ترجمة قصص من الأدب الأسباني والأمريكي اللاتيني – حمدي العطار
بغداد
الترجمة تقتضي أن تقدم صورة جميلة للأصل وليس شكلا مشوها، وتطور علم الترجمة من (الترجمة المصاحبة) الى (الترجمة الفورية) الى استخدام (ماكينات الترجمة) وتبقى الترجمة بواسطة الانسان هي الاقرب الى الفهم ، وبما أن علم الترجمة تطور ايضا مع ما توصلت اليه علوم اللغويات الحديثة وعلوم الاتصال، وتلاشت المسافات بين الثقافات في ثورة الاتصالات وامتدت الى مجال النقل من لغة الى أخرى فاصبح للترجمة أهمية كبرى، فيقول الناشرعن كتاب “متحف الجهود الضائعة” (أسهمت في عولمة اللغة الإسبانية وثقافتها، وعرفت بالأدب المكتوب في هذه اللغة على نطاق واسع” كما جاء في كلمة الناشر (في هذا الكتاب الذي تقدمه دار المامون تحرص المترجمة – اشراق عبد العال- الى الاحاطة بظروف إنتاج النصوص التي اختارتها ونقلتها الى العربية بكل دقة وتفان)
القصة ثمرة الرمز
تعد القصة احد اهم مكونات ثقافة الرمز وليس من السهولة ترجمتها! وتؤكد المترجمة في المقدمة بإن الرؤية لأستيعاب الأدب الاسباني (لا توفيها حقها وقفات سريعة كهذه بل يتطلب الأمر في الأقل، عملا يبحث في العلاقة التي نشأت بينها وبين الظروف التي كانت تحيط بها لتنتج أدبا يتغير شكله وروحه بقدر التغير الذي كان يعكسه محيطه)، قد تقترب الترجمة من دلالات الكلمات وايحاءاتها ، والاسلوبية التي تعني نقل معنى والاسلوب معا هي الاقرب الى الأصل معنى واسلوبا، وتكتب اشراق قائلة (سنمر سريعا على القصة في إسبانيا وأميركا اللاتينية وننتقل بطريقة موجزة بين تياراتها الحديثة والمعاصرة والفترات التي عاشتها، وما اضافه لها الخيال الإسباني الأميركي اللاتيني الذي ارتبط بنحو او بآخر مع التيارات الادبية الطليعية الأوربية وهي التي تميزت بأساليبها وأفكارها النفسية والفلسفية وتقنياتها السوريالية إذ تقاطع معظم كتاب القصة والرواية مع رؤية المنطق للواقع وانتجت أعمالا تدور في محيط اللامعقول وغير القابل للتفسير)
محتويات الكتاب
يقع الكتاب في 120 صفحة ويضم نبذة مختصرة عن حياة كل كاتب وكاتبة مع اختيار قصة قصيرة لهم ، وبلغ عدد المشاركين في هذا الكتاب 8 هم (خوان غويتيسولو من اسبانيا – قصة نهاية عطلة ) و(ايزابيل اللينيدي من شيلي- قصة امرأة القاضي) و (بيو باروخا من اسبانيا اقليم الباسك – قصة الرجل العجوز وأغنيته) و (خوان رولفو من المكسيك – قصة لا تسمع نباح الكلاب) و (الينا بونياتوسكا من المكسيك- قصة الرسالة) و(كرستينا بيري روسي من الاوروغواي – قصة متحف الجهود الضائعة) و(ماركو دينيبي من الارجنتين- قصة إله الذباب) و(آنا ماريا ماتوته من إسبانيا- قصة خطيئة التهميش) وتذكر المترجمة اهم المؤثرات على القصة الاسبانية هي ( وجود عدد غير قليل من كتاب القصة، أولئك الذين شهدوا بربرية الحرب الأهلية الإسبانية 1936-1939 على ارضهم، والذين عاشوا ويلات الحرب العالمية الثانية 1039-1945 منفيين في بقية دول اوربا، حيث شكلو فيما بعد تيار أدب “ما بعد الحرب” الذين سجلوا وجمعوا من خلاله انطباعاتهم عن الحرب وعن مجتمع ظل ينوء بحمل معاناة اثار الحرب التي استحالت الى أزمة روحية وأخلاقية استمرت زمنا طويلا”
الخاتمة
قراءة هذه القصص المتنوعة سوف تنقل ذهن المتلقي الى تلك الدول ، وهذا بحد ذاته ما يؤكد ان الترجمة كانت في مستوى الاصل، يقول فرويد – وهو الماني- “بإنه كان يقرأ الفقرة باللغة الانجليزية ثم يطوي الكتاب ويعبر عما فهمه وعما تذوقه بلغته الالمانية فتجيء الترجمة وكأنها من وحي المترجم وإبداعه” وهذا ما نلمسه من ترجمة اشواق عبد العال في كتاب (متحف الجهود الضائعة) كتاب يستحق القراءة والتأمل.”
