نتعرف عبر هذا الكتاب على الحركة الثقافية مع الجوانب الفلسفية التي تحلل النظم أو الهياكل حتى الوصول إلى مفهوم كامل. بدأ هذا التيار كلود ليفي شتراوس. وفي الآتي بعض تعريف به.
البنيوية Estructuralismo هي فلسفة تنطلق من كون البنية مرجعا أوليا للحقيقة.
حيث يفترض أن البنية هي الوحدة الأصغر التي يُبنى بها أي شيء. سواء كان بنيانا ماديا أو فكريا. هذه الوحدة تتميز بثلاث خصائص أساسية:
1-وحدة صغيرة بدرجة كافية للبدء بها (البنية) يقوم عليها هذا البنيان / النظام
2-تنساق هذه الوحدة مع وحدات أخرى ضمن نظام معين محكوم بقوانين معينة
3-نظام يربط بين هذه الوحدات والقوانين
ويمكن تمييز ثلاثة عناصر أساسية ترتبط فيما بينها بهذه الخصائص؛ البنية أو الوحدة، والفضاء (الزمكان)، والحركة / النظام. الفضاء هو الوجود نفسه، وجوده ضروري في الأشياء، ولكن ليس ضروري في التعريف. العنصرين الأكثر أهمية، هما البنى (المكونات)، والنظام، ولهذا فإن البنية تكاد تترادف في معناها مع التكوينية (ولها صلة قربى مع الوظيفية), والبنية هنا تعادل النظام مع تطبيقها لشروطها الثلاثة. “هذا النظام (الكوني) هو تكافل عناصر الثالوث المذكور ببناء الكون على أساليب تضمن ارتباط أجزائه والتدرج في تطوراته درجات متصل بعضها ببعض.
وهنا تلوح في بالنا الأمور التالية
1-هندسة النظام تستلزم عملية تنظيم.
2-التنظيم يستلزم وجود أعضاء نزوعة للنظام،تنتظم في جسم.
3-وجود الأعضاء يستلزم أن تكون ذات شخصيات — ذاتيات.
4-النظام يستلزم وجود منظم” [فلسفة الوجود / نقولا حداد / النظام المادي,ص12].
ويتفق هذا الكلام مع ما استخلصه الفيلسوف المصري زكريا إبراهيم في كتابه حول (مشكلة البنية)، أن “البنية هي القانون الأول الذي يحكم تكون المجاميع الكلية من جهة، ومعقولية تلك المجاميع الكلية من جهة أخرى” [مشكلة البنية، ص 33]. بعد أن قابل بين تعريفين مرجعيين للبنية؛ الأول لـ جان بياجيه: (أن البنية هي نسق من التحولات، له قوانينه الخاصة باعتباره نسقا (في مقابل الخصائص المميزة للعناصر)، علما بأن من شأن هذا النسق أن يظل قائما ويزداد ثراء بفضل الدور الذي تقوم به تلك التحولات نفسها، دون أن يكون من شأن هذه التحولات أن تخرج عن حدود ذلك النسق، أو أن تهيب بأية عناصر أخرى تكون خارجة عنه). والثاني لـ ليفي شتراوس: (البنية تحمل -أولا وقبل كل شيء- طابع النسق أو النظام. فالبنية تتألف من عناصر يكون من شأن أي تحول يعرض للواحد منها، أن يحدث تحولا في باقي العناصر الأخرى).
وبتعريف آخر -لو طبقنا ذلك على الأدب مثلا- البنيوية هو نهج يدرس العلاقات المتبادلة بين العناصر الأساسية المكونة لبنى يمكن ان تكون: عقلية، لغوية، اجتماعية، ثقافية. وتعتمد علي مفهوم البنية التي يجب تحليلها إلي عناصرها الأولية (في ذاتها أو بالاتصال مع جيرانها من البنى الأخرى المكونة للمبنى) وإلغاء أي عوامل خارجية (تاريخ, نفسية, إجتماع). وكل ظاهرة – تبعاً للنظرية البنيوية – يمكن أن تشكل بنية بحد ذاتها؛ فالأحرف الصوتية بنية، والضمائر بنية، واستعمال الأفعال بنية.. وهكذا.
ليفي شتراوس هو مؤسس البنيوية، ممثل آخر لهذه الحركة كان ميشيل فوكو، وفي العموم، البنيوية مذهب فكري ارتبط بأعلام الفلاسفة المحدثين في فرنسا.
تتلاقى المواقف االبنيوية عند مبادئ مشتركة لدى المفكرين الغربيين
-السعي لحل معضلة التنوع والتشتت بالتوصل إلى ثوابت في كل مؤسسة بشرية.
-القول بأن فكرة الكلية أو المجموع المنتظم هي أساس البنيوية، والمردُّ التي تؤول إليه في نتيجتها الأخيرة.
-لئن سارت البنيوية في خط متصاعد منذ نشوئها، وبذل العلماء جهداً كبيراً لاعتمادها أسلوباً في قضايا اللغة، والعلوم الإنسانية والفنون، فإنهم ما اطمأنوا إلى أنهم توصلوا، من خلالها، إلى المنهج الصحيح المؤدي إلى حقائق ثابتة.
= في مجال النقد الأدبي، فإن النقد البنيوي له اتجاه خاص في دراسة الأثر الأدبي يتخلص: في أن الانفعال والأحكام الوجدانية عاجزة تماماً عن تحقيق ما تنجزه دراسة العناصر الأساسية المكونة لهذا الأثر، لذا يجب أن تفحصه في ذاته، من أجل مضمونه، وسياقه، وترابطه العضوي، فهذا أمرٌ ضروري لا بد منه لاكتشاف ما فيه من ملامح فنية مستقلة في وجودها عن كل ما يحيط بها من عوامل خارجية.
= إن البنيوية لم تلتزم حدودها، وآنست في نفسها القدرة على حل جميع المعضلات وتحليل كل الظواهر، حسب منهجها، وكان يخيل إلى البنيويين أن النص لا يحتاج إلا إلى تحليل بنيوي كي تنفتح للناقد كل أبنية معانيه المبهمة أو المتوارية خلف نقاب السطح. في حين أن التحليل البنيوي ليس إلا تحليلاً لمستوى واحد من مستويات تحليل أي بنية رمزية، نصيّة كانت أم غير نصيّة. والأسس الفكرية والعقائدية التي قامت عليها، كلها تعد علوماً مساعدة في تحليل البنية أو الظاهرة، إنسانية كانت أم مأدبية.
ونضيف إلى هذا الاقتباس آخر:
إن موقف البنيوية من النص يختلف عن التفكيك، وهذا هو القادح على طرق المحاولة والوقوف على أهم أفكار كلا المدرستين من النص .
بدءاً بالأسبق في الظهور ألا وهي البنيوية؛ إذ تعدُّ أحد فروع المجالات العلمية (كيمياء، فيزياء.. إلخ) وهي مصب للفلسفة والنقد والدراسات اللسانية وغيرها، وهي وثيقة الصلة بالحداثة. ومن أهم أفكارها تجاه النص ما يلي:
تنظر إلى النص على أنه عالم مستقل قائم بذاته، وبهذا المعنى تستبعد الأيدلوجيات والملابسات خارج النص.
النص بالنسبة لها مغلق ونهائي، وتفسيره أيضاً مغلق ونهائي. (أي أنه بمجرد الانتهاء من كتابة المرسلة تتقوقع على نفسها وتنغلق بعيداً عن كاتبها ومتلقيها، لذا تحال التأويلات للنص لا إلى غيره).
السلطة للنص، فكل التأويلات والتفسيرات منبعها منه فقط.
وله مركزية ثابتة، وحوله تدور التأويلات.
