامعني
-الظاهر أن لا أحد يسمع الطرقات غيري
-انت بتعمل فيا كده ليه
-أنا والله ما بعمل حاجة
-يا أخويا أنا محبوس
-طب وأنا أعمل إيه
-طيب نادي حد من أهلي
-وانت مين ومين أهلك
-أنا محمد أمي معروفة في الشارع وست غلبانة والله,وزمانها هتموت عليا
-لحظة,انت محمد ابن أم محمد
-آه
-محمد اللي مختفي من عدة أشهر
-أي والله أنا
كنت قد أشعلت سيجارة لأول مرة في حياتي وأنا أخاطب شبح,الشبح وليس التدخين,لما سقطت السيجارة من فاهي المفتوح بشكل نمطي للغاية تعبيرا عن الصدمة.
[2]
على هامش حرب عصابات اشتعلت بين عائلتين في شارعنا بحي السرايا,توطدت الصداقة بيني وبين ذلك الغريب محمد,أكثر من أي محمد آخر قد أقابله في حياتي. تشاجرت عائلة عبد العظيم بقيادة أكبر أبناءه خالد ثم طارق ضد عائلة أم محمد المكونة من إخوته أو ربما أبناء عمومته أو ربما هم الجيران تدخلوا لها أو أصدقاء من نوع ما. لما حكى لهم ما حدث له بالتفاصيل,وبعد نفي شيخ المنطقة تدخل أي قوى روحانية من عمل (سحر) أو عين (حسد) أو مس (جن) وغيره في المسألة. لم يصدق أحد حكايته,لكن أم محمد والتي تجلس دوما صحبة أم إسماعيل وأم فؤاد,ستفهم ورجل آخر ربما زوجها (أبو محمد) أن الحاج محمود قد يكون له يد في اختفاء أبنهما. خصوصا وما يدور حوله من شبهات عن تجارة الأعضاء.
بعد نوبات من البكاء والرجاء طالت وطال معها الشقاء من قبل الطرفين,كان قد تقبل محمد حقيقة أن سيد -أي أنا- عاجز عن مساعدته. وصارت الحوارات تطول بيننا حول كل شيء وأي شيء. جالسا على عتبة الباب الحديدي,مستندا بظهري على الباب. سألت
-ماذا كان يحدث لما يفتح الباب
-الباب لا يفتح لدي مطلقا
-إذن لما كنت تختفي .. أقصد صوتك يختفي فأنت خفي بالفعل,أين تذهب؟
-كان يتلاشى صوتك أنت
-والآن صار لا يحدث ذلك
-نعم
-أعتقد بصراحة يا محمد أن لا أحد قادر على مساعدتك
-لما تقول هذا؟
-اعقلها أنت وقل لي
-ربما تكون محق
-يا أخي هناك مجزرة تحدث لأجلك الآن,ومع ذلك الأشخاص الذين يتقاتلون وينزفون الدماء في سبيلك حتى أن الشرطة عاجزة عن التدخل,لا يصدقون أن هذا الحوار بيننا يحدث فعلا
-ولا أنا أصدق
-وكيف تفسر هذا
-أنت فقط كنت ترحل وتعود
-وكيف أقنعك يا ربي
-لا يهم,أنت فقط خائف من أن تبلغ الشرطة أو تخبر أحدا ولكني تقبلت ذلك,غيّر الحوار
-كما تريد عزيزي
###
مع اقتراب شهر رمضان هدأت الأمور بين العائلتين المتخاصمتين,وأدرك كلاهما مع تساقط أشخاص جرحى من الطرفين أن لا جدوى من القتال,أو المزيد من الدماء.
تصالح الطرفان وتصالح محمد مع فكرة أن سيد -أنا- شخص طيب ربما فقط خائف أو ربما هناك أمر ما فعلا,فهو يؤمن بالأعمال السفلية والسحر الأسود أيضا. قامت المعركة وانطفأت ولم يفشي أحد أن سيد -أنا مرة أخرى- هو الواشي حتى لا يشتبك معه أولاد عبد العظيم وعائلة شعبان ليست ندا لهم,والله سترها فقط على أم محمد لأنها إمرأة غلبانة ليس إلا.
ورغم ذلك ظللت خائف على نفسي من أيادي عبد العظيم الطويلة,وخائف أكثر على مصير الفتى الحبيس بالداخل. صحبته لا تعوض والله. اتكأت على ركبتي ونظرت أسفل الباب محاولا المساعدة بطريقة ما,فلم أجد أسفل الباب ولا تحته,مجرد حديد ملتصق بقطعة الرخام الأبيض التي تشكل عتبته,لا مجل ليمر صرار من أسفل الباب بدون أدنى مبالغة.
###
أتى رمضان وكان سيد يجلس طول النهار مع حر الصيام,ويسهر ليالي أطول يدخن الحشيش أمام الباب الحديدي,ولم يستغرب الناس من ذلك وقالوا أنه فقط تصاحب (اتلم) على مجموعة من القوادين وصغار تجار المخدرات من الشباب الشمامين والحشاشين. في كل بقعة معينة أو مربع سكني أو منطقة أو شارع أو حارة -عدا بعض الأماكن- داخل حي السرايا كانت تلتف مجموعات مثل تلك حشود سامة مكونة من ثلاثة أشخاص على الأقل في العادة,يتجمعون على النواصي وأمام صالات ومقاهي الإنترنت الفقيرة والزوايا المظلمة في الشوارع والحواري والأزقة. قيل أنه صار يحوم حول الفتى (الواد) ألوان -هذا أسمه- وصحبته / شلته.
تأكد سيد أن لا أحد سواه يسمع نداءات محمد وطرقاته,وكان يتحدث مع محمد في أشياء كثيرة,مثل أخبار حول العالم بالخارج,أكلات مفضلة,حسناوات المنطقة,معارك دارت,وأشخاص ماتت,وأناس سافرت أو هاجرت أو عزلت.
###
أتيت ذات مرة وفي رأسي فكرة غبية لمحاولة إنقاذ الشخص المسكين بالداخل,كنت سأبلغ الشرطة لكنها بلا فائدة مع عبد العظيم ذو الجلباب الذي أشعر أنه قد يضم عمارة بقاطنيها داخلها. كان خياري مترددا ما بين الفأس أم الطفّاشة,ثم وقع اختياري على الأخيرة. أداة صغيرة ذات شفرة تقبل الدخول إلى أي تجويف لأي قفل,ولا تلفت إنتباه الناظرين وخاصة أم إسماعيل. أمسكني محمود عبد العظيم وأنا أفعل ذلك رغم أن محاولاتي أصلا قد باءت بالفشل وكان يمكن أن يمر الأمر بسلام لو تأخر دقيقة. إلا أنه مر بسلام على أي حال. أخرج المفتاح وفتح الباب.
-بص جوا
دخلت وخرجت
-خلاص,حل عن نافوخي بقى
ومشى مديرا لي ظهره الذي بدى كثور ضخم,وكدت أشعر وأنا أراقبه من الخلف أن نعليه سيتحولان إلى حوافر ماعز في مشيته. ثور وماعز. أي بقرة وعنزة. وابتسمت للتشبيه.
###
-كيف تتنفس بالداخل
-أتنفس عادي,ولكن شعور فظيع بالاختناق
-كيف تأكل أو ماذا تأكل
-لا آكل ولا أشرب
-كيف ذلك
-لا أعرف,أعتقد أنه أمر عادي إلا عذابات جوعي
-كيف يكون عادي يا رجل ألا ترى ذلك غريبا
-أنا جائع الآن وظمآن,طالما أنت قلق جدا علي,ما تساعدني يا أخي ينوبك فيّ الثواب وحياة عيالك
-لا تعد للنواح رجاء,تأخذ سيجارة؟
سمعته يبكي ويئن في صمت,ولا أعرف لماذا صرت أهتم به إلى هذه الدرجة,صارت هناك محبة أخوية من نوع ما بيننا. أنا أشفق على حاله وأهتم لأمره وعاجز عن مساعدته واستمتع بصحبته. ولا أجد تفسيرا لأي من تلك الأمور بما فيها مشاعري تجاه ذلك الإنسان المحبوس.
###
ذات مرة لم أستطع الكلام مع محمد بسبب دورات البكاء التي يستمر فيها طوال النهار والتي قد تستمر لبعد منتصف الليل,مصحوبة بصرخات عالية لا يسمعها غيري ويرتعد لها قلبي. هذا غير دوي طرقاته على الباب. كنت قد تعودت على ذلك,لكن هذه المرة شعرت بالضجر والغضب وقسوة العجز. ولما كانت تلك مشاعري لم أستطع تخيل كيف هي مشاعره أو تصور الحال بالداخل. الداخل الحقيقي الذي لا أراه لما يفتح لي الباب. ذات مرة ولا أعرف كيف أقنعت الحاج محمود لأن يفتح لي الباب مرة أخرى,أخذت أتفحص الجدران ولا مجال لأي خدع من أي نوع. برغم قلة خبرتي وسعة خبرة الحاج,حتى أنني عدت ذلك اليوم,وطرقت الباب وتأكدت من وجود محمد وراءه,وخلفي ثلاثة أشخاص يحسبونني جننت. لم أقل أن بالداخل محمد بالطبع خوفا من محمود عبد العظيم. لكنهم قبلوا عدم قدرتي على التفسير. الثلاثة هم محمود عبد العظيم,وخبير أثق فيه أتيت به من أحد معارف أبي,وأمين شرطة لما قدمت بلاغ لا يعلم بأمره عبد العظيم وحسب الأمين معرفة تبعي أيضا. تفحصنا الغرفة مرة أخرى في ذلك اليوم ولم نجد شيئا,وتأكد الرجلان معي أنه لا مجال لأي أبواب سرية أو ما شابه. حتى أننا فحصنا الناحية الأخرى من الجدار وقد أرعبني صبر الحاج محمود عبد العظيم تاجر المواشي الكبير عليّ.
[3]
كنت أتحدث مع رفيقي في الصباح الباكر بعد صلاة عيد الأضحى,والناس يهيمون هنا وهناك فرحين أو مهمومين بكيف يأتون باللحم ويعطون العيديات. وإذ بالحاج محمود يمر من أمامي,فخطر لي أن استغل يقيني بأن هناك طرفا آخر خلف الباب يحدثني وأطلب منه على الفور بأن يفتح لي لألقي نظرة أخيرة على داخل الغرفة. توقف وحدق فيّ,وزعق وهو يخرج المفتاح من صدره
-بقولك إيه يا سيد,أنا مش فايق لجنانك,ورايا دبايح وشغل كتير
وتقدم ليفتح الباب بيده التي تكاد تخرج مخالب منها ممسكة المفتاح بدلا من أصابعه,ولم أجد أي شيء داخلها واختفى الصوت في الحال
-يلا يا يابايا اخرج من الأوضة خلينا نشوف أكل عيشنا
وخرجت وأغلق هو الزنزانة وذهب في خطوات طويلة ومسرعة,وأتى الصوت
-رحت فين يا سيد
-موجود هروح فين يا محمد
ثم خطر لي خاطر مفزع,لم أنتبه إلى تساقط السجائر من علبتها وقد قلبتها للأسف بعد أن قطعت ورقتها بالكامل دون أن أقصد. الدبيحة الأولى هي سيد.
-مشيت ولا إيه يا سيد
-معاك هروح فـ….
وقُطعت عبارتي مع صرخاته الأقبح من أولى صرخاته في البداية,الأقبح من أي صرخات سمعتها له,الأقبح من أي شيء سمعته في حياتي إلى مماتي
-إلحقني يا سيد
-إلحقووونيييي
-إلحقيني ياما
-والنبي يا رب,إلحقني يا سيد ونبي ونبي
كان صامتا عاجز عن فعل أي شيء
-لا ونبي,طب أشوف الشمس,أشرب بق ميه,أتنفس هوا برا,أنا ما أذيتش حد,بالله عليك,عاااااااا,يا أمااااااااااااا
وعلى عتبة الباب سالت الدماء تبلل مؤخرتي,كأنني قعدت على حتة مبلولة كما يقولون, وتتقاطر أسفل قدمي واستمرت في سيلانها ممتدة أمامي مختلطة بالتراب ودموعي المنهمرة فوقها. طلبت للمرة الأخيرة أن ألقي نظرة بالداخل,ودخلت وأتاني صوت ثغاء الخراف وهي تذبح,ودماء تفترش أرضية الزنزانة يعرفها الجميع بشكل سنوي من مذبحة الغنم الحادثة في زريبة القبو خلف الغرفة. ولكني أدركت أنه دماء بشرية,وبصورة ما عرفت أنني حتى لو حللتها ستكون طبيا دماء حيوان.
الدماء تمر من الجدار بطوال الغرفة تخرج وحدها من الباب دون الشبح المحبوس,وخرجت أنا من الغرفة ولكني ظللت حبيسها بأفكاري طوال حياتي.
###
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في الزنزانة
قصر الزمالك
[1]
قصر تشيلينغهام في بريطانيا,قلعة بران في رومانيا,ربما قصر البارون في مصر,في كل الأحوال الأمر بعيد عني. لكن لسوء حظي أن تعثر بي القدر في قصر الزمالك. والذي اشتريته رغم سعره الباهظ,فالقصر جميل للغاية وتحفة أثرية والغالي للغالي يرخص. تعجبت أن يُباع قصر كهذا وتعجبت أكثر أن تهمله الحكومة,إلا أن غاية عجبي كانت في اللقاء الذي تم.
كان لقاءً غير عقلاني,وقد كان كالآتي
وقّعت الشيك ووضعته أمامه علي المكتب,فنظر له وارتخي علي مقعده المريح خلف مكتبه ثم أشعل سيجارة قائلا بطريقة مسرحية محببة
-قبل استلام الشيكات وإمضاء العقود أريد أن أهديك نصيحة من أخ
-بالطبع,تفضل
-خذ مالك وأرحل
ابتسمت مستغربا
-لماذا؟
-هذا المنزل مشئوم
تأملت وجهه
-أتصدق بالمنازل المسكونة
وبنفس طريقته في الكلام
-ليس مسكونا بل مشئوما
-أليس به أشباح ولا جن؟!
-لا
-إذن ما الذي يخيف؟
لم يغير طريقته
-المنزل مسكون بنفسه,بتاريخه وذكرياته.
-أها,هل يفترض أن أخاف بعد أن تفلسفت في الأمر!