قصة الرعب .. ترجمة: لحسن الكيري
عزمت السيدة اللندنية سميتسون (هذه القصص تحدث دائما بين الإنجليزيين) على قتل زوجها لا لشيء إلا لأنها ملت منه بعد خمسين سنة من الزواج. قالت له:
– تاديوس، سأقتلك.
– أنت تمزحين، إيوفيميا – قال التعيس و هو يضحك.
– و متى كنت أمزح أنا؟
– أبدا، هذه حقيقة.
– و لماذا يمكن أن أمزح الآن و بالضبط في قضية جدية كهذه؟
– و كيف ستقتلينني؟ – تابع تاديوس سميتسون ضاحكا.
– لا أدري حتى الآن. ربما أدس لك يوميا جرعة من الزرنيخ في الطعام. و قد أضعف لك قطعة صغيرة في محرك السيارة. أو أنني سأجعلك تتدحرج مع الدرج، أو أغتنم الفرصة عندما تكون نائما فأسحق جمجمتك بشمعدان فضي، أو أربط سلكا كهربائيا بحوض الاستحمام. سنرى.
فهم السيد سميتسون أن زوجته لم تكن تمزح. فقد النوم و الشهية و أصيب بأمراض القلب و الجهاز العصبي و الرأس. و بعد ستة أشهر سلم الروح لبارئها. و لأن السيدة سميتسون تاديوس كانت ورعة، فقد شكرت الله ما دام أنه كفاها شر أن تكون قاتلة.
الحصان
استمرارية الحدائق، ترجمة: سماح جعفر
كان قد بدأ قراءة الرواية منذ بضعة أيام. ووضعها جانبًا بسبب بعض الأعمال الطارئة، فتحها مرة أخرى وهو عائد إلى منزله بالقطار؛ سمح لنفسه باهتمام بطيء ومتزايد بالحبكة وبرسم الشخصيات. تلك الظهيرة، بعد أن كتب رسالة إلى وكيله وناقش مع مدير بنايته مسألة الملكية المشتركة، عاد إلى الكتاب في هدوء وهو يتأمل الحديقة وأشجار السنديان في الخارج. متمددًا على كرسيه المفضل، وظهره إلى الباب، في حالة أخرى كان هذا سيزعجه باعتباره احتمالية مزعجة للتطفل، ترك يده اليسرى تداعب مرة ثم أخرى التنجيد المخملي الأخضر، ثم استهل قراءة الفصول الأخيرة. دون جهد احتفظت ذاكرته بأسماء وصور أطراف النزاع؛ سيطر الوهم عليه دفعة واحدة تقريبًا. ذاق طعم المتعة الضارة في تحرير نفسه سطرًا سطرًا عن كل ما يحيط به، وشعر في نفس الوقت أن رأسه كان مسترخيًا بشكل مريح على المخمل الأخضر للكرسي ذو المسند العالي، لأن السجائر ما زالت في متناول يده، ووراء النوافذ الكبيرة يرقص هواء الظهيرة في الحديقة تحت أشجار السنديان. كلمة بكلمة، انغمس في المعضلة الدنيئة للبطل والبطلة، تاركًا نفسه يتجه حيث تتجمع الصور وتأخذ اللون والحركة، كان يشاهد الصدام الأخير في المقصورة الجبلية. المرأة وصلت أولًا، قلقة؛ الآن جاء المحبوب، جرح وجهه بحافة غصن. بشكل رائع أوقفت نزف الدم بقبلتها، لكنه صد مداعباتها، فهو لم يأت ليعيد احتفالات شغف غامض، محمي بعالم من أوراق الشجر الجافة والطرق السرية عبر الغابة.
الخنجر دفأ نفسه قبالة صدره، وفي الأسفل، حرية مقيدة مستعدة للانطلاق. حوار توق شهواني انطلق في الصفحات مثل غدير من الثعابين، يحس المرء وكأنه مقرر منذ الأبد.
