ألفريد نورث وايتهيد (1861-1947) كان عالماً رياضياً ومنطقياً وفيلسوفاً بريطانياً اشتهر بعمله في المنطق الرياضي وفلسفة العلم. وقد شارك مع برتراند راسل في تأليف الكتاب البارز٬ المكون من ثلاثة مجلدات٬ “مبادئ الرياضيات – Principia Mathematica”) 1910، 1912، 1913). وكان له فيما بعد دور فعال في ريادة النهج المتبع إزاء الميتافيزيقيا والذي يعرف الآن باسم فلسفة العملية (process philosophy).
على الرغم من وجود ملامح مستمرة هامة طوال حياة وايتهيد المهنية، إلا أنه كثيراً ما تُقسم قسم حياته الفكرية إلى ثلاث فترات رئيسية. تتزامن الفترة الأولى بشكل عام مع الوقت الذي قضاه في كامبريدج، من 1884م إلى 1910م، حيث عمل خلال هذه السنوات بشكل أساسي على مسائل في الرياضيات والمنطق. وخلال هذه الفترة أيضاً تعاون مع برتراند راسل. وتتزامن الفترة الرئيسية الثانية – من 1910م إلى 1924م – بشكل عام مع الوقت الذي قضاه في لندن. حيث ركز وايتهيد خلال هذه السنوات بشكل رئيسي – وإن لم يكن حصرياَ – على مسائل في فلسفة العلم وفلسفة التعليم. أما الفترة الرئيسية الثالثة فتتزامن بشكل عام مع الوقت الذي قضاه في هارفارد منذ عام 1924م فصاعداً، وخلال هذه الفترة عمل بشكل أساسي على مسائل في الميتافيزيقيا.
حياة وايتهيد
فيما يلي تسلسل زمني القصير للأحداث الرئيسية في حياة وايتهيد:
(1861م) وُلد في 15 فبراير في رامسغيت، آيل أوف ثانيت، كينت، إنجلترا.
(1880م) التحق بكلية ترينيتي، كامبريدج، بمنحة دراسية في الرياضيات.
(1884م) انتُخب عضواً في أبوستولز، وهو نادي المناقشة النخبوي الذي أسسه تنيسون في العشرينيات من القرن التاسع عشر٬ وتخرج بدرجة بكالوريوس في الرياضيات٬ وانتُخب زميلاً في الرياضيات في كلية ترينيتي.
(1890م) التقى راسل٬ وتزوج إيفلين وايد.
(1903م) انتُخب زميلاً للجمعية الملكية نتيجة لعمله في الجبر الشاكل والمنطق الرمزي وأسس الرياضيات.
(1910م) استقال من كامبريدج وانتقل إلى لندن.
(1911م) عُين محاضراً في كلية لندن الجامعية.
(1914م) عُين أستاذاً للرياضيات التطبيقية في الكلية الملكية للعلوم والتكنولوجيا.
(1922م) انتُخب رئيساً للجمعية الأرسطية.
(1924م) عُين أستاذاً للفلسفة في جامعة هارفارد.
(1931م) انتُخب زميلاً للأكاديمية البريطانية.
(1937م) تقاعد من جامعة هارفارد.
(1945م) مُنح وسام الاستحقاق.
(1947م) توفي في الثلاثين من ديسمبر في كامبريدج، ماساتشوستس، الولايات المتحدة الأمريكية.
تخرج وايتهيد – الذي كان ابناً لقس أنجليكاني – من كامبريدج في عام 1884م، وانتُخب زميلاً لكلية ترينيتي في نفس العام. وكان زواجه من إيفلين وايد بعد ست سنوات زواجاً سعيداً إلى حد كبير، فقد أنجبا معاً بنتاً وثلاثة أولاد، توفي أحدهم – للأسف – عند ولادته. وشغل وايتهيد بعد انتقاله إلى لندن منصب “رئيس الجمعية الأرسطية” في الفترة من 1922م إلى 1923م. وبعد انتقاله إلى جامعة هارفارد، انتُخب عضواً في الأكاديمية البريطانية في عام 1931م. وكان انتقاله إلى كل من لندن وهارفارد يدفعه جزئياً اللوائح المؤسسية التي تقتضي التقاعد الإلزامي، على الرغم من استقالته من كامبريدج كانت -جزئياً- احتجاجاً على الطريقة التي اختارتها الجامعة لتأديب أندرو فورسيث، الذي كان صديقاً وزميلاً له تحولت علاقته مع امرأة متزوجة إلى ما يشبه الفضيحة المحلية.