-نعم,هل تعرف معنى أشباح؟
-آه,هم الموتى لا تعجبهم تجربة الموت فيقررون العودة
-هل تسمح لي بأن أماطل معك لأقصى حد؟
-طالما تعترف بأنها مماطلة بلا طائل فحسنا تفضل
-أتمنى ألا تكون بلا طائل,والسؤال هو على أي صورة تعود الأشباح
-على صورة الموتى اللذين ماتوا وعادت أشباحهم
-لا .. معذرة,أخطأت في صياغة السؤال. أقصد ما طبيعتهم؟
-هم أرواح,بحسب ما أعتقد
-لا,لا يكونون أرواحا دوما
-شياطين تقصد
-لا لا,تلك أرواح إنسية وذاك أرواح جنية,أقصد حالة أخرى
أضحكني الأمر فتساءلت
-أثرت فضولي؟
-أحيانا تكون مجرد أفكار
-أها,عدنا للفلسفة
-أنت سمحت لي بالتفلسف
-نعم نعم,لا اعتراض مني,اكمل
-لما تنام تحلم صحيح؟
-أنت تتعمق جدا في هذا التفلسف
-هل أتوقف الآن؟
-لا لا,أنا استمتع بالحديث
-لأنك تستخف به
-صراحة نعم,ومع ذلك أريد التعرف على وجهة نظرك
-حسنا اجبني,أنت تحلم صحيح؟
-نعم
-بماذا تحلم؟
-هل يجب أن أجيب هنا؟
-لا لا,ليس ضروي
-…..
-المغزى أن الأحلام لا تخرج عن حالات معينة؛مخاوف,ورغبات,وذكريات,ورؤوى,وغير ذلك.
-إذن
-إذن سأكمل لك….
###
باب مزين بمرآة تحتل أغلب مساحته عدا الحد الضئيل المكون لإطاره,يدخل إلى بهو طويل مدخلا لحمام ملوكي كبير يحتل مساحة جناح فندقي أو شقة برجية,أجواء لا تليق إلا بنزل فخم أو برج فاخر. حمام رخامي أبيض متسع لدرجة أن يصلح صالون ضيافة أو غرفة نوم. مزين بالفضيات في عدة أماكن,الحوض رخامي أسود مستطيل الحواف أشبه بتابوت الموتى. والجدران مغلفة باللوحات التشكيلية أو المرايا الزخرفية أو بالصور الفوتوغرافية التي تجسد جمال المرأة والسحب من عدة زوايا. تصميم فني متجانس يعطي شعورا لناظره أنه في السماء,وقد سمي حمام السماء.
هذا عن الحمام أم عن المرأة التي في الحمام فهي إيطالية أبا عن جد,الأم مصرية,وبرغم أن الدماء التي تجري في عروقها مروية بمياه إيطاليا إلا أن قلبها امتلأ بحب مصر. أرادت بيتا بمصر فأراد أباها لها قصرا فأصرت علي أن يكون بمنطقة الأكواخ الخشبية المسماة الزمالك.
غريبة الأطوار مليئة بالأسرار فاتنة للأنظار,ذات الجمال الباريسي والميول اللااعتيادية للفقراء والمعتلين,معروفة بين سادة الطبقة الراقية ومشاهيرها لفحش ثرائها وأصلها النبيل وسرها الغامض الذي كُشف جزء منه وهو”حب البشاعة”؟!.
السوائل في الحمام معبأة في عبوات بلاستيكية كبيرة بسعة تسعة جالونات في كل عبوة, ومكتوب على كل عبوة منها اسم يدل على السائل داخلها ويجيب على السائل خارجها,الناظر إليها متسائلا عن الإجتماع الغريب بين كل هذه السوائل الغير متجانسة / متوافقة. كل ما يمكن اشتقاقه من النفط من بنزين وجاز وتنر وسولار وزيت وغير ذلك من السوائل السوداء المقيتة. كانت كل ليلة تحرق نفسها في هذا الحوض,ولما تريد أن تزداد متعة تصب بعض الحمض (مياه النار) على وجهها لتذيب الجلد واللحم وتتلف العيون ويتآكل الرأس إلى العظم وتسيل الدماء الممزوجة بمياه الحمض والأنسجة المذابة من ووجها. كل يوم مثل العنقاء ينمو لحمها المتآكل ويرتد إليها بصرها وجمالها.
###
القصر من الخارج نموذج غربي يمت بكل أوجه التشابه إلى البيوت المسكونة,بيت كبير شهير للغاية في المنطقة,بل في الجزيرة كلها,والمناطق المجاورة,المعادي والمهندسين والعجوزة. وحتى في مناطق بعيدة عنها على الجانب الآخر من النيل متوغلة في قلب القاهرة,مثل الجمالية والتجمع الخامس وحتى أطراف القاهرة من المدن الجديدة,وأطراف الجيزة من العشوائيات القديمة. معروف باسم قصر الزمالك,وتعجب كيف أنه لم يسمع به من قبل.
القصر ذو طابقين بني بشكل كوخي كبير.ثلاثة أعمدة في الواجهة سبعة أقدام بين كل منهما,يمتد سور (درابزين) من اليمين مارا بعمودين هابطا بسلم المدخل الذي يحتل مساحة بين العمود الأوسط والعمود الأيسر الذي يمتد بسبعة أقدام حتى حائط زينته دمي منتشرة علي اتساع الحائط بطول قامة رجل. باب أسود ذو مصراعين مذهب في بعض أجزائه. ثلاثة نوافذ كبيرة تنظر من بين الأعمدة في الأعلي. الدرابزين يمتد إلي اليمين عابرا بابا لليسار إلي ممر طويل معتم. أسفل الدرابزين ثلاثة نوافذ تُلقي علي القبو. علي جانبي القصر ما أشبه ببنائين منفصلين مغلقين تماما ويعلوا عن إرتفاع القصر.
برجي القصر,يمتد جانب القصر الأيمن من خلف البرج إلي نهاية القصر متزينا بالكثير من الشرفات والنوافذ والأسطح المعلقة.
يلتف حول القصر باحة كبيرة جدا مطوقة بسور لا يزيد إرتفاعه عن المترين فحسب. ليس بها أي نباتات سوي صف أشجار في الجانب الغربي علي يمين القصر. لاشي بالنسبة لمساحة الباحة لذا كانت خالية.
القصر عبارة عن تحفة رخامية بيضاء وسط أرض رمادية جرداء.
###
يوم شاق من السفر والشحن,الأولى لنقل أفراد العائلة,والثانية لنقل قطع الأثاث,ومنذ وطأت قدم زوجته البيت وهو قد قرر رحيله.
###
خلف المنزل عثر على كلب أسود ضال,محبوس ومقيد بإحكام,في مجموعة من الأطواق وسلسلة حديدية ضخمة وأضف على هذا قضبان معدنية حولها وأسلاك شائكة.
لما خرج من كل هذا حسبه هاني سيحاصره ويلتهمه لولا أن السلسلة المربوطة بطوق إلى عنقه أحكمت إمساكه,وراعه منظره,كلبة وليست كلب ذات ثدى طويلة وعنق طويل وأقدام طويلة وذيل طويل ولسان طويل وشعر طويل وأنياب طويلة وحوافر طويلة. “هل هذه السلعوة؟” هكذا تسائل وكان الرجل يراقب من وراء الباب؛أبو دياب.
###
الرجل هو أبو دياب,الذي كان يحوم حول المنزل طيلة تلك الليلة,وفي الصباح كرر أنه سيرحل وعند خروجه قابله على الباب,وقال له أنه المالك السابق للمنزل قبل أن ينتقل إلى السمسار الذي باعه له. رحب به وأخذ يجلس معه وأثناء جلوسهم سأله عن تلك الخزانة جوار محبس الكلب.
-العظّامة
-ماذا قلت؟
-إنها العظّامة
-ها ها ها,وماذا يفترض أن يكون ذلك؟
-خزانة وماكينة لاستعمال العظام
-استعمالهم في ماذا؟
-لا أعرف,ولكن وقودها العظام
-أي عظام؟
-أي عظام
-ماذا,هل تصلح عظام فراخ,حتى لو لا يوجد عظام خروف أو جاموس مثلا
-أي عظام,حتى لو عظام بني آدميين
-إيه الهبل اللي انت بتقوله ده
-لو مش مصدق أوريك
-يعني انت بتحاول تخوفني علشان أطفش,لا أنا هطفش لوحدي اطمئن
-تعالى وأريك
وأراه بالفعل
[2]
متذكرا مشهد الرؤية الوهمية لهلوسته بإمرأة حسناء تحرق نفسها بالكيمياء في حمام السماء. ليلة واحدة فقط كانت أكثر من كافية بالنسبة له ليرحل من هذا المنزل,زوجته تنصحه بأن يقاضي المتطفلين والمزعجين والمشاغبين وكل من يحاول طرده من منزله,ويبدأ بإبلغ الشرطة. لكنه يعلم جيدا أن أجواء أفلام الرعب تلك لا تنطلي عليه,وأن الأسلم له ولأسرته أن يرحلوا في الصباح الباكر أول ما أن تطلع الشمس. بقية أفراد أسرته -إخوته وأولاده- لم تصل بعد,ولكنه أول وصولها هو آخر رحيل له في نفس الوقت. هكذا فكر وهكذا قرر.
###
قضى ليلة أخرى مضطرا,مع أسرته,وقد أحصاها فهي الثالثة,كان أول الواصلين هو ثم السيدات الثلاثة زوجته وأمها وخالتها,ثم أخوته وأبناءه وخاله هو. كما كان يحلم دائما ببيت يحوي بين جدرانه جميع عائلته,والبيت كبير بحق,لكنه مضطر لأن يتخلى عن حلمه. أثناء إنشغاله بأفكاره وتجواله ليلا حول القصر اصطدمت قدماه بحجر فتعثر يكاد ينكفئ على وجهه. وقد كان ما رآه مروعا له,أكثر رعبا من الأشياء داخل العظّامة. وجوه تطل عليه من الأرض,وجوه معذبة كأنها تقلب في الجحيم. ولقد اصطدم مشط قدمه بأن دخلت أصابعه في فم أحد تلك الوجوه. فتح أول باب هاربا من هذا اللذي يراه. فإذ به يجد شارعا طويلا بلا آخر داخل قصره. ولم ينتظر ليستغرب أو ليعرف ما هذا,صرخ وقد بلغت صرخاته زوجته بالداخل. وعثروا عليه جسده فاقدا الوعي في باحة الحديقة التي بلا زرع.
###
وكعادة أفلام الرعب بالضبط لم يقابل أحد أبو دياب أو يعثر أحد من أقاربه أو أصدقائه على العظّامة أو تقابلهم أي رؤى من أي نوع. وصار هو مكسوفا منكسرا يتحاكى الجميع بجبنه. قرر أن يبقى إلا أن زوجته عرضت عليه الرحيل. فوافق على الفور. أدرك لاحقا أنه لا يستطيع الرحيل,ولن يرحل مطلقا من هذا القصر. ما حدث لاحقا كان غريبا,وقد قابل أبو دياب مرة أخرى وليست أخيرة,وفسر له الرجل.
[3]
لقد بدأت زوجته تغضب منه,إلا أنه لا يملك من أمره شيء,هو كل ما يخرج يستطيع أن يتسمتع بضوء الشمس فقط. ما أن تغيب الشمس يغيب وجوده عن الشارع نهائيا. يصير في القصر مرة أخرى. عاجز تماما عن الخروج منه. لقد فهم من أبو دياب أنه سيظل يعود للقصر عند مغيب السمس دائما,ولن يتواجد بالخارج ليلا مطلقا. حتى لو أزالوا القصر من على الأرض. وهو لم يعد يملك ميزانية تسمح له بهدم القصر,وهي مخاطرة لن يخوضها على كل حال. ولكنه سيظل بقية أيام حياته يتعذب هو ينظر إلى الشمس في كبد السماء أو إنعكاسها على سطح الماء بنهر النيل. إلا أن رؤية القمر تكون دوما من خلف نافذة قصره. أحيانا تزوره زوجته,وقد ترك عمله. هي انفصلت عنه بشكل غير رسمي وعاشت بقية حياتها مع أولاده. ماتت قبله فلم يعد يزوره أحد. ولقد صار القصر ملكه إلى الأبد.
###
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في القصر
قمر
[1]
-إتفضل يا سيدنا
-نورتنا يا شيخنا
-حلّت علينا البركة
-ده إحنا جالنا السعد
-يادي النور يادي النور
-يجعل شفاها على إيديك
رغم عبارات المجاملة التي نفدت على من سبقوا,إلا أنه تبقت بعض الكلمات الصادقة لهذا الضيف الهام,فتوالت الترحيبات الفرحة والممتلئة أملا من الرجل وزوجته.
الرجل هو الحاج سيد,وهو واحد من ستة في المدينة يتشاركون الإسم والمقام؛المعلم سيد رجب,والمعلم سيد العطار,والمعلم سيد شعبان,والمعلم سيد الجمّال,والمعلم سيد المنياوي, والمعلم سيد السيد. صاحب هذا البيت هو الحاج سيد محمد المنياوي.
البيت من ثلاثة طوابق؛في الطابق الأول يعيش العم حسن وزوجته وأبناؤه,وفي الطابق الثاني يعيش العم حسين وزوجته وأبناؤه. حسن ومحمد رجلان في العقد الرابع من العمر,إلا أن حسن يكبر أخاه ببضعة أعوام,ويكبرهم أخاهم سيد بعشرين عاما,ويعيش في الطابق الثالث وقد أثقل على كتفيه هم إبنته وما بها.
وفي الطابق الرابع تعيش السيدة سيدة وأبنتها منى,وسيدة هي أصغر أبناء محمد المنياوي,وزوجها متوفي منذ زمن.
وقف كل من سيد وسيدة وحسن وأبنه محمد على الباب إلى أن دخل الشيخ سالم,زاهي الألوان,بعباءته الزرقاء ومسبحته الخضراء وعمته البيضاء وبشرته السمراء ولحيته السوداء.
كانوا جلوسا على الحصيرة في مدخل البيت,علي إبن العم حسن يبكي,بينما سيدة تواسيه,بينما زوجتى حسن وحسين وأبنة سيدة في المطبخ,عمر وياسر يلعبان,حسن على كرسيه واجما, وحسين جواره على الأرض يلاعب نفسه بـ لوح طاولة.
