البائع
[1]
نزل ناصر من بيته إلى عمله,وعمله محتوى بالكامل في موقع صغير لا يزيد عن المربع طولا وعرض وربما إرتفاعا داخل صندوق بلاستيكي أو حديدي إسمه محل / كشك.
دخل وجلس على مقعده,استفتح رزقه وانتظر شغله وانقضى صباحه ولم يأتي إليه مشتري واحد. والسجائر تحترق وتتناثر حول كرسيه وسط مساحة ضيقة,حتى تكاد تحرق أصابعه.
-مال حال الكشك مايل كده ليه
حدث نفسه وقد سمع أن بقية الأكشاك المجاورة حالها لا يسر هي الأخرى,وكل هذا على الأرجح بسبب صاحب الكشك الذي أمامه. كشك ذو لون أسود مميز,ظهر كأنه ظهر فجأة,فلم ينتبه له ناصر ولا عرف متى تم وضعه أو إنشاءه هنا. هو الآن غاضب,ولكنه لا يريد أن يفتعل أي مشكلة فهذه ليست منطقته القديمة في شبرا حيث كان يبسط نفوذه على كل الأكشاك الأخرى. بل ويتحكم في عدد الزبائن المقدر لكل محل أو كشك محتفظا بنصيب الأسد لنفسه. ولم يكن بوسع لا البائع ولا المشتري الاعتراض أو مخالفة مشيئته. كان يسمح لمنافسيه بأكل العيش فقط حتى لا ينقلب الوضع عليه ويثور الباعة وربما حتى الجيران المخلصين لهم فتتلطخ هيبته وسط المنطقة كلها. أساليب البلطجة هو يشعر تجاهها بكل أسف وحنين,لا تنفع هنا. وشعر بأنه يحسد أخيه المقيم الآن في السرايا يفعل ما يشاء. بينما هنا الحكومة تملك زمام الأمور,وتحكم بصفتها الحاكم الأساسي فعلا,وتقضي بقبضة من حديد على أي مشاغب قد يظهر ويعكر الأجواء الهادئة للحي الراقي (روكسي). فأخذ ينظر إلى الكشك الأسود بغيظ أكبر. والمشكلة أن هذا تمام الأسبوع ولم يكسب حتى ما يدفع ثمن السجائر التي يحرقها,والمشكلة الأكبر أنه لا يعرف صاحب هذا الكشك ولم يراه حتى الآن. التعامل مع صاحب الكشك يكون أسهل من تدمير أو تحطيم أو المس بضرر للكشك نفسه. وإلا سيجد الشرطة فوق رأسه. أما صاحب الكشك فيمكنه عقد صفقة معه,أو ترهيبه,أو تهديده بالسلاح. أخرج مطواته قرن الغزال,وأخذ يقارن بين الخشب البني لسكينه والمعدن الأسود للكشك الجديد. وشعر أنه عاجز عن فعل أي شيء. فكر أن يتصل بأحد أصدقائه من شبرا أو الشرابية أو الزاوية أو الخصوص أو إمبابة أو المرج. حبايبه في كل حتة. وليس عسيرا عليه أن يجد أحد يقضي له مصلحة مع هذا الكشك وصاحبه. ولكن الحكومة لن تصدق أنه ليس له يد في الموضوع. كما أن أسبوع واحد من شح الزبائن لن يفلسه على كل حال.
[2]
معروف أن سهام هو أول من افتتح محلا للبقالة في المنطقة كلها على امتداد منطقة النجيب وصولا إلى مقهى الزغاوي,ومن منطقة الجامع الكبير إلى الشارع الرئيسي خلف النخيل. وكان الشاب سهام ليكون من أشهر شباب في المنطقة,وكان اسمه ليحترق من فرط تداوله على الألسن بصفته مؤسسا لأول محل بقالة. وهي المحلات التي انقذت الناس من الفقر والجوع من خلال سد جوع البقية بالشكك والدين. أصحاب المحلات هم أنفسهم بنوا على السلف واقترضوا من طوب الأرض كما يقولون كي يفتتحوها. وبات من المعروف أن من يفتتح بقالة على غير عادته أو مهنته بات ليلته أمس بدون عشاء. وهو محتاج لذا يتكئ على البقالة التي يسهل شراء بضائعها -بالشكك أيضا- من محلات الجملة لعلها تقضي معه أي غرض. وانتشر البقالين في كل مكان ونسي صاحب الفضل الأول سهام الذي وجه سهام الكسب إلى كل مكان.
وكانت محلات البقالة تعرف بأسماء أصحابها,والبقالين أغلبهم آباء وأمهات وإخوة,فكانت بقالة أم وليد,وبقالة أم وليد مرة أخرى جارتها,وبقالة أم وليد في آخر الشارع. وهناك الشيخ صابر وأخوه صابر الجتع. ولا يعرف أهالي المنطقة كيف أن أخوان إسمهما صابر. وهناك صاحب المحل الذي كان قد فتحه سهام فاشتراه منه حسام قاطعا لأي فرصه للتطور والتوسع. هناك ذلك الشيخ المنزوي هناك على أول الشارع,وجواره بقال آخر في الناحية الأخرى من نفس البيت ذو الناصيتين,كأنهما أقارب -أو هم كذلك فعلا- ومتخاصمان. صابر أخو صابر له أخ ثالث اسمه صالح ليس بصالح وقد افتتح أيضا محل بقالة. وكانت هناك أم خيرية (الله يرحمها) التي تعد من المؤسسين السبعة؛سهام,حسام,أم وليد,أم خيرية,حسين المحلاوي (الذي كبر بمحل بقالته ليصير صاحب سلسلة محلات المحلاوي الشهيرة في حي السرايا) والسبعاوي وعلي الطيب. هناك أم محمد في آخر شارع آخر. هناك البقلاوي البقال البلطجي على طرف إحدى الشوارع أيضا,وهو مكان جيد بالنسبة له حتى إذا داهمته الشرطة يستطيع الفرار والاختفاء تماما عن المربع السكني كله. ولكنه لا يفكر أو لا يستطيع العبث مع حسام الذي قد يستدعي أخوه ناصر منصور في أي لحظة. وناصر منصور معروف في المنطقة رغم أنه عزل إلى العباسية وافتتح كشكا في روكسي.
تذكر شيء مماثل حدث عند مسجد الإمام الحسين,حيث الجامع الكبير أمام الجامع الكبير. بل سمع البعض عن الكشك أمام محل العصير في المطرية,وأصبح الناس يدخلونه كأن العصائر فيه من الجنة. هناك مسقى آخر في منطقة صحراوية في حلوان,أيضا بات الناس لا تشرب منه,بل من كشك أسود. هناك مزرعة في جمعية عرابي توقفت ثمارها عن النمو وأصابها الإهمال لما بات الناس يشترون وعربيات يتم تحميلها من كشك أسود.
[3]
منذ أن افتتح فادي جراجا خاصا به,قضى تماما على كل الركنيات الرسمية والغير رسمية في المنطقة المحيطة ببيته وصولا للشارع الرئيسي. فلا يقدر أحد على ركن سيارته داخل أي جراج آخر,بالتالي خرب بيوتهم. ولا يستطيع أحدهم أن يركن سيارته أمام بيته,إما لن يجدها في أسوأ الأحوال,أو إطار مثوب / زجاج مكسور في أحسن الأحوال.
كان سيد من أسياد المنطقة المهابين,محتميا ومستندا بسطوة أبيه المعالم محمد الغريب,الذي يعطي لإبنه مساحة حتى يكبر. أصلا هم أصحاب عربات النقل في الموقف الرئيسي وأغلب السائقين الذين يعملون عنده يقطنون في نفس المنطقة. وكذلك سائقي عربات الـ (توك توك) معظمهم يعملون في مصنعه ويقيمون في مسكنه. بالتالي يصعب أن يتنصل أحد العاملين عنده -وكلهم يعملون عنده- من الركنة عند إبن الحاج.
هذا هو جراج فادي الذي تم القضاء عليه تمام ما أن ظهر كشك أسود تدخل السيارة من بابه, بطريقة ما غير مفهومة,ولا تخرج السيارة ولا يخرج صاحبها أو سائقها!.
[4]
تشتهر بعض المناطق الكبرى في القاهرة بأسواقها الشهيرة التي تقام كل يوم محدد من أيام الإسبوع السبعة,ويوفد إليها الناس من كل حدب وصوب .. من كل أركان بنت المعز. يذهبون أنفارا في حشود أو أفرادا. سوق السبت في المنشية وشبرا. سوق الأحد في المنشية أيضا. سوق الإثنين. سوق الثلاثاء في المرج وحي السرايا. سوق الأربعاء. سوق الخميس في المطرية. سوق الجمعة أسفل القلعة في السيدة عائشة والأحياء المجاورة.
الأخير مشهور بسوق الحيوانات التي تباع فيه,مختلف أنواع الحيوانات الأليفة والمستأنسة, كل ما يمكن تربيته قانونيا داخل المسجد تقريبا موجود هناك. عدا الحيوانات التي تحتاج تربيتها تصريحا خاصا بصفتك متخصصا؛مثل الأسود وعائلتها وبقية الضواري,ومثل الحيوانات العملاقة كالنعامة والزرافة وغيرها.
أو سوق الثلاثاء في المرج,وبالقرب منه سوق الخردة,حيث عرفت هذه المنطقة بـ سوق الروبابيكيا,وهناك أسواق كثيرة للخردة والروبابيكيا في المناطق العشوائية حيث المساكن الفقيرة. إلا أن هذا السوق الواقع في حي السرايا يعد من أضخمهم بين كل أسواق الخردة في القاهرة. أضخم حتى من الواقع داخل منطقة الشرفاء في حي المرج القديمة. حيث افتتح مخزن جديد لصاحبه عبد العاطي,الذي أعطاه الله مالا كثيرا استغنى به عن مخزنه الكبير,وسافر إلى بلده في الصعيد غير معلوم متى عودته. ولم يترك خلفه إبنا ولا قريبا ولا حتى (واحد بلدياته) ليتولى مسؤولية وحراسة مخزنه وتجارته. فاستولى الجيران والزملاء في المهنة على بضاعته. وذات يوم وجد كشك أسود جوار الباب الحديدي القديم الذي أكله الصدأ ودفن نصفه في التراب. لأنه كان بيتا من أقدم البيوت في الشارع قبل أن يشتريه عبد العاطي.
سوق الثلاثاء في حر الصيف وقيظ النهار وجحيم الزحام وحشود الذباب,والمزيج الغريب المنفر والجذاب لاختلاط الأطعمة مع الروائح والألوان مع ملمس الأقمشة والأخشاب المعروضة. واندماج الصور القبيحة والحقيرة مثل معاكسة البنات والتحرش بهم لفظيا أو جسديا أو بالنظر,وشجارات الباعة التي يتخللها بعض الشجارات بين رواد السوق أو بين السائقين,أو بين قطة وكلب. والسوق عبارة عن متاهة من الممرات المقامة في الحارات الجانبية,أو المبنية مؤقتا من الحوانيت والفرش والعربات. السوق مزدحم جدا,والذباب في كل مكان,يختلط عن الأفواه مع صيحات الباعة وضوضاء العربات.
هناك فرش جديد ظهر في قلب السوق,لا يعرف حسن متى صار موجودا,ومن صاحبه,ومن سمح بوجوده هنا؟. الحانوت عبارة عن صندوق كبير من عدة ألواح خشبية موصولة إلى بعضها ومثبتة في الأرض مثل الأوتاد.
[5]
حي الزبالين واحد من الأحياء الكبرى الأساسية المكونة لحي السرايا (الزبالين / المروج / الجمعية / السرايا) وهو من أكثرهم فقرا وبالتالي أكثرهم إنتاجا للمجرمين والمناخ الغير آمن.
كل زبال يحتل مساحة معينة من الشوارع أو الخرائب يبسط فيها نفوذه,وهناك من يكتفي بنصب كيس قماشي كبير (شوال / جونية) إلى جوار أريكة وفرش على الأرض للنوم أو على عربة جرّ. يقبع جوارها ليلا ونهارا فتصير مسكنه ومشغله,ولا يحق لأحد غيره الانتفاع مما يلقى في هذا المقلب من زبالة / قمامة. سواء كان طعاما أو مالا أو خردوات أو حطب لإشعال النار في الشتاء,أو ثياب يغير بها الأثمال على بدنه,أو بضعة أحجار لعمل تبليط أو بناء.
[6]
القاهرة مملكة الألف مأذنة,ولازالت القلعة قائمة إلى اليوم تشهد على ازدهار العصور الإسلامية في الأزمان الغابرة. والمساجد الكبرى تدلي بشهادتها هي الأخرى؛الأكبر الأزهر والرفاعي والحاكم بأمر الله ومسجد ابن طولون وبجواره مقام السيدة زينب,وفي أماكن أخرى توزعت بقية المقامات؛السيدة عائشة,السيدة نفيسة,الحسين.
وفي الحسين ذهب حسين ليقضي الفريضة المكتوبة عليها وعلى بقية المسلمين المخلصين لدينهم,وجميع أفراد أسرته يتراوحون في الإيمان بين الورعين في أعلاهم والمتدينين أوسطهم والملتزمين في أدناهم.
رأى الشيخ سعيد ذو الوجه المشع نورا وشعر أن صباحه أتى قبيل الصباح والفجر لازال في وقت أذانه. تبع حسين الشيخ إلى الصلاة,وسار الأخير إلى جوار مسجد الحسين الكبير,وكان حسين منتشيا باللحظة,تبرق في مشيته تجليات المكان والزمان والأذان والحالة. يستمتع بطرقات نعله فوق أحجار شارع المشهد الحسيني حيث يقع مسجد الحسين,وهو الشارع الموازي لشارع حسن العدوي في الناحية الأخرى من المسجد. المسجد طويل وشعر أن المسيرة طويلة,وخمن أن الشيخ سعيد سيدخل من الباب الأخير,ولكنه انعطف يسارا بدلا من أن يدلف يمينا. وتبعه ليرى حسين سعيد يدخل فيما يشبه كشك حجري ذو باب واحد. مبني كأنه زاوية صغيرة جدا في ركن الشارع أمام المقهى. في زاوية ضيقة جدا لا تعطي مساحة داخله للصلاة سوى لرجل وصغيره جواره أو خلفه.
[7]
حي العتبة واقع في وسط البلد,يتوسطه ميدان العتبة,ويقع ميدان الأوبرا في منطقة الأوبرا -حيث كانت الأوبرا القديمة- إحدى مناطق العتبة,والواقعة بين العتبة وطلعت حرب,يتوسط الميدان حديقة الميدان,العامة والمفتوحة والاستراحة والمتاحة للزوار والسائرين. تعد استراحة مريحة لأي زائر أو مار بطريقه متشمما لعبق وسط البلد وصولا إلى التحرير وجمال ميدان التحرير. يتوسط الحديقة نصب تذكاري رخامي يتوسطه ويعلوه تمثال إبراهيم باشا ممتطيا حصانه. وأسفل التمثال حيث العشب الأخضر والمكان الهادئ وتنوع في الناس؛ رجل يتنزه مع عائلته,شاب يغازل معشوقته,صديق يسامر صديقه,آخر يتمشى وحيدا,طفل يلعب أمام أمه,مجموعة من الأفارقة السود المغتربين عن أوطانهم من السودان أو جنوب أفريقيا,رجل يستريح قليلا بعد يوم من العمل الشاق قبيل العودة لمنزله,مجموعة من الفتيات الصغيرات الجميلات,رجل يعيد عقد رباط حذاءه,رجل يبدوا مهم جالس يتحدث بأريحية مع رجل يبدوا أكثر أهمية.
تحول النصب إلى كشك,أو ارتفع فوق كشك,أو احيط بكشك,رخامي جميل ومصمم بعناية, وفيه بعض القطع المعدنية لغلق بابه ونافذته. ومذاك والحدائق أفلست من زوارها وأرباحها تباعا لخلو الزائرين. الجميع بات يذهب إلى الكشك. الناس تشاهد الناس وهي تدخل ولا تخرج!.
يشبه الأمر ما حدث سابقا حين ظهرت استراحة أخرى عند كشك شاي غريب جاور الكشك الرسمي في منطق العمل,وساوم على (حق الجلوس) للعمال!.
وفي الحديثة أناس كثيرين,طوال اليوم,في النهار أو في المساء.
غير أن وسط البلد,هو مكان رائع لقضاء رحلة إلى مكان ليس مكان فعلي موجود بالواقع,بل إلى مكان خيالي من خلال مشاهدة فيلم سينمائي. ويشتهر شارع عماد الدين بقاعات السينما فيه,كثرتها ورونقها وشعبيتها. وعلى الرصيف في الشارع,يذهب محمود ومحيي وصاحبتهم ميّ إلى هذا الكشك. حيث يتلقون هناك عروضا رائعة,لحظية أو طويلة الوقت,تغرمهم معظم أموالهم أو كلها. حتى يفلسون ولا يتبقى لديهم سوى التمشية على النيل. وبالصدفة عرفت منى عن الأمر واستدعت صديقاتها,بينما دعت مي بقية صديقاتها إلى الكشك. انتشر الأمر كالنار في الهشيم وسط مجتمع من السيدات الصغيرات. الآنسات الجميلات. المدللات الثرثارات اللاتي تعرفن المزيد من الصديقات,وهكذا توسع المجتمع أكثر. وحيث تذهب المرأة يتبعها الرجل.
[8]
هناك عدد من الشواطئ الداخلية الغير بحرية داخل القاهرة,والتي يذهب إليها الزائرين والمتنزهين والمصيفين كنوع من التفريعات وربما البديل,وأحيانا إضافي عن أو على المصيف السنوي. عين حلوان الكبريتية (الكابريتاج) المندثر والذي عرف لسنوات طويلة باعتباره مصيف الغلابة.