حتى تلك المداعبات التي تتلوي حول أجساد المحبين، رغبت أيضًا في إبقاءه هناك، لتثنيه عن ذلك، ترسم بشكل حقير هيئة الجسد الأخر الذي كان من الضروري تدميره. لا شيء منسي: الذرائع، المخاطر غير المتوقعة، الأخطاء المحتملة، منذ هذه الساعة، كل لحظة لها استخدامها المقرر بدقة. الدماء الباردة، ومضاعفة إعادة النظر في التفاصيل بالكاد قاطعت اليد في مداعبتها للخد، بدأ الظلام يحل.
دون النظر إلى بعضهم الآن، ركزوا بصلابة على المهمة التي تنتظرهم، افترقا عند باب المقصورة. كان يجب عليها أن تتبع القطار الذاهب للشمال. على الطريق المؤدي للاتجاه المعاكس، التفت لحظة ليشاهدها تركض بشعرها الطليق. ركض بدوره، زاحفًا بين الأشجار والأسيجة حتى يتمكن من التمييز في الضباب المصفر للغسق، جادة الأشجار المؤدية إلى المنزل. لا يجب على الكلاب أن تنبح، ولم تنبح. مدير البناية لن يكون هنا في هذه الساعة، ولم يكن. صعد درجات الرواق الثلاثة ودخل. خلال الدم المتسارع في أذنيه أتت كلمة المرأة: أولًا صالون أزرق، ثم رواق، ثم درج عليه سجاد. في الجزء العلوي، بابان. لا أحد في الغرفة الأولى، ولا أحد في الثانية. باب الصالون، ثم الخنجر في يده، الضوء من النافذة الكبيرة، المسند العالي لكرسي مكسو بمخمل أخضر، رأس الرجل على الكرسي يقرأ رواية.
المزيد من القصص من موقع: (أدب أمريكا اللاتينية وإسبانيا)
1 – ركن خطير
السيد إيبيديديموس ، رجل أعمال ، أحد أغنى الرجال في العالم ، شعر يومًا ما برغبة قوية في زيارة الحي الذي عاش فيه طفلاً وعمل كبائع في أحد مخازنه. أمر سائقه بأخذه إلى ذلك الحي المتواضع النائي. لكن ذاك الحي كان قد تغير لدرجة أن السيد إيبيديديموس لم يتعرف عليه. وبدلاً من الأحياء الترابية ، كانت هناك شوارع مرصوفة ، واستُبدلت المنازل الصغيرة البائسة التي كانت بالأمس بأبراج سكنية.
وفيما كان ينعطف في زاوية ، رأى المخزن ، وهو نفس المخزن القديم المظلل ، حيث كان يعمل ككاتب عندما كان في الثانية عشرة من عمره.
توقف هنا. قال للسائق. خرج من السيارة ودخل المخزن. تم الحفاظ على كل شيء كما كان في طفولته: الرفوف ، سجل النقد القديم ، ميزان الأوزان ، وحوله ، حصار البضاعة.
كان السيد إيبيديديموس يشم رائحة هي نفسها الرائحة منذ ستين عاما: رائحة حارة ، حلوة مرة للصابون الأصفر ، ونشارة الخشب الرطبة ، والخل ، والزيتون . ذكريات طفولته جعلته يحن إلى الماضي. عيناه اغرورقتا بالدموع، بدا له أنه يعود في الوقت المناسب.
من خلال الظلال العميقة جاءه صوت وقح لصاحب المحل:
ما هذه الساعة التي جئت فيها؟ أ بقيت نائما ، كما هي عادتك دائما.
أخذ السيد إيبيديديموس سلة ، ملأها بعلب السكر ، القنب و الشعرية والمعكرونة ، مع جرار من المربى وزجاجات من مسحوق الغسيل ، وخرج للقيام بالتوزيع.
كانت الليلة السابقة قد أمطرت و حولت الطرق الترابية إلى مستنقع.
2 – قصة رعب
قررت السيدة سميثسون ، من لندن (هذه القصص تحدث دائما بين الانجليز) قتل زوجها ، لا لشيء إلا لأنها سئمت معه بعد خمسين عاما من الزواج. قالت له:
– ثاديوس ، سأقتلك-
– “أنت تمزحين، أوفيميا” ، ضحك التعيس- .
– – متى كنت أمزح؟-
– قط ، هذا صحيح- .
-لماذا يجب علي المزاح الآن وفقط في مثل هذه المسألة -الخطيرة؟
– وكيف ستقتليني؟ واصلت ثاديوس سميثسون ضاحكا- .
– حتى الآن لا زلت لا أعرف. ربما عن طريق وضع جرعة صغيرة من الزرنيخ في طعامك كل يوم. ربما أرخي قطعة في محرك السيارة. أو سأجعلك تتدحرج من السلالم، و قد أستغل الفرصة عندما تكون نائماً لسحق جمجمتك باستخدام شمعدان فضي ، أو أقوم بتوصيل كابل كهرباء بحوض الاستحمام ، سنرى .
فهم السيد سميثون أن زوجته لا تمزح. ففقد نومه وشهيته. ثم مرض بالقلب والجهاز العصبي والرأس. بعد ستة أشهر مات. شكرت إيفيميا سميثسون ، التي كانت امرأة تقية ، الله لإنقاذها من كونها قاتلة
3 – امبراطور الصين
عندما مات الإمبراطور وو تي في فراشه الضخم ، في أعماق القصر الإمبراطوري ، لم يلاحظ ذلك أحد. الجميع كان مشغولاً للغاية في تنفيد أوامره. الشخص الوحيد الذي علم بالأمر هو وانج مانج ، رئيس الوزراء ، كان رجلا طموحا يتطلع إلى العرش. لم يقل أي شيء وأخفى الجثة
بعد مرور سنة ، و كانت سنة الازدهار لا تصدق على الإمبراطورية. أظهر وانغ مانغ للشعب ، في النهاية ، الهيكل العظمي للإمبراطور الراحل. و قال :” أترون؟ لمدة عام كان يجلس ميت على العرش. ومن كان يحكم حقا؟ كان أنا. أنا أستحق أن أكون الإمبراطور”.
أجلسه الشعب و هو سعيد على العرش ثم قتله ، كي يكون مثالياً كسلفه ويستمر ازدهار
الإمبراطورية
4 – المعلم المخدوع
تم الاحتفال بالعشاء الأخير .
– الجميع يحبك يا معلم! قال أحد مريديه
– ليس الجميع ،” أجاب المعلم بقسوة. أعرف شخصا يحسدني ، وفي أول فرصة تتاح له ، سيبيعني بثلاثين فلسا.
– أعرف من تعني” ، صرخ المريد كذلك تحدث لي عنك بشكل سيء
– و معي أيضا ، أضاف مريد آخر
– و معي ، ومعي،” قال الآخرون
(الجميع ماعدا واحدا ، الذي بقي صامتا)
– “لكنه الوحيد” ، واصل المريد الذي تحدث أولاً و لإثبات ذلك لك ، سنعلن عن إسمه في الكورس.
نظر المريدون (كلهم عدا الذي بقي صامتا) إلى بعضهم البعض ، و عدوا إلى ثلاثة و هتفوا باسم الخائن.
كانت جدران المدينة تتلاشى مع الضجيج ، لأن المريدين كانوا كثرا ، وكان كل واحد منهم يصرخ باسم مختلف.
وقتها خرج المريد الذي لم يتحدث إلى الشارع متحررا من الذنب،ليواصل خيانته.
امتداد الحدائق
كان قد بدأ في قراءة الرواية منذ أيام مضت، تركها لأعمال عاجلة، ثم عاود فتحها أثناء عودته في القطار إلى الضيعة. ترك نفسه ينجذب ببطء نحو العقدة، نحو رسم الشخصيات.
هذا المساء، بعد أن كتب خطاباً لوكيله وناقش مع رئيس الخدم مسألة تتعلق بالزراعة عاد إلى الكتاب في هدوء حجرة مكتبه المطلة على حديقة من شجر البلوط. تمدد على مقعده المفضل، ذلك الذي يقابلظهره الباب الذي طالما ضايقه لأنه يترك احتمالاً مزعجاً لدخول المتطفلين. ترك يده اليسرى تداعب بين الحين والآخر القطيفة الخضراء، وانغمس في قراءة الفصول الأخيرة. كانت ذاكرته لا تزال تحتفظ دون جهد بأسماء وصور الأبطال. استحوذ عليه الخيال الروائي في الحال. استمتع باللذة الخبيثة التي خامرته عندما مضى ينتزع نفسه سطراً بسطر من كل ما يحيط به ولشعوره حينئذ برأسه يستند في استرخاء على القطيفة الخضراء لمسند الظهر الطويل وبأن السجائر ما تزال في متناول يده وبأنه هناك خلف النوافذ الكبيرة يتراقص هواء المساء تحت أشجار البلوط.