-السلام عليكم
ردوا السلام جميعا عدا حسين,ونظروا وقد عرفوا أنه هو..
الجميع جلوس على الأرائك,سيدة واقفة وجوارها سعاد زوجة حسن,والحاج سيد وزوجته حسنات جالسين أمام كرسي الشيخ سالم,تكلم الحاج سيد:
-هؤلاء إخوتي وأخواتي وهذه زوجتي,ولا أحد غريب بيننا ولا أنت يا شيخ سالم
-أكرمك الله يا حاج
-الشيخ عبد المنعم قال أنك ستأتي
-بالفعل أعطاني العنوان ورقم هاتفك لكني لم أكن بحاجة للإتصال
-أنا عاتب عليك أنك لم تتصل لأرسل من يأخذك من المحطة,وإني متفائل خيرا أنك عرفت الطريق وحدك
-الشيخ عبد المنعم أخي وأنا لم أقدم شيء بعد,وقد أوصاني الشيخ بكما خير,والخير نعمله في سبيل الله
-زادك الله يا شيخ,لقد قال لي أنك قادر على شفائهما بأمر الله,وإن لم تقدر فأنت تعرف من يقدر
-كله بعون الله
الأطفال (على وياسر وعمر وغيرهم) على الباب ينظرون,أشار الحاج سيد إلى أن ينزل جميع النساء والأطفال بلا إستثناء لزوجته,وبعد أن نزل الجميع وبقى الحاج سيد وأخويه,أشار لحسين كي يُدخل الشيخ إلى الغرفة,وبقى هو وأخوه حسن شبه المريض في الصالة. وفي الداخل أضاء حسين الغرفة,ونظر الشيخ إلى تلك الفتاة الراقدة على الفراش. مقيدة بأربطة ناعمة من يديها وقدميها إلى أعمدة السرير,نائمة تغطي خصلات شعرها السوداء وجهها,إلا أن تمزقات الوجه وجروحه العميقة جلية للناظر عن بعد,ترتدي بنطالا وقميصا أبيض,قد كانت ممزقة الثياب أمس,وشعرها المصفف بعناية قد كان مبعثرا أمس,يقول وجهها المخيف أنه كان جميلا ذات يوم أو ربما أمس. أول ما لفت إنتباه الشيخ من كل هذه الفوضى هو الإلتهابات الحادة في معصميها وكاحليها,والناتجة عن إحتكاك الجلد بالقماش مع المقاومة العنيف من الفتاة الراغبة في تحررها. تم ربطها هكذا بعد جريمة قتل أخرى قامت بها الفتاة ونجح أبوها في مداوتها من داء السجن مستخدما نفوذه ومرض ابنته أو مسّها. وأكثر ما آلم الفتاة قمر هو كل هذا الزحام المتكرر حولها,كل أفراد العائلة. سواء داخل الغرفة أو خارجها. وقبل أن يأمرهم أبو قمر بالنزول يتجمعون ناظرين إليها كحيوان مفترس. ذلك آلمها نفسيا أكثر من الألم الجسدي بسبب الأربطة,والممتزج مع ألم نفسي أيضا. هذه نوبة أخرى تقيد وتحبس فترة ثم يطلق سراحها,ولكن تسائلت لما تأخر الأمر هذه المرة؟
خرج الشيخ سالم يتبعه حسين وهو يقول:
-مالك يا عم الشيخ,ساكت ليه
كان الحاج سيد ينظر له بينما حسن قاعد لا ينظر لشيء,وحسين يتساءل,جلس الشيخ سالم ثم تكلم:
-صراحة يا حاج,ما أن دخلت حتى شعرت بشيء أثقل صدري ودق رأسي!!..
-ذات ما قاله الشيخ عبد المنعم وقبله الشيخ متولي!
-كم شيخا أحضرت ياحاج؟!
-يعلم الله. أنا سافرت أحضر شيوخا من القاهرة والمنوفية والقليوبية والغربية وهنا في الشرقية. ودرت على بيوت الله وبيوت أسيادنا واحد واحد,السيدة عائشة والسيدة زينب والسيد البدوي وسيدنا الأخضر وسيدنا عمر وسيدنا الفولي,ومن كل ضرايح الأسياد أتيت بعباد الله,وبعثت لشيوخ من أسيوط والمنيا وسوهاج,وطنطا,ولم أبخل من مالي وروحي.
-والشيخ نور
-من الشيخ نور؟
-الشيخ نور عبد النور نور الرحمن النوراني
-يبدو من إسمه أنه لا يفقه شيئا
رد الشيخ سالم بشيء من الغضب
-الإساءة إليه كالإساءة إلي
-لا يملك أحد هذا الإسم إلا ويكون نصــ….
-أصمت يا حسين
ثم المعلم سيد نظر للشيخ
-اعتذر يا شيخنا عن أخي,من هو الشيخ نور؟
-وجهه نور وعلمه نور ولسانه نور وقلبه نور ودينه نور وأسمه نور
-أستغفر الله,لا أحد بهذه الصفات إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
-عليه أفضل الصلاة والسلام,ولكن هناك من يهبه الله نورا من نور نبينا ومن نور هدى الرحمن.
-كلامك يريح قلبي ولكن…
-أنه لن يأخذ مالا حتى لوشفيت على يده
-وإن لم تشفى
-لن يتركها حتى تشفى بإذن الله
-وإن لم تشفى
-قضاء الله
لم يتمالك نفسه أكثر من ذلك فقام غاضبا ينظر بحدة للشيخ سالم
-لن يأخذ من مالي,ولكن سيأخذ من روحي
-لا أفهم يا حاج
-كل شيخ يدخل هنا ويخرج دون أن يزيد شيئا,مثلك ومثل الشيخ عبد المنعم,يأخذ جزءا من روحي,نظرة من جسد إبنتي,وأملا من عيون زوجتي,ويفطر قلبها وقلبي,وتقول لي لن يأخذ مالا,ملعون أبو المال يا أخي
-ادعوا إلى الله يا حاج
-أدعوه وراضي بقضائه,ولكن لست راضي بوجود الجهلة أمثال الشيوخ الذين سبقوك,أنا أحضرت شيوخا من الأزهر قبل شيخ عبد المنعم,ثم لجئت إليه وإليك ولكن يبدوا أنه لا أحد يفقه شيئا,لا هنا ولا هناك
-الشيخ نور لو يرضيك من أسيوط
-ملعون أسيوط وأبو أسيوط والصعيد وملعون البلاد كلها يا شيخ
قام الشيخ سالم غاضبا وراحلا
-السلام عليكم يا حاج
ولكن حسين أمسكه بغلظة من ذراعه يشده موقفا إياه
-لا تترك الحاج وهو يكلمك
-حسين …
كانت هذه زعقة أخرى من الحاج سيد ناظرا لأخاه,فترك حسين ذراع الرجل ناظر للأرض,فأولاهم الشيخ سالم ظهره راحلا,لولا أن جاءه صوت الحاج حزينا متأسفا
-أعذرنا يا شيخنا,الله أدرى بحالنا
ألتفت له الشيخ سالم وقال ويده الممسكة بالمسبحة ترتعش
-انظر يا حاج,هذه المسبحة هدية من الشيخ نور,وأشعر أنها تطلب مني أن أحضره لينظر بنفسه,والباقي على الله
ثم خرج ملقيا السلام
في اليوم الثاني عقب صلاة الجمعة كان الجميع جلوسا على الحصائر في المدخل وعلى المصطبة بجوار الباب وقد زاد عددهم بحضور بعض من العائلة من من كان غائبا أمس.
-السلام عليكم
نظر الجميع لرامي السلام وكان ذلك هو الشيخ نور.
***
يتذكر أنه قذف ضربته تجاه اليمين,أي قوة تلك التي حرفتها لليسار,ليتكسر الوعاء الفخاري على رأس أمه,تصرخ وآيات الوجع والألم جلية في صرخاتها وبكائها. لم يسمع المعلم سيد صراخ زوجته ولكنها حكت له لاحقا.
[2]
الجلسة الأولى: الشيخ عبد الصمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلست قمر على الأرض متربعة والشيخ عبد الصمد متربعا أمامها واضعا يديه على فخذيها ويديها الرقيقتين على يديه الخشنتين,مضمومتين كما طلب ثم رفعتهما في الهواء وقال لها
-ضمي يديك الإثنتين ولكن لا تضغطي عليهما,اجعلي نفسك سائبة وإذا فتحت قبضتك من نفسها لا تغلقيها أو تقفي حائلا دون فتحها,اتركيها كما هي على حالها,لنرى أي كفيك سيفتح أولا.
-هل لي أن أسئل لماذا هذا الإجراء؟
-إذا فتحت يمناك أولا فمتلبسك جني مسلم,وإذا فتحت يسراك أولا فمتلبسك جني غير مسلم.
“ها قد سلمنا بأن هناك جني متلبسا إياي” فكرت في سرها,وأستأنفت سخريتها مع نفسها “في كل الحالات هناك يد ستفتح في النهاية,أنت لا تحدد وقت لإنتهاء اللعبة,وستماطل إلى أن تفتح إحدى يديّ. هذا أمر طبيعي ملزم فيسولوجيا وفيزيائيا على الجسد”
-اغمضي عينيك
وسمعته يقرأ شيء من قبيل “إن كنت في الدم فأخرج إلى اللحم وإن كنت في اللحم فأخرج إلى العظم وإن كنت في العظم فأخرج إلى الجلد”. لم تركز كثيرا في بقى ما تلاه,ولكنها تعجبت من ترتيب العظم بين اللحم والجلد. وبعد أن انتهى أعطاه أمها ورقة مكتوب عليها حروف بدايات السور في القرآن من مثل ا ل م ص ر ك ي ع ط س ح ق ن وجمعها في قول نص حكيم قاطع له سر. الحروف كانت موضوعة داخل تشكيلة معينة ذكرتها بسحر الأوقاف وتصاريف السور. أم قمر كانت تنصت بإهتمام وتركيز وجدية في كل كلمة يقولها:
-هذا الماء في هذه الزجاجة تضعين منه قدر كوب في ماء إستحمامها وتستحم في طاسة يلقى بماءها على التراب في الخارج ولا يلقى به في عين الحمام,لأن ماء طاهر قرأ عليه كلمات من كتاب الله.
-أمرك يا سيدنا
-امشي على اللي بقولك عليه يوم كل إسبوع,وتعالي لي بعد ثلاثة أسابيع.
قالت له متهكمة
-ألن تكتب لنا ورقة علاجية (روشتة Roshetta)؟
الجلسة الثانية: البابا جرجس الثاني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-إنت يا ستي إيه حكايتك؟
-إمرأة ذات عقل أعلى من عقولهم,فحسبوا أن بي مسا علويا
-أووه حقا؟
أمها: يا أبونا هي مسلمة,بتقرأ كتب المسيحية وكتب الإلحاد
لاحظت تضايق الأب الكنيسي من الربط الحادث بين المسيحية واللادينية في كلماتها,قالت
-قراءاتي متنوعة للغاية,ومنها بعض التعمق في الفلسفة المسيحية
-حقا؟
-وكبار فلاسفتها
-مثل من؟
-أغسطينوس
-أغسطينوس!
-توما الأكويني
-الأكويني!
-أنسليم
-أنسليم!
-ستظل تكرر كل اسم ورائي مندهشا؟
قهقه بضحكات سمينة وطيبة,ودار بينهما حوار طويل حول الفلسفة المسيحية والثقافة العامة ونظم التربية والمعاملات الإجتماعية والخدمات المؤسساتية,وعلم النفس وعلم الشياطين.
أثناء الحوار أخذت تتأمل المحيط,أدركت عند دخولها وجود نظام أمني صارم ومكثف يتميز باليقظة والثبات. ثم سلكوا رواقا بلا سقف مزين على جانبيه بأنواع مختلفة من الأشجار والورود,طويلا ينتهي إلى مبنى الكنيسة الداخلي حيث الصلاة والدعاء وباقي الطقوس الدينية. لم تلحق أن تتمعن في تفاصيل البناء,ولكنه كان جميلا. بناء من الرخام الأبيض من الخارج مبطن بالقماش الأحمر في الداخل. أربعة أبواب في الجهات الأربعة للمبنى مفتوحة على ممرات مليئة بتشكيلات زراعية مثل الرواق الرئيسي.
البابا في الكنيسة وحوله حاشيته,خادمة الكنيسة ورجل آخر يبدوا كأنه يقف حارسا له,والمرأة التي جلبتهم -قمر وأمها وعمتها سيدة- إليهم. أخذت قمر تبحلق في فتاة تقف عند الباب خلف الباب,كانت جميلة تربط ذراعيها أسفل نهدين بارزين جدا,ومن طيات قميصها يبدوا ثديها الأسمر بارزا ومتناسقا مع عنقها المقس بشكل جغرافي رائع. تسائلت قمر هل الفتاة أجمل أم هي,وصدر قمر منخفض ليس بعلو غريمتها,كما أن وجهها به علامات وندبات بالرغم من احتفاظه بجماله الكاسح. رفعت بصرها من صدرها إلى وجهها الأسمر فوجدته جميلا جدا ولكن ربما ليس أجمل من وجهها الأبيض القمحاوي. إلا أنها أخذت تتأمل الفتاة ذات الطول المتوسط لا طويلة ولا قصيرة بنحو مائة وبضعة وستين سم. وشعرت برغبة عارمة في تطويق عنقها الأسمر وخنقها فقتلها.
-طمنا يا أبونا
-لا متخافيش -وقد لمح الكتاب في يد قمر- هي مثقفة كبيرة فقط وعلى اطلاع واسع
-هذا الرجل يفهم
قالتها قمر في سرّها,وقد سرت لحكمه المبتعد عن الجهل بحسب رؤيتها الغير مؤمنة أن هناك جني يقبع تحت كل حجر متصيدا المارين.
الجلسة الثالثة: الولي المسيحي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جالسة أمام مكتبه وسط مكتبته ذات الإضاءة الخافتة تجلس في بقعة مظلمة بالكاد تُرى الوجوه والعيون,وهي تضع يدا على عينها اليسرى وشعرها يظلل عينها اليمنى فلا تظهر عينيها. ابتسم الرجل الجالس على كرسيه أمامها في جلبابه.