ترى أنه متناسق ومنسجم يخضع لنظام يضبطه، لذا كان لزاماً على الناقد البنيوي البحث عن ذلك النظام والسعي للكشف عن «شفرة» النص وأنساقه، وإن تمكن من ذلك أدرك أبعاده.
وبما أن النص يحكمه نظام منسجم فهو يوفق بين المناقضات والتضادات التي يقوم عليها.
يتكون النص من رموز ودلالات، ويُدرَّس على مستويات مختلفة: نحوية، وإيقاعية، وأسلوبية، ولاكتشاف بنيته لا بد من التركيز على الظواهر الأسلوبية فيه.
وأخيراً إن العمل الأدبي عبارة عن بنية متكاملة من خلال العلاقات بين مفرداته.
إذن إن المنهج البنيوي منهج تحليلي، ليس تقويمي حكمي، فهو لا يهتم بشرح العمل الأدبي، ولا رفعته أو ضعته؛ ولقد شكك في كافة المرجعيات وارتمى في أحضان اللغة، وقد بيَّن رولان بارت مهمة الناقد البنيوي بأنه ليس مكلف بكشف الحقائق أو اكتشاف سر من الأسرار؛ بل عليه أن يطابق لغة عصره والكلام.
أما التفكيكية التي جاءت نقضاً للبنيوية، فإنها بدأت منذ نهاية الستينات من القرن العشرين، وتمثل ما بعد البنيوية وتعد امتداداً لها وخروجاً عليها في الوقت نفسه، ورائدها «جاك دريدا»، وبشكل عام النقد التفكيكي هو مقاربة فلسفية للنصوص أكثر منه مقاربة أدبية، إنه منهج في القراءة، وبذلك تكون السلطة فيه للقارئ، وكل ما قيل سابقاً عن البنيوية ينسفه التفكيك.
وأهم أفكارها حول النص التالي:
إنها شككت في كافة المرجعيات إذ مات في ظلها المؤلف واللغة و كل ما يدور حول النص ولم تتبق إلا بدعة القراءة.
إن النص غير منسجم ولا متناسق – عكس ما قالته البنيوية – فهو ينزع إلى التنافر والتفكيك.
غياب المركز الثابت للنص، وهذا جوهر التفكيك الذي نادى به دريدا.
النص مفتوح ولا نهائي؛ ولذا على كل قارئ له أن يفسر العمل الأدبي بطريقته الخاصة، ولا يقتصر على ذلك فحسب، بل ينتجه ويعيد كتابته، وكل قراءة تسيء إلى ما قبلها، أو هي قراءة أخرى.
النص في التفكيك لا قيمة له من غير القارئ إذ هو السلطان الذي يحدد دلالته، لذا نجد القراءة التفكيكية تبدأ من أي جزء في النص، فالقراءة ضربٌ من الإبداع، والقارئ هو الذي يعطي النص معناه.
يشكك التفكيكيون في العلاقة الثابتة بين الدال والمدلول، ويحاول دريدا زعزعتها بردها إلى فضاء الاختلاف ويتم جراء ذلك تفتيت كل خطاب جاهز. وبهذا يكتسب المدلول حرية مطلقة، مما يتيح للقارئ أن يفسر العلامات بالمعنى الذي يشاء.
ومن خلال التشكيك بين الدال والمدلول ظهرت مصطلحات للتفكيك منها: الإرجاء (التأجيل، الانتشار والتشتيت، فكرة الكتابة، فكرة الغياب والحضور.
وفي الختام أقول: إن هذه المقارنة تبين تصور البنيوية والتفكيك للنص، من خلال عرض أبرز أفكارهما منه، والتي تهم دارس النقد الحداثي وما بعده، وما هذا إلا اجتهاد أرجو من الله التوفيق فيه.
——————————
المصدر: جريدة الرياض– 3 ابريل 2009م – العدد 14893.
أعلام مبرزين: جوليا كريستيفا، رولان بارت، جون لانجشو أوستن،
للمزيد من القراءات:
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.