أكان هذا حمام عمومي؟ ولكن كيف؟ هل يطبق المقولة الشهيرة؟
-دخول الحمام ليس مثل خروجه؟
وهذا كل من يدخله لا يخرج. أحضر مقعدا,وجلس هناك على الشرفة يتابع ما يحدث. تابع الناس بأشكال مختلفة يدخلون ويخرجون. ويطير الحمام.
لم يكن يعرف أن هناك كل هذا القدر من المصايف داخل مدينته العزيزة على قلبه. خاص مصايف عديدة على شواطئ البحرين المصريين؛الأبيض المتوسط مثل الأسكندرية وجمصة ورأس البر وأجمل شواطئ هذا البحر في مرسى مطروح. والبحر الأحمر حيث الجمال الصافي بعيدا عن تلك المياه القذرة في جمصة,كل شواطئ البحر الأحمر جميلة عدا فايت مثلها مثل جمصة وإسكندرية. إسكندرية جميلة,ولكن بحرها ليس بجمال الأزرق في العين السخنة والإسماعيلية والقناة ودهب عند سينا حيث شرم الشيخ والغردقة ورأس البر وأجزاء من الساحل الشمالي.
اهتم كثيرا بالبحر,ولم يكن له فسحة غيره,المصيف هو أفضل خروجة. خروج من كل متاعب الحياة في نزهة تستمر لإسبوع كأنه شهر عسل. وهذا الإسبوع انقطع عنه لمدة ثلاث سنوات متواصلة,لا أجازة أطول من هذا الإسبوع. وقد ادخر أجازاته كلها لهذا اليوم. ولكنه لم يكن قط من مسافري اليوم الواحد إلى المصايف. عرف أنه يوجد بالقرب منه شواطئ تصنف على أنها (مصايف الغلابة). في القنطرة والإسماعيلية وربما هناك بحيرة وسخة في القليوبية. وهناك أيضا بحيرة قارون الجميلة في الفيوم. ثم سمع أن هناك بحيرات أقرب إليه من ذلك.
عين حلوان,سمع عنها الكثير,وذهب إليها,وصدم لما رآها,راعه أن الأرض كانت تربة بلا ماء وقد جف الماء.
ولكن استقر قراره في الأخير بأن لا يخرج,ليس من القاهرة حيث كان متاح له
بل ألا يخرج من حدود السرايا أصلا!.
كانت هناك بركة.
[9]
أغضب افتتاح كشك العصير الجديد,عائلة الفيومي,صاحبة سلسلة محلات الفيومي الأشهر في حي السرايا كله. وحسبوه ملك لعائلة السوهاجي لولا أن كبير السوهاجية نفى الأمر ولكن لم ينكر أحقيته حسبما يرى بأن يفتتح محل للعصير في أي مكان يريده,بغض النظر عن العائلة التي تبسط نفوذها على المنطقة الفلانية أو العلانية. أي أن مراكز القوة في التجارة لا يعترف بها,بل التجارة شطارة,ولا يهم أن عائلة كذا تبسط نفوذها وبالتالي تجارتها في مكان ما. فهو لا يعترف بالقاعدة الرباعية القائلة أن أي أرض أو عقار ملك لأربعة
-الحكومة
-المالك
-العرب (أو أي يكن من يأخذها (وضع يد / أي بالقوة))
-كبار المنطقة
نظر الشيخ العجوز لمحمد,أكبر أبناء الفيومي,وقال
-الواد ضحك علينا إحنا الإتنين,وفتح كشك صغير على قده
-ومين قال إنه هيعدي منها,ده هيكون آخر يوم في عمره
قالها محمود أصغر أبناء الفيومي ممسكا بخنجره متعجلا على الذبح,فالعائلتين,الفيومي والسوهاجي معروفين بأشهر عصير يصنعوه ويتاجرون به,وهو الدماء.
[10]
في وسط ميدان التحرير اشتبه الضابط في أمر ما يجري دون علمه,ويجب عليه أن لا يكون غافلا عن شيء حتى وإن كان عادي أو سلمي ولا خطر منه. هناك استراحة جديدة يأتي إليها الناس لعمل شيء واحد. وهو الإنتظار,وطلب الراحة. ومهمته منع التجمعات,خاصة في ظل التقلبات الغير آمنة لأوضاع البلد الأمنية الناتجة عن فوضى في الأوضاع المعيشية دون أي اعتبار للظروف القهرية التي تمر بها الأمة. ولكنه لا يريد أن يكون هو السبب في حدوث أي فوضى داخل تلك المساحة الصغيرة المكلف بحراستها. لذا قرر أن لا يفعل شيء تقريبا. فقط يقف منتظرا ويراقب.
رجل آخر في مكان آخر واقف .. للآن,لم يعرف بعد,ما وظيفة هذه الآلة؟. رجح في البداية أنها صرّاف آلي. ليومنا هذا لم ينجح في الحصول على راتبه منها. كل مرة يأتي هنا ويقف أمامها يجدها إما معطلة أو لا نقود فيها,أو مزدحمة لأقصى درجة. وهي مزدحمة طوال أيام الشهر,حتى لو كانت معطلة أو ليس فيها نقود. الآن أصبحت قطعة الحديد,هي قطعة معدنية كبيرة تغيرت قليلا. أصبحت معدن أصم بلا أي منافذ لخروج المال أو دخول البطاقات. ومع ذلك,يرى أن هناك من يقف أمامها بين حين وآخر. الآن هو يشاهد ذلك الرجل الذي ترجل من سيارته للتو. وقف أمام الماكينة. ضغط على شيء. وصرف شيئا من المال على ما يبدوا خرج منه. إلتفت ثم نظر فلم يجد الرجل. ولم يجد أي أحد. كان يعرف أن هذا الطراز من آلة البيع الذاتي Vending Machine لم يدخل مصر بعد. لذا بدا متعجبا جدا من غياب الرجل في الداخل.
[11]
لم تقضي ظاهرة الأكشاك المنتشرة على الأسواق فقط,بل غزت جميع أشكال التجارة الجماعية من كنيسة ومعبد وجامع ومتحف ومتاجر التحف والأنتيكات والتذكارات وخلافه. الأكشاك ظاهرة سوف تتنامى كثيرا هذه الأيام في البلاد.
هناك عدد من الإختفاءات داخل وخارج الحزب
حديقة الحيوانات تلك أغلقوها
زاوية المرج
سجن
عربة وبائع متجول
شاطئ
محطة
موقف
قسم شرطة
مخفر
مستشفى
مركز
مطعم
مكتب
مكتبة
نادي
ملعب
غرفة داخل المنزل
مشغل
مصنع
-سوق العبور
-قليوب
-الحسين
-العتبة
-الشرابية
-السبتية
-الفجالة
-الأزبكية
-الزاوية الحمرا
-السرايا / شارع الرويني
-وسط البلد
-محطة مصر
داخل المقبرة
مقام
التربي
الحانوتي
أكثر ما تتمتع به المقابر من صفات طيبة,هي الهدوء والسكينة,عدا بالطبع وقت تشييع ميت جديد إلى بيته الثاني. بيت الميت الثاني. إلا أنه بالنسبة له يظل بيته الأول والأخير. فهو مولود هنا,ومدفون هنا أيضا. ودفنه حيا سبق دفنه ميتا,فهو لا يرى خارج مقبرته إلا في المواسم. والمواسم لا تأتيه مع الأموات,فكل ميت جديد يتولى رعايته وتجهيزه للدار الآخرة زملاءه الحانوتية,بينما يخشاه الناس ويخافون على أحيائهم وأمواتهم منه.
اسمه الحاج محروس خارجي الحانوتي,لا يعرف أصله,ولا منشأة,ولا أين ولد,ولا من أين أتى. لا أب ولا جد. لا زوجة ولا ولد. وخارجي هو إسم الحانوتي السابق الذي كان يرعاه منذ قابله لأول مرة وهو في الثالثة عشر من عمره. لذا نسب إليه بما أن خارجي تبناه وهو أيضا كان مقطوع من شجرة. محروس هو الغفير الحالي والحانوتي لمقابر السرايا.
الأحياء
تلفت الفتى الصغير ذو العشرة أعوام إلى نعش أمه فاحترق نصف وجهه,ليس احتراقا عاديا, فلم تمسسه نار من أي نوع. وانما تكرمش جلده وتبعج وتجعد وتلوى وتمزق فيما يظهر للناظر كأنه آثار احتراق. وكل هذا حدث في لحظة واحدة,هي التي استغرقها ليخطف نظرة إلى نعش أمه,نظره أفلته لم أخرج رأسه من صدر خالته,التي احتضنته بين ضلوعه وألصقته بها تحت وشاحهها حتى لا ينظر إلى أمه كأنها تتوقع لعنتها تلك. ومع إفلاته منها أفلتت منها صرخة أيضا وازداد تطويقها للولد وقد غطته تماما وهربت وهي تصرخ متشبثة بقوة بغلامها حتى لا يضيع منها في نار أمه التي تقاد إليها. لم ينتبه الناس وهم يحملون النعش إلى ما حدث,وقد نجحت الخالة في التستر جيدا على الأمر.
***
الولد هو أعز ما يملك أي إنسان .وجعلنا المال والبنون زينة الحياة الدنيا. وقد كان ولدها هو زينتها ومالها وعزوتها وعزتها. كانت تحبه صدقا. وشعرت لما مات ولدها ذو الأعوام السبعة,أن الدنيا لا تساوي عندها جناح بعوضة. وهو آخر من كان لها وقد صارت مقطوعة من شجرة. تمسكت بالجثة,وبالكفن,وبالنعش,وبالقبر. تلطم وتبكي وتصرخ وتولول وتخمش وتنتحب وتمزق ثوبها الأسود. تريد أن تدفن معه,فلا سبب يدعوها للبقاء حية. ولما بدأ الناس يهيلوا عليها التراب بالفعل. ركضت غير مصدقة شبه عارية مبتعدة عن المقابر وعن الجنازة وعن الجميع. حتى أنها لم تحضر عزاء إبنها الغالي في الليل.
***
أتى سيادة الـ ومعه حملة صغيرة مكونة من الأمين سيد والأمين محمد,يشرف عليهما العميد محمود سرور وضابط صغير,لمداهمة مقابر السرايا والتحقيق مع أحد الأموات في قضية أحد الأحياء. إبتزاز مع مسؤول كبير,وبما أنه لا يجرؤ أحد فوق الأرض على استفزازه,يبقى الإحتمال الآخر أنه أحد من الساكنين تحت الأرض.
متدثرا بالتراب ومتوسدا الحجارة,امتدت يد غليظة وتحسست ثقوبه تبحث عن أي شبهات فلم تجد إلا حفنات من الدود والتراب والعفن,وكف حكومي صفعه على صدغه العظمي أيقظه من نومه الهانئ.
فتح عينه ليبصر في ظلام الليل وجوه كالحة,ومسودة أكثر من سواد السماء المخيمة فوق رؤوسهم
-من أنتم؟
ركلة بين الساقين لم تفقأ أي شيء,لأنه لم يوجد أي شيء
-قوم كلم الباشا ياضا
أشار له الباشا الذي لا إسم له بيده
-ارفع رأسك
نفذ الأمر واعتدل في جلسته
سأله ضابط آخر
-أنت المدعو محمد محمد عبد القادر محمد محمد
-نعم سيدي .. هذا أنا
-واشمعنا عبد القادر,إيه اللي جابه معاكم
-ماذا تعمل؟
-كنت أعمل أنا الآن ميت
-تقصد عاطل عن العمل
-ما تراه سعادتك
-ماذا كنت تعمل؟
-سباك
-هل تعرف عاطف شعبان
-نعم سيدي
-ما علاقتك به
-زميل في المهنة
-سباك؟
-لا كهربائي
-إذن كيف يكون زميلك في المهنة
-في المهنة وليس في نفس الحرفة .. كنا دوما نعمل معا والمصلحة واحدة
-هل تعرف مجدي عبد المنعم
-نعم أعرفه
-ما علاقتك به
-كان هو من يأتي إلينا بالعمل أنا وعاطف
-هل لك أي علاقة بسيادة المستشار
-هل تقصد سيادة المشتشار
-نعم
-نعم
-نعم .. يبدوا أن الموتى غير ثرثارين,صف علاقتك به
-مجدي أتى لنا بعمل في شقته
-أها,وهناك عشرة دقائق تركتم لوحدكم بالشقة,صحيح؟
-لا أتذكر
-لا تتذاكى .. وقد عثرتم على أوراق لقضايا مهمة .. صحيح؟
-لا والله أبدا يا باشا
-قالوا للحرامي احلف
-أين الأوراق
-والله لا أعرف
-أنت مصر على المراوغى
-طيب أنا هستفيد إيه؟
-هتستفيد من الضغط على أجهزة الدولة والتآمر عليها
-يا نهار أسود
-أو أقله تبيعها لمن يدفع أكثر
-وماذا سأفعل بالمال؟
-تفعل كثير
-إزاي؟ أنا مش هستفيد حاجة
-وضح أكثر
-أنا ميت سعادتك!
-وأين المشكلة؟
***
-هنعمل إيه دلوقت
-هتدفنوني معاها
-إيه اللي بتقوله ده يا علي,يا جدع وحد ربنا
-أريد أن أدفن معها
-يا جدع بنقولك وحد الله
-بقول لكم إيه متحاولوش هي طلبت في دماغي خلاص
وتركوه الناس,ورجمه البعض بالتراب,فتضايق آخرين وتدخلوا بأنه لا يصلح رجمه ودفنه تحت التراب. بل نغلق الباب فورا.
المقابر
هذه مجموعة من أغرب المشاهدات التي مرت بي أثناء زيارة المقابر,ولكنها زيارات غير تقليدية بالنسبة للناس العادية. حيث أنها ليست زيارة لميت قد مات ودُفن بالفعل. بل إنها زيارة الموتى أثناء تشييع ميت مات حديثا,ولم يُدفن بعد. وكان هذا أغرب دفن مر عليه في حياته كلها,وهو يسير بين المشيعين الذين يتنافسون على من يحمل النعش. صندوق خشبي ثقل على أكتافهم,حتى قصم بثقله ظهورهم. وقلت رغبة المندفعين في الأخذ عن بعضهم بالقول
-آجرني .. آجرني
وبدأ التدافع يقل تدريجيا وينسحب إلى الخلف في نوع من الفكاهة المعذبة,والظاهر أن صاحب التابوت أذنب كثيرا في حياته,وهو يتعذب الآن في مماته,ويعذب من حوله. والتابوت يترنح بحامليه يمنة ويسارا وكاد يسقط من عند الزاوية أكثر من مرة. عند الرجل الذي يمسك ذراع التابوت من الخلف,رغم أنه يبدوا هو الوحيد الصامد بينما الجميع يفرون من حول النعش. يوشك النعش أن يسحقه أسفله لو تركه القوم يسقط تحته. لولا خشية من العيب وكلام الناس (التي سلتهم وجوههم بشكل شبه حرفي) إذا ما حدث وسقط الرجل الذي مات.
في واقعة أخرى,ما أن دفن الميت,حتى اندلعت رائحة قبيحة جدا,نفر عنها القوم,ولكني اخترت أن أحكي عن موت واحد,وعن ميت واحد. هو الذي أشيعه في ذاكرتي الآن لأغلق عليه قصته بشكل نهائي. ولكن لا وجود في الحياة كلها (أو هكذا تصورت أنا حينذاك) لرائحة أبشع من تلك التي فتحها علينا باب القبر. رائحة قذرة كأن القبر يصرخ علينا جميعا بأن هذا هو بيت الدود,بيت التراب,بيت الموتى بكل الإحالات الذهنية إلى الجثث والعفن والتفسخ والروائح النتنة. هذا هو الجحيم الذي اندلع عليهم في الخارج,فما بالك وما يقبع بالداخل. من سيدخل؟. والرائحة ينفر منها المقبور قبل الذي سيقبره. فما بالك بالحانوتي المسكين يقدم قدم ويؤخر قدم. وفي النهاية استسلم لحظة التعاس وقام بأداء عمله دون أن يتطوع أحد لمساعدته,وهو أمر غير معتاد في مثل هذه الأمور. ولكن للرائحة كانت الكلمة العليا. هل هذه هي رائحة الموت؟ لا يعرف.
عشماوي
-القاتل الشرعي”، عشماوي الذي قضي للبعض أن يحصي أنفاسه داخل كفتي يديه القاسيتين
-أنا بفرح لما بنفذ حالة اعدام، عشان بروح لعيالي بفلوس وفاكهة”، هكذا بدأ “الجلاد” حسين العشماوي حديثه.
-قال حسين قرني الشهير بـ”عشماوي”، إن وظيفته بالداخلية تسمى “جلاد” وأنه فخور بعمله رغم نظرات الناس التي تحمل خوفًا منه وتشائمًا من وظيفته، إلا انه يشعر بالرضا تجاه عمله، مضيفاً “أن مهنة الإعدام زودتني ايمان وثقة بالله.. لأن الاعدام حاجة بسيطة بجانب حساب ربنا يوم القيامة”.
-وتابع في حواره مع مصراوي، “لما بتعدي فترة طويلة من غير تنفيذ أحكام إعدام، بروح اخبط على الطبلية ” في غرفة الاعدام وبقولها الحال واقف”، ويوضح “أنا لما بنفذ حكم اعدام باخد على الراس 100 جنيه، وببقى مروح لعيالي مبسوط، وبشتري ليهم فاكهة ولحمة”.
-عزت حنفي قالي “خلّص بسرعة”
-أما عن حقيقة هروب عزت حنفي الشهير بـ”إمبراطور النخيلة”، قال حسين عشماوي، “أنا اعدمت عزت حنفي اللي كان متهم في قضية جزيرة النخيلة بأسيوط، هو وأخوه “حمدان” بإيدي، عزت كان متماسك زي الأسد، عشان مينفعش يبقى خايف قدام الموت لأنه كان عامل نفسه زعيم في بلده، وإعدامه فكرني بصدام حسين لما اتعدم كان ثابت وهو بيموت”.
-وأوضح عشماوي أن “عزت حنفي كان بيهزر داخل غرفة الاعدام، وقال اسمه رباعي رغم
-أن الموقف مهول وأي حد بيقف على الطبلية “بيهزي بأي كلام”، الإ أن عزت كان قوي جدًا، وقالي “متعذبنيش.. خلص بسرعة.. عايزها قلبة وقومة”، مشيرًا الى أن الداخلية عينت علي قبره حراسة لمدة شهر لعدم سرقة جثته والتمثيل بها من قبل اعدائه.
-سيجارة و”عضة” وسيدة جميلة.. مواقف لا أنساها
-وتذكر الجلاد أغرب المواقف التي تعرض لها خلال عمله بغرفة الإعدام، أنه “أثناء تنفيذ حكم الإعدام بشأن أحد الأشخاص.. قال لي وهو على حبل المشنقة..”أنا عايز أولع سيجارة” فقام اللواء عمر الفرماوي – مساعد وزير الداخلية الأسبق، وكان حينها رئيس لجنة المشرفة على تنفيذ الحكم ـ بوقف تنفيذ الحكم وأعطى له سيجارة حتى انتهى من تدخينها وقمت بتفيذ الحكم، وحسيت قد ايه الدنيا غالية.. ولو الانسان عاش 200 سنة هيطمع في دقيقة زيادة”.
-كما يتذكر عشماوي حكاية سيدة جميلة قتلت زوجها ونفذ فيها حكم الاعدام، قائلًا “كانت جميلة جدًا.. بس كان لازم انفذ فيها.. ورئيس اللجنة كان بيهزر معايا ويقولي: مش حرام دي في الاعدام؟!.. فرديت عليه وقلتله هات اللي في البيت وبدل.. فضكحت السيدة رغم أنها كان طالعة على الطبلية ومازالت اتذكر ابتسامتها حتى الآن”.
-وأضاف عشماوي، “أنا اتشتمت كتير من الناس قبل ما اعدمهم، ومكنتش بزعل منهم لأني مقدر ظروفهم.. لكن في واقعة كانت مختلفة.. وهي قضية أولاد علام وكانوا 6 أشخاص وشتموني وشتموا اللجنة اللي واقفة.. وسبوا الرئيس ووزراء كتير.. وكان نفسي اضربه بس اللجنة منعتني”.
-الستات عايزين حبل “نواعم” ولازم يتعاملوا برقة
-التصفية الجسدية أفضل للإخوان من حبل المشنقة
-وعن عناصر جماعة الإخوان المحبوسين والذين صدر ضد بعضهم أحكام إعدام، قال عشماوي: “أنا لا أحب الشماتة وطبيعة عملي لا تسمح لي بذلك، لكن الإخوان ناس الدم عندها من أسهل ما يمكن، لكني أرى أن التصفية الجسدية لهم أفضل من الاعدام، وأول من بدأ بهذا الاسلوب معهم هو جمال عبد الناصر، حيث كان يعيشون أيام حبسهم على وجبة من العيش والملح والمياه، مما يجعل قواهم تخور.. واللي داخل فيهم عنتر بن شداد بيخرج ضعيف زي السلك وينتهي بالوقت”.
-اعدمت جيراني.. ومشيت في جنازتهم
-بناتي قالولي .. “وقفت حالنا”
-فريد شوقي طلع عيني.. وعورت رقبة “يسرا”
-وعن علاقته بالفن قال :”محدش ملى عيني في تمثيل حكم الاعدام خاصة المنفذ.. لأنه مبيعرفش الدور بشكل حقيقي.. وأنا اعدمت فريد شوقي ويسرا وفيفي عبده وهاني سلامة وروبي”، مضيفاً “أصعب مشهد إعدام بالنسبة لي كان مع الفنان فريد شوقي، وذلك لمقاومته .. فريد كانت بيتسلبط”.
-وأضاف “الفنانة يسرا طلبت مني أن أقوم بتصوير المشهد بشكل طبيعي وفعلًا نسيت الكاميرا وانسجمت في الموضوع، مما تسبب في ظهور خدوش على رقبة يسرا بسبب تأدية المشهد بشكل فعلي”.
-وعن الفنانة روبي في مسلسل سجن النساء، قال :” عندما قمت بتمثيل إعدامها أول ما حطيت الحبل على رقبتها والغطاء الأسود، أغمى عليها رغم أنه تمثيل”.
الجزار
[1]
قام سيد حنفي الجزّار بتقطيع رجل مسكين تشاجر معه,سحب يديه على النطع ذو الأرجل الثلاثة,وقام محمد أكبر أبناء سيد حنفي بقطع اليدين. ضربة واحدة بالساطور أنهت المسألة. ترك الرجل دماءه تتطاير تعمي عينيه,وصرخات الناس حوله تصم أذنيه,صرخات وصيحات متوسلة للعفو عنه. ولكن لم يشفع له بكاء الناس ولا بكاء زوجته وهي تحتضن إبنه المذهول خائفة أن يختطف من يديه,نادمة على ذلك الشجار الذي افتعلته في السوق ليسحب قدميها وزوجها إلى منطقة الجزارين. زوجها الذي يزحف نحوها,لم تكن تعرف سيد حنفي ولو عرفته لترجته أن يرحم عائلتها الصغيرة. منطقة الجزائرين شديدة البأس لا تقربها حتى أفراد الشرطة. وعائلة سيد حنفي تبسط هيمنتها على السوق كله. تعرف أن الرجل لن يرحمها وإبنها لو تدخلت. كما أن الأيادي كثيرة تمسك حتى لا تولول أو تصرخ. قد يقطع لسانها إذا فعلت. مثلما قطع يدي زوجها المحروس محروسا,والذي لا حارس له اليوم. ومثلما يقطع ساقيه الآن تاركا إياه بدون أطراف. ثم سمح للزوجة أن تلملم زوجها أو ما تبقى منه في عربة (توك توك) لأقرب مستشفى تحمل أطرافه معها في كيس لربما يمكن تخييط شيئا إلى الجسد مرة أخرى.
في المسلخ كما يتضح من الإسم كان السلخ,رجل غريب تم سلخه بدءا بأطرافه,كشط الجلد عن ذراعيه وساقيه,لكنه مات قبل الوصول لعنقه.
—-
عائلة الشوادفي قاسية,وعائلة الحنيفية ربما أقسى,لكنهما لن تكونا أكثر قسوة من القاتل الذي حل على حي السرايا؛وجدوا الضحية الأولى رجلا مقطع الأوصال فقالوا أنها جريمة بشعة. والرجل التالي كان مثبت بمائة مسمار طويل يخترق جسده على باب أحد البيوت. فقالوا أنها جريمة بشعة مثل سابقتها. الرجل الثالث وجدوا جثته وقد احترق حيا. فقالوا أنها أبشع من سابقتها. الرابع وجدوا جثته محترقة من الداخل,فقد ملأ القاتل فيه بالوقود حتى بدأ يتقيأ من فمه وأنفه وعينه وطعنه بحديد محمي بالنار في بطنه فأنفجرت النيران من داخله. قالوا أن تلك هي الأبشع. وتوالت ثلاث جرائم أخرى أشد وطأة من الأربعة. ثم أتت السابعة لتفجع الجميع ببشاعة غير معهودة لدى البشر.
—-
عائلة الدوابشة تعد من أكثر العائلات إرعابا في حي السرايا,مع عائلات أخرى قوية مثل الشوادفي,والعجل,وعائلة سيد حنفي,والمحرورقي.
العائلة الأخيرة تستخدم دوما الحرق في مشاجراتها ومعاركها,متفاخرة بإسمها,رغم أن لديها إمكانية لتسليح رجالها في أي لحظة,إلا أن أفضل الأسلحة بالنسبة لهم هي التي تشمل المواد الحمضية (مية النار) والمفرقعات (الشماريخ) وقنابل الجازولين (المولوتوف).
الحرق,طريقة للموت أو الأذى تثير الرهبة لدى أعدائهم,والحرق عند المحرورقي ليس إستراتيجية دفاع,بل هي فلسفة حياة. فوسيلة العقاب المفضلة لدى الآباء هي حرق الأبناء. ليس حرقا حتى الموت بالطبع,ولكن الحاج عابد المحرورقي تمكن ذات مرة من إيهام إبنه وإقناع إخوته أنه سيحرق ولده بالفعل ويشوي فلذة كبدة. أتى بالطشت وصب فوق رأسه وقودا بدلا من الماء. واختلطت المادة ذات الرائحة النفاذة بدموع الطفل الباكي ذو التسعة سنين. لا يعرف هي يمكن أن تعمي عينيه أم لا. لكنه مرّ من التجربة على خير جسديا,ولكن بقدر كبير من الشروخ والكسور نفسيا. آخرين لم يحتفظوا بعينهم,حيث تم سمل عين عيد وطمس نوره,أو نصف نور تحديدا بواسطة سيخ محمي بالنار كان يد أبوه هي الممسكة إياه. الأمهات لا تعترض كثيرا,وهي رقيقة لا تقوم إلا بإستخدام الشمع المذاب أو تطفئ السجائر في أماكن حساسة من جسم الفتى. أكثر من يستخدم تلك الطريقة هي أم نور,وزوجها قام بسلخ إبنه بأن سكب عليه وعاء الماء الساخن في موجة غضب. سياستهم إما أن تحرق خصمك يا ولد,أو أحرققك أنا.
—-
وسط الزخم الكبير من الرذيلة والجريمة والبشاعة في حي السرايا,تصبح المنافسة صعبة بين كبرى العائلات,لولا أن سيد حنفي تسيد على الجزارين,والجزارين قوم شداد يصعب التعامل معهم في حرب أو سلم,وهم كما تقتضي عليهم مهنتهم قطّاع رقاب. وأغلبهم نحر عنق آدمي بالفعل قبل امتهانه ذبيح الخراف والعجول. كل هذه يعطي فكرة لأي أحد عن قوة سيد حنفي وشدته.
[2]
معركة كبيرة دارت بين عائلة سيد حنفي,وعائلة سيد الطحان. وهنا يجب العلم أن كل من يحمل إسم سيد في عائلته,أي أن الإسم سيد,هو إسم العائلة أو كبير العائلة,هم قوم لا يستهان بهم. الأسياد هم سادة السرايا,حتى لو تواجد من هم أكبر منهم,أو من نفس مقامهم.
وفي حارة الدباحين سيد حنفي هو المعلم الكبير,والطحانين واللبانين والنشارين والسماكين وحتى الجزارين,وغيرهم من كبار العائلات,لا يرضون بذلك. ليتراصوا مع الأعداء الكثارى والكثيرين للسيد حنفي. وأسماء العائلات في الحي تنقسم إلى عدة أنواع,فمنها
السادة,مثل سيد حنفي,سيد على منطقته التي يبسط فيها نفوذه,نفوذ يمتد لمساحة صغيرة,وإن كان يمكنه من بعض الأمور هنا وهناك على امتداد السرايا كلها.
مركز سلطته وبساط سطوته في حارة الدباحين,بلغ فيها من القوة أن كأنه يملك تصريح بالقتل يقتل به من يشاء,ويعفو عمن يشاء. ففي مدينة يتاح فيها القتل أصلا مثل السرايا يغدو القتل أسهل لمن هم مثل سيد حنفي.
[3]
في حارة الدباحين يصبح القتل أمرا معتادا ومعاش بشكل يومي,وكأن القتل هو العيش على جثث الآخرين. كأن القاتل له فلسفته الخاصة به. والتي يجد أصحابها مؤيدين لها من هذا القبيل حولها هنا وهناك.
يقول الأب مع الإبن مازحا معه
-إذا وجدت رجلا نائما,لا تنخزه بالسكين في بطنه
كأنه يمزح معه,لا يعلم أن هذا الفتى قام بإنتزاع أصبع طفل آخر من معقله,تحديدا قضم قطعة منه,أمسكها بين أسنانه حتى قطع جزء صغير جدا من الجلد واللحم في آخر عقلة الأصبع. والطفل إبنه مثل عقلة الإسبوع يكاد لا يظهر من الأرض. قصير جدا يمشي دائما ساحب يد أبيه معه. تلك اليد التي قطعت يد رجل آخر.
[4]
لا يصدق أنه اجتمع مع هذا الرجل,ولم يكن يصدق أنه في يوم من الأيام قد يجتمع معه.
[5]
راحلون
-سيد رجب مات
[6]
مترحلون
وهو يمشي نادى الأسماء
-فؤاد
-رمضان
-كرم
-محمد
-محمد
-أحمد
-مضياف
-مازن
-وليد
-شادي
-عمار
-أشرف
-هاني
-كامل
-كملان
-كاميليا
[7]
كما ورطوا آخرين بالمكوث في هذا الحي,تورطوا هم أكثر بالغوص في الأعماق. أخذ ابن عمه وذهبا معا كي يتشاجرا مع الرجل وابنه وابن ابنه. الأبيض والأسود,ذهبا ليتشاجرا مع الأسمر بن الأسمر بن الأسمر. يقع بيت هؤلاء الأغراب في منطقة نائية من الحي المجاور. كان لديه فكرة عن كيف سيبدأ الشجار معهم,ولو كانوا يعطونه طعاما على أفكاره لما شعر بالجوع أبدا. اقتربا من تلك البقعة المظلمة,حيث نصف شارع لم يكتمل الشق المقابل للبيوت فيه. بيوت متراصة على الجانب الأيمن (إذا دخلت من عند محرك المياه تكون على الجهة اليمنى)
الحلاق
الديكورات باتت منتشرة في المدينة,ولكن هناك أعمال فنية (تلفزيونية) عديدة قدمت الحلاق, وأعمال فنية (تشكيلية) أخرى قدمت إلى الحلاق. معلقة اللوحات في صالونه الكبير.
جيمي عيد هو الحلاق الأكثر شهرة وثرثرة في القرية كلها,والتي بلغت به شهرته أن صارت مكانة الحلاق في قرية السماطرة بالشرقية مثل مكانة الحلواني في حي السرايا بالقاهرة,فعقد لقاء معه,وصنع عدد من المشاهير على يديه حتى تجاوزت شهرته شهرتهم جميعا.
ورث المهنة عن أبيه,واشتغل فيها منذ صغره,وكان يعشق كل جزء فيها,وبلغ فيها ما لم يبلغه حلاق قط قبله في البلد كلها. كما أنه نمى ثقافته حول الحلاقة من كل المناحي الممكنة. ونظم تخصصاته بها وأقسامها,حيث تكمن أهميته في وظيفته,وهي ثلاثية. فأول ما يعني به الحلاق في حرفة الحلاقة هي الحلاقة نفسها,أي قص الشعر,والذي يتدرج لأنواع؛فمنها قص الشعر تماما ليصبح الزبون أصلع على درجة صفر / زيرو. ومنها أن يساويه الحلاق, ويشذبه مثل أجدع جنايني في سرايا نعيم بيه. ومنها أن يخرج بقصات وتسريحات وتقاليع أفضل من صالونات الحلاقة الشهيرة والكبيرة في وسط البلد وفي الأحياء الراقية. من التي تسمى ذقن الباشا,أو شنب العمدة أو شنب المعلم / الصعيدي,أو حتى ذقن السني في عهد الإخوان البائس. كما كان يأتيه كل الأشخاص لعمل كل القصات. ومنها أنه طبيب القرية الذي يقصد دائما في كل صغيرة وكبيرة من مصائب القوم المرضية,وكأن في الكون لم يكن غيره. هناك وظيفة ثالثة حيث قيل أنه رجل أعمال,أعمال سفلية,ساحر أو دجال,وليس بمعنى تاجر,بالإضافة إلى كونه راقص وممثل ومهرج وراوي حواديت.
وفي كل تجسيمات الشعر,سواء شعرة أو ندبة أو شامة أو تجعيدة,كانت هناك تفاصيل يرغب الحلاق في استكشافها,بنفس القدر بالتساوي مع رغبة الجميع في معرفته أكثر. رجل واحد يريد أن يستكشف أجساد الجميع,والجميع يريدون النظر إلى جسده.
وترى صالون الحلاقة لديه عبارة عن مرر طويل يمتد في العمق إلى حيث تذهب أقدامك فلا تصل إلى جدار أخير. كأن إمتداد المبنى لانهائي في سراديب الداخل التي لا تزيد عن حمام وصالة.
زرته ذات مرة,ونسيت أنني الآن في داخل قاعة أو صالة الحلاقة. ألقيت كتاب ابن سيرين على الفراش,وتسللت إلى شبكة الإنترنت,وبحثت عن منزل الشیخ ياسر العجوز,الذي أعلم أنه يقع في مكان ما بالجوار قرب منزلي في السيدة عائشة. بحثت مطولا,أو هكذا هيئ إلي لما طالني الملل. إلى أن وجدته أخيرا. وجدت المكان وهو واقع أسفل بيتي الواقع أسفل القلعة. ذهبت سريعا إلى المسجد الذي يفترض تواجد الشيخ به أغلب وقته. وخفت أن لا جده. ولم أجده. بحثت جيدا في زوايا المسجد إلى أن وجدته. عرفته مسترجعا الصورة الوحيدة له على الشبكة.
سألته عن معنى الحلم,فهو مفسر أحلام أيضا
قال لي
-إذهب إلى الحلاق فهو خير مني في تفسير هذا الحلم
-ماذا؟ الحلاق؟
-نعم نعم هو
-ده داخل الحلم ولا خارجه
-زي ما تحب
-بتهزر يا شيخ؟
-أنا لا أمزح
-تقصد يعني أن أذهب لأحلق؟ هل ذقني فال سيء!
-لا لا
-إذن نوّرني / إشرح لي
-هناك حلاق في حي السرايا هو يعلم بتلك الأمور أكثر مني,ليس مجرد حلاق
-حلاق ومفسر أحلام
-هو يفسر فقط هذا النوع من الأحلام
لم أصبر على أي حال وأخذت منه العنوان,ركبت المترو,وهممت في سيري,إلى أن وجدت نفسي واقفا أمام بيت قديم في حارة أغلب أجزائها مظلم ويبدوا أن الشمس لا تطالها في هذا النهار الطويل. البيوت مرتفعة عالية وطويلة أمامه طولا وعرضا.
فقال لي: من رأى في المنام أن شعر رأسه طال فإنه يطول عمره. صحیح أن الأعمار بید
الله، لكنني لا أنكر أنني قد شعرت بالسعادة، لا لأن عمري سیطول، ولكن لأن تلك الطمأنینة ھي ما كنت أبحث عنه في ركعتي ما قبل النوم.
كان الحلاق المجنون هو أمهر حلاقين المدينة والقرى المحيطة بها,والجنون كانت صفة مدح وليس ذم,ارتقت به إلى مصاف العظماء. هو حلاق بارع ومصمم قصات شعر يكاد يصل مكانة عالمية من كثرة الزوار الآتين إليه في مدينته الصغيرة من بلاد مختلفة خارج مصر. كانت البداية بشهرته على مستوى الأقاليم في مصر,ثم تخطاها إلى بعض البلاد العربية, وصولا إلى مجيء الزوار من أمريكا وأوروبا وآسيا. ولم يبلغ نهاية رحلته بعد.
ولكن الحلاق وظيفته الأولى الحلاقة,لذا كانت تصفيفات الشعر مختلفة,وبالإضافة إلى كونه معالجا طبيبا ومعالجا روحيا,وجراحا وطبيب أسنان أيضا,وحتى طبيب بيطري,شملت تخصصاته بعض الأمراض الجلدية لصلتها الوثيقة بالشعر. إحدى أولئك الفتيات ينمو على ساقها رقعة من الشعر (جلد الشيطان) فتجري عملية جراحية لإزالتها وحفظها في زجاجة. صديقتها قامت بعملية تنظيف بأشعة الليزر ولم يتبقى منها شيء. الثالثة ذهبت بالزجاجة بعد أن سرقتها ربما من صاحبتها وتوجهت إلى حلاق القرية.
ثم كان ذاك الرجل,فبينما يحاول تصفيف شعره وتسريحه بالمشط,قابلته العديد من الغرائب؛ قشريات وفطريات وطفيليات وقاذورات وترابيات وتقيحات وثقبيات.
كان معتادا على الحالات الغريبة,ولما تطور الأمر إلى الدمويات في بحثه بغابة الشعر في الرأس بين يديه,تذكر رحلته مع هذا السطح (أي جلد رأس وشعر نعيم) وما قابله مستحضرا ذكرياته القديمة.
-إيه يا نعيم! ما كل هذا الذي في رأسك؟
لم يرد نعيم وظل صامتا كأنه يختبر وقع غرابة رأسه على الحلاق فأخذ الأخير معاندا إياه يروى له ويروي قصصا غريبة عن شخص برأسين,ورجل قام بقصقصة أصابعه بيديه ولم يتبقى سوى المقصين. والرجل ذو آلام الفم,والزوج الذي قدم عينيه هدية لزوجته في عيد زواجهما. وآخر ذو أنف كبير وجبهة كبيرة وخدود كبيرة ويدين كبيرتين. والرجل الذي جاءه وأهداه (الهيبة). وقد ضاعت منه مرة,فطلبها منه ثانية. ثم تحدث قليلا عن أنواع الشعر والكوافير الحريمي الذي فتح أمامه منافسا له,وقسم خاص للمحجبات (كالمعتاد) وفروع أخرى (كالمعتاد أيضا). وأحدث صيحات (الموضة) وخلافه. سكت وقد تركت أفكاره هذه الكلمات وتوجهت إلى هذا النوع من الذكريات الذي ارتبط بمهنته تلك. بثور ونخر وطفح وحكة وتورم في الجلد. زيادة في نمو الشعر في مناطق معينة. لقد رأى وحوشا تحت شعر. وهو الذي حسب نفسه وحش,أو يحسبه الناس كذلك,يظن أيضا أنه لا زال رجلا عاديا. وحين لقد رأى غولا في حلمه,أدرك لاحقا أن الغول هو.
ذات مرة حلق الحلاق عند الحلاق الذي لديه خبرة في تلك الأمور,أو عند الحلاق الذي لديه خبرة بتلك الأمور,أو بتلك الأمور. ليس جيمي عيد هو الوحيد,هناك حلاق آخر أكثر غموضا ومخيفا حتى بالنسبة له هو,اسمه أو لقبه (الحلاق) فحسب بدون أي إضافات. نفس اللقب الذي يُنسب إليه هو خطئا. هو واحد من سبعة,منهم جيمي عيد,والحلاق,وسويني تود الحلاق الشيطاني لشارع فليت,وحتى فريدي كروجر ربما أو أحد السفاحين الذين يقصون الرؤوس,وحلاق رجال المافيا ومصمم بذلاتهم وذابح أعناقهم (يشعر أنه هو). أو ربما هم في النهاية شخص واحد.
أن تضع رقبتك بين يدي حلاق هو تماما معنى أن تسلم ذقنك له,لا يوجد سبب واضح أو مفهوم قد يجعل حلاقا ينحر عنقك. لكن بعض الحلاقين يفعل. جيمي عيد واحد منهم,وإن كان لا يعلم أحد في القرية بوجه اليقين عن أي من جرائمه. هل تصدق أنهم سمعوا بها وما زالوا يحلقون عنده. قالها أحدهم لأحدهم. شخص ما قال أن الحلاق هو واحد من القائلين فار من حي السرايا أو إحدى عشوائيات القاهرة إلى الريف الجميل. إنه من أولئك القلة الذين يحملون دائما معهم أدواتهم أينما ذهبوا. والقلة الشحيحة جدا,من القائلين,الذين لا يزالوا يتكلموا.
ذات مرة حاول رجلين قتله,وحاول عشرة,وحاول دستة,وحاول عشيرة,وأكثر من ذلك,لكن يحسب أن ذلك مستحيل. ربما هذا يؤكد فكرة الزبون الذي بين يديه الآن عن كونه من القائلين,خاصة وأن حكايته تتشابه مع حكاية أخرى عن حلاق مسكين من حيّ السرايا. في الواقع هناك الكثير من الحكايات,عن الحلاقة القبضة,وعن امرأة جميلة,وعن عشيرة الحلاقين, حكاية عن حلاق سيء,حكاية عن عشيرة الحلاقين,وحكاية عن الوتد,والحكاية الأخيرة رغم كونها الأولى,عن الشخص داخل الشعر,رجل يسكن أو يُسجن في رأس رجل آخر. هذا الآخر حلق له الحلاق إلى أن وصل للسجن في عقله ورأسه,ورأى النافذة تحت شعره مطلة على هذا الحبيس.
الحلواني
[1]
فرح فرح,وهذا اسمه,لما سمع دقات الجرس المعتادة لسائق العربة,وبائعها,ومحبوب الجماهير في حي السرايا وكل الأحياء المجاورة. عم سكر الذي يصدق على مقولة (لكل نصيب من اسمه) فكان نصيبه أن أصبح أهم بائع حلوى (وإن لم يكن أكبر) في كل المناطق المحيطة بحي السرايا وقد تمركز في جولاته داخل الحي العريق. بالطبع هو أكبر بائع حلوى متجول في شمال القاهرة إن لم يكن في القاهرة كلها. وربما في مصر حتى. ليس لضخامة عربته ذات الحجم المعتاد لأي عربة نقل مصغرة عن حافلة (ميكروباص) فعربته أصلا ليست إلا ميكروباص تم إعداده وتحويله إلى عربة حلوى كبيرة. أربعة إطارات ملونة كأن مطاطها مصنوع من العلكة. الهيكل المعدني مطلي باللون الوردي عدا بعض المناطق المختارة بعناية مثل الأبواب وإطارات النوافذ ذات اللون البنفسجي,وزجاج النوافذ الجانبية ذات ألوان متدرجة بين السماوي والفيروزي. هناك مربعات تغطي كل طلاء السيارة مثل رقعة الشطرنج؛مربع بنفسجي جوار أو مقابل مربع وردي. خط ملون بألوان قوس قزح يسير أفقيا في عرض العربة ملتفا حولها بين النوافذ وما فوق العجلات. وقد اعترض بعض المثقفين في الحي على ألوان قوس قزح سابقا باعتباره أن لها رمزية مشينة,ولكن أجابهم عم سكر
-وما ذنبنا نحن أو ذنب الأطفال لما هؤلاء الأنجاس يحولون كل شيء جميل إلى قبيح؟
وأقنعتهم إجابته,والكثير من أبناء الحي لا يعرف أي معاني أصلا لقوس قزح سوى المعنى القديم؛جسر ينتهي عند جرة دهب في طرف الآخر. وقد كانت حلوى عم سكر بائع الحلوى مثل قطع من الذهب. بل إنها لا تقدر بثمن. أو هكذا ينظرون إليها. يحبها الصغار والكبار, وإن كان يصر هو على أن يبيع للصغار أولا ويعني بهم أتم العناية وبكل عطف ولطف ومحبة.
يأتيه طفل صغير دامع ممسكا قطعة معدنية بقيمة نصف جنيه في يده,قابضا عليها بقوة يخشى أن تسقط منه أو تؤخذ منه. ويخشى أن لا يرضى بها العم سكر الطفل يعلم أنها غير قادرة على شراء أي شيء. ربما قطعة واحدة من العلكة. لكنه لا يريد قطعة علكة. ليست واحدة فقط. كما أنها من النوع الرخيص الغير معتاد بين نكهات وحلويات عم سكر. وصغيرة للغاية. رمقت عينه الدامعة علبة مثلجات بخمسة جنيهات. فكر بذكاء أن عمره الآن ثلاثة سنوات. لو كان يمكنه أن يدخر جنيه واحد عن كل سنة لأمكنه الآن أن يشتري لوح كريم مثلج (أستيك). وهو قريب في نكهته من علبة المثلجات ربما لأنهما أولاد عم فكلها مثلجات. ويوجد منه عصا باثنين جنيه ويتبقى معه جنيه. ولو كان معه جنيه واحد مكتمل لأمكنه شراء شيء من عدة خيارات كلها لذيذة. أخذ يحدق في كريم وشقيقه الأكبر محمد قد تخلى عن جنيهاته التي أعطته لها أمه وأضافها على جنيه أخوه واشترى له لوح شيكولاتة كبير. لو كان أكبر سنا ربما أعطته أمه جنيها. تمنى لو كان يملك أخ كبير.
-امسك
نظر للأعلى,كأنه ملاك نازل عليه من السماء,الرجل يمد يده إليه قبل أن يغرق في دموعه, واليد طوق نجاة
لوح شيكولاتة كبير
وصدحت الأغنية في أذنه,الأغنية التي تتدفق كلماتها ونغماتها من المذياع القديم في العربة, كان غير مصدق,رفع بتلقائية النصف جنيه إلى الرجل وهو سعيد أن هناك قطعة حلوى مثل تلك,مثل التي في يد كريم بنصف جنيه. كان متضايقا أن ما لدى كريم أغلى غير عالم أنهما نفس الشيء. ونسى تماما أنه كان يريد علبة المثلجات,والرجل لم يكن يعلم تحديدا أي شيء يريده هذا الطفل الصغير الجميل.
-فرح
لاحقا سوف يحزن هذا الطفل حزنا عميقا,سوف يحزن طوال عمره المديد.
[2]
يعد الحلواني صانعا للفرحة والبسمة على وجوه العديد من الأطفال,وذاع صيته وطالت شهرته كل الأطراف. فصار معروفا بين جميع الأحياء العشوائية,وحتى أبناء الطبقة الراقية عرفوه أو سمعوا عنه بعد عدة لقاءات تلفزيونية عرضت معه. عُرف بأنه أقدم حلواني في السرايا,بل وهناك لقاء جمعه مع حلواني العبد,أشهر حلواني في مصر. أي مع القائمين عليه. عرض عليه البعض أن يساعدوه ويدعموه لفتح متجر ومخبز للحلوى في وسط البلد. لكنه رفض متعذرا بكونه ابن رجل عصامي,ويحب أن يصعد على سلم جهده الذاتي,دون أن يدلي أحد له بحبل,أو يختصر الطريق بمصعد قد يتعطل في المنتصف. كما أنه أحب أهالي حي السرايا وأحبوه,حتى صار لا يستغنى عن أطفاله,وصغاره الذين يكبرون ليسلمون حب الحلواني إلى الجيل الجديد بعدهم. وكان الصغار الذين يشترون منه من أعمار مختلفة.
هكذا جاءته بسمة والبسمة على وجهها منتشية تماما بالجو الذي يوفره هذا البائع لها,بسمة لطيفة واسعة على وجهه,والروائح الذكية تعبق أنفها,رائحة الفراولة والكرز والشوكولاتة والكريمة والمانجو وفاكهة كثيرة,والصوت الحاني سيسألها عن طلبها,دون أن تتوقف يديه لحظة واحدة عن عب المزيد من الحلوى وكرات الثلج اللذيذة.
خرجت بسمة من أسفل نافذة عربته وقد زادت ابتسامتها اتساعا,وأعطتها قبحا أكثر مما يتسرب من عينيها التي تشعران الرائي بأنهما غير سويتين. يشبهها الأطفال بوجه البرص من شدة قبح قسماتها. وعند البلوغ,صعودا إلى سن المراهقة,تصبح بسمة هي حسناء الحارة كلها يتناوب عليها خطابها ويتبارون وهي بعد لم تتجاوز السادسة عشر,ربما الخامسة عشر. ويتعجب الناظر أن الملامح ظلت هي هي,كما هي,وإن أصابها تبديل لم يغير أي من معالم وجهها المحفوظة عند البعض.
ذات يوم عثروا عليها مقتولة وملقاة في كومة قمامة.
[3]
تشمل قائمة الحلويات في عربة الحلواني كل أنواع الحلوى المختلفة؛الشيكولاتة ملكة الحلوى كلها.
يظهر الحلواني كل فترة بشكل جديد وربما في رقعة مختلفة من المساحات والأماكن التي كان يجوبها بعربتها,سابقا في الماضي,أو لاحقا في المستقبل,كان مستقرا في مكان ما غير متحرك. كان خبازا في مخبز.
والحلواني يسعد الأطفال وهم صغار,ولكنه يقتطع جزءا صغيرا من سعادتهم وهم كبار,يأتي مصطفى ربما يعلم أنه سيعيش حياة طويلة تمتد ما فوق الثمانين عاما. حياة مديدة وسعيدة.
مصطفى لن يتزوج أبدا الفتاة التي يحبها
مروان سيعيش حياته طول عمره جبانا
جاسر لم يحصل على المنزل الذي أراد
وعلي ستقتله عصبيته بالقلب وقد بلغ الأربعين,بينما كان سيعيش للخمسين قبل أن يموت بالقلب أيضا. لقد عجل الحلواني من موته مقتطفا عشرة سنوات من عمره. وآخر اسمه محمد الحلو. هذا طفل له صلة قربى بعيدة مع عائلة الحلو الشهيرة. سوف ينزع الأسد قطعة من لحمه كما فعل مع أسلافه. وهذا المسمى عصام عنده ملفات عديدة والأب شاعر بالإنزعاج,بكل هذه الإنشغالات المكتبية. يحلم أن يكون عصامي بشكل أو بآخر. سوف يخسر خمس سنوات من عمره في السجن,ولكنه سوف يرجع ليهنأ في حياته ويسعد هو وزوجته وأولاده.
[4]
هذه الطفلة جميلة جدا,بدت له أحلى من السكر الذي تأكله للتحلية الآن. وإن كانت معايير الجمال عند هؤلاء الشياطين تختلف عن ما لدى البشر. إلا أن النتيجة في النهاية واحدة. وهي أن تلك الطفلة سوف تصبح حسناء بارعة الجمال بعد بلوغها.
عند الثالثة والعشرين سوف تموت.
سوف تموت مخنوقة,تموت قتلا. مثل صديقتها ذات العشرين عاما,التي ستموت مقتولة هي الأخرى بنفس الطريقة.
ماري ومارينا.
وقف أمامها
وقف خلفها
ماري هذه مثقفة من العيار الثقيل,جميلة جدا مثل مارينا يحار المرء في أيهن أجمل من الأخرى. تعمل في دار نشر متخصصة في إصدار الكتب الفلسفية.
إلتف السلك حول عنقها,رفعت يديها,وتواثب صدرها,وانكتمت أنفاسها,قاومت بصدق متشبثة بالحياة,ولكن في الأخير هي ماتت. ماتت وقاتلها ينظر في عينيها.
السلك الآخر كان القاتل من الخلف,لم يطوقه,بل كل ما فعله أنه أخذ يجذب ويشد حتى سحب الروح من الجسد.
كانت السمينة تانيا تمشي في غنج ودلال ليس كمثله شيء,تتبعها السمراء ممسكة بمذيلة عباءتها أو معطفها في كل حدب وصوب. لقد فسد زواجها لا أكثر من ذلك.
قتل أمها,كانت بعيدة عن الفتاة,تتحدث مع بائع الفاكهة,وكان هو يمر من الفسحة المتاحة لأي عابر أن يمر بها. هو طريق صغير بين أقفاص الفاكهة والحوانيت يمر به أي عابر سبيل سائر وسط السوق,فتح مطواته وطعنها في الجنب. ماتت وقد تجاوزت الخمسين من عمره. هذه الطعنة كانت سوف تحدث لها بعمر الستين. ولكن الحلواني عجل من حدوثها.
وهذا الطفل المسكين,وأسمه إبراهيم,ستكون حياته مأساة تستحق أن تروى. فهو في صراع دائم مع عائلته. شقيقه,شقيقه الثاني,شقيقه الثالث,مع أنه آخرهم ورابعهم وأصغرهم. أربعة هم
خليل
وإسماعيل
ودياب
وإبراهيم
أما عائلته,فهي تتكون من أربعة أشقاء جميعهم أكبر منه.
في النهاية صار وحيدا لمدة سنتين,ولكنه رجع إلى عائلته وتصالح الجميع.
عائلة أخرى مكونة من ثمانية أطفال رائعين,قد عمرّ عمار منزل والده,وإن لم يكن المنزل عامرا بأولاده,أولاد الوالد أو إخوته وهو الذي يأبى أن ينطق هذه الصفة,ويرفض حتى أن يناديهم بأسمائهم. ولا أن يأكل معهم من نفس الطبق أو على نفس المائدة. أو بالأحرى الطبلية التي ورثها أباه عن أباه. عمار كبر وصاع وصار مجرد أفاق أو قواد آخر في السرايا. وبعضهم قد ينعته بابن الحرام,قبل أن يشوه عمار وجهه أو يفتح له كرشه. هذه التسمية جاءت بسبب هروب أمه مع رجل آخر. كان يطلق عليها (حلوياية) أو (حلويات). يمشي في الشارع,يسف البودرة,ويمتص مصاصة حصل عليها من عربة الحلواني.
الزبّال
أخذتني سنة من النوم ولما استقيظت وجدت الأوراق مازالت كما هي على المكتب؛لما حصلت على الأوراق من (محمد) لم أستطع أن أخفي فرحتي بحصولي عليها؛رجعت إلى البيت وأخذت أقرؤها بشغف,وأنا أمني نفسي بعمل روائي جديد. من البداية عرفت أن الأمر لا يخلو من صعوبات؛بعض الأوراق كانت أطول من بعضها الآخر,مما جعل الطي القسري يخفي بعض الكلمات في نهاية كل صفحة,بعضها كتب بالرصاص,وكان قد مرت عليها أعوام متلاحقة فمحت حروفا وكلمات وأحيانا جملا,اضطررت أن أتوقع الكلام من خلال المعنى. ويبدو أن حرص صاحبها الشديد على إخفاءها عن الأعين أدى به إلى إبقائها سنوات طويلة مغطاة تحت أكداس من الأوراق الأخرى دون تعريضها للشمس,فنقرت العفونة بعض صفحاتها,وساح حبر الحروف في بعض أسطرها جراء الرطوبة. بعض الصفحات اهترأت من الأسفل ومن الجوانب,فعمدت إلى أن أحدس بما كان مكتوبا من عندي. وبعض الصفحات كان يحتاج إلى خبير من أجل أن يفك الخط المكتوب فيها؛قدرت أنها ربما تكون قد كتبت في الزنازين المعتمة,أخرى كتبت على عجل ربما واجه صاحبها حالة اقتحام من نوع ما فاضطره ذلك إلى أن يكتب بهذه الصورة الفظيعة. أفضل شيء استطعت فيه أن أغطي الأحداث بشكل جيد هو أنني تقمصت شخصية ما في كتاب لأيمن العتوم أو ربما هو أحمد سعداوي.
تركاه واندفعا لتفتيش غرفته,وصفعتهما رائحة عفونة قوية منعتهما من الدخول إلى عمق الغرفة. كانت الأغراض متراكمة فوق بعضها البعض مع تل صغير من علب بيرة الهنيكن في زاوية الغرفة بعضها البعض مع تل صغير من علب بيرة الهنيكن في زاوية الغرفة وأحذية ونعل كثيرة وأباريق نحاسية وأخرى من الألمنيوم أو البلاستيك وطاولات خشبية مكسورة الارجل وملابس وريش حمام ودجاج وأغطية وبطانيات حائلة اللون تفوح منها رائحة حادة مع طباخ وقنينتي غاز وبرميل بلاستيكي مملوء بالنفط وخزانة مليئة بالبصل والثوم وعلب ألبان فارغة وقواطي معلبات أسماك وبقوليات. كانت الغرفة أشبه بقبر لذا سارعا للخروج منها وطوقا سرير هادي العتاك من جديد.
عمل سيد في هذه المهنة مرارا وتكرار,ومهما ابتعد عنها يعود إليها حتى صار معروفا ضمن المحنكين فيها. ومع ذلك,لم تزده حنكته وخبرته ثراءا كما فعلت مع غيره. بل ولم تعطه مكانة وجاه بين أبناء المنطقة من باب (الصيت خير من الغنى). وظل سيد هو أقل الأسياد حظا في مهنته. مع أن الأسياد سادة في السرايا,وليس من سمي سيد إلا سيدا اسما على مسمى,إلا أنه سيد الخرائب والزبالة دون أن تتحول بين يديه إلى ذهب,إلا قدرا من الشهرة جعلته معروفا ومهابا في نطاق ضيق وليس جيد. وينظر دوما بحسد إلى كل من حمل اسم/ه سيد.
سيد متولي صار صاحب مخزن كبير ومعه كبر ليكون من المعلمين المعروفين في هذه المهنة.
سيد مجاهد كون جماعة الزبالين,وسيد عضو فيها,وهم العمال المشتغلين في أعمال الزبالة. وكل العمال / الزبالين تقريبا انضموا لهم.
سيد محمد احتل أحد الشوارع الموازية لشارع النجيب,واستولى على كل مقالب الزبالة فيه, فلا يقرب أحد غيره أو صبيته من زبالة الشارع.
كان يخشى في تجواله أن يصطدم بأي حيوان مسعور,تلك الحيوانات التي يغلب على أكثرها الكلبية. ويقصد بذلك أن أكثرها من كلاب الشوارع المسعورة. ولكن السعار يطال حيوانات أخرى,والكثير من الحيوانات التي لا يعرف لها أي أسماء.
ولكن أكثر ما يشغل باله في العادة هو تلك المواقف الغريبة والطريفة والمعتادة رغم غرابتها ورغم نفوره منها وتعجبه المستمر لها,مواقف مع البشر من أبناء كاره.
في الزاوية المظلمة داخل الغرفة المغلقة,الكراكيب امتدت من هناك حيث حشت الزاوية,إلى باقي المساحة الضيقة بين الجدران الأربعة. تكونت الكراكيب من كل شيء قد يخطر بالبال. وتحت الكراكيب كان هو يسكن وينام. كان قد سمع عن روح يابانية Zashiki-Warashi تسكن غرف التخزين أو في الصالونات المتسخة,وربما هي تؤنسه الآن في وحدته. داخل الغرفة مدفونا في القمامة,أو داخل الحارة خارج هذا البيت. منتشيا بما تعاطى من مخدرات. ومبعثرات الغرفة مكونة من كراكيب في ركن الغرفة .. شامبو / شاور جيل / صابون معطر / فواحة / معطر جو / منقي هواء / مزيل عرق,بل وذات مرة وجد أمه بين الكراكيب,وكانت تفوح منها رائحة نتنة. ربما هي ميتة. أو هي رائحة الشرابات والهدوم المكمكمة. كالسونات وبيجامة كاستور,وطقمين غيارات وثلاث شرابات,وفانلات,بيجامة جينز. حيوانات فرو,ودبدوب,وعيال خزف,وقطع خشبية من ميداليات,زرافتين خشب بالحجم الطبيعي,برواز كبير مدهب فيه شلال ينور,صندوق بلي,شهادة استثمار من الفئة ج,هدايا غامضة مثل صاعق الناموس / مضرب اسكواش / جهاز مساج للضهر,أطفال .. نعم,لقد وجد أطفالا ذات مرة,مشاية بقالها 77 سنة مكتوب عليها ويلكم,شبشب وحذاء,خرزة زرقة وعين زرقة,استيكر الكف القديم خمسة وخميسة,مجموعة من الأعمدة,طقم مدهب, صالون مدهب,صورة أو ألبوم من الصور. وملابس أول يوم العيد,وأول يوم مدرسة. وطاقم النيش يأكل نصف الأوضة؛الكاسات والكوبايات والأنتيكات الخطيرة. درج فيه أكثر من ألفين وصل كهربا وغاز وميه. باب ثلاجة,ونصف ليمونة ناشة,ازازة أي حاجة مليانة ميه, إزازة بيبسي فيها عرقسوس,كياس كاتشاب كتير,شريط لبوس جلسرين,حقنة فولترين منتهية الصلاحية,بيضة مكسروة ملزقة وناشفة,حلتين فوق بعض فيهم أكل من البارحة,صينية كبيرة جدا فيها حتة مكرونة بشاميل 3_3 سم أطرافها ناشفة. علبة بلاستيك فيها حاجة لا يعلمها إلا الله. حزمة جرجير ملفوفة في جرنان الجمهورية. فريزر. علبة آيس كريم عائلي فانيليا فيها توم مفروم,علبة آيس كريم مانجا عائلي فيها بقية علبة الفانيليا,وشوية أكياس حمراء قد تكون صلصة وقد تكون عصير فراولة كارف توم,أكياس برتقالي قد تكون مانجا أو عصير برتقال كارف فراولة,والطاسة السودا المكلكعة التي عليها طبقات متراكمة من حاجات سوداء ملخص المأكولات اللي طبخت منذ صغره على نفس الطاسة,ولسبب ما هي عزيزة على الأمهات وأهم عندهم من أولادهم,لو اقترحت عليها إنها ترميها بيجلها بوادر كومة السكر ويكون يوم أسود. راديو ترازوستر صغير مش عارف بنجيبه منين,معلوماتي إنه انقرض من التلاتينات بس بتلاقيه في المطبخ وبيبقى تبع الآثار وبتذاكر وكده تشغل الراديو وتحط اللي إيه وتسمع,يبقى محطة واحدة عشان مزيت متعرفش تقلبه هو ثابت على المحطة ده. فيه طبعا شوية ملابس داخلية تم إعادة تدويرها وبقت حتت للمطبخ متعددة للإستخدام. درفة سلك مخرومة خرم ضخم على الشباك محشور فيها ملابس داخلية عشان الفئران يتضايق الفأر لأنه مش عارف يخرج. علبة جبنة عليها استيكر كوباية كوباية شاي . كانكة من غير إيد وبراد إيده سايحة ومعاهم الطبق الصيني اللي فلت من الطقم القديم اللي كان في جهاز ماما ومشروخ من هنا كده من جواه. أوضة الكراكيب. الإسم لوحده كفاية. مرتبة قديمة. سرير مكسور. ماكينة سينجر قديمة تعرفش ليه. عجل العيال وهما صغيرين. سلم إيديال. ألبومات صور. ميزان مفهوش بطارية. فيديو فيدامكس وأتاري. شرائط فيديو فيدامكس وأتاري. كتب قديمة. تراب. ساعات البلكونة في البيت المصري بتكون الإكستينشن بتاع أوضة الكراكيب. غير التوم والبصل اللي متخزنين فيها. عجلة قديمة مثلا,سلم,جرائد كتير,سبت مخروم من غير قعدة,برص ميتحركش من مكانة وباصص لك بتحدي كده .. بقاله كتير قاعد معانا,غالبا بيكون فيه صبارة ميتة شوف انت لما الصبارة اللي هي بيئتها الطبيعية الصحراء تموت في البلكونة اللي عندي يبقى البكونة دي إيه,من كائنات البلكونة برضو تلاقي كرتونة بتاعت سخان أو غسالة اللي هي من أيام ماكنوا بيكتبوا فيليبس بالعربي,الكرتونة لازم لو فتحتها تاخد بالك وانت بتفتحها لحاجة تنط في وشك,تلبس تقيل وشك لبس مستكشفين تجهز حبال مشاعل,وتغوص بقى في الماضي,هتلاقي تلفون بقرص وسلك طبعا من التسعينات,وانت خارج من البلكونة شايل التلفون محدش هيعرفه محدش هيعرفك انت شخصيا,وهتلاقي جرائد,الجرائد القديمة عموما جزء كبير من ثقافة البيت المصري والمصريين بطبعهم,يعزوا الجرائد قوي. الجرائد في البيت المصري بتتحول لحاجات كتير جدا؛مفارش للسفرة,أوض دواليب تحت إزاج الكوميدون,سجاد على الأرض, أدوات تنظيف تلمع بيها,تقصقصها تعمل زينة,فاكر السامبوكسات أيوا فيها الجرايد,تلف بيها الرقاق اللي جاي من البلد اللي هو موطنه الأصلي فوق التلاجة نسيت أقولك عليه ده,حشو للجزم عشان متطبقش,أي حاجة إلا الهدف الأصلي من الجرايد اللي هو القراءة,عندك الجزامة إحنا غاويين نحافظ على تاريخ تطور حجم رجلينا وتطور الموضة في نفس الوقت, من أيام الكوتش والأميجو اللي بينور,لغاية سكيتشر وكروكس,منرميش حاجة أبدا,تفتح الجزامة كده تاريخ يفوح كده بالريحة والعك وكل حاجة. من الأماكن الغريبة والمميزة قوي في البيت المصري هي فوق الدولاب منطقة رهيبة موحشة عارف هليوبوليس الجديدة تروحش هناك بعد التجمع كده عشان تروحلها لازم تبقى مغامر حقيقي حده مقطوعة فعلا. آه لازم تبقى بتعرف تتسلق تستخدم سقالات براشوت فاهم سلالم,في الآخر مش هتلاقي أي حاجة شيقة,هتلاقي شوية شنط وبطاطين قديمة وجرايد برضو,الأوض اللي في البيت المصري مفهاش حاجة مميزة قوي إلا مراحل التطور التقليدية اللي بتمر بيها,مفرش سرير عروسة بكرانيش إضاءة جانبية حالمة,تدريجيا المفرش ده بيتلم ويتشال في السحارة,عشان العيال متعملش عليه حاجات مش تمام يعني,الإضاءة الحالمة دي بتبدل بلمبات نيون بيضة موفرة بترعش عشان عايزة ستارتر,طبعا ليه عشان نشوف وإحنا بندور على فرد الشرابات اللي ضاعت والتي تينا بتاعة الواد اللي وقعت بين السرير والكوميدونو,الكوميدونو بالمناسبة اللي تحت الإزاز بتاعه صور أبيض وأسود مقطوعة وملصوقة لناس محدش يعرفهم,تسأل ماما تقولك ههه أنا مش عارفة أنا لقيته,وشوية كروت سبوع جيبوا شعراء عامية بيكتبوا حاجات حلوة قوي على السبوع,التسريحة يتشال من عليها كل الكلام الفارغ ده طبعا عشان الماكياج بيتاكل عادي العيال بييجوا بقى بيدمروا,وتم تحويل الغرفة لأوضة غسيل,أكوام من الغسيل.
هكذا تحدث أحمد أمين.
الساحر
لغة: هو كل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع.
وأصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لما أدى الباطل في صورة الحق وخيل الشيء على غير حقيقته، فقد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه.
اصطلاحا: هو المخادعة والتخييل أو عزائم ورقى وعقد تؤثر في الأبدان والقلوب، فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه.
السحر عموما هو إذهال العقل بما لا يعقل.
والسحر (في المعتقد الديني) هو عملية تدنيس للأديان السماوية إرضاءا للشيطان مقابل خدمات شيطانية إرضاءا للساحر.
والتعريفان لا يتعارضان.
فالساحر شخص يقدر على إيذاء الآخرين,وهو قابع مكانه. من خلال امتهانه السحر أو عمله على السحر. والسحر هو نشاط خارج عن حدود الواقع والعقل,قائم على عملية تدنيس للأديان السماوية يقوم بها الساحر إرضاءا للشيطان,مقابل خدمات شيطانية إرضاءا للساحر, وهذا لا يتعارض مع التعريف الأول الذي يتسع لهذا النوع من الإدهاش / الإذهال المقنن الذي يثير الدهشة حتى لدى الساحر نفسه (المبتدئ) إلى أن يتعود ويعتاد. ولا يعتاد أبدا على غرائب ذلك العالم كلما حفر أعمق وراء طبقاته ونصوصه, وما يتضمنه هذا من فعال الشيطنة, التي تحتوي على زنا, ولواط, وزنا المحارم, وتدنيس لكل المقدسات فعلا وشفاهية وإغراق الرموز والنصوص في السوائل النجسة,والعيش أيام طويلة أو سنوات بدون استحمام, حتى يغلف العفن أجسادهم. في الواقع هذه واحدة من الطرائق الأربعة المشهورة في استدعاء الشياطين. فالسحر كما يتبين هو سلوك شرير ينتج عن تعاون مع الشيطان. نوع من التجارة في الأعمال / الأفعال الخبيثة. هذه التجارة / الصفقة تقتضي عقد يلزم الطرفين. يلتزم الساحر بمجموعة واسعة من الأفعال الشيطانية هي التي تكون السحر من بنية العمل. العمل أو التعويذة مثل اللبنة في البناء. تسمى التعويذة طلسما إذا كانت مكتوبة,وتسمى عزيمة إذا كانت منطوقة. عدا عن ذلك,تسمى عملا في صورها الأخرى المادية أو الصورية الغير نصية. والعمل يلزمه شرطان لا يتحقق بدون أحدهما؛القاعدة والخادم.
القاعدة هي الأساس الذي تبنى عليه العلاقة,وتتكون من شقين؛طريقة للتواصل,ثم لقاءات متكررة أو مفردة. فردية أو جماعية. وطريقة التواصل تلك تستلزم أن يحفظ الساحر بعض أسماء ملوك الجن أو أقوى رجالهم. ويا حبذا لو عرف اسم من يستدعيه,فذلك يعطيه سلطة عليه, لأن عالم الجن محكوم من قبل سلطات الأسماء والحروف.
الخادم هو العمل نفسه الذي يقدم إلى الجني أو الشيطان أو العفريت لتنفيذه,أي هو التعويذة التي تقدم مطلسمة مكتوبة أو منطوقة بالعزائم,فالطلسم كل سحر مكتوب,والعزيمة كل سحر منطوق كما ذكرنا.
والعمل هو أساس السحر (الغيبي) بكل أنواعه وعلومه
وأما أنواع السحر,فتنقسم إلى طرائق بحسب الحاجة والمادة.
طرائق السحر,أو طرائق التواصل مع شيطان,فهي
الأولى أن لا يستحم الساحر ولا يمسسه الماء أبدا لمدة طويلة من الوقت,لا تقل عادة عن عدة شهور.
الثانية هي أن يستحم ولكن بأشياء أخرى,مقدسة تدنس جسده باغتساله بها,مثل الاستحمام باللبن. أو أن يمسح على مؤخرته بالخبز.
الثالثة أن يذهب إلى الخلاء أو الصحراء أو أرض قاحلة أو خالية في الليالي بشكل يومي ويظل ينادي على الأسماء المحفوظة لديه. أو ينادي في سرّه, أو أمام الناس,وغيره من صور النداء.
الرابعة هي أن يفعل أمور أخرى وطقوس أخرى مثل ذبح الذبائح وخلافه.
فأما أنواعه -والتي تنقسم بحسب نوع العمل- فقد تعارف القوم على تقسيمه إلى تصنيفات
منها أن ينقسم السحر بحسب طبيعته الطبيعية (الفيزيائية) والمنظورة / المحسوسة -حسب المواد أو الخامات المعمول بها العمل أو الحاوية له- إلى هوائي, مائي, ترابي, ناري, حركي, صوتي, مرشوش, منثور, مشروب, مأكول,
ونحكي عن بعضه,فمن ذلك,الناري هو كل عمل (السحر) يتقوى في النار ويشتد باللهب تأثيره على المعمول له (المسحور). ومثل ذلك ما يتم وضعه في الأفران والتنانير,ومنه ألواح حديدية ونحاسية,كلما قيد فيها النار أكثر كانت حميته أشد على المسحور أو المعمول له العمل. ثم هناك نار باردة في السحر المائي الذي يجعل السم يجري في البدن مجرى الدم, لأنه يلقى به في التيارات المائية بالمجارير والأنهار والقنوات والبرك والبحيرات والبحار. فكلما زاد تقلب العمل في الماء اشتد على المعمول له. وللحفاظ على العمل حتى لا يتيبس من الماء يلقم في فم سمك السلمون أو سمك كبير.
الساقي
[1]
بينما هو يمزح مع تلك الفتاة ويمسح طاولتها انتبه لقرب الغروب المتبقي عليه بضع دقائق فحسب. شعر بالإمتنان لما قامت راحلة,وهي شعرت بالافتتان لما لاحظت عدم إهتمامه برحيلها. بعد أن اختفت عن ناظريه توجه إلى الطاولة الوحيدة التي لازالت شاغرة,ينظر إلى وجه الرجل القاسي محاولا أن يتناسى وجه الفتاة التي ألهبت سخونتها عنقه حتى تجاوزت حرّ المساء. وجه مليء بالحبوب والندب والنمش. حاول أن يكون قاسيا في نبرته متحديا الصورة بالصوت.
-مش تروح بقى يا بلدينا؟
-وانت مالك
صفعته الجملة مع تلك النظرة,زادت نبرته حدة وبدأ يشعر بالندم لأنه لم يطلب بأدب من البداية
-احنا بنقفل دلوقت يا عم,انت اللي مالك هتشاركنا في مالنا
-طب ما كنت تقول من الأول
والمال ليس ماله,فوظيفته لا تعدو أكثر من كونه ساقي وربما نادل في هذا المطعم والمقهى الواقع على الطريق الصحراوي الواصل بين الجيزة وإسكندرية. يشكل استراحة للمسافرين بنيت في منطقة مقطوعة لا بشر ولا بقر ولا كلب واحد يمر من هنا. لا يوجد سوى العربات المسرعة والتي تنقل المسافرين أو سائقيها من عربات (الملاكي) أي ملك أصحابها. ولا يتوقف أحد منهم بعد غروب الشمس,هناك استراحات أخرى بعيدة لعلها تفيدهم أكثر من هنا. يجلس وحيدا لساعة واحدة أو أقل قبل أن لا يغدو وحيدا,وتأتيه صحبته المعتادة ليلا.
في اليوم التالي يأتيه زبون (رخم) تلتصق مؤخرته بالكرسي الجالس عليه,وتتشبث بيده بطاولة الأكل والشرب التي فتحت عليه وكأنه (أبو بلاش كتر منه) تشكك في أي دفع من جانبه,وألمح إلى ذلك فغضب الرجل وعرض دفع المال فورا,وأكمل متثاقلا تناول طعامه وارتشف شرابه. وطلب المزيد وزاد ثقله لم أظلم ليله,وببساطة طرده. فطالما هو جرؤ وقام بإهانته مسبقا,لا بأس من إضافة إهانة أخرى لن تضر أحدا. وتقبلها الرجل ورحل.
رجل آخر ابتلع الإهانة في اليوم التالي,ورحل قبل أن يطلب شيئا,ولقد جاء متأخرا على أي حال. رحل لأنه قال له أنهم سيغلقون,وكان متسامحا كفاية لأن يمشي بدون مشاكل.
وتمر الأيام وهو من حال إلى حال,تارة يقوم آخر زبون من نفسه فيغلق الأبواب أما أي
[2]
يزدحم المقهى طول فترة النهار ويكتظ بالناس زائرين له والفضل لموقعه الممتاز في قلب الصحراء. فهو الاستراحة الوحيدة على مسافة لا تقل عن مائة كيلو متر,في طريق إسكندرية الصحراوي. كان هناك فيما مضى العديد من الاستراحات على جانبي الطريق الأماكن المأهولة. وربما لازال حتى اليوم. ولكن لا يعرف لماذا لازال الزوار يأتون بكثرة إلى هذا المقهى في منطقة مهجورة ومعزولة تماما,وربما عزلتها هي التي تقبض قلوب المسافرين في صدورهم وتدفعهم إلى الاستراحة قليلا وتحصيل الطعام وتفريغ السوائل قبيل المضي في طريق لا يعلم سوى الله ما به.
والمقهى مفتوح طول اليوم بساعاته الأربع والعشرين,النهار للبشر,الليل لغير البشر,تبدأ الوردية من نزول المغرب,وتنتهي عند طلوع الفجر. ولهذا يحرص دائما على طرد الزبائن والزوار لما يتأخر الوقت ويقترب الغروب. حيث الأصيل هي الفترة الأكثر ترقبا له,والليل هي الفترة الأكثر توترا. حيث يترقب خيوط الشمس وهي تتلاشى وتغيب خلف الأفق وستار الليل يخيم ببطء يرهقه أكثر مما يفعل هؤلاء.
وهؤلاء هم زبائن بعد منتصف الليل,أو بعد مغيب الشمس مباشرة للدقة. هم يدفعون بالذهب. لذا لا يجد ضررا في خدمتهم,وتخلى عن قرار الهرب تاركا العمل والراتب. وهذه الأرباح تخفف عنه عبء ومشقة خدمتهم. (نحن خدامين لكم يا أسيادنا) طالما ستدفعون. ومن يجد لديه مشقة في الدفع أو مراوغة أو مساومة أو يأخذ معه في الحديث ويفاصل. ينقلب عليه بكل ما يشحنه غضبه من وقاحة تحوله من عامل ودود إلى شخص فظ ومتبجح ولا يهتم سوى برحيل الزبون قبل أن يدفع ما عليه بالطبع.
يأتي سكان الليل في بيوتهم,وهم زبائن الليل في بيته,ضيوف ثقال الصدور عليه ولا يجرؤ على طردهم
[3]
الليل
وحيدا مع الليل جالسا على مصطبة بيتهم الذي يسد طريق المقابر. وحده بعد منتصف الليل كان يرى فرسانا على خيولهم تهجم على قبور عائلتهم. فرسان خرجت من العدم لتخرج الجثث المتعفنة والهياكل العظمية لآبائه وأعمامه وأجداده تقاتلهم. الطريق الذي يشق المقابر مخيف. لا توجد أي بيوت عدا بيتهم. ولا يوجد أحد يسكن في البيت سواه. كان يؤنس وحدته بما يرى.
أشباح أم خيالات؟
لكنه الآن جالس على كرسيه يتأمل الصحراء الخالية إلا من بعض السيارات تقطع الطريق, يسترجع مشهد المقابر في حنين يكاد يفطر قلبه. لم تكن تلك القبور مخيفة كما كان يتخيل. والموتى في أحشائها غير مؤذين بالمرة.
[4]
يبدوا أنه ظمآن جدا
لقد طلب هذا النزيل ثلاث مرات ثلاث مشروبات مختلفة,أي النتيجة هي تسعة,من صودا إلى ليمون وصولا للشعير أناناس. كان هذا اليوم حارا جدا. والذباب يترك كل الزبائن -من حسن الحظ- ويطارده هو فقط. وما زاد الطين بله,وعمق شعوره بوحدته (ليلا نهارا) هو تواجده بين حفنة من الغرباء هذا اليوم. كلهم غرباء كل يوم. ولكن النزلاء اليوم يدبون أكثر غرابة. خصوصا ذلك الرجل الذي يعد من أكثر المترددين على المكان.
[5]
انقلبت الطاولات ورأى الناس فجأة يركضون هنا وهناك,تنبه فجأة إلى ما يحدث وكأنه كان في معزل عما حدث,إلتفت بقوة إلى اليمين,حتى أنه شعر أن رقبته كادت تنفلت عن كتفيه. هو إعتاد على تلك الأشياء مع طول الوقت وطول العشرة. لكنه غير معتاد على رؤية الفزع الإنساني بهذه الضراوة. بعض الفزع أشد من أصله. ورؤية آثار أقدام الدب أو سماع زئير الأسد قد تكون أشد رعبا من رؤية الأسد أو الدب نفسه.
[6]
على هذا الطريق,في هذه الناصية,تسكن الأشباح والجن والشياطين والكيانات المظلمة والأرواح الشريرة,أو هو يحسبها كذلك. لا يعرف بالضبط ما هي,وإن كان يعلم أنها بالطبع أقرب إلى الجن أو عالم الأرواح (ربما الأموات) منها إلى عالم الأحياء.
[7]
أفراد من جهاز المخابرات أزعجوا وأرقوا أمنه, فلعن كبيرهم وقائدهم اليوم الذي ولدت فيه أمه.
وشخص زاغ عن موعد الرحيل,والخروج من المقهى,وركوب أي عربة للسفر تكمل به طريقه إلى حيث ألقت. أي مكان عدا هنا.
قرر الرحيل من هنا,في وقته ومن فوره. سئم الإنتظار. سئم من خوفه من المستقبل وهو يتامل ظهور فرصة لعمل آخر,ويواسي نفسه متخيلا أنه سيعثر على عمل أفضل في مكان أفضل. ولكن هيهات أن يحدث ذلك. وحتى إن لم يحدث. ماذا في ذلك. لن يترك نفسه هنا ليموت خوفا وكمدا وحنقا. خوفا لأنه مهما كتم خوفه لن يطيق صبرا عن ذلك للفرار من هنا. وكمدا لأنه لا يكف عن حسد الناس التي تأتي وتأكل وتشرب وهي لا تدري بشيء.
اعتاد الأمر كثيرا
ولكن ليس إلى هذه الدرجة.
السائق
[1]
حادث غير عادي ذلك الذي قرأه في الجريدة,ولمحه في المجلة بيد صديقه,وقرأه ثانية على المواقع والمنتديات والشبكات الإجتماعية,كما شاهد مقاطع فيديو للحادث الذي تم إلتقاطه صوتا وصورة من قبل هواتف ذكية كانت في أيد أصحابها ذلك الوقت. بل هناك مقطع يظهر أن صاحبه كان يقوم بالتصوير قبل وقوع الحادث,مما ساهم في جعله محظوظا ألتقط الواقعة منذ اللحظة الأولى. وقد انتشر المقطع بقوة على اليوتيوب مثل النار في الهشيم وأصاب في الناس ذعرا وتوالت التخمينات والتعليقات حول كونه عملا إرهابيا محتملا. بل وإنتقل من الأحمر يوتيوبيا إلى الأزرق فيسبوكيا وغيره من الألوان السائدة في هذا العصر. وكثرة المناقشات حوله على الجروبات وأشباه المنتديات. سعيدي الحظ من شاهدوا المقطع قبل حذفه,أو حفظوها على ذاكرة حواسيبهم. أما هو فقد كان من المحظوظين القلائل الذين حضروا الواقعة وكانوا من الشهود العيان لها. ولكن لم يستدعه أحد للتحقيق معه كما فعلوا مع الآخرين. لذا شعر بمزيد من الامتنان لحظه هذا. بهت لمرآه,وشعر أن الزمن توقف رغم سرعة سقوط الشيء,وأدرك أن الشيء عبارة عن سيارة ساقطة من السماء. تجري إلى الأسفل سريعا بشكل رأسي -كأنها واقفة في الهواء- بالتوازي مع عمارة تخطت الأربعين طابقا. ربما سقطت السيارة من فوقها. خمن هو. أفزعه سقوط السيارة,وتخيل نفسه أسفلها, وهو يتأمل أجزاءها في كل مكان,متخيلا قطع الغيار المكونة للسيارة هي أشلاؤه هو. سقوط السيارة صار عنوانا ساخنا في العديد من الصحف والقنوات. ازداد حسده لنفسه كونه شهد الواقعة. بينما الجميع إما مصدوم أو غير مصدق. أخذ يتأمل المشهد ويعيده أمام بصره وداخل ذهنه,مرارا وتكرارا,يقلبه ويعيد تكراره,سيارة ترمح في السماء بدلا من الأرض,رأسيا بدلا من أفقيا,من الأعلى للأسفل,بدلا من الخلف للأمام. من مزايا العقل أنه مثل مقطع فيديو يمكن التحكم في صوره تقديما وتأخيرا وإرجاعا وتثبيتا. ربما لفترة معينة, فلا زال الحدث طازجا في ذهنه صالح لإلتهامه كي يتمخض أفكار غريبة وعبثية. لكن فكرة واحدة وهاجس واحد ظل مسيطرا على ذهنه,ملحاحا ومزعجا ومؤرقا له حتى وهو على الفراش في منزله أسفل سقف بيته الآن. تخيل لو كانت سقطت فوق رأسه,والآن أدرك ما هو شعور المعلقون أو الخوافين من العلائق!. لوهلة شعر أنه يتمنى العودة إلى بيته القديم في حي السرايا.
[2]
المصطدمون هم جماعة من الناس يصدمون رؤوسهم في أول هيكل مناسب لذلك يواجههم.
وقد شاهد رجل يركض محني رأسه مثل ثور ليقبل رأسه في مقدمة السيارة المسرعة. هذا مات. وقد تعرف على رجل يبطح رأسه دوما من خلال ضربها في الجدار عدة مرات. هذا لازال حي حتى اليوم. رغم أنهم لم يتوقف عن عادته أو هوسه الذي يرغمه دوما أن يبطح رأسه.
الساقطون هم جماعة من الناس تقفز من الإرتفعات وأسطح المباني رؤوسهم تحتهم وأقدامهم خلفهم,حيث يسقطون رأسا على عقب لتتفجر رؤوسهم على الأرضيات الإسمنتية أو الرصيفية أو الحجرية أو غير ذلك من الهياكل المناسبة.
المرتطمون هم الأقل عنفا والأخف قسوة من الآخرين,فقط يصدمون رؤوسهم الصلبة في الجدران.
[3]
انضم إلى شلة مكونة من ما يمكن أن يطلق عليهم زملاء عمل,مجموعة من السائقين؛سائق عربة أجرة تاكسي وسائق قطار الأنفاق مترو وسائق شاحنة نقل المسافات الطويلة,وسائق عربة كرو / جرّ. وكون عصبة من السائقين.
ولم يكن غرضهم من هذه العصابة قيادة السيارات,بل العثور عليها,وتفكيكها أو تدميرها. إنطلاقا من مرجعيات معرفية وثقافية وأيديولوجية ودينية مختلفة
بالنسبة له,يكفيه مشهد واحد رآه في حياته,وقف عاجزا حينذاك
تلك الفتاة,التي سمع صوت ارتطامها,لكنه لم يرى الحدث حين حدث. بل حادث فظيع هو. أخرجوا رأس الفتاة من تحت عجلة السيارة. تراجع السائق (كتر الله خيره أنه لم يدهس الرأس مساويا له بالأرض) واكتفى بأن يصدم معارضيه ممن حاولوا إمساك الهارب. ثم انشغل الناس بعدها بالفتاة المسكينة. اقترح أحدهم سريعا بتمديدها على الأرض وإبقاءها ساكنة على هذا الوضع. حاول البعض تحريكها لكن نهاهم عن فعل ذلك أكثر من شخص مؤكدين أن في أي حركة خطورة على حياتها. ظلت مكانها مدة من الوقت. والناس عاجزين عن فعل أي شيء عدا بالطبع إبعاد السيارات المارة عن مكان الحدث صانعين حلقة من أجسادهم حول جسد الفتاة.
[4]
خرج هذا السائق من بيته,واسمه هاشم,وكنيته أبو هيثم,صباح هذا اليوم غير جميل,ومساء ليلة أمس كذلك. حلم حلما غريبا. كأنه حلم سريالي من الذي يقرأ عنه في المقالات النقدية عن الأفلام السينمائية.
السيارات والعربات كلها كانت تذوب,والشوارع كانت ذائبة بالفعل,والناس منصهرة أو منجذبة للأسفل,كأنما ظهورهم مثقلة بكتل جبلية عالية,كبيرة,تضغط عليهم أكثر للأسفل,لكن ليس بفعل الجاذبية,بل شيء آخر وهو لا يعرف ما هو أصل ذلك الشيء. وقد استغرق في حلمه
[5]
حوادث الطريق
شاحنة عملاقة اصطدمت أثناء إنقلابها بعربة نقل ركاب,وشطر نصفها العلوي,فتمزقت أجساد جميع الركاب الذين لسوء حظهم (بل تعس الحظ) لم يتمكنوا من إبداء أي رد فعل.
[6]
المزيد من الهلاوس
[7]
الحركات في المركوبة
القاتل
القاتل يعتز بمهنته كثير جدا,وهي القتل. لأنها تعطيه إحساسا طاغيا بالقدرة على التغيير,في لحظة كان شخص ما موجودا, كان حيا يتنفس ويفكر,وله مستقبل. وفي الدقيقة التالية صار ميتا ذهبت بقية أعوامه بلا رجعة. من أجل نانسي تعلم القتل,ونانسي كانت حية,وقتل عددا من الناس في حياتها,ولما ماتت زاد عدد ضحاياه بشكل مسعور فقد معه قدرته على العد. ماتت نانسي جراء إصابتها بطلقة في عنقها أثناء تبادل إطلاق النار بين مجموعة من العصابات. جماعة مسلحة تتكون من ثلاثة عصابات توزعت على تسعة وستين رجلا. الكلاب السوداء وكارتل مكسيكي وعصابة قوية من المافيا الإيطالية. ولما بلغهم أنها حبيبته نالهم من الاضطراب والقلق القدر العظيم. قتلهم جميعا وقتل كل أفراد الشرطة الذين كانوا يعملون معهم,وكذلك جميع السياسيين والمسؤولين الكبار الذين تعاونوا معهم لإخفاء جرائمهم. لم يستطع أحد القبض عليهم. قتل المحققين وجميع المطاردين. ثم لما لم يجد أحدا يقتله أخذ يقتل هنا وهناك وكل شخص وكل شيء وأي كائن حي إنسان أو حيوان أو نبات. محافظا على وتيرة ثابتة للقتل حتى لا يتمكنون من الإيقاع به. متملكا نفسه عن أي ثورة مجنونة تكون فيها نهايته. ويموت. حتى أنه قتل ذات مرة في رحلة إلى مصر. رحلة شبه سياحية. قتل الأستاذة عزة قبل تدخل إلى غرفة المدرسين. هجوم القاتل على المدرسة عنوان بارز يذكره بعنوان آخر هو هجوم القتلة على المعسكر. قيل قتلة لأنه لم يتصور أحد أن يقوم قاتل واحد بهذه المجزرة أو استنكروا ذلك.
أتت لمياء وإبنتها منال,وقتل الإثنين,لمياء جميلة مثل أمها لذا قتلها بنفس الطريقة,الطريقة الأكثر شاعرية للموت. أي الخنق.
التفت يداها حول عنقها وخنقتها,تأملت وجهها بعد موتها؛جميل. نعم.
لم يعرف أسمائهن وإن كان ميز فيهن الجمال المصري. أيضا قتل سائحة بيضاء عرف من لكنتها أنها ألمانية. كانت جميلة ذات شعر أشقر. خنقها في محطة القطار النفقي بعد أن تتبعها دون أن تشعر. هناك ضابط أمن شعر بشيء خاطئ وطارده داخل عربات القطار. اضطر لقتله بضربة قوية على الرأس. هو قوي جدا, قوي كفاية ليحطم رأس أحدهم مثل تحطيم ثمرة فاكهة.
وقرر أن يسافر إلى ألمانيا, وأثناء سيره في شوارعها الرئيسية القريبة من ميدان برلين اختلطت معه أفكار قاتل آخر. لقد قرر أن يقتل فجأة,هذا القاتل, وكان مارا بالصدفة عبر فتاة جالسة,فقرر الجلوس على المقعد في الأريكة المقابلة لها,لحسن الحظ كان المكان فارغا. عند الزاوية,حيث زاوية النظر,يمكنه أن يحملق فيها كما يريد دون أن تلحظه هي. كانت تتحدث إلى فتاة أخرى شابة احتار أيهن فيهن أجمل من الأخرى. وشاب كان يرافقهما ويشاركهما الحديث. شعر بالحقد منه والغيرة عليها. بعد أن رحل الاثنين وخلت القاعة إلا منهما شعر أنه تنبهت له. اقترب منها وكانت تبتسم, ربما لأنه وسيم أو يحسب نفسه وسيم. امتدت يده تقبض على قصبتها الهوائية وتضغط بنية الكسر. لم تنكسر,ولكن لم تسمح بمرور أي صوت أو نفس.
قاتل قاتل قاتل أصابه هذا الهوس بما فعله, جريمته التي نفذها بيده, وهوس بما سيفعله. واختلطت معه شهوة القاتل الكبير من التجمع الكبير والماضي للعصابات. اختلط في ذهنه أيضا فكرة عن قاتل قتل سيدة فقط ليثبت قدرته على القتل, أو ليتبنى فكرة استحقاق بعض البشر للقتل, فالموت خير لبعض الكائنات الغير مفيدة من البشر.
في الثانية الأولى لم تستوعب ما حدث لها
في الثانية الثانية كان هناك رد فعل طبيعي من الجسد,ربما منذ الثانية الأولى,أحدث إستنكارا وإستنفارا في الوجه والعنق وبقية الجسم.
في الثانية الثالثة كان العقل مطابقا لحال الجسد.
في الرابعة امتدت يديها بسرعة إلى حيث أدركت موضع السلك,ولكنها أدركته متأخرا.
الثواني التالية كانت تعداد لموتها, حتى ماتت بالفعل.
رغم أن أكبر شريحة من جرائمه تحدث في السيارات, لازال يعجب حتى الآن لما لا تتنبه السيدات إلى شخص مختبئ في المقعد الخلفي. والموت ينتظرهن في الصندوق الأسود المغلق.
أنا الآن مالك لأمرك ولأمك,منذ ولدتك أمك وإلى حين موتك,وإلى يوم تبعثين.
هناك حالات عديدة للقتل
منها أن أي قاتل (يحترم نفسه) حين يقابل ضحيته, فهو ولا شك قاتلا إياها, ومن النادر أن تنجو ضحية منه. هذا القاتل جعل من المستحيل أن تنجو ضحية منه.
وهناك نظام من طبيب وأستاذ.
وهناك قاتل آخر قتل قاتله, كانت هذه أول جريمة له, لكنه كان دائما لديه استعداد مستمر للقتل. أيضا لم يكن ليقبل أن يكون لقمة سائغة لأي أحد. بعض الضحايا يسلمون بأجسادهم وأنفسهم ويستسلمون للموت. أو يكون هناك استنكار يتم تحويله إلى رجاء وآمال وأماني لن تتحقق ما لم تحققها بيدك. على الأقل هناك فرصة للمرء أن يعيش إذا قاتل قاتله. وإذا وقع في مصيدة قاتل كانت لديه النية لقتله فأي أمل سوف ينفعه طالما هو انتوى وعزم النية وربما مبيتها لقتله. ربما يخطط لذلك منذ مدة. ولكنه ربما لا يحسب أنه هو من سوف يكون مقتولا.
السياسي
كان له وصول إلى أكثر المناطق وعورة وخطورة في القاهرة,بالتحديد حوليات القاهرة أو ما يمكن تسميتها بـ تخوم القاهرة في شمالها وجنوبها,التي تقابل أحياء شيكاجو في أمريكا الحديثة أو الغرب الأمريكي القديم. كان جل تركيزه حاليا منصب على الشمال القاهري الحديث.
الجنوب معروف منذ زمن بوحشيته الممتزجة فيها الأعراف الصعيدية القاسية مع التقاليد العرباوية المفروضة عليها بحكم النشأة في بادية صحراء تتخللها مجموعة من مظاهر العمران متمثلة في بضعة بيوت متجاورة أو متلاصقة في مسامها ما يمكن تسميته بالحواري.
الجنوب هو ما عُرف بالقاهرة الفاطمية حيث الأحياء الشعبية يحكمها الفتوات في عهد الغزو الشيوعي فلم يكن هناك سادة في معزل عن العامة. والحكم مطلق لرجل من العامة هو (الفتوة).
ولقد مرت الأيام وتحول الفتوة,إلى .. إلى بلطجي!.
مجرد أجير مأمور بعد أن كان,في يوم من الأيام,هو الآمر.
عوامل عديدة قضت على الفتونة,منها ظهور البلطجي نفسه,الذي زحف من الجنوب إلى الشمال غازيا أو معمرا للمناطق الصحراوية / الزراعية الجديدة. بقت فقط آثار الفتونة متمثلة في ذكريات قديمة,وبعض رجال يحملون آثار هذه الذكريات.
في المقابل,عوامل أخرى ساهمت في نشوء البلطجة وأعمال العنف وإمتهانه عند العديد, وانتشار العنف (والنفوس الأفاقة الآثمة) في كل حدب وصوب من تلك المناطق التي لم تعد أحياءا شعبية,إن هي إلا مناطق عشوائية توزعت على الدولة كيفما أتفق دون أي تخطيط مسبق أو منظم لها. فأنتشرت مثل خلايا سرطانية لتصيب باقي الجسد الذي قد ينهار يوما.
مهنة السياسي,مثل الطب والطبابة,إلا أنه لا حد يجرؤ على الفتي في مسألة طبية (عدا في الأماكن العشوائية والشعبية والريفية) ولكن يأتي الجميع من عموم الشعب فكل واحد يدلي بدلوه فيما لا يفقه فيه شيئا. الطبيب إذا أخطأ في عمله لربما مات المريض أو أصابه مصاب أهلك جسده أو أدام عجزه. نفس الأمر مع السياسي,إذا ما ذهب عقله,لم تدم نعمته ولا نعمت الناس به.
المهم,أنه يبقى أن وظيفة السياسة مهمة. والسياسة وظيفة صعبة,قد تأخر أو تأخذ أشكال مهنية أخرى مثل الكاتب فالكاتب يعيد خلق الواقع وفق نظم جديدة هو من يضعها. ومثل القاتل الذي يتاح له القتل دون أي رادع أخلاقي.
السياسي رجل محنك,طالما يعرف كيف يتعامل مع هذه الأنماط من البشر, ولكنه في يوم ما تعرض لنوع من البشر قريب جدا منه.
تبلورت هذه الفكرة العبقرية في عقله منذ بلوغه السنوات السبع الأولى في عمره الطويل الذي امتد به حتى بلغ الستين. ستين عاما وستين مليون دولار نقدا في رصيده البنكي. هذا غير ثروته العقارية والسهمية مما يجعله -مع علاقاته المتنوعة والمتينة- واحد من أقوى وأخطر الرجال في مصر إن لم يكن في العالم.
تعدد زوجات بلغ به أن أحصى منهم سبعة,الرسمي منهم كان أربعة,صرن ثلاثة بعد أن طلق إحداهن -لازالت تعمل معه- ويبحث عن الرابعة. وثلاثة عاشقات,والمطلقة ركنت إلى جوار عدد من المطلقات. يعني أنه تخطى السبعة في علاقاته بالنساء,خصوصا إذا أضفنا إليهن أمه وأخواته وواحدة فقط من بناته,هي التي علمت بالأمر واستقبلته وعملت معه فيه. وهو كان قد ارتاح إليها واستخسر استخدامها. ليس الآن على الأقل. زوجاته الأربع وأخواته الثلاث. هو وزوجاته الأربع وأخواته الثلاث. ثم أبناءه. غير بناته اللاتي تزوجن وأنجبن وترك هو أحفاده طلقاء أحياء,وركز على الذكور من أولاده وأنثى وحيدة يؤجل استخدامها إلى حين. ولكن أولاده كانوا يأتون من إمرأة واحدة هي المحصنة عن كل الفوضى النظامية التي ابتدعها. بقية أبناءه وأولاده وأطفاله في نعيم إلى حين. وكان -وقد تعلم هذه الطريقة من صديق- يسجل في ورقة أسماء الذين يشكلون أهمية في حياته, ذكره الأمر بأنه في يوم من الأيام,ربما قد يتفرد أحد بالإشتغال من أجل تسجيل حياته هو وحده. وهو كان يتزوج الجميع.
تأمل فرح أحمد ونهال وفؤاد ومنى ومنال وفهد وحسين ووليد ومحمد ومازن وياسر ونهاوند وزكريا بعودة أبيهم جميل. الرجل الجميل الطيب الذي جعل حياتهم جنة بالمقارنة مع حياة الآخرين. وهم رأوا بأنفسهم نظرات الحرمان المخيفة في أعين الكثير من الأطفال. هم الذين لم يحرمهم أبيهم من شيء قط. وكان لما يطلب أحدهم أي شيء ينفذه فورا أو بعد حين لا يطول. والبعض يطلب السفر إلى بلاد بعيدة حيث العواصم الأجمل في العالم؛روما وفرنسا وجنيف ولندن. وهكذا عاش أطفاله في أحلام وردية تنتهي إلى حيث لا ينتهي العالم.
فكر في عمل ملجأ,إلا أن ألأطفال داخله يظلون مقيدون بأوراق رسمية تفيد وجودهم. هذا معناه المزيد من المصاريف والإلتزامات الإدارية والإقتصادية,والأهم من ذلك, معناه إنكشاف حقيقة وجودهم. هو يعلم أن لا أحد يسافر إلى شيء. وأن من يخرج من البيت الكبير والمغلق لا يخرج إلا لتفريغ جسده من أحشاءه وأعضاءه. حتى (المصارين) تفيد أحيانا.
الاختفاءات المتكررة,حيث ذهاب بلا عودة,صار أمر عادي بين الإخوة,بل ويتمنوه لبعضهم البعض,ويسعدون لصاحب النصيب الذي يفوز بهذا الحظ السعيد. هي إختفاءات مآلاتها بأجسادها إلى بلاد (برة) حيث الخارج. ليس خارج حدود هذا المنزل,بل خارج حدود العالم. والعالم بالنسبة لهم كان هو القاهرة. بينما أبوهم يحكي لهم أن القاهرة تلك التي تصل إليهم منها تأثيرات وآثار بسيطة,ليست إلا مدينة داخل بلد هو جزء صغير من هذا العالم.
وخارج العائلة تتكرر الإختفاءات,حيث المنافس الأكبر في تصدير البضاعة للخارج, وقد كان يمارس الإتجار بالأطفال على ثلاث خطوات؛ تربية أو تدجين, قتل وتفريغ, وأخيرا التوزيع والتجميد. المرحلة الأخيرة هي الأهم, لأن أي خطأ فيها قد يفسد بضاعة الجسد القيمة. يجب حفظ الكلية والقلب وخلافه. أو نقله مباشرة إلى جسد آخر. هي تجارة بالأعضاء وليس بالأطفال, وإن كانت تستلزم موت الأطفال.
كانت لديه العديد من الأفكار سابقا مثل العربة, أي خطفهم في عربة. ومثل قتلهم وتجزئيهم في المستشفى, أو شراء الأجساد أو الجثث من طرف وبيع الأعضاء إلى طرف. خاصة وأن تجارة الأعضاء رائجة في مصر. ولكن كل هذه الأفكار عن بيع الأعضاء بها ثغرات. أهمهما أن الأطفال لهم وجود, ولهم أهل يسألون عنهم. وهناك تحريات من الحكومة والمباحث دائما حول كل اختفاء.
أما هو,فيقوم بالزواج والخلفة / الولادة. تزوج أكثر من إمرأة. سبعة نساء بالضبط. ولما تحمل زوجة. أو لما تنجب. لا يخبر أحدا ولا يظهر لأحد أي إمارات تدل على ذلك. أي محاولة لتسجيل طفل في السجلات الرسمية هو إعلان بوجود هذا الطفل الموجود. وهو ما لا يريد حدوثه لا من قريب ولا من بعيد. ولا خبر!.
ما يفعله هو إزالة هذا الطفل من الوجود,لأنه رسميا لم يجيء إلى الوجود أصلا. بدلا من دفع أموال طائلة لا طائل منها على إخفاء طفل من الوجود. وإضافة قضية أخرى إلى قضايا خطف الأطفال أو اختفاء الأطفال أو تجارة الأعضاء أو تجارة البشر, وغيرها من البلبلات التي لا داع لها.
ناهيك عن تغطية حكومية جيدة بحكم منصبه السياسي المهم وموقعه الاجتماعي خاصة وأنه راعي لمؤسسة خيرية كبيرة.
ولكن لما اليوم يفكر كثيرا فيما يفعل! لما كل هذا التشتت عن عمله.
الواقع,أنه يشعر بحاجة عظيمة في أن يلهي نفسه بالكثير من الأمور التي تنسيه ما اقترفته يديه من آثام أثقلت كاهليه, خاصة وأنه يسكن مع أطفاله في البيت الكبير. ولكن لأنه يعيش معهم يشعر أنه يعطيهم قيمة لحياتهم. فهم لم يكونوا في الوجود. وهو من أحضرهم إلى الوجود وجعلهم سعداء. أيهما أفضل؛ الأطفال ينعمون قبل أن يموتون أم الأطفال يشقون قبل أن يموتون. في كل الأحوال كلنا أموات.
العامل
تعددت الأقنعة والهم واحد؛إمرأة تخشى أن تكشف وجهها حتى لا يعضها زوجها,منتقبة تمشي في سواد بأيام لا يعلم بها إلا ربها وزوجها,ومنتقبة أخرى لم ترحم زوجا ولا إبنا ولا أخا ولا أبا,ولا حتى أنثى من بني جنسها. وإمرأة أخرى تطلق وجهها جميلة ذات ملامح عالمية يتفق على جمالها العربي والشرقي والغربي,الأبيض والأسود,ذو العيون الزرقاء, الخضراء,البنية والعسلي. وجمالها كان سببا لمقتلها. وبين الرجال هناك رجال أشداء,منهم رجل نكرة بلا إسم ولا إسم علم حتى. يوصف عادة بالحداد
-خذ قل للحداد يوصل النصف بالنصف ويصلح هذه العجلة / الدراجة
قالها العامل لإبنه,والعامل أيضا بلا إسم,ولكنه معروف عند ولده بـ (أبي),وهو كان يريد أن يفرح إبنه ويجعله سعيدا ويدخل السرور إلى قلبه (وكلها معاني تؤدي إلى نفس الغرض). رغم أن هذا لا يظهر على وجهه أبدا,فهو من الوجوه المحفورة على سطوحها البؤس ينطق قبل نظراتها وكلماتها. وكان يحب عدد قليل من الناس,منهم الحداد الذي يفضله على العجلاتي (النصاب).
الكمامة على وجه فتاة تحاول أن تجد مساحة ولو ضئيلة بين زحام الركاب في عربات القطار النفقي,وفي حافلات الهيئة العامة,وكذلك داخل المؤسسات الحكومية المختلفة؛السجل, المدرسة,المستشفى. الأخيرة يفترض أن تكون مصممة لصنع نوع من الأمان النفسي قبل التعقيم الطبي والاحتياطات الأمنية الفعلية. يمكن لأي أمراض تنفسية أن تنتقل عبر النفس بسهولة. ولن يفيد قناع الكمامة إلا قليلا حينها ونادرا استخدامه. قناع آخر غير قناع الحداد وغير قناع الحجاب,وغير قناع الجمال ولا الوجوه المجمدة,ولا القناع الطبي ولا كمامة العامة,هو القناع الذي يرتديه عامل النظافة المسؤول عن تعقيم الطرقات والزوايا في محطة المترو بعد مرور آخر قطار حيث تبدأ ورديته الليلية. من الأقنعة أيضا ما يرتديه الجندي في العسكرية أثناء فض شغب أو مداهمة وكر أو نجدة شرطة. إذا أطلق الجندي رصاصة قتلت فتى,يحميه القناع من التعرف على وجهه,فلا يمكن أن يطالب أحد الثأر من شخص لا يعرفه,وطبعا لن يستطيع العثور عليه طالما لم يتعرف على وجهه. للأسف هناك طرائق أخرى للعثور على هذا المجند المسكين الذي تورط في قتل إبن المعلم حسين صالح. إبنه الأكبر وقد تجاوز الثلاثين ويبحث شقيقه الثلاثيني بمعونة أباه عن ثأر أخاه وإبن حسين. كان المسكين لا يفعل شيء غير تنفيذ الأوامر. كانت مشاجرة كبيرة هزت أرجاء وسط البلد من العتبة حتى القلعة. وتمكن الحاج حسين من استخدام صلاته واتصالاته للوصول للفتى. قتل إبنه الجندي زين,وقتل رجال حسين الرجل الذي تجرأ على تحديه وخوض معركة بالأسلحة النارية ضده. ولكن زين كان ينتمي إلى عائلة صعيدية,ليست من كبار الصعيد,ولا هي من أقواها,ولكنها قادرة على النيل من قاتل ولدهم,والحصول على ثأره. بعد مقتل ثاني أبناء حسين صالح,وجد الشقيق الثالث الأخير والأصغر الذي لم يبلغ الثلاثين بعد,وإن كان لا يقل قوة وعنفوانا وجرأة عن شقيقيه,وجد نفسه وأبوه في خضام معركة شرسة بين القاهرة وأسيوط. لقد تركوا أعمالهم وأشغالهم وتفرغت العائلتين للحرب.
اللحاد يرتدي جلد ميت تحت سترته الثقيلة التي تقيه برد الشتاء,ويرتدي وجه آخر غير الوجه الذي يراه الناس به,ولا يرى وجهه الحقيقي غير الموتى. يحصل قوت يومه من دفن الموتى,ومن إخراجهم من مدافنهم بعد ذلك. جمجمة ميت لطالب جامعي يدرس في كلية الطب. أظافر ميت مات حديثا من أجل ساحر لعمل طقوسه إرضاءا للشيطان. أحيانا يطلب الساحر أكثر من مجرد أظافر. يرى أشباح الموتى في الليل وفي الأحلام,لكنه لا يبالي,هم غير مؤذين على أي حال. جسديا على الأقل.
قناع شراب يرتديه مجرم حديث العهد بالإجرام,مجرم فاشل يمسك الفرد الخرطوش الذي يشكل له مسدس بدائي الصنع,لكنه مسدس روسي الطلقة الواحدة منه مثل عيار الخرطوش من بندقية. أمين شرطة مسكين ملطخ وجهه بفضلات الطعام الذي يأكله,طعام مشبع ولذيذ وغالي الثمن على غير العادة. نسى هندام نفسه,ونسى وظيفته. الأحمق أطلق الرصاصة في صدره ثم داخل يهدد الجميع بسلاح فارغ.
صرخة إمرأة,ليست من داخل البنك,وكان النهار قد ولى ومصير الفتى هناك قد مر,صرخة من إمرأة يجري اغتصابها الآن في العباسية. مجنون هارب يجوب الحواري الشعبية بالتعاون مع البلطجي الكبير في هذه المنطقة. سوف ينسب الأمر كله للمجنون بعد قتل الفتاة. لذا تعاون هو وعصابته معه. والفتاة مذعورة من هذه الوجوه الليلية التي تومض عيونها بكل شرّ. عثرت الشرطة على الجثة صباحا. واقتيد البلطجي في نفس اليوم إلى قسم الشرطة. أثبتت التحقيقات أن السلاح الذي كان مع مهاجم البنك ملكه أيضا. (وكأنه نوع من محاولة إغلاق عدة قضايا بكبش فداء واحد,رغم أن المهاجم تم إمساكه لدى قسم شرطة آخر!).
عم عمرو رجل شديد خشنت يديه,ومات جلدهما من العمل على حراثة الأرض,وجهه صار قناع طيني,إما بسبب الطين الذي يغطيه دوما,أو بسبب شقاء النفس في يومه كل يوم. فالأرض ليست أرضه. وفزاعة القش حالها خير من حاله. وقرع العسل الذي يحصده لم يذق طعمه الحلو مرة في حياته. يعطيه الرجل مالك الأرض وصاحب الشغل من ثمار أرضه فيلح عليه عم عمرو أن يعطيه مالا بدلا من ذلك,أو يستزيد به في رصيده من جهاز إبنته الذي وعد الحاج قطان صاحب الأرض أنه سيساهم فيه.
-طب خد الفلوس دي .. وخد القرع معاك,وليك عندي جهاز ابنتك كله علي
-يبقى أكون طامع بأن تزيد في القرشينات قليلا أو تساهم في علام الواد
-ربنا يسهل .. ربنا يسهل
لكن (ربنا يسهل) عبارة لا ترضي أحد,مثل عبارة (إن شاء الله) التي سمعها أحمد للتو من مديرته الأستاذة ندى,حيث وعدته بإجازة إسبوع (مع راتب تحتسب فيه جميع أيام هذا الإسبوع),ثم إنتقل الوعد,وقد مرّ شهر ونصف,إلى إجازة إسبوع بدون مرتب,ولكن هيهات تحقق أي من ذلك. وأمه تموت في المستشفى وهو عاجز عن أن يبقى معها,وإلا لن يجد مالا يسدد به مصاريف المستشفى. هو لا يأكل,ولا ينام,ولا يغيب. هو موظف وثابت ومؤمن عليه لكن لم يستفيد في هذا التأمين لتقديم أي شيء لأمه. هو لا يغيب آملا في أن ينجح ماله في شفاءها. هو مؤمن بالله أو هكذا يحسب نفسه.
الآن أمه تحت الأرض,وتحت الأرض يقف وائل أمام هذا الشيء,يمكن تسميته بـ (ذو المائة وجه) لأنه حسب كل هذه الوجوه العديدة قد تجاوزت المائة. لم يدرك أنه أصاب كبد الحقيقة بالضبط. فهو يملك مائة وجه ووجه. ربما أكثر. لكن هذه الـ100 المعروفين له.
النفساني
[1]
أخ وأخته,شقيقين,كأنهما ورثاه مثل داء عن والديهما,تجاوزا الثلاثين واحتفظا بملامح خشنة لدى كل منهما,هما يتشابهان في الملامح والطباع. طينة واحدة قلبا وقالبا. أبرز السمات التي تميزهم هي تلك الأنفة والاعتزار المبالغ به بالرأس. نادية امرأة محجبة,هذا أمر مفهوم,لكن المستغرب أنها حتى لا تخلع حجابها ولم تفعل ولا مرة في الأماكن التي تختلي فيها مع أخرياتها من النساء. الأكثر غرابة هو جمال الذي يعتبر كشف رأسه عورة كما المرأة. يرجع ذلك لأصولهما الصعيدية من محافظة أسيوط,والطباع الحادة والقاسية كما ملامحهما التي يتميز بها أغلب الناس هناك. ومهما استهلك شخص ما من وقت وجهد في محاولة إقناع أحدهما فإن رؤوسهم من النوع القديم ذو الأقفال بلا مفاتيح. حاول أحدهم أن يمزح مع جمال في العمل ويسقط عنه عمته أثناء حمله ونقله للبضاعة المطلوب تخزينها. ألقى بالثقل كله على غريمه حتى كاد يكسره,واستطاع أن يثبت عمته فلم تسقط أو ينكشف جزء من رأسه تحتها.
[2]
شقيقين آخرين من أبناء القاهرة,النوعية التي يطلق عليها ذو عيون مفتحة,وليس لديهم عمى الفلاحين الأغراب عن متغيرات القاهرة وحداثتها. لذا حولا هوسهم في تغطية الفم إلى مكمل لأناقتهما التي يشاد بها بين كل أقرانهما. وهما الأصغر سنا من جمال ونادية والأكثر إهتماما وعناية بمظهرهما.
علياء تحب ارتداء السروايل,وتلبس أحدهما الآن فوق حذاء رياضي أسود وفوقه كنزة سوداء وتعتمر قبعة كاسكيت سوداء وترتدي نظارة سوداء وتخفي بقية الثلث الأهم في الوجه بعد العينين بكمامة سوداء على الفم. فلا يبقى سوى الثلث الثالث من الوجه؛الأنف ذو الأرنبتين الدقيقتين. مع ذلك لا يخفى جمالها وحسنها الأبيض. قطعة من الثلج أو القطن أو الكريم ملفوفة في حرير أسود.
شقيقها التوأم علي يرفع دوما وشاحه الأسود إلى فمه,ملتفا حول نصف وجهه قبل عنقه.
[3]
ناهد سيدة في الأربعين من عمرها,أهم معالم جمالها هو صدرها البارز بقوة إلى الأمام وبشكل ملحوظ ولافت للنظر. فاطمة هي الوسطى,والأجمل وقد بلغت من الجمال ذروته الوسطى فأخذت من والديها عن أمها وعمتها,وأخذت من شقيقتيها عن كبريتها وصغيرتها. وأخذت من العمر ثلاثين عاما حتى نضجت وبرق لونها وفاح أريجها. وأخذت من الألوان سمرة لا توصف بالسواد ولا هي من البياض في شيء خصوصا مع حمرة خديها وشفتيها. وأخذت من الطول اعتدال فلا هي بالطويلة ولا بالقصيرة. وأخذت من العود رفعا من القدم إلى الرأس,ومن السمنة بروزا في المفاتن واستدارة في المحاسن. أما عن الصغرى فكانت أصغرهن وأقصرهن وأجملهن,وأكثرهن مرحا ودلالا حتى تدللت بحصولها على إسما غير إسمها؛عيون,في وصف زرقة عينيها المخالفتين للعسلي المميز لأختيها. والمعتاد عن أفراد العائلة. غير إسمها المختلف وهو نبعة,وقد كانت نبعا مملوءا بأنوثة لا تجف. متوج بشعر مثل أرض معوشبة لا تنضب. وكأنها تعوض في قصرها بطول شعرها,الذي لا يبدوا أنه سيتوقف عند حد ما. وقد لامس بآخر أوتاره مؤخرتها.
[4]
كان يخبئ يديه دوما بين كفيه وأصابعه,لا يعرف كيف يسترهما,ولكنه يكتفي بأن يظل يديه مضمومتان إلى بعضهما لا يفتحهما. أو يعقدهما أو يضمهما إلى صدره,أو خلف ظهره,أو يكتفي بأن يشبك أصابعه. ويفرح كثيرا إذا ما اشترى أو أهدي قفازا أو منديلا أو حتى حقيبة. كان يستغل أي موارد متاحة بين يديه لإخفاء أصابعه,وكانت أصابعه تخيف الكل,حتى هو يخاف من نفسه كلما سقطت عينيه على يديه. يتأمل ظهر يديه,طبيعية. يتأمل كفيه,طبيعية. يتأمل الحدود المفرجة بين أصابعه,عادية. يتأمل الجلد فيبدو مثل جلد البشر. ينظر إلى المعصم كأنه مثل أي شخص آخر. تتسلل عينيه إلى الجذر صعودا عقلة عقلة وصولا للأنامل عند رؤوس أصابع,وينظر إلى أظافره. هنا يدرك ويفزع من الصورة الغريبة التي انمسخت عليها أصابعه. أو كيف استحالت إلى ما آلت إليه الأمور.
وشقيقته العزيزة لم تسلم من لقب ذات الكمين,ولم يعرف أحد لما هي هكذا,واعزوا الأمر إلى انطوائيتها. ترتدي أكماما طويلا ليلا نهارا صيفا شتاءا.
[5]
ممددا على بطنه كعادته يطلب من إبنته أن تدلك له ظهره بعد يوم شاق من العمل,وقد غزى الإنهاك جسده كله,وتحت الجسد شيء ما كان يرقد. يتحرك. يتنفس. يتغذى على بدنه. ويتحرك تحت الجلد متسللا وعابثا هنا وهناك. هكذا شعرت سارة,ودوما كان يقشعر بدنها أول ما تلمس بأصابعها ذلك السطح الجلدي البشري الغير سوي. للمدعو أبوها. ذات ليلة نامت في حضنه,وكانت تخشى منه,ومن قضيبه. في تلك الليلة اطمأنت إلى أن أبوها هو أب حقا وفعلا,وأن كل ما في خيالاته ليس إلا وهم أمرضها,أبوها ليس مريضا مثل أبو صديقتها. ليس مريضا جنسيا على الأقل. لكنه مريض بشيء آخر. وكان قد اطمأن قلبها من ناحية ما تحت سرواله,ولكن تحت الجسد. وتحت الجلد. كان هناك شيء قابع هناك. احتضنت أبوها بقوة,تتحسس جلده,وتنكمش وتلتصق بجلده خوفا من جلده.
[6]
كانت حامل,وتحققت مخاوف الحمل المعتادة عند النساء في هذه المرحلة,وقد صارت من أصحاب البطون المنتفخة. وأصحاب البطون المنتفخة ظاهرة أطلقت على فئة من الناس لا تنحصر في النساء الحوامل فحسب.
رجل يداعب كرشه أثناء استرخاءه على كرسيه ومشاهدة التلفزيون
فتى يحاول أن يداري قرقرة بطنه
إحدى الشقيقات الأربعة تخفي بطنها الغير حامل
والبطن يتكلم ويأكل ويتنفس .. كأن له فم, أو بالفعل له فم.
[7]
استرجع كل تلك المشاهد من ذاكرته,وقام بمحاولة لأجل ترتيبها وتنظيمها,ومطابقة بعض الأحداث مع أحداث من الماضي,والمقارنة بين المشاهد الحاضرة,وبعض الرؤى القديمة سواء كانت حقيقية أم خيالية. فمثلا يتذكر إعلان موشو. إعلان كان يعرض منذ سنتين أو ثلاث. على التلفزيون وعلى اليوتيوب. وفيه رأس يصرخ أسفل الثوب محاولا الخروج خارجه (براه). ولكن ما رآه كان أسوأ, ولقد توصل وهو الباحث أو العالم إلى حقيقة الربط بين هذه الظواهر وطبيعة العلاقة المنبثقة من رد فعل جسدي على أثر نفسي. نظر إلى يده ولكنها لا تطاوعه. وأدرك أن الوقت متأخر.