-هل تعرفين من أنا؟
-نعم
-من؟
-الولي المسيحي
-ها ها ها,وما أسمي؟
-عم صابر
-طب وانت مداريا عينيك ليه
-أنا مرتاحة كده
-طب شيلي الشعرات ديه
-لا تلمسني
-براحتك
-أكيد براحتي
-انت مسلمة يا قمر صح
-انت عارف كده
-طيب وعندكم في الإسلام القرآن أقر وجود الجان,هل تؤمنين بالجان؟
-نعم وبعلم النفس؟
-لا يوجد مجنون يقول على نفسه مجنون؟
-هذا أول خطأ يؤكد أنك لا تفقه شيئا في علم النفس
-يا بنتي عيب ده أنا رجل كبير
-أعتذر
-يعني إنت بتقولي على نفسك مجنونة؟
-لم أقل ذلك
-لا تدوخيني معك
-أنا فقط مريضة نفسية
إلتفت إلى أمها التي أتت معها وحيدة إلى تلك المنطقة القذرة بإحدى عشوائيات القاهرة,ربما هي السرايا أو قريبة منها حسبما تحسب. قال له
-ابنتك تدعي ما بها,بستهبل من الآخر ومفهاش حاجة
ابستمت قمر لذلك وعبست أمها أكثر. شيخ آخر بلا فائدة.
الجلسة الرابعة: الشيخ في المنوفية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-إلحقي يا قمر أمك بتموت
استيقظت وهي لا تفهم ما اللذي يجري,ولتزيد يقظتها نزعت الغطاء من على جسدها,ورمت على الأرض,ثم وقفت بقدميها الدافئتين منتقلة من دفء الفراش إلى برودة الأرضية. ألصقت الجوال بأذنها وهي تتسائل
-فيه يا فاطمة
-أمك بتموت,مش عارفين مالها,فجأة وقعت وعمالة كأنه بتطلع في الروح
-تفي من بئك يا بت
-طب هي عايزة تشوفك
-هي فين دلوقت
-عند خالك في المنوفية
-وهي إيه اللي وداها المنوفية؟
-انتي لسة هتسألي!
-طيب اقفلي معايا دلوقت أنا جايا حالا
لم تكن في الشرقية,كانت عند أحد أعمامها في القاهرة,قامت من فورها وركبت قطار الأنفاق الذي يشق القاهرة,ثم إلى محطة قطارات مصر,وقطار المنوفية الذي يشق الأرياف.
كانت أثناء طريق السفر تفكر أن في الأمر شيء ما غير عادي,وفي نهاية استغرابها وعند وصولها أدركت الخديعة,وأنهم دبروا لهذا الخ قد كي يوقهوها في سفرية للشيخ ضرورية بحسب ما يحسبون. وقد وقعت في الفخ بالفعل.
جلسا قليلا عند بيت خالها ثم ذهبا مع قريبة لهم إلى بيت الشيخ المنشود في سيارة خالهم الذي أوصلهم قبيل البيت بمائة متر وأنزلهم وأخبرهم بمكان سينتظرهم عنده. قطعت السيارة الحقول إلى هنا وقطعوا هم المائة متر المتبقية على أقدامهم.
طرقوا على لوح شباكه الخشبي الخفيض,ففتحت النافذة لهم على الفور مما يدل على أن الرجل كان جالسا على أريكته خلفها. أول دلالة نصب تمثلت في التلفزيون الذي كان يشغل مسرحية ريا وسكينة وقد أغلقه الشيخ أول ما طرقت نافذته,وليس بابه. ثاني علامة تمثلت في ردة فعله لما قال لهما أنه لا يعمل يوم الجمعة دون حتى أن يعتذر عن ذلك والمفترض أنه للتو أنهى صلاة الجمعة,وهناك عداوة بينه وبين الشيخ الذي يخطب بسبب أن أحدهم يرى الآخر مدعي والآخر يراه نصابا. وقد عرفت قمر من هو النصاب وهو واقف أمامها عند سماعها القصة أول مرة. ثالث إمارة كانت في تبشش وجهه الجامد عند استقبالهم وتحوله إلى كلب ودود لما رأى سيدة عمتها وقال:-
-لأجلك انت أقوم أفتح لكم الباب مش لحد ثاني
“لأجل الناس أم ابتغاء مرضاة الله يفعل ذلك!” هكذا عقبت قمر في سرها ساخرة أثناء متابعتها لرابع آية حين تأخر في المدة التي استغرقها بين إغلاقه النافذة وفتحه الباب,وهي مدة تستهلك حسبما يفترض المسافة التي يقطعها من على أريكته تحت النافذة عابر الصالة في بضع خطوات إلى الباب. ولما دخلت اكتشفت السر في كونها أعد أربعة مصاحف مفتوحة على صفحات الوسط بشكل نموذجي يوحي بمدى التقوى والإيمان والورع كما يريد أن تكون تصوري أنا عنه كذلك,ويؤكد “الصورة البلهاء في عقل أمي وعمتي” الموجودة سلفا عنه كما قالت لنفسها وأرادت أن تصرح لهم. خامس إشارة كان في سرده للعجائب والمعجزات التي قام بها والاستشهاد بفضائح ناس قام هو بحل مشاكلهم وعرضها الآن على الزبون الجديد. “أي أننا سيحكى عنا لمن يأتي بعدنا”.
الجلسة الخامسة: شيخ السيدة زينب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتذكر في ذلك اليوم أنهم كانا متحيران في الذهاب من خلال العتبة أم السيدة زينب,وانتهى بهم الأمر إلى الركوب من العتبة -والتي ذهبوا إليها بقطار الأنفاق (مترو)- إلى السيدة عائشة.
تقابلوا مع قريب لهم مر بهم من خلال سوق الجمعة الشهير بحيوانته المتنوعة,وكانت تريد أن تقضي الرحلة في أخذ جولة على سوق الحيوانات ولربما تشتري قطا أو كلبا أو ثعبانا أو عقربا. على ذكر تلك الكائنات أخذت تتأمل بناءات المقابر في غرف عالية خلف حوانيت البيع. ولما بلغت الجامع في صحبة أقاربها؛أخيها الصغير وأختيها الكبرى والصغرى وقريبهم البعيد وأمها وخال لها وصديقتها,تضايقت لوصولهم السريع.
-طالما أحنا كتير مبالاها التصوف ده,ونقلبها رحلة ترفيهية أو دينية حتى
-استغفر الله العظيم,اعتبري نفسك يا أختي في رحلة دينية
لما دخلا وجدت إمرأة منقبة في الأسود من قدميها حتى رأسها ملقاة على الأرض تهتز كمرضى الصرع,على السجاد في مدخل الجامع,دلفت من الباب إلى الداخل والقاعة الكبيرة للمسجد. وجلست متجاورة على ثلاثة كراسي لها ولأمها ولعمتها,والشيخ على مقعد أمامها, وباقي أقربائها كالعادة ملتفين من حولها.
نظر إليها وسألها بضعة أسئلة,وتفحص عينها وأمس رأسها بيديها ثم طلبت منه أن يرفع يديه عنها,قال لها
-ربما تكون حالة نفسية أو خلل عقلي
أمها: يعني إيه يا شيخ
-يجب عرضها على طبيب نفسي وعمل أشعة مقطعية على المخ لها,ثم تأتيني بالنتائج لأنظر إليها,قبل عمل أي شيء معها.
وعند رحيلهم قالت قمر لنفسها “ذلك شيخ يفهم”
الجلسة السادسة: الجميلة راقية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قريبة لها من آخر بلاد الشرقية اسمها راقية,معروفة بشكل واسع في القاهرة هي وأختها الصغيرة سامية,سافرا لها ضمن سفراتها الروحية في سبيل طرد الجني اللعين من على أكتافها.
في بيتها ومنشأها بالشرقية,دار حديث طويل ومرهق للغاية,حتى شعرت قمر بأن هذا العفريت الذي يطوق عنقها هو سلسلة من الأفكار الجاهلة لعائلتها تضيق على رقبتها تكاد تزهق روحها. وكانت تفكر في التضييق فعليا على العنق الطويل لمحدثتها بيديها أو بحبل حقيقي وليس حبل أفكارها,أو السلسلة التي تتدلى من عنق راقية وليس سلسلة أفكارها. أخذت تبادل بين الكلمات المجازية والحقيقية في عرض لتصورات شيطانية تريد تنفيذها. هي أنثى ضعيفة يمكنها التغلب عليها بقوتها الجسدية,بالرغم من تفوقها عليها في حجم جسدها الممتلئ بوزن تسعين أو ثمانين كيلو,وطول يقارب الثمانين بعد المتر ينسي قمر مفاخرتها بالسبعة وسبعين من طولها بعد المتر رغم أن الفارق قد يكون درجتين (إثنين سم). وسنوات عمرها الثلاثين والتي تجعلها خبيرة ربما في القتال / الخناق عنها. يبدوا عليها الوهن رغم ما في جسدها من قوة.
لقد تزايد حنقها عليها كثيرا لأنها استطاعت أن تستنطق منها بطريقة ما من خلال حيلها الناجحة على غير المعتاد فلا يستطيع أحد المشايخ مسلم كان أو مسيحي رجل كان أو إمرأة أن يغلبها,وتعرف منها أسرار تفضحها عن نفسها لأول مرة. أسرار دينية وما زاد الطين بلة هي تلميحاتها الجنسية لها,مما سيجعلها تثلث ثالوث المحرمات بارتكاب جريمة دموية في الحال. تمالكت نفسها وأخرجت عقلها من بحر أفكارها.
جالسة بجوارها على الأريكة في غرفة مغلقة ووالدتها وعمتها بالخارج,والباب مقفل من الداخل ويتحادثان تحت الإضاءة الخافتة. أخذت تضغط عليها بتحقيقاتها ونظراتها وابتسامتها وضغطها بأصابعها على يديها وقمر تفكر أن تضغط بيديها على عنقها,وتكبح نفسها بشق الأنفس. أخرجت راقية رقية ورقية من التي تسمى حجابا من بين ثنيات صدرها,أسفل حجابها الملتف بوشاح من نوع (الطرح) حول رقبتها مغطيا رأسها وكاشفا خصلات من شعرها وعنقها وما بين ثدييها,ممسكة بالورقة وهي تخرجها من الشق البارز بين كرتيها والممتد كنهر من الإثارة صاعدا إلى قمة الجبل المتمثلة في رقبتها. لم تقاوم قمر أكثر من ذلك وضغطت بكلتا يديها مطوقة عنقها من الخلف والأمام,وضاغطة بجسدها عليها مكبلة حركتها وكاتمة أنفاسها في غفلة من أمرها بينما كانت قمر توشوش لراقية في أذنها.
الجلسة السابعة: الجمرات ذات الدخان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه المرة الشيخ من الإسماعيلية,قريب آخر من أفرع العائلة التي لا تنتهي,والمتشعبة في كل المحافظات المصرية,بل إن بعض المبالغات تذهب إلى أن لهم أصول مختلف فيها ما بين إنتماءهم إلى المغرب أو المشرق العربي في الخليج.
هذا الشيخ كان أعتاهم جميعا -بين الرجال حيث احتفظت الأختين بالسطوة على الجميع-وقد أرهقها بحق,نفسيا وجسديا. من خلال جلسة من الدخان أشبه بحفلات الزار,ومجلس تعذيبي ملتف حولها مكون من أقاربها بقيادة هذا الخنزير كما وصفته في أفكارها التي أخذت تختلط عليها تكاد تفقد وعيها.
ربط عينيها ولما فتحتهما كانت طقوسه في أوج تمامها,ترتدي هي جلبابا لا تلبس شيء تحته تشعر بالعري إلا أنه لا يمكنها الشعور بالبرد في لسعات الشتاء الصباحية تلك بسبب الجمرات في الموقد بين قدميها تقف عليها فاتحة ساقيها,تنظر من الجلباب بين الدخان تارة إلى جسدها وتارة إلى الجمرات وتارة إلى عينيه وتارة إلى عيون أقربائها الفضولية يريدون أن يعرفون مآل الأمور ونهاية ما يفعلون. كان يأمرها أمرا بأن تدلي بوجهها في جلبابها ممسكة بقماش ثوبها لتسمح بالدخان أن يدخل إلى صدرها حارقا حنجرتها وكاتما أنفاسها وخانقا إياها. غير أنه يعمي عينيها. بالكاد تتنفس,ولا يمكنها أت تبلع ريقها بسبب المر الذي وضعه على لسانها. والدخان يكتمهما متحالفا مع روائح العطور والبخور والعود والكافور وغيره من خلائط تكاد تذهب بعقلها. وجسدها يحرقها من أسفل عند فرجها وكل ما بين فخزيها وساقيها ومؤخرتها وظهرها تارة وبطنها تارة بحسب تقلباتها. هذا وضف عليه سخونة الزيت والشحم الذي جعل أمها تدهن به جسدها كله. وزيت مثله على رأسها يتخلل كل خصلات شعرها وشعورها أنه يكاد يحرق جلدتها. هذا غير آثار الزيوت التي تستحم بها أصلا. حاول الشيخ أن يستثمر طغيانه ونفوذه الحالي ويسقيها ماءا فلم يستطع.
كانت منصاعة لكل هذا العذاب لثلاثة أسباب؛الأول أن أباها يتدخل بكل جبروته عليها -والذي تستطيع العناد معها في أوقات أخرى- في هذه الجلسة,والثاني هو الهيمنة النفسية الطاغية للشيخ عليها. والثالث تلبيتها لرغبات أمها أولا ثم عمتها وحتى أختها في محاولة أخرى لتحقيق أملهم بالخلاص من كل هذا الجن الملبد في الجسدها مثل الغيوم بالعاصفة.
منذ بداية الأمر وهي تشعر أنها سيغمي عليها,وتعاند مقاومة حدوث ذلك,حتى لا تعطي لشيخ الهموم هذا فرصة ليستعرض قدراته على جسدها النائم أمام أفراد أسرته,ويدعي ما يريد ويستطيع بقدراته النفسية ومواده الكيميائية,أن يظهر أن ارتعاشات أو اهتزازات أو ردود معينة من جسدها الغير مملوك لها آنذاك. قاومت كثيرا والدخان يحرق صدرها ويخنقها ويفقدها الوعي,وقد فقدت الوعي في الأخير.
الجلسة الثامنة: شيخ آخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شيخ آخر مثله,لا يقل شيئا عنه,ولا يزيد ولو قليلا,والمذكور في التشبيه هو شيخ الإسماعيلية الأحمق ذاك الذي كرهته الفتاة وأخذت تقلب وتتابع خواطرها نحوه. أو نحو مثيله. طلب منها أن تجلس على الأرض وتعطيه ظهره,متكئة بين ساقيه. وأراحت رأسها على حجره,ولا تعرف كيف سمحت أمها بذلك وغصبت أبيها على ذلك.
أخذ يتمتم بتعاويذه وعزائمه قليلا ثم طلب منها أن تردد وراءه فأمتنعت.
-ألا تريدين أن تشفين
-لا لا أريد
-لو لم تطيعيني سأتركك لمصيرك وأمشي
-امشي
-ماذا قلت
-فلتفعل
أخذوا يهدئون الشيخ الشاب العاجز عن تنفيذ تهديده بسبب المبلغ الذي أخذه والذي سيحصل عليه بعد شفاءها المفترض,حاولوا أن يرغموها على إطاعته وتعجبت قمر من نفسها كيف أنهم أجبروها على الجلوس بهذا الوضع المزري والمذل بين ركبتيه. لكنهم لم يستطيعوا أن يجعلوها تنطق كلماته وتغذي غروره. لقد صارت في الآونة الأخير تنصاع لأسرتها المجنونة أكثر من اللازم!. متعجبة من نفسها كيف بلغ بها الحال إلى ذلك.
في الأخير مشى يجر ذيول الخيبة وراءه,شعرت بفرحة خافتة كأنها حققت انتقامها من شيخ الدخان في شيخ البلهاء ذاك.
الجلسة التاسعة: الجميلة سامية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اندهشت قمر لمعرفة سامية ما فعلته مع شقيتها راقية,ثم تذكرت أنها شقيقتها وبالتأكيد روت لها ما حدث معها. أخذت تتأمل رقبة سامية البيضاء وتتذكر رقبة راقية السمراء وتطويقها للعنق الجميل بيد من الخلف والضغط باليد الأخرى من الأمام على قصبة التنفس حتى ينقطع النفس. المرأة لم تدرك ما حدث,وفي ظل صدمتها لم تتخذ أي مقاومات عنيفة لتفلت بها من يديها. ولم يكن أحد معهم في الغرفة المغلقة عليهم لوحدهم. حاولت راقية إخراج أي صوت فلم تصدر إلا حشرجاتها بدلا من صرخاتها. في ثوب يمزج بين اللون المخملي والفيروزي كانت فاتنة وهي تموت بين يديها. كانت عليها فعلا أن تقتل راقية لأنها علمت ما فعلته قمر دون علم أهلها. والقتل لن تحبس بسببه لتشخصيها بالجنون. ولن تطارد بالثأر لقوة عائلتها ونفوذ أبيها. ومثلما علمت راقية أسرارها,علمت سامية محاولة قمر لقتل أختها. وعلمت بقراءتها لكتب أستاذ وشيخ إبراهيم.
الجلسة العاشرة: في محطة مصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قابلناه مرة في إحدى محطات قطار الأنفاق,وكانت الثانية في محطة قطارات رمسيس,وطلب منها بشكل غريب أن تسند ظهرها إلى الحائط وهي واقفة,ثم جلست مع شاب قريب للشيخ الذي لا يلمسه أحد. فمن يلمسه قد يصاب بأمر ما. “نعم نعم,معروف”. هكذا عقبت ساخرة.
ودار الحوار التالي مع الشاب قريبه,بدئا منه بقوله
-ما عرفته عنك يجعلني أدرك أن تغضبين الكثير من المتدينين منك
-أنا أصلا لدي أفكار تبيح دمائي
-وهل تقبلين بذلك في مجتمع متدين؟
-هم متدينين إلى أن يأتيهم الفرج
-هذا غباء منك
-أنا أذكى منك
-أنت حتى لم تنهي سورة واحدة في القرآن
-أنا أنهيته كله
-حقا؟
-وجميع تفاسيره المهمة
-أيضا!
-ابن كثير والطبري والقرطبي والشعراوي والنسفي وغيرهم
-كل هؤلاء
-نعم قرأتهم جميعا
-إذن لماذا لا تقرأين ما يفيدك بدلا من ذلك الكتاب اللعين في يدك؟
-ماذا تقترح؟
-يعني اقرئي قرآنا
-أو لم تستمع إلى ما كل قلته لك
-ولكن يظل القرآن هو الأولى
-وهل القرآن فريضة؟
-نعم هو فريضة
-وما دليلك على أن قراءة القرآن فريضة
-قال الله “ورتل القرآن ترتيلا”
-نعم,وأي مؤهلات جعلتك تفسر على حسب ما ترى أنت؟
-الآية واضحة
-يا رجل,لك آية أربعة جوانب أساسية؛ظاهرها وباطنها وحدّها ومطلعها,وأنت تقول لي “الآية واضحة”. نصر زيد أبو حامد أفرد فصلا من بحث له في مسألة الوضوح والغموض بالقرآن. فلا تفسر على مزاجك.
-أنا طالب في الأزهر
-هل ذلك يجعلك مرجعا؟
-أنا ممكن أسألك أسئلة متعرفش إجاباتها
-وأنا كذلك يمكنني أن أسئلك أسئلة لا تعرف إجابتها .. هذا لا يثبت شيئا
-لما ألست موسوعة؟
-الحق الحق أنني قارئة موسوعية ولست موسوعة,يعني ليس بالضرورة أعرف كل شيء
-إذن لماذا تتحدثين طالما لا تعرفين؟
-أنا أعرف أن مصادر الدين أربعة؛الكتاب والسنة والإجماع والقياس
-وأنا آتيك بآية من الكتاب
-نعم,ولكن نعم لكن ليس لديك علم يؤهلك أن تتخطى البقية -أي السنة والإجماع والقياس- وتفسر على مزاجك
-يعني تفسيري خطأ
-ليس بالضرورة ومع ذلك تفسيرك سليم (من ناحية هو يعني القراءة ومن ناحية أخرى يعني التجويد) وأنا ألتزم به في صلواتي الخمسة
-هل تصلين؟
-نعم
-صلاة كلما يأتيك مزاج
-لا بل ملتزمة في صلواتي الخمسة كما أخبرتك لكن أنت لا تستمع
-لكن يجب أن تقرأي القرآن في الصلاة وفي غير الصلاة
-لن أجادلك يا جدع أنت,أنا أقرأ بالفعل القرآن يوميا في غير الصلولات الخمسة
-إذن لماذا لا تقرأيه الآن؟
-لأنني سأمل لو ظللت أقرأه هو فقط طول اليوم
-يا أختي حرام عليكي تحنقي من كتاب ربنا!
-القرآن ليس هو الكتاب الوحيد
-يا بنيتي “صرت ابنته” هذا الكلام كفر
-إذن لماذا لا تقرأ أنت أصلا فيه طول اليوم؟
-على الأقل أنا أقرأ فيه وأقرأ في غيره,ماذا تفعل أنت؟
وهنا سكت أخيرا وتهرب,حتى أنه لم يجد قرآنا مع شيخه الذي يحسب نفسه من الأولياء أصحاب الكرامات.
الجلسة الحادية عشر: الشيخ سعيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه المرة هي من أحضرت الشيخان,وهم صديقان لشيخ ثالث يعد صديقا مشتركا بين قمر والشيخ سعيد الذي أتى بصحبة الشيخ خالد عبد القادر الذي يصغر الشيخ سعيد ولكن يقال أنه يملك خبرة أكبر منه. هم من قاطني الشرقية,بل ونفس المركز في إحدى القرى القريبة من المدينة.
أتيا ومعهم كتب ذكرتها بالكتب التي كانت مع الشيخ إبراهيم من القليوبية,نفس الكتب التي سألتها عنها سامية.
1-السلاسل الذهبية في الطريقة الشاذلية
2-التسعة والستين بيتا
3-منبع أصول الحكمة
4-شمس المعارف ولطائف العوارف
5-السحر الأحمر
6-خزينة الأسرار
7-هاروت وماروت وسحر أوراق التاروت
دخل الشيخ سعيد الغرفة وصديقه وطلب جبنا وعسلا,وأوصى أن تكون جبنة قديمة أفضل. ثم طلب تشغيل سورة البقرة على مشغل شرائط أو أقراص صلبة أو أي شيء بشرط أن يكون متصلا بسماعات عالية,والاستماع إليها كاملة من قبل كل أهل البيت. ثم أخبرهم أن يطمئنوا ورحل. قالت قمر “هذا شيخ آخر يفهم”.
الجلسة الثانية عشر: أبو كف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو يستحق إسمه عن جدارة,فقد كانت يده كبيرة للغاية,عملاقة يمسك بها كوب الشاي بصعوبة لأن كف يده بحجم طبق متوسط أو ربما أكبر من ذلك. غطاء حلة ربما.
الشيخ أتاهم من طرف خالها في القاهرة,وقد أوصلهم حتى داره القديمة والقبيحة أسفل جبل الدقي,في منطقة الجورة بحي منشأة ناصر. وهو نفس الحي الذي قابلت في شيخا آخر يقود جماعة من الشيوخ حاولوا معها في نقاشات طويلة بلا جدوى. كأن أحدهم أخبرهم أنها مخاوية وليست ممسوسة أو ملبوسة أو مخبوطة. والفارق أن المخاوي يكون الأمر بيديه وبقراره تلبسه للجن أو تلبس الجن له.
الجلسة الثالثة عشر: في الصندرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لن تنسى أبدا ما حدث للفتيات الثلاثة في هذه الصندرة,وكانت هي رابعتهم.
[3]
تناثرت حبات الخرز وصعدت روحها لفمها,ولكن هذه المرة كانت كالبصاق لا كالقبلات,
قمر,وداليا.
قمر هي فتاة غير إعتيادية,مريضة بقدر لا بأس به من العلل النفسية. قامت اللجنة الطبية المسؤولة عن رعايتها وعلاجها بإعداد قائمة لها تتكون من العقد النفسية المصابة بها والتي تكبل روحها,وهي الآتي ذكرها:-
1-النكروفيليا
2-السادية
3-الماسوشية
4-الوسواس القهري
5-جنون إشعال الحرائق
6-البارانويا (جنون العظمة-جنون الإضهاد)
7-الشيزوفرينيا (فصام الشخصية)
8-الخوف من الماء
هذا الكم من العقد النفسية ذات الإنحرافات الجنسية كفيل أن يصنع منها شخصية فريدة من نوعها,شخصية تتمتع بتركيبة غريبة من الملذات,فهي مثلا تستمتع بآلام الآخرين وتستمتع أيضا بآلام ذاتها,تملك سادية مطلقة وإنحرافات جنسية شنيعة,وعقد نفسية غريبة.
الفتاة تعشق أمها إلى حد الغيرة القاتلة عليها من أمها,ولكنها تعشق أمها بذات الدرجة أيضا وتعاني ذات مشاعر العشق تجاهها ومشاعر العدائية تجاه أبيها,وفي النهاية حسبت أنها ذبحت أمها,ليتضح أنها خنقت عمتها وهي نائمة,وأبقت على أمها. إلا أنها أضرمت النيران في البيت بمن فيه وهم نيام لتحرقهم بنار قلبها. لكن تمت عملية إنقاذ ولم يصاب سوى العمة التي ماتت خنقا بيديها قبل أن تختنق بدخان النار,وطفل تم إنقاذه من حالة التسمم اختناقا,وأخ لقمر كاد أن يحترق حيا,وتمت له النجاة مع بعض الإصابات السيئة من حروق تناثرت على جسمه.
قمر تقتل أي فتاة ترى أنها أجمل منها,بالرغم من أنها آية في الجمال,لكن ذلك الجمال الرمادي الغريب,لا يمكن تصوره إلا عند رؤية حورية جميلة بل بارعة الجمال ولكن غزاها البرد والمرض والسم والظلام,ستظل على جمالها ولكن….
خوفها من الماء يؤثر على نشاط إستحمامها,لاتستحم إلا بمادة زيتية عطرية من الأشياء الغريبة التي تمتلكها,لا تفعل ذلك حفاظا على نظافتها,ولكن كي لا تتعفن حية في جلدها. الزيوت تلتهم كل الأوساخ على جسدها,لكن يبقى أثر المادة نفسه,وتتسرب منه نسبة إلى جسدها عبر مسام جلدها ليختلط بدمها,ولكنها لا تمس الماء مع ذلك,حتى أنها لم تُرى يوما تشرب قط,ولا يُعرف ماذا تشرب أو كيف تعيش.
الفتاة تأثر قلب من يراها,وذلك ما جعل إمرأة مثل السيدة دليلة تتكفل برعايتها,أولا في المستشفى التي ألحقت بها حيث توفرت لها عناية جيدة جدا,ثم بعد عام قررت أن ترعاها في منزلها رغم تحذيرات الأطباء من ذلك,وتحذيرات عائلة قمر نفسها.
تملك الفتاة أيضا نوع من السادية المتخفية في الوداعة واللطف والرقة,لقد قضت سنة في المسشفى لم يبدوا عليها أي من مظاهر العداء عدا العند والحذلقة,حتى خرجت لها شهادة طبية بواسطة السيد جلال أخو السيدة جليلة.
السيدة جليلة إمرأة ممتلئة ولكنها جميلة,فرغم ما تحمله من اللحم تحمل قدرا من الجمال الحار ,بل هي غاية في الجمال رغم سن الأربعين,هي إمرأة طرية ممتلئة بالإنوثة.
زوجها متوفي لكنها تعيش مع إبنتها الجميلة والوحيدة سمر؛حمراء الخدود,خضراء العيون, بيضاء العنق,سمراء الشعر,جميلة كأمها خاصة في حلاوة صدرها.
تم خنق جليلة بشريط رفيع وخنقت إبنتها سمر بعود حديد شدته ضاغطة إياه على عنقها,بينما خنقت شيماء زوجة السيد جلال في فراشها….
وأحرقت المستشفى..
قمر مصابة بنوع من السادية هو عشق الخنق,وهو موجه ضد بني جنسها.
جرائم إغتصاب للنساء والأطفال مجهولة الفاعل,حرائق في نصف عقارات حي شبرا -حيث يقطن أحد أعمامها الكثر أو خلانها- من بيوت وعمارات ومتاجر ومصانع,وحرائق في مدينة الرحاب,ذلك غير عدد هائل من السرقات.
بيت مخيف بُني في أرض خالية في وسط الصحراء بمكان ما خلف مدينة نصر,كانت قد جائت قمر لموقع البيت ووضعت قالب قرميد وحجرا وهكذا بنت البيت.
لم يأسر قلبها ويؤسر في حبها سوى شخص واحد,هو صديقها شمس. لاحقا تعرف أنه مات ميتة بشعة.
إمتلئ مكتب الضابط بالكثير من ملفات القضايا الجهنمية التى إجتاحت القاهرة,والتي تربطها عدة خيوط ببعضها,قضايا كثيرة غامضة تدور حول شخص واحد مجهول,قضايا كثيرة لدرجة أنه لن يكفي عقل واحد لعرضها وتفنيدها.
وفي النهاية عادت قمر لعائلتها.
[4]
“هي يجب أن تتزوج” هكذا أخذت تترد تلك النصيحة بين الألسن وفي القلوب.
***
وقد كان القرار أخير بزواجها,تنحى عنها الشبان الوسام وتراجع الجميع وكل من أقدم انسحب لاحقا,بالرغم من جمالها الفائق,وذلك لثلاثة أسباب. أولا لخطر الفتاة,سواء كانت ممسوسة أو مجنونة,فلا يفرق لديهم إن كان المس من جان أم جنان. وثانيا لأن سيد أبو دعيبة كانت عيونه عليه,فأخلا له الجميع الجو,وأخذ أبو دعيبة يتكلم عنها,وفي الأخير تقدم لها خائفا من بطش سيد المنياوي,وطمعا في جسد الفتاة. والسبب الثالث لا يتحدث عنه أحد.
***
تم الأمر على ثلاث مراحل
الأولى هي الدخول وخلع الملابس برقة وانسحابها بطيئا عن الجسد.
الثانية هي ما يلزم قبل المضاجعة من ضم وعناق ولعق وتقبيل ولمس وتحسيس وضغط ومداعبة ووطء وعض وشم وغيره من النشاطات الجنسية.
وحتى خنق في الأخير وقد تكلبت أصابعه الثمانية في مؤخرة عنقها تغرز دون أظافر,وبقى إصبعيه الإبهام يضغطان في حفرة الموت حيث التجويف أسفل الحنجرة أو ما تسمى تفاحة آدم التي برزت بشكل فظيع مع انتفاض العروق وجحوظ العيون,وقد زاد فيه عن حده حتى غزا اللون الأحمر وجهها كما غزت يديه عنقها,وإنتقالا إلى المرحلة الثالثة وهي الإدخال. بينما كانت تصارع بيديها لتنزع يديها,ولسانها يتقلب في الهواء خارجا من فاهها يحاول أن يعبئ أي أنفاس,وشعرت قمر بأن تخنق وتعتصر الحياة منها,كما خنقت هي الكثير من النساء سالبة الحياة منهن. لم تصدق قمر نفسها. وماتت في يديه وهي تحاول التشبث في الحياة بيديها. وهو شعر أنه يميل للداخل بينما ينكحها,ولما بلغته رعشتها,رعشة الموت والجنس معا,اهتز جسده نشوة شاعرا بالسقوط. وقد كان يسقط فعلا. في بئر عميق اسمه فرجها. أدرك الآن أن كل التحذيرات التي وجهت إليه لم تكون بدون داعي,إلا أنها صارت الآن بدون جدوى. هو يمتص فعليا داخل جثة الفتاة. داخل فرجها. داخل المرأة الصغيرة. أول ما أحس كان بفقدان قضيبه,ثم بيوضه وقد صارت عجينا يتم ابتلاعها. في سعار بالغ استمر الامتصاص وأحشاءه تمزق وتدخل تتبع حيواناته المنوية وجهازه التناسلي. ثم يتم عصر جزعه وساقيه وامتصاصه,الآن صار نصف جسدها بين ساقيها في الداخل بالهوة العميقة. هو يصرخ عاليا منذ بدأ الأمر ولكن لما لا يأتي أحد لإنقاذه. وبينما هو يتمسك بالساقين أو القدمين أو الركبتين أو الفخذين,أو أي شيء من أرجل الفتاة,أتاه صوت الطرقات ومحاولة تحطيم الباب الذي أثبت أنه متين ويصمد ضد الكسر. سيأتون متأخرين جدا هكذا. لم يبقى منه سوى رأس وذراع. وسرعان ما تم امتصاصه بالكامل داخله تلحقه صرخاته التي صارت مكتومة الآن.
الآن شهقت الفتاة تأخذ نفسا طويل ولسانها يطفو للأعلى وكذا عيناها,ثم أكملت موتها مرة أخرى. ولاحقا لن يعثر على جسد أو جثة أو أي أثر لـ سيد أبو دعيبة,وستدفن قمر في مدافن لن يزورها أحد. قيل عدا أمها كانت تزورها. وقد تعنونت قصتها في إحدى الصحف بعنوان المسّ.
***
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في المرأة
ليلة واحدة
[1]
الغابة الكبيرة وأشجارها المتقاربة وأغصانها المتلامسة وأوراقها الكثيفة,فلا يُري القمر إلا من فجوات وسط الفروع المتشابكة أو في المساحات الخالية من الأشجار.
الغابة مليئة بالصخور الحادة والوحوش الجائعة والبشر الضالة.
في تلك الليلة كانوا نحو ثلاثون من الجنسين ومختلف الأعمار,ربما ينجون وغالبا لا,قد يعيش بعضهم أو قد لا يعيش أحد.
تائهون ومحاصرون,هم في سجن الأشجار أسواره والذئب حارسه وجلاده,وتكاد النجوم تعطي لكل واحد منهم أمنية أخيرة قبل موته. القمر هو القاضي الذي قضى بموتهم جميعا وترك الباقي للقدر؛فاكتماله يعني قضاء الموت في غابة يعيش فيها مجرم كسبارك الذئب.
سفاح دموي يتحول في منتصف الشهر,وفي كل الليالي السوداء والمقمرة؛فهناك من رأوه في أوائل الشهر وآخره ومنتصفه,ويُعثر علي الضحايا في اليوم التالي لرؤية الذئب.
لا أحد يعلم كيف؟ فأي ذئب بشري يخضع لقانون القمر,أما عن هذا فلا وقت يحكمه,عدا الليل وإكتمال القمر. فلا يكتمل القمر أو يأتي الليل إلا وقد ارتدى ثوبه الذئبي,ولكنه قد يأتي في أوقات مغايرة لذلك.
المخيف أن سبارك ذئب في الليل وفي النهار,في الليل بفراء ذئب,وفي النهار يُنزع عنه الفراء والمخالب ليعود علي صورته الأولي؛قاتل متعطش للدماء,وتُستبدل المخالب بسكاكين وخناجر,ثم في الليل يعود ذئبا يلتهم لحوم البشر.
ستة أشهر علي هذا العذاب,لم يقدر علي قتله أو اصطياده أحد,حيث يختبئ في غابته المرعبة,والتي تعد مقبرة للصيادين والمستكشفين. كما لم يتحول من مخالبه أو عضته أحد؛كلهم يموتون بشكل سام كأنه ينفرد بوحشيته ودمويته.
الليلة لديه الكثير من الضحايا,مجموعة متميزة في قدراتهم,ولكن لم يتميز أحد أمام الذئب سوي بالطريقة التي مات بها بين مخالبه وفكيه.
***
عددهم إثنين وثلاثون,هم
المصريين جابر وجاد
الرباعي ماري وكارل وإريكتوس وجايف
هاري جاكسون
السفاح سيليد
الجميلتين كريستين وليلي
الصياد هارفى
الطفلة سوزان
جراي سيلاك
نيكال فولومونت ديباج
هارتنيل
بول جراي ميشيل
العجوزين هارفي وهود
النبيل آرثر
الفتى ويلي ويدل
جرين وجاريس وسيميل
رجلان وزوجتيهما: تيموثي وإيمي
الجميلة بوالا
الأميرة جاريس
الأمريكيين دايفيد ورايفين
الشاب داني
كلهم من القارة الباردة أوروبا عدا المصريين والأمريكيين,وقد فُقد منهم أربعة من بينهم السيدة جاريس.
***
في قطعة أرض بين الأشجار جلس الجميع حول النار يدفئون أجسادهم بالحرارة المنبعثة منها,ويدفئون صدورهم بدخان سجائرهم حتى لتكاد تنقطع أنفاسهم. قطعة مضاءة وسط الغابة المظلمة,لا صوت سوي طقطقة النيران. الجميع أتى هنا كأنه استيقظ داخل حلم ما,ولكنه حلم جماعي وحقيقي. والجميع التزم الصمت.
قطع هذا الصمت منذ قليل حوار قصير أطرافه عديدة,كان أول من خرق الصمت هو المصري جابر:
-ليس معنا حتى أي هواتف كأن تلك القوي تضيق الخناق بنا
ثم سكت الجميع وخيم الصمت ثانية.
بعد برهة قطع الصمت السيد آرثر قائلا:
-أتريدون النجاة؟.
فنظر الجميع له
-افعلوا ما أقول لكم.
الجميع ينظر له في صمت,فأكمل:
-أولا قوي خارقة ليس لأحد شك في هذا هي ما أتت بنا هنا,لذا لنكف عن التفكير في الكيفية أو السبب في دخولنا تلك الغابة,ولنفكر في خروجنا منها كما فعلت أنا.
ثانيا يجب أن نبقي معا في مجموعات تحت أي ظرف وفي أي مكان حتى أن قضاء الحاجة لا يجب أن يبعد أكثر من ثلاث أشجار,ولكننا لا نستطيع أن نظل مكاننا,علينا إذن التحرك في مجموعتين.
ثالثا بما أننا لا نملك بوصلة ولا نستطيع رؤية النجوم بشكل واضح ولن ننتظر الشروق,لذا فسنلجأ إلى الاستدلال من خلال وضع علامات علي الأشجار ونحن نمشي كل مجموعة في إتجاه,وسنعمد علي المشاعل للرؤية في هذه الغابة المظلمة.
أنا أذكر معالم الغابة منذ عام قبل أن يغزوها هذا البلاء وطبقا لما تأتي به ذاكرتي فالخروج من جهة الشرق والنهر من جهة الغرب,والسور من جهة الشمال,إلا أنني لا أعرف ماذا يوجد في نهاية الجنوب لكنه في الغالب امتداد للجزء الأكبر من الغابة.
“حسنا..ثالثا ليس لدينا بوصلة ولن نستطيع الإستدلال بالنجوم,والغابة مسحورة وستضللنا والذئب ليس الخطر الوحيد بها,قد يكون الأشد فتكا ولكنه ليس كل ما يجب أن نخشاه. والليلة سيموت من يموت إما كلنا أو بعضنا فلا تطمعوا في أن تحدث معجزة وننجوا جميعا.
سيميل متهكما:
-أحدهم لديه خطة,ولكنها تبشر بنهاية محتومة
-قبل الاستمرار في شرحها علي أن أسأل,ما رأيكم بهذه الخطة؟
جراي: جيدة,هل الجميع موافق على الإلتزام بها؟,الموافق يرفع يده.
وفعل الجميع عدا رجلان.
ثم أخفض الجميع يده عدا الفتى ويلي ويدل
آرثر: حسنا علمنا أنك موافق
-أنا رفعت يدي لأسأل سؤالا فحسب
-لسنا في مدرسة,هات ما عندك
-لماذا لا ننتظر للصباح؟
-لأننا لو فعلنا فلن نراه ولن نري شيئا من الدنيا مرة أخرى
هاري: إذن ما هي الخطة؟
-كما قلت سننقسم إلى مجموعتين,تسير كل منها في اتجاه عشوائي,من يجد النهر فالمخرج من خلفه وليعود من حيث أتى,ومن يجد السور فالمخرج عن يمينه وليسير محاذيا السور. من يوافق علي كلامي ليشير بذلك.
ودلت الأيادي و نظرات الأعين والهمهمة الخفيفة علي موافقة الأغلبية.
-حسنا,لنفترق فرقتين,جراي يأخذ كل من….
-من عينك قائدا؟
وقبل أن ينظر الجميع من القائل دوي صوت عواء الذئب فهز نفوسهم كما أهتزت الأشجار لقوة الصوت وهوله,وسقطت أوراق الأشجار,ونزل الذئب من الأعلى كتنين غاضب هبط من السماء,وابتلع بين أحضانه رجلا كما تبتلع النيران بيتا,واختفي بين جذوع الأشجار.
خرس من تكلم ووثب هاري جاكسون يجري خلفه واندفع جابر ممسكا عصاه ورائه,واختفيا في الظلام. ومن الظلام ظهر الذئب مرة أخري من الجهة التي ذهبا منها,مر من الجميع مقتنصا رجلا آخر واختفي في الجهة المقابلة,ودوت صرخة ساندرا ونظر الجميع وعرفوا أن الضحية الثانية كان بلايند,الزوج المسكين.
وكأن مفاجأة الذئب قد ضربت الأوتار علي الجميع فأنتفض السيد آرثر واقفا وصرخ آمرا:
-نيكال فولومونت وجراي سيلاك وبول جراي وجاد وجايف وهارفي وسيميل وهارتينيل اذهبوا من هذا الإتجاه (مشيرا إلى الإتجاه الذي ذهب منه جابر),وأنا والبقية من هذا الإتجاه.
كان الكلام سريعا عالي الصوت,وذهب الجميع بسرعة كل في إتجاه حاملين أغصان مشتعلة,عدا بضعة بقوا هم ساندرا ذات الصرخات العالية التي لم تنقطع لا لراحة ولا لنفس,وليلي التي أخذت تتلفظ بكلمات غير مفهومة في خوف اقترب من الجنون فظلت معها كريستين,وآثر الشاب داني بمزيج من النبل والخوف أن يظل مع السيدات الثلاثة.
العجوز هود أيضا لم يذهب وتركوه بناء علي رغبته التي لم تلقى أي اهتمام أصلا,ونام العجوز مستندا بظهره علي شجرة غير عابئ بشيء.