وبصفته مدققاً لزمالة برتراند راسل ومشرفاً أكاديمياً على ويلارد فان أورمان كوين، أثر وايتهيد تأثيراً هائلاً على تطور فلسفة القرن العشرين. ويصدق هذا القول على الرغم من أن مذهبه الفلسفي الرئيسي – أن العالم يتكون من عمليات وأحداث مترابطة بشكل وثيق، وليس من أشياء أو أجسام مادية مستقلة غالباً – أصبح إلى حد كبير على النقيض من مذهب راسل في الذرية المنطقية (logical atomism).
ويمكن العثور على مزيد من المعلومات المفصلة عن حياة وايتهيد في السيرة الذاتية الشاملة التي تتكون من مجلدين “آيه. إن. وايتهيد: الرجل وأعماله” (1985م، 1990م) التي كتبها فيكتور لوي وجي. بي. شنيويند. كما يتضمن كتاب بول شيلب “فلسفة ألفريد نورث وايتهيد” (1941م؛ النسخة الثانية 1951م) مقالة قصيرة عن سيرته الذاتية، بالإضافة إلى تقديم لمحة نقدية شاملة لفكر وايتهيد وقائمة ببليوغرافية مفصلة لكتاباته.
تشمل المقدمات الأخرى المفيدة عن أعمال وايتهيد كتاب فيكتور لوي “فهم وايتهيد” (1962م)، وكتاب ناثانيل لورانس “تطور وايتهيد الفلسفي” (1956م)، وكتاب وولف مايس “فلسفة وايتهيد” (1959م)، وكتاب مايكل إيبرسون “الميكانيكا الكمية وفلسفة ألفريد نورث وايتهيد” (2004م). وللحصول على تسلسل زمني بمنشورات وايتهيد الرئيسية، ننصح القراء بالاطلاع على قسم الأدبيات الرئيسي في قائمة المراجع أدناه.
ومما يعقد محاولات تلخيص حياة وايتهيد وتأثيره حقيقة أنه بعد وفاته -ووفقاً لتعليماته- أُتلفت جميع أوراقه؛ ونتيجة لذلك لا توجد أي كتابات يدوية له باستثناء الأوراق التي احتفظ بها زملاؤه والذين تراسلوا معه معه. ومع ذلك فإنه من المفيد أن نذكر كلمات القاضي المعاون الراحل في المحكمة العليا للولايات المتحدة، فيليكس فرانكفورتر: “بالنظر إلى المعرفة المكتسبة خلال السنوات الماضية عن الشخصيات التي أثرت في عصرنا الحالي على الحياة الجامعية الأمريكية، ترسخ لدي منذ فترة طويلة الاقتناع بأنه لم يكن هناك أي شخصية لها هذا التأثير النافذ مثل البروفسور الراحل ألفريد نورث وايتهيد “(خطاب، نيويورك تايمز، 8 يناير 1948م).
ما تزال أفكار وايتهيد ملموسة حتى اليوم بدرجات متفاوتة في كل المجالات الأربع الرئيسية التي عمل فيها: المنطق والرياضيات٬ وفلسفة العلم٬ وفلسفة التعليم٬ والميتافيزيقيا. ويجري حاليا إعداد طبعة نقدية لأعماله.
2. وايتهيد في الرياضيات والمنطق
بدأ وايتهيد مسيرته الأكاديمية في كلية ترينيتي بكامبريدج حيث درّس – ابتداء من عام 1884م – لمدة ربع قرن. وفي عام 1890م، وصل برتراند راسل كطالب، وخلال تسعينيات القرن التاسع عشر ظل الرجلان على اتصال منتظم مع بعضهما البعض. ووفقا لراسل، “كان وايتهيد مثالياً للغاية كمعلم، فقد كان يولي اهتماماً شخصياً لأولئك الذين كان عليه أن يتعامل معهم، وكان يعرف نقاط قوتهم وضعفهم. ويشجع الطلاب على إبراز أفضل ما يتمتعون به من قدرات. لم يكن قمعياً أبداً، أو ساخراً، أو متكبراً، أو متصفاً بأي خصلة من الخصال التي يحب المعلمون الأقل شأناً أن يتصفوا بها. وأعتقد أنه ترك في جميع الشباب المفعمين بالنشاط الذين كان على اتصال بهم – كما ترك فيّ – مودة حقيقية وباقية للغاية” (1967م، 129-130).
بحلول أوائل القرن العشرين، أكمل كل من وايتهيد وراسل كتابة كتب عن أسس الرياضيات. ونتج عن كتاب وايتهيد لعام 1898م “رسالة عن الجبر الشامل” انتخابه عضواً في الجمعية الملكية، وقد توسع راسل في كتابه “مبادئ الرياضيات” لعام 1903م في عدة موضوعات كان قد طورها وايتهيد أولاً. كما مثل كتاب راسل انفصالاً حاسماً عن النهج الكانطي الجديد في الرياضيات٬ والذي طوره راسل قبل ست سنوات في كتابه “مقالة عن أسس علم الهندسة”. وبما إن بحث راسل لكتابة مجلد ثان مقترح لكتاب “المبادئ” تداخل بشكل كبير مع أبحاث وايتهيد الخاصة بكتابة مجلد ثان لكتابه “الجبر الشامل”، بدأ الرجلان التعاون في كتابة ما سيصبح في نهاية المطاف “مبادئ الرياضيات” (Principia Mathematica) (1910م، 1912م، 1913م). ووفقاً لوايتهيد توقعا في البداية أن يستغرق البحث حوالي عام ليكتمل، لكن في النهاية، عملا معاً على المشروع لمدة عشر سنوات.
تتكون المنطقية (Logicism) – وهي النظرية القائلة بأن الرياضيات إلى حد ما يمكن اختزالها في المنطق – من أطروحتين رئيسيتين. الأطروحة الأولى أن جميع الحقائق الرياضية يمكن ترجمتها إلى حقائق منطقية، أو بعبارة أخرى أن مفردات الرياضيات تشكّل مجموعة فرعية حقيقية من مفردات المنطق. والأطروحة الثانية أن جميع البراهين الرياضية يمكن إعادة صياغتها كبراهين منطقية، أو بعبارة أخرى أن النظريات الرياضية تشكّل مجموعة فرعية حقيقية من نظريات المنطق.
رأى وايتهيد وراسل – مثل غوتلوب فريج – على الفور مزايا مثل هذا الاختزال. حيث ستُعاد صياغة عبارات مثل “هناك كتابان على الأقل” إلى “هناك كتاب س، وهناك كتاب ص، وس غير مطابق لـ ص“. و ستُعاد صياغة عبارات مثل “هناك كتابان بالضبط” إلى “هناك كتاب س، وهناك كتاب ص، وس غير مطابق لـ ص، وإذا كان هناك كتاب ع، فإن ع مطابق إما لـ س أو لـ ص“. وبعد ذلك يمكن تفسير عمليات نظرية الأعداد في شكل عمليات نظرية المجموعات مثل التقاطع والاتحاد والفرق. استطاع وايتهيد وراسل في كتاب “مبادئ الرياضيات” تقديم العديد من الاشتقاقات المفصلة للنظريات الرئيسية في نظرية المجموعات وعلم الحساب المنتهي وفوق المنتهي ونظرية القياس الأولي. كما تمكنا من تطوير نظرية متقدمة للعلاقات المنطقية وطريقة فريدة لتعريف الأرقام الحقيقية. ومع ذلك تظل مسألة ما إذا كان من الممكن القول بأن نظرية المجموعات نفسها اختُزلت بشكل ناجح في المنطق محل جدل. (للاطلاع على مناقشات إضافية، انظر تبويب “مبادئ الرياضيات”، وكذلك جورج وفليمان (2002م).
بعد الانتهاء من كتابة “المباديء”، سلك وايتهيد وراسل طريقين منفصلين. وربما بشكل حتمي، أدت أنشطة راسل المناهضة للحرب وفقدان وايتهيد لابنه الأصغر خلال الحرب العالمية الأولى إلى نوع من الانقسام بين الرجلين، ومع ذلك، فإن الاثنين ظلا على علاقة جيدة نسبياً بقية حياتهما. واعترافاً بفضله، يعلق راسل في كتابه “السيرة الذاتية” بقوله إنه عندما تعلق الأمر بخلافاتهم السياسية، كان وايتهيد “أكثر تسامحاً مما كنت عليه، واللوم يقع عليّ أكثر منه في كون هذه الاختلافات تسببت في الانتقاص من صداقتنا” (1967م، 127).
3. وايتهيد في فلسفة العلوم
حوّل وايتهيد اهتمامه في لندن بشكل أساسي إلى مسائل فلسفة العلم، ومن الجدير بالذكر رفضه لفكرة أن لكل جسم مادي مكان مكاني أو زماني بسيط، وبدلا من ذلك، خلُص وايتهيد إلى استنتاج أن جميع الأجسام ينبغي أن تُفهم على أنها حقول لها امتدادات زمانية ومكانية. فعلى سبيل المثال، تماماً كما أننا لا يمكننا أن نتصور النقطة الإقليدية التي يقال إن لها موقعاً لكن ليس لها حجم، أو الخط الذي يقال إن له طول ولكن ليس له عرض، فإن وايتهيد يقول أنه من المستحيل تصور موقع مكاني أو زماني بسيط٬ والتفكير في أننا يمكننا أن نتصور ذلك ينطوي على ما أسماه “مغالطة الحسية في غير محلها” وهو خطأ إدراك المجرد على أنه حسي (1925م، 64، 72).
كما يصف وايتهيد موقفه بقوله:
من بين عناصر الطبيعة الأولية كما ندركها في تجربتنا المباشرة، لا يوجد أي عنصر مهما كان يمتلك صفة الموقع البسيط هذا. … [بدلاً من ذلك] أرى أننا يمكننا من خلال عملية تجريد بناء أن نصل إلى تجريدات تمثل الجزيئات الموضعية البسيطة للمادة، وإلى تجريدات أخرى تمثل الأفكار المتضمنة في المخطط العلمي. (1925م، 72؛ 1919م، 3)
اعتقاد وايتهيد الأساسي أننا نحصل على الفكرة المجردة للنقطة المكانية من خلال الوضع في الاعتبار حد سلسلة واقعية من الأحجام تمتد فوق بعضها البعض بنفس الطريقة التي نضع فيها بعين الاعتبار سلسلة متداخلة من الدمى الروسية أو سلسلة متداخلة من القدور والمقالي. ومع ذلك سيكون من الخطأ التفكير في النقطة المكانية باعتبارها شيئاً أكثر من كونها تجريداً؛ بدلاً من ذلك، تنطوي المواضع الحقيقية على السلسلة الكاملة للأحجام الموسعة. وكما يصيغها وايتهيد: ” بمعنى ما، كل شيء في كل مكان في جميع الأوقات؛ لأن كل موقع ينطوي على جانب من نفسه في كل مكان آخر، وهكذا فإن كل وجهة نظر مكانية-زمانية تعكس العالم” (1925م، 114).
وفقاً لوايتهيد، كل جسم حقيقي يمكن بعد ذلك فهمه على أنه سلسلة مبنية بشكل مماثل من الأحداث والعمليات. هذه الفكرة الأخيرة هي التي يتطرق إليها وايتهيد بشكل منهجي في كتابه “العملية والواقع” (1929م)، ويخلص فها إلى أن العملية، وليست الجوهر، هي التي ينبغي أن تُعتبر أهم المكونات الميتافيزيقية في العالم:
القول بأن “كل شيء يتدفق” هو التعميم المبهم الأول الذي أنتجه حدس البشر غير المنظم الذي بالكاد تم تحليله … دون شك، إذا أردنا أن نعود إلى هذه التجربة النهائية المتكاملة، التي لا تتأثر بتعقيدات النظرية، تلك التجربة التي يمثل توضيحها الهدف النهائي للفلسفة، فإن تدفق الأشياء تعميم نهائي يجب علينا أن ننسج نظامنا الفلسفي حوله. (1929م، 317)
ومن أعمال وايتهيد الأساسية أيضاً فكرة أنه حتى تكون الفلسفة ناجحة، يجب أن تفسر العلاقة بين أوصافنا الموضوعية والعلمية والمنطقية للعالم والعالم اليومي للتجربة الذاتية. كما كتب وايتهيد،
الطبيعة ليست سوى نتاج لتحرر الوعي بالحس. … معرفتنا بالطبيعة تجربة نشاط (أو مرور). الأشياء التي لاحظناها سابقاً هي كيانات نشطة، ‘الأحداث’. وهي قطعاً في حياة الطبيعة. (1920م، 185)
لهذا السبب من معتقدات وايتهيد الأساسية أنه “يجب علينا تجنب التشعب الشرس” (1920م، 185). أو بعبارة أخرى، يجب أن نتجنب تقسيم العالم إلى فئات منفصلة من العقل والمادة، أو إلى الطبيعة – كما ندركها في الوعي – والطبيعة – كسبب لهذا الوعي، وكما يوضح وايتهيد:
الطبيعة التي هي الحقيقة التي ندركها في الوعي تحمل داخلها خضرة الأشجار، وتغريد الطيور، ودفء الشمس، وصلابة الكراسي، وإحساس المخمل. أما الطبيعة التي هي السبب في الوعي هي نظام الجزيئات والإلكترونات المُخمَّن الذي يؤثر على العقل من حيث إنتاج الوعي بالطبيعة الظاهرة. (1920م، 31)
في نهاية المطاف، يقول وايتهيد أن كل تجربة هي جزء من الطبيعة: “نحن لا نستطيع أن ننتقي أو نختار. بالنسبة لنا، يجب أن يكون الوهج الأحمر لغروب الشمس جزءاً من الطبيعة وكذلك الجزيئات والموجات الكهربائية التي من خلالها يفسر رجال العلم الظاهرة “(1920م، 29؛ 1929م، جزء 2، فصل 9، الطبعة الثانية).
4. وايتهيد في فلسفة التربية والتعليم
أصبح وايتهيد أثناء وجوده في لندن ضالعاً في العديد من الجوانب العملية للتعليم العالي، حيث عمل عميداً لكلية العلوم في الكلية الإمبراطورية وشغل العديد من المناصب الإدارية الأخرى. والعديد من مقالاته حول التعليم يرجع تاريخ كتابتها إلى ذلك الوقت٬ وتظهر في كتابه “أهداف التعليم ومقالات أخرى” (1929م). كما نشر وايتهيد خلال هذه الفترة العديد من كتبه الأقل شهرة، بما في ذلك “تحقيق حول مبادئ المعرفة الطبيعية” (1919م) و”مفهوم الطبيعة” (1920م) و”مبدأ النسبية” (1922م).
وتؤكد فلسفة التعليم لدى وايتهيد – في جوهرها- على فكرة أنه من الأفيد النظر إلى الحياة على أنها الحياة المثقفة أو المتحضرة، وهما المصطلحان اللذان يستخدمهما وايتهيد غالباً بشكل متبادل. نحن نعيش كما نعتقد. وبالتالي فإننا نحسّن من حياتنا فقط عندما نحسّن من أفكارنا. والنتيجة، كما يقول وايتهيد، هي أن “هناك موضوع واحد فقط للتعليم، وهو الحياة في جميع مظاهرها” (1929م، 10). وهذا الرأي بدوره له نتائج طبيعية على كل من محتوى التعليم وطريقة توصيله.
وفيما يتعلق بالتوصيل، يؤكد وايتهيد على أهمية تذكر أن “عقل التلميذ كائن حي نام… وليس صندوقاً يُعبّأ دون رحمة بالأفكار الغريبة” (1929م، 47). بدلاً من ذلك، غرض التعليم تحفيز وتوجيه التنمية الذاتية لكل طالب. وليست مهمة المعلم ببساطة أن يحشو قطع صغيرة من المعرفة في عقول طلابه.
وفيما يتعلق بالمحتوى، يرى وايتهيد أن أي تعليم كاف يجب أن يتضمن مكوناً أدبياً، ومكوناً علمياً، ومكوناً تقنياً. يتضمن المكون الأول، ليس فقط دراسة اللغة، لكن أيضاً دراسة الإنجاز الرفيع في الفكر والكتابة البشرية. ويشمل المكون الثاني الممارسة العملية في مراقبة الظواهر الطبيعية، فضلاً عن التعرض لاختبار النظريات والصلات المفترضة المشابهة للقوانين التي نجدها في العالم الطبيعي. ويركز المكون الثالث في المقام الأول على “فن الاستفادة من المعرفة” (1929م، 77)، خاصة في إنتاج السلع وأيضاً في أي مجال من مجالات ما يُسمى تطبيق المعرفة. على الرغم من أن جميع المكونات الثلاثة ضرورية للتعليم المناسب، إلا أن هناك حاجة إلى درجات متفاوتة من التركيز، تبعاً لاهتمامات الطالب وقدراته. (للاطلاع على مناقشات إضافية، انظر جونسون 1946م).
والنتيجة، كما يقول وايتهيد، هي أن التمييز الذي يجري عادة بين التعليم التقني والتعليم الليبرالي “ينطوي على مغالطة. فلا يمكن أن يكون هناك تعليم تقني كاف ولا يكون ليبرالياً، ولا يمكن أن يكون هناك تعليم ليبرالي ولا يكون تقنياً: أي ليس هناك تعليم لا ينقل كلاً من الرؤية التقنية والفكرية”(1929م، 74). إن الحياة الجيدة لا تتطلب الإنجاز فحسب، لكن أيضاً الحافز للإبداع والمشاركة في مجتمع أفضل وأكثر تحضراً.
ويناقض وايتهيد هنا أفلاطون الذي تركز نظريته في التعليم، كما يزعم وايتهيد، بشكل حصري تقريباً على الجانب النظري والمصدق للواقع على حساب الجانب العملي، والذي ينتج عنه أوامر فقط، وليس قدرات متزايدة للوعي الذاتي والتوجيه الذاتي. (وقد اختار بعض العلماء الآخرين في بعض الأحيان مخالفة هذا الرأي.) في المقابل، ينظر وايتهيد إلى التعليم على أنه يشجع بالضرورة زواج الفكر مع العمل. وكما يقول: “لا يريد رجل العلم أن يعرف فقط. هو يكتسب المعرفة لإرضاء شغفه بالاكتشاف”(1929م، 74). ونتيجة لذلك، فإن “الإصرار في الثقافة الأفلاطونية على التقدير الفكري المحايد خطأ نفسي”(1929م، 73)، وهي ملاحظة يخلص فيليب جوردين إلى أنها “ذات أهمية بالغة” (1918م، 244) لأي نظرية تعليم ناجحة.
5. وايتهيد في الميتافيزيقيا
بعد إجباره على التقاعد الإلزامي في لندن، وعند عرض وظيفة عليه في جامعة هارفارد، انتقل وايتهيد إلى الولايات المتحدة في عام 1924م. ونظراً لإعداده السابق في الرياضيات، كان يقال من باب المزاح أحياناً أن محاضرات الفلسفة الأولى التي حضرها كانت تلك التي ألقاها بنفسه من خلال دوره الجديد كأستاذ للفلسفة. وكما يقول راسل، “في إنجلترا، كان يُنظر إلى وايتهيد على أنه عالم رياضيات فقط، وتُرك الأمر لأمريكا لاكتشافه كفيلسوف” (1952م، 93).
بعد عام من وصوله، ألقى محاضرات لويل رفيعة المستوى من جامعة هارفارد، وشكلت المحاضرات الأساس لكتابه “العلم والعالم الحديث” (1925م). وأُلقيت محاضرات جيفورد 1927م/1928م في جامعة إدنبرة بعد ذلك بوقت قصير ونتج عنها نشر عمل وايتهيد الميتافيزيقي الأكثر شمولاً (وصعب الفهم) “العملية والواقع” (1929م). توفر معاً كتبه الثلاثة “مفهوم الطبيعة” (1920م) و”العلم والعالم الحديث” (1925م) و “العملية والواقع” (حوالي 1929م) بياناً كاملاً نسبياً لنظام وايتهيد الميتافيزيقي الناضج.
ضمن هذا النظام، بدلاً من افتراض الجوهر كفئة ميتