هذا الكتاب ما انفك يصيبني بالدهشة و الذهول على مدى جزئيه، فالدخول فيه مثل الدخول في متاهة عجيبة قوامها انفصال الكلمات عن معانيها و هيامها على وجهها و تخبطها يمنة و يسرة…
و الدهشة المربكة التي أصابتني لم تكن من صنع ولفسون مؤلف الكتاب، و إن كان جهده يستحق الإعجاب فعلا، إلا أن الذهول من الموضوع بحد ذاته… و لذلك سأقسم حديثي لقسمين، عن الكتاب و الموضوع…
أما الكتاب فهو كتاب ممتاز، و هو من تأليف المستشرق الأمريكي هاري ولفسون المتوفى عام 1974، و تحليلي لكلمة ممتاز هي كالتالي: (ممتاز في المسح + ضعف في التلفيق = جيد + ممتاز في الترجمة و التحقيق من مصطفى لبيب= ممتاز)…
الكتاب فيه مسح كبير لفلسفة المتكلمين المسلمين على اختلاف فرقهم مركزا على المتقدمين منهم، ابتداء من تعريف علم الكلام و متى نشأ و أهم المسائل التي يتناولها، من خلق العالم، و صفات الله، و القرآن، و مسألة التثليث عند المسيحية، و القدر، و السببية، و المذهب الذري (الجزء الذي لا يتجزأ)… مع مقارنة بمقالات بعض لاهوتيي اليهود و المسيحيين حول هذه المواضيع…
الكتاب معلوماته غزيرة و متشعب، و فيه مقارنات كثيرة، و معقد… و قد بذل فيه ولفسون جهدا كبيرا و عظيما… لكنه لم يعتمد المنهج الوصفي فقط… و إنما أتى إلى كل هذا و فكرة مسبقة في ذهنه أراد إثباتها عبر هذا السرد المسهب… فاتبع منهجا افتراضيا استنباطيا قائما على التخمين و التحقق، و حاول تطبيقه على بعض النصوص، أشبه بتجربة في المعمل على الأرانب كما أخبرنا في المقدمة… و لكن برأيي أتت نتائج تجربته غير مقنعة في مواضع كثيرة… فالافتراض كان فيها ضعيفا، متجاوزا ما هو أولى منه، (مثلا افتراض صلة براهب مجهول كمنشأ لفكرة ما، و تجاوز النص القرأني الذي يشير لها)… فولفسون يحاول إرجاع كل فكرة لأصول سابقة أيا ما كانت، المهم أنها ليست أصيلة لدى المسلمين، و هذا ما يجعله يفهم المصطلحات الإسلامية بطريقة لاهوتية مسيحية، حتى لو عبر الاقتطاع من الكلام المقتبس بتعسف و التلفيقات الهشة التي لا برهان عليها، بالإضافة إلى خلط بين النص الإسلامي الثابت مصدر العقيدة و بين اجتهادات المتكلمين…
لكن المترجم مصطفى لبيب نوه عند كل موضع من هذه المواضع و رد عليه، و اللطيف أنه لم يستلزمه نقاش مطول ليفند هذه الفرضية أو تلك، فكل ما فعله أنه غالبا ما كان يستحضر في الحاشية المقطع الذي يذكره المؤلف من الكتب المقتبسة بأسلوب مؤلفيها كاملة ضمن سياقها… و هنا نلاحظ الفرق بين النص المقتبس من الكتاب التراثي و بين كيفية فهم ولفسون له… و يبدو غريبا أحيانا كيف أوّل ولفسون النص…
و لذلك فما فعله مصطفى لبيب أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة، لم يكن ترجمة متقنة جدا مراعيا دقة الاصطلاحات عربيا و انكليزيا و حسب، بل ما فعله كان بمثابة تحقيق شامل للكتاب… فإذن لا بد من قراءة حواشي المترجم على الكتاب، فهي جزء من عظمته، و أحسب هذا من الكتب التي ترجمتها العربية أغنى من نصها الأصلي… و بارك الله للمترجم على جائزة رفاعة الطهطاوي التي حصل عليها لترجمته هذه…