[2]
صار في طريق مظلم إلا من إضاءة خافتة من السماء,ضوء القمر الباهت سقط علي شجرة بعيدة أمام عينيه تقف كشبح في منتصف الطريق أمامه,تحت جزعها تكومت الجثة الممزقة,تسمر هاري وقد عرف أن صديقه قد مات وصار جثة,وعرف من الصوت أنه هو أيضا سيصير جثة خلال دقائق … صوت لحم يُمضغ,لقد مات جرين وها هو بالم يتبعه وهو قد يلحق بهم في أي لحظة,وتساقطت بضع قطرات علي خده,نظر للأعلى وفي الحال أطلق قدميه هاربا قبل أن تتبعه أشباح رفيقيه.
***
-هذه الأشجار مضللة,حذار من خداعها.
قالها نيكال مخاطبا من معه.
-جاد,كم لغة تعرف؟! دعنا نتحدث لتخفيف التوتر والذعر في المجموعة.
وتوقف
-جاد,تراك نسيت الإنجليزية,أم هو الـ ….
نظر خلفه ولم يجد أحدا,لا يري سوي أغصان متكسرة وأوراق ساقطة,ولا شيء آخر تحت ضوء القمر,أو في نطاق ضوء مشعله.
“لماذا لم أنظر خلفي؟”. هكذا فكر وهو يجري بحثا عن رفقاءه اللذين كانوا تحت قيادته في طريق الغابة المجهول,بحث هنا وهناك فلا يجد أحدا.
“يا لغبائي,أنا غبي,أنا قد خدعتني الأشجار”. وأخذ يدور هنا وهناك ويدور حول نفسه,ثم ينادي
-جراي..بول..جاد..أي أحد,ردوا عليّ.
ثم دلف بين شجرتين ووقف ينظر أمامه
كان جاد مقيدا بحبال الطبيعة علي هيئة النسر,قدميه مشدودان للشجرة من خلفه وجسده مائل للأمام,وزراعيه ممدودتان علي الجانبين إلي شجرتان علي اليمين واليسار,رأسه مرفوعة للأعلى يلتف عليها حبلين يمتدان لذات الشجرتين.
تتدلي من عنقه قلادته الفضية,وتدلي لسانه وجحظت عيناه.
-أيها الشاب…
قالها مشدوها,وبسرعة أخرج خنجره وقطع أول حبل وشرع يقطع بقية الحبال حتى حرر جسد الشاب العربي من قيده.
قاس نبضه,ثم نظر للحبال المتدلية من حوله
-ما هذا السحر؟
في لحظة ما وجد نفسه انتقل إلى مشهد شنق آخر,الطفلة سوزان ميتة وجاءته لحظات من الإدراك للشهوانية الحيوانية الكامنة في جسد ويلي ويدل.
***
(لا تنكر أن الخوف بدأ يغزو قلبك).
قالها لنفسه,ومشي جراي سيلاك مع رفيقه هارتنيل في صمت,كل منهم يفكر في مخاوفه و في كيف إنفصلا عن المجموعة. الأول يقاوم مخاوفه والثاني يأمل أن لا يراه الذئب وأن يبقي للنهاية.
ثم تخشبت أقدامهم وقد سمعا صوت الزمجرة العنيفة
(زمجرة ذئب)
(ها قد غرق قلبي في الخوف).
للحظة فكر في هذا ساخرا,فهو بشر والبشر يخاف (سيتم تمزيقنا).
-لكن هذه كلابي.
ونظر إلي القطيع حوله
-كلابي لن تمزقني.
وصاح فرحا:
-أنتم قتلتم الخوف.
نظر للسماء
-يا لهذا السحر .. أنت خائف يا هارتنيل .. لا تخف .. هذه كلابي وأنا لن أجعلها تلتهمك.
نظر له هارتنييل وقال:
-وما أتي بكلابك هنا؟.
-لا أعرف,هذا آخر شيء كنت أتوقعه!.
مزيج من الارتياح والدهشة والتوتر علي ملامحهما,سئل هارتيل:
-إلي أي حد هي قوية؟
-أكثر من الكافي.
-هذا جيد جدا,يمكنها تنبيهنا قبل مجيء الذئب أو أن تموت في قتاله بينما نهرب نحن.
-كلابي كفيلة به,ستمزقه حتما,وليست وسيلة لك لتهرب أنت وتموت هي.
-دعنا من هذا,أطلق بعضها للبحث عن رفقائنا.
-أنت لا تعلم شيئا عن مدي شراسة تلك الكلاب,ولولا وقوفي معك لافترستك,لو انطلقت لوحدها ستسهل بعض الأمور علي الذئب,هل فهمتني.
-هه,تغالي من قدراتها.
وبينما يتجادلون مخففين من قلهم الكلاب المتوحشة أخذت تحيطهم بأجسادها ونظراتها التي طالت جراي بكل مرح وقذفت رفيقه بكل غضب وشراسة مصدقة على كلام الرجل.
سارا والكلاب تحيطهم,عشرون كلبا ضخما يبدون كالذئاب في الظلام المخيف,وجودهم سبب راحة لقوتهم وخوفا للطريقة التي جلبوا بها.
أشعل هارتنيل سيجارة وسئل جراي:
-أيها الصياد,ماذا تعتقد تكون تلك القوي.
-سحرا
-أووه يا لك من ذكي,أي نوع من السحر يا هذا؟
-لا أعرف
-ولماذا أسألك أنا
-وما شأني أنا لست أمك ولا مرضعتك
-ذلك المصري يقولها وما شأن أمك
-تبا لك
-تبا لك أنت
-أحمق
-أنت لست إلا….
-اخرس
قالها جراي سيلاك واضعا يده علي فم صديقه ليخرسه,وأمام أعينهم في الظلام تراصت أشجار جوار بعضها كأنها تشكل جدارا,ومن الفجوات بين الأشجار خرجت أجساما,أجسام مخيفة في هالة خضراء,تسري باتجاههم,تشبه البشر شيئا ما,لكنهم كالبشر في أبشع صورهم لو كان يشبهون البشر في شيء,تسارعت الحقائق في عقل جراي,ملامح تشبه الموتى, وميض أخضر,أجسام شبحية,الصوت المخيف,وهذا السائل,طريقة تحركهم.
سمع جراي زمجرة كلابه من خلفه,ونبرة رفيقه المذعورة:
-إنهم أشباح!!.
-لا..ليسوا كذلك
الصوت المخيف والوحل الأخضر وطريقة تحركهم.
وأخ جراي يسمع تزايد زمجرة كلابه من خلفه,همس لصديقه قائلا:
-سكان الغابة,هي تقريبا لا تري ولكن ستشعر بنا.
-وكلابك
نظر جراي لهارتنيل
-صدقني إن كلابي الأربعين لن تجدي نفعا مع هؤلاء.
وفر هو ورفيقه وكلابه يختبئون بين الأشجار.
وأثناء إختباءهم لمع الشبح الفضي في جسد هارتنيل ولم ينتبه جراي سيلاك إلا وكلابه تطوقهما وقد كشرت عن أسنانها الحادة وأنيابها الذئبية الطويلة وتخرج منها زمجرة مخيفة تنذر بالويل ….
كان قد توقف وأخذ جراي ينظر لرفيقه فرآه يلمع مثل القمر ورأي عينا الشبح في عينيه.
سأل هارتنيل
-ما الأمر؟
-رباه….
-ماذا؟
الشبح السيد
قالها مذهولا وفي ثانية هجمت الكلاب جميعا على هارتنيل تفتك به,وصرخ هارتنيل مذعورا ,وصرخ جراي مصعوقا وأندفع ينقذ رفيقه من بين أحضان كلابه.
[3]
في الساحة الأولى بقى كل من ساندرا وليلي وكريستين وداني وهود,السيدات الصغيرات تبكي وداني يحاول مواساة الثلاثة وهود غير عابئ بهم,وقريبا منهم كانت هناك سيدة رابعة أصغر منهم,هي أصغر من في المجموعة تبكي دموع الموت أثناء احتضارها.
التفت الحبال الغصنية حول عنقها ويديها وساقيها,وأخذت تجذب فيها كنجمة صليبية معتصرة الروح من رقبتها. كانت السيدة الصغيرة سوزان تموت.
جثى الفتى ويلي على الأرض راجيا نيكال
-أقسم إني لم أقتلها,أنا أحبها,وأنا لا أريد أن أموت وحيدا هنا في المستنقع ولا أريد أن أترك جثة الفتاة هنا,أرجوك.
-تريدني أن أحمل الفتاة وأعود بها كل هذه المسافة,لا أنها خدعة.
وشد ساقه ومشي
-أرجوك لا تتركني هنا,أتوسل إليك,لا أريد أن أموت..
لكنه كان قد رحل.
***
تقابل إريكتوس ونيكال واستغرب الأخير لذلك لأن إريك ذهب مع الفريق الأول,ثم خمن أن طبيعته المرتابة دوما جعلته يترك الفريق ظنا منه أن طريق النجاة من هنا,ولهذا ذهب فيه آرثر ومع الأقوياء من المجموعة.
لم يستوقفه ولم يتوقف ومر كل منهم جوار الآخر دون أن يحذر أحدهما الثاني مما قد يكون رآه أي منهما.
***
(سامحني أيها الشاب)
قالها معتذرا لا يعرف لمن يوجه إعتذاره,الشاب المصري أم الشاب الصغير.
وصل نيكال إلي المجلس الأول الذي افترق الجميع منه,في نفس لحظة وصول جابر,حيث الفتيات الباكيات,وكان ما رأيا غريبا؛هارفي وجابر ينظرون مثله إلي إريكتوس المعلق من ساق واحدة علي إرتفاع متر واحد عن الأرض,ممزقا جسده بجروح مخلبية,ويعلوا الحبل فوقه طويلا كطول معاناته قبل موته.
رأيا ساندرا ملقاة علي جنبها مفتوحة العينين والفم,غارقة في بقعة كبيرة من الدم,ومازال السائل الأحمر يسيل من صدرها المطعون ورأسها المشقوق وفمها الممزق.
العجوز هود مستندا علي شجرة نائما أم ميتا؟.
النار مازالت مشتعلة في وسط كل هذا,وسمع أنينا صادر من رجل يتألم بشدة
-لا
-أيها الوغد
-لا أريد مقاتلتك
-تبا لك
-…..
إندفع جابر لمصدر الصوت خلف الشجرة,ونظر فرأي هارفي مستندا علي سيميل,وقد جرح بشدة في بطنه وينزف بغزارة.
قال الرجل المجروح:
-لقد عضه في كتفه وخدشني في بطني,لكني لن أموت بسهولة.
نظر جابر للمسدسان علي خصر هارفي وعرف كيف نجيا,الرجل صلب وهو شجاع للغاية وصياد محترف بل هو يلقب بصياد الوحوش,وسر جابر بوجوده معهم.
مرّ الشيء الرمادي من أمامهم
-الذئب؟
نطق بالكلمة في آن واحد جابر ونيكال,وجري نيكال بسرعة إلي حيث اختفي الذئب.
بينما مشى هارفي مستندا علي جابر وسيميل بسبب الجرح في بطنه وجرح آخر ينزف في ساقه,سئل جابر:
-وماذا تحتوي حقيبة الصيد خاصتك؟
-هذا ليس وقتا ملائما للحديث معي أيها الوغد
-أنت تحمل مسدسان محشوان بطلقات فضية وثالث محشو بطلقات عادية وآخر محشو بطلقات نحاسية وخنجر فضي.
-اللعنة عليك
خطوات قلية والتقيا بـ هاري الذي كان يركض,لم يتوقف عن ركضه إلا أن جابر أمسكه بقبضة واحدة في مشهد عبثي أشبه بلوحة كاريكاتورية.
وكان مصابا في قدمه وبعد أن فهم منهم إتجاه الذئب الذي يركض خلفه نيكال,مشي هاري مستندا علي سيميل بجوار الحائط,وقد أتفقوا علي أن يذهبا هم –هاري وسيميل- بينما يعود جابر وهارفي لمطاردة الذئب مع نيكال.
***
أخرج رصاصة من البكرة في مسدسه ووضع مكانها رصاصة فضية ليقتل ذئبا بها. وتساءل أين اختفى جابر فجأة. وقف هارفي وقد ظهر الذئب أمامه من بعيد يسد الطريق,أخرج مسدسه غير مصدق أنه يستخدمه,تحفز الذئب علي أربع ورصاصة تشق الظلام,هجم الذئب.
الرصاص يخترق جسد الذئب الشيطاني.(لم تأتي..لم تأتي),ست رصاصات وهاري يفكر في الرصاصة الفضية,كل هذا في أربع ثواني وقد وصل الذئب إليه منقضا عليه.
وسُمعت صرخة دوت في الغابة
***
إنتفض جسد جابر وقد سمع صرخة صديقه فصرخ بدوره:
-هارفي
وطفرت دمعة من عينيه وأشتدت قبضته علي عصاه الغليظة.
رآه ملقي علي الأرض ينزف دما من كتفه بالقرب من عنقه,لكنه حي,إنقض عليه يحضتنه كالدب يحتضن صغيره. ثم حمل على يديه.
***
وصل هاري وسيميل إلي جدار أسمنتي عالي وطويل.
صاح هاري فرحا:
-نعم,,,
-ما الأمر؟
-نجونا!
-كيف؟
-ليس تماما!
ثم نظر لهم شارحا
-السور يعني
مشيرا ليمين الجدار:
-هذا هو الشرق
-وما أدراك؟
-ه,,,
سمعوا زئيرا فنظروا للخلف,وصاح هاري,وأقترب الشيء منهم
-الذئب…….
[4]
وقف نيكال بجسده الضخم وأخذ يتمتم ويسب بكلمات إسبانية.
نظر حوله..لقد صار في نقطة مظلمة للغاية,ثم سمع صوتا فأتجه لمصدره,
لم يجد شيئا فظل يمشي ويمشي ويقف وقد شعر بمن يقف خلفه
-أهلا فولومونت…أيها الأسباني القوي
نظر نيكال خلفه ليري سيليد مبتسما وقد لمعت عيناه وأسنانه في وجهه الشرير الذي أزاد شرا في الظلام,ظلام معتم إلا من ضوء خافت يهطل عليهما من سماء الليل,سيليد يلوح بخنجره ونيكال يقبض علي سكينه الفضية التي برزت منذرة بمعركة شرسة في الظلام,تلك البقعة أكثر سوادا من غيرها وزاد نصيبها من الظلام عن باقي أجزاء الغابة,الجو مغرق في الظلام والرؤية عسيرة إلا أنها أعتمدا علي ما تيسر لهما من القدرة علي الإبصار….