كلمة بكلمة امتصه الانفعال الدنيء للأبطال، تاركاً نفسه يتجه نحوالصور التي أخذت تتجمع وتكتسب لوناً وحركة. كان شاهداً على اللقاء الأخير في الكوخ الجبلي. أولاً دخلت المرأة مرتابة. الآن وصل العشيق وقد أصيب في وجهه بجرح من فرع شجرة. في حب توقف هي نزيف الدم بقبلاتها ولكنه يرفض مداعباتها. لم يأت ليكرر مراسم حب سري يحميه عالم من الأوراق الجافة والطرق الخفية. الخنجر مخبأ في صدره وتحته تنبض الحرية المكتومة. ثمة حوار مشتاق يجوس خلال الصفحات كالحيات. بدا أن كل شيء كان مقرراً منذ البداية. حتى تلك المداعبات التي أحاطت بجسد العاشق كأنما تريد أن تمنعه وتثنيه كانت ترسم بفظاعة صورة جسد آخر من الضروري تدميره.
إن شيئاً لم يُغفل على الإطلاق: ذريعة الغياب، الصدف، الأخطاء المحتملة. منذ ذلك الوقت أصبح لكل لحظة وظيفة محسوبة بدقة. المراجعة الصارمة كانت تقاطع أحياناً لتقوم يد ما بمداعبة وجنة. وبدأ الليل يلقي أستاره.
دون تبادل أية نظرات، مرتبطين بشدة بمهمة تنتظرهما، افترقا لدى باب الكوخ. كان عليها أن تتبع الطريق المتجه شمالاً. ومن الطريق المقابل عاد لبرهة ليشاهدها تركض بشعرها المنسدل. جرى بدوره محتمياً بالأشجار والحواجز حتى استطاع أن يميز في ضباب الشفق الخبازي الطريق الذي يؤدي إلى المنزل. لم يكن ينبغي أن تنبح الكلاب، ولم تفعل. وكان يجب ألا يكون رئيس الخدم موجوداً في مثل ذلك الوقت، ولم يكن. صعد الدرجات الثلاث ودخل، عبر الدماء التي أخذت تندفع في أذنيه كانت تصله كلمات المرأة: أولاً قاعة زرقاء، بعدها دهليز ثم درج مغطى ببساط. في أعلى يوجد بابان. ليس هناك أحد في الحجرة الأولى وكذلك في الثانية. باب الصالون، وحينئذ الخنجر في اليد، الضوء الداخل من النوافذ الكبيرة، مسند ظهر عالٍ لمقعد من القطيفة الخضراء، رأس رجل يجلس عليه وهو يقرأ رواية.
…
امتداد الحدائق من مجموعة “نهاية اللعبة”، خوليو كورتاثار ترجمة مها عبدالرؤوف
خطوط اليد.. ت: كاميران حاج محمود
أخيراً، ومن خلال السقف، يهرب من الغرفة، وينحدر عبر شبكة مانع الصواعق ليبلغ الشارع. من الصعب تقفّي أثره هناك بسبب الازدحام؛ لكن بالتدقيق جيداً، يمكن مشاهدته كيف يتسلّق إحدى عجلات الحافلة المتوقّفة عند الناصية والتي تُقلّ إلى المرفأ.
هناك، ينزل عبر الجورب النايلون الشفّاف للراكبة الأكثر شُقرة، ويدخل أراضي الجمارك العدوّة. يعلو، يزحف، ويتعرّج في مسار “زكزاك” إلى أن يصل الرصيف الكبير في المرفأ. وهناك، يصعد إلى الباخرة ذات التوربينات الهادرة، لكن تتعسّر رؤيته، فالجرذان وحدها تتبعه متعرّشةً معه إلى سطح الباخرة.
يجري عبر ألواح سقف مقصورة الدرجة الأولى، يتفادى بصعوبةٍ الفتحة الرئيسية في الأرضية؛ وداخل إحدى القمرات، حيث رجلٌ حزين يحتسي الكونياك وينصت إلى صفّارة الإنطلاق، يتسلّق خطَّ الدَّرزِ في بنطلون الرجُل، ومن ثمّ صدريتَه لينزلق إلى مرفقه؛ وبحهدٍ أخير، يأوَى إلى كفّ يده اليمنى التي كانت، في تلك اللحظة، بدأت تنغلق على مقبض مسدّس.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.