و لأجل الصدفة فحاليا أقرأ كتابا هو على النقيض من فكرة هذا الكتاب، و هو كتاب مناهج البحث عند مفكري الإسلام، لـ علي سامي النشار… فمثل ما أن ولفسون يرد أصل كل فكرة عند متكلمي المسلمين لمن سبقهم و كأنهم لم يأتوا بأي شيء من لدنهم، فالنشار ينكر أية تأثر، و أن علم الكلام نشأ من متطلبات داخلية بحتة، معتمدا في جداله منهج النص القرآني و الحديثي و على بنية اللغة العربية…
هذا ما كان بشأن الكتاب نفسه…
أما موضوعه و هو الذي ما انفك يصيبني بالذهول، بحيث أني كلما خرجت من قراءة فصل منه شعرت و كأن الدنيا تلف بي و احتجت وقتا حتى يقف عقلي على قدميه ثانية و يستعيد اللغة و بالتالي موقعي من العالم…
فأكثر ما كان يعتمل في ذهني من كل هذه الأقوال لم تكن التفاصيل بحد ذاتها و إنما رؤية تلك العلاقة بين العقل و اللغة… و كيف يمكن تحول اللغة من البيان إلى الضلال… فأنت تستعجب كيف أن النقاش في الغيبيات قد جعلها تصل لنتائج عجيبة خرجت بها عن الفطرة السوية اللغوية في فهم بعض الكلمات، حتى صار معنى المعنى معان لانهائية ذهنية… بل تجعلك تتساءل حين ترى كل هذا النقاش أن ما الذي نعرفه من حقائق الأشياء أصلا؟ إن كنا لا ندري كيف حقيقتها كهي بذاتها، و لا كيف انطبقت صفاتها عليها، و ما هي ماهياتها، و هل يمكن لذات أن تكون دون صفة أصلا… و كأننا لا نتعامل في هذه الدنيا إلا مع ظواهرها…
و هكذا تشهد كيف لتفاصيل نحوية كالاشتقاقات أن تتحول لإشكالات عقلية فتخرج من المبحث و قد تشوهت دلالات الكلمات المعروفة و تحولت لمتاهة… و ينفلت زمامها و تصير هائمة عن معانيها…
و كلما زاد التأمل في كيفيتها على الله كلما زاد التخبط و التناقض و العجب…
العقول في الله تحيرت… فعلا… لأنه وراء قدرتها… و وراء اللغة… فلا جدوى من التفكير بهذا الطريق، و هو مسدود من قبل البدء… فقوله تعالى (ليس كمثله شيء)، يهدم كل محاولة…
لكن القراءة في كتاب مثل فلسفة المتكلمين ممتع جدا… فيه لذة من نوع خاص… لذة تملأك بالذهول الممزوج بالهيبة… شريطة أن تعرف كيف تتملص منه دون أن يسحبك لدوامته و يفقدك اللغة، فلا تخرج أبدا…
اللذة في استشعار حيرة العقول و هي تحاول الوصول للمتعالي… دون جدوى…
كيف يبلغ هذا الدماغ الجبار مداه، ثم كيف يرتد خائبا و هو حسير… ضعيف و مهزوم…
و كيف تعسّر العقول المتفلسفة كلمات الله، حتى تحول البيان إعجاما، في مقابل ذلك الوضوح و الإبانة لكلماته: (و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)… بين عجز عبارة الإنسان و إعجاز عبارة الله…
هذه المراوحة بين أطراف النقيض من الأقصى للأقصى…. تملأ القلب هيبة و إجلالا… كم نحن بشر محدودون ضعفاء و كم الله عظيم متعال!
(و لو أنما في الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم)
مصدر المراجعة: هنا
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.