وأنقضا علي بعضهما.
***
كان جراي سيلاك قد أخذ كلابه وأبتعد,لقد مات هارتنيل,أفترسته كلابه,ولكن ماذا كان بيده؟..لم يكن هناك مزيدا ليفعله(ماذا كان علي أن أفعل,ماذا كان ليفعل؟.)لقد حول أن يزيح عنه كلابه,أخذ يضربها,ويمسك بالكلب قازفا به,بل أفرغ رصاصات مسدسه القليلة في بضع كلاب,وأخيرا وبعد أن أنتهت الكلاب من نوبة الوحشية التي أخرجتها في رفيقه,لم يتبقي من هارتينيل سوي كومة من اللحم والعظام والدماء هي بقايا جثته.شكلت البقايا شيء مكروه مقزز ومخيف يدل علي أن هذا كان هارتنيل.
[جثة خلت من أغلب لحمها وعظامها غارقة في بركة من الدماء,جسد ممزق ووجه بلا ملامح,عين مفقودة وأخري تنظر له بين كتلة من البقايا مدعوسة ولا تزال تنظر له,لا جبه ولا فم,أقتلع اللسان والفك كاملا بالأسنان والشفتان حتى الوجنتين إلي الأذنين,لا شعر فوق الرأس,مجرد جمجمة مهشمة بارزة عظامها وأحشائها].
لما صعدت هذه الصورة إلي ذاكرته؟!.لا يعرف.إلا أن مشهدا أتاه في لحظة الحاضر تلاشت إثره أي ذكري لديه الآن.كان الذئب واقفا أمامه,تلمع عيناه,يسيل الدم من شدقيه,ويتطاير الهول من بين أسنانه.
سقط جراي سيلاك ميتا وحوله سبعة من كلابه هم ما بقوا معه وماتوا معه.
***
تسمر بول لدي رؤيته الذئب واقفا منحيا متحفزا يعرض أنيابه المستعدة للفتك
-جايف,أهرب..أهرب بسرعة
ولكن جايف لم يكن موجودا,نظر خلفه فلم يجده,بالفعل كان يجري بأسرع ما عنده,نظر بول جراي إلي الذئب الذي انقض عليه…
وما كاد الفكان أن يطبقان علي رأسه حتي ثبت وتد في عنق الذئب
قبل أن تصيبه مخالبه كان قد غرز سيخا آخر في صدره
ثم أثنان في بطنه فكتفه ففخذه ثم آخر في ساقه
صار في جسد الذئب الصارخ سبع أوتاد
ما زال لديه الكثير من الأوتاد(القضبان)في حمالة ظهره
هجم الذئب مرة أخرى
تفاداه ببراعة مصوبا وتدان أسفل ظهره
صراخ ينتمي لعالم الوحوش,جعله عاجزا للحظة,إستجمع شجاعته ضاربا سيخا وسط كتفيه قبل أن يتدارك الوحش أمره
طعنة في جنبه,وتدا آخر في خلف ركبته,وثالث في رأسه
وأستدار الذئب فتلقي ثلاثا في صدره وبطنه
تراجع الذئب وكذا فعل بول جراي ميشيل وعوي الذئب صارخا من شدة الألم والغضب وثارت ثورته..
أزداد الوحش توحشا,مخطبا بالدماء مثقبا بالأوتاد ناظرا لميشيل
مازال لدي بول الكثير من الأوتاد. هجم الوحش هجمته المرعبة,لم يتمالك بول نفسه وجري بأسرع ما يملك من قوة ومقدرة علي الهرب,جري فلا فرصة لديه أمام هذا الوحش الذي لا يقهر,ليته ما قابل هذا الذئب العاتي.
***
أدرك جابر عن مطلع الفجر أنه لم ينجو أحد غيره داخل الغابة.
***
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في الغابة
الشهداء
[1]
نزل من الباص وسار الخطوات مسرعا إلى محطة قطار الأنفاق (مترو Metro),عبر بين حوانيت البيع والمتاجر والعربات التي تصنع سوقا قرب موقف السيارت ومحطة القطار. وبجوار فراش الإسكافي رأى الباب مغلقا فتذكر أن مدخل المحطة قد تغير منذ عدة أعوام وصارت المداخل على الجانبين,أكمل سيره يسارا إلى محطة السيارات حتى وصل إلى المدخل مقاوما أن ينجذب لأي من روائح أو مناظر عربات الطعام حتى لا يضيع مزيدا من الوقت وقد نظر إلى ساعته ليجدها على التاسعة بالضبط,مشى لا يلتفت خاصة إلى عربة الفول وعربة السجق.
دلف يمينا إلى المدخل ووقف في صف التذاكر متذمرا من عوائق الوصول مبكرا,ما بين بائع التذاكر الذي يعمل في أريحية تامة,ومخترقى الصفوف,ومن يدفعون لغيرهم حتى يقطع لهم التذاكر عوضا عنهم على سبيل الشهامة (وقد تجده يقطع لثمانية غيره).
أخيرا مرت دقائق العذاب ليعبر ماكينة التذاكر شاعرا بالرضا أنه لم يصطدم بفتاة في هذا الزحام ولم تعلق معه آلة التذاكر اللعينة حسب ما يراها دوما,مر من الجمع الداخل والخارج آملا ألا يصطدم بأحد إلى أن يصل إلى باب القطار حتى لا يفوته القطار ويتأخر على عمله. على رصيف المحطة المزدوج وسط زحام هائل من الناس والقطار قادم على الخط الأيمن, بينما القطار المتوقف على الخط الأيسر يبدوا أنه يهم بالإغلاق ليرحل بعد وصول القطار الآخر.
شابان تم تفريقهما عن بعض بعد إلتحام بينهما غالبا لم يكن سوى بضع لكمات في الصدر من الطرفين إستعدادا لبدء مشاجرة ساخنة,تم سحب أحدهم للعربة وشد الآخر إلى عربة ثانية ولكنه أصر على أن يركب نفس العربة مع غريمه. ركب محمد العربة وهي الأولى في خط العربات المكونة للقطار,وما أن توقف القطار المقابل حتى أغلق القطار الراحل أبوابه عدا باب العربة الذي تم إمساكه -مزيدا من الشهامة- ليتم تكديس أكبر عدد ممكن من اللحوم البشرية الحية وضغطها كيفما أتفق مع العدد الهائل الذي ملأ العربة مسبقا ليغلق الباب أخيرا ويسير الوحش المعدني حاملا أطنانا من الكتل البشرية.
كما المعتاد سار القطار بطيئا للغاية ما بين المحطة الأولى والثانية؛المرج الجديدة والمرج القديمة,وفي المرج القديمة تم تعبئته بالمزيد من البشر الذين عبروا أبواب العربة بمعجزة ما.
[2]
بعد تخطي ثلاث محطات أخرى (عزبة النخل – عين شمس – المطرية) كانت عربات القطار قد حُملت حتى أمتلأت عن آخرها ويكاد يفيض البشر منها. استمر التحميل دون أن يفكر أحد من الركاب في النزول هروبا من الموت خنقا في علبة مغلقة من المعدن. فأخذ الركاب بالتزايد خاصة الآتين من مستشفى الكلب في محطة منشية الصدر,والآتين من مستشفى عين شمس في محطة الدمرداش,وأخيرا الآتين من الموقف الرئيسي في محطة غمرة.
دخل القطار النفقي إلى أول نفق في الخط الأول ومرت الثواني المعتادة للعبور إلى المحطة التالية والتي لم تأتي بعد مرور خمس دقائق. لازال القطار يركض دون أن يتوقف أو تخفت سرعته. مرت نصف ساعة قبل أن يبدأ الناس في التململ ومحمد يتسائل عن كيفية صبرهم لكل هذا الوقت. كانت الإضاءة قد أضيئت فور دخولهم القطار,ولكن لم يصلوا إلى وجهتهم في المحطة التالية بعد. وبدأت التساؤلات تتوالى
-هو إيه اللي معطله ده كله
-أنا عارف,هو كل مرة
-وشوية يقولك هذا القطار آخره السرايا ولا آخره المعادي
-ما هو مافالحين إلا في هذا
بدأ بعض الجلوس من رواد محطة رمسيس بالقيام ليقفوا متجاورين مع من سبقوهم إلى الباب منتظرين وصول القطار إلى وجهته حاسبين أن وصوله قد اقترب. ولكن طال وقوفهم حتى بدأ آخرين بالجلوس. ورجع نصفهم جالسين. والنصف الآخر تحول إلى شرائح متفرقة من البشر أمام أبواب العربة الأربعة. وبدأ مساحات تتسع من الفراغ بين الأجساد المزدحمة وقد تراص الجميع ملتصقين إلى جدران العربة وأمام مقاعدها. وبدا الإمتعاض والضيق والغضب جليا على الوجوه. نظر في ساعته فوجدها قد صارت العاشرة والربع. هاله ما رأى وأدرك أن لهم فترة طويلة في القطار. خمن أن السبب هو تأخير القطار بين محطة وأخرى,فتجاوز أو قارب الساعة من التأخير. وقد شغل باله باستقبال مديره له,خاصة وهو المعروف بكثرة الغيابات والتأخيرات والأذونات. لم تستمر المزيد من ردود الأفعال الغاضبة من الناس في العربة. وشعر أنه وحيدا في صمته وحنقه وأخذ ينظر للساعة كل خمسة دقائق ولم يتصور كيف أنها بلغت الحادية عشر والنصف. رغم أنه يتابع دقاتها وهي تمر دقيقة بدقيقة إلا أنه لازال منصدما مما يحدث. ما زاد فزعه أنه أدرك أن القطار ليس معطلا,بل طوال هذا الوقت هو يسير على القضبان من محطة غمرة إلى محطة الشهداء.
-هو إيه اللي معطله ده كله
-علمي علمك يا خويا
-هو فيه سكة للركن والطوارئ بين غمرة والشهداء؟
-هو أصلا مش عطلان,وما وقفش من ساعة مسيبنا غمرة,بس بطئ جدا
-لقد كان سريعا طيلة المحطات لماذا توقف هنا
-هو لم يتوقف
-إذا تباطئ للغاية
محمد: بطئ إيه ياعم,انت مش حاسس بسرعته
-لا سايبك تحس انت كويس
محمد: يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم
-خلي استفتاحك عسل بعيد عننا
محمد: انت عايز تتخانق يعني
-هتقدر تسد معايا
محمد: تحب تشوف
وقام محمد يشتبك مع الرجل لولا أن حال بينهما مجموعة من الشباب ركبوا ومعا,ومن ضمن من يحاولوا التهدئة الشاب الذي تعارك على الرصيف. هدأ محمد وهو يسخر في سره من حاله وحال الشاب الذي سبقه إلى معركة مع الناظر إليهم من بعيد. انشغل بالنظر إليه فحال الرجل نظراته عنهم بعد أن جلس هادئا.
ظل واقفا ونظر إلى ساعته فرأى أنه قد مرت نصف ساعة أخرى. الآن صارا في منتصف الظهيرة والناس لازالت صابرة مع بعض الاحتكاكات بين الشباب,والتململ من الفتيات,والقراءة من بعض الأربعينيين والطلبة في هواتف أو جرائد أو مجلات أو مذكرات أو كتب,وبكاء أطفال.
قابل جمال وقد فهم جمال التسائل في ذهن محمد
-المحطة الجديدة,نحن وجدناها على التصميم القديم
-تقصد أن هناك شيء خاطئ
-نعم
-ماذا يكون؟
-لا أعلم ولكن ربما ركبنا قطارا له وجهه أخرى
سمع الناس حديثهم فأتفقوا ومعهم وتأكد الأمر لهم. أنهم تقريبا ليسوا في نفس القطار الذي يذهب إلى الشهداء,رغم أن المحطة التالية مكتوبة الشهداء في اللوحة الإعلانية المضيئة التي تعلن عن المحطات القادمة. كذلك فاللمضة الحمراء مضيئة وثابتة على عنوان محطة الشهداء ضمن اللافتة الإلكترونية التي تحمل جميع عناوين محطات الخط الأول. وتومض بالأحمر بدلا من الأصفر على المحطات التي مرت عليها. جميع المحطات بعد الشهداء غير مضاءة بأي لون,لا بالأحمر ولا بالأصفر,مما يعني أن آخر محطة هي الشهداء.
[3]
الساعة الآن الواحدة ظهرا وتكاد كأنها تكون بعد منتصف الليل,ومظاهر متنوعة من الذعر والتخبط.
الناس المذعورة صارت تصرخ وتنادي وتستنجد.
ثم تتطور الأمور أكثر,أحدهم بدأ يحاول أن يفتح الباب المؤدي إلى العربة التالية,وعلى الجهة الأخرى من أول العربة حاول شخص آخر أن يفتح الباب المؤدي إلى قمرة السائق.
وتكاثرت الأدوات لذلك,من المفاتيح إلى الأدوات مع بائع الحاجيات,مرورا بأدوات نسائية خرجت من الحقائب,وصولا إلى قطعة حديدية ظهرت في يد أحدهم.
قاموا بسحب زر الطوارئ الذي يوقف العربة لكنها لم تتوقف,وتحدثوا من خلال جهاز الاتصال المخصص للطوارئ لكن لم يستجب أحد.
محاولات لفتح الأبواب ولم ينجحوا,ثم أخذ الناس يتخبطون ببعضهم يمينا ويسارا,وأعلى وأسفل.
استطاع رجل قوي بمساعدة شخص ما أن يكسرا حاوية أنبوب الإطفاء ويخرجاها ليحاولا كسر باب مقدمة العربة,ثم محاولين كسر زجاج أي باب. تم فتح الباب في أول العربة وكسر النافذة الزجاجية لباب آخر,وتم كسر بعض النوافذ للقطار وفتح نوافذ أخرى. ولكن لم يستطيعوا اختراق الباب إلى العربة الأخرى أو الباب إلى قمرة القيادة. والقطار لم يتوقف,وصارت الخيارات إما أن يقفزوا أو أن يستمروا راكبين مع القطار في مسيرته المظلمة.
###
واستمر القطار يجري في النفق المظلم إلى الأبد,حتى بعد موتهم جميعا لم يتوقف.
###
ومن القبور
.
.
.
.
.
.
.
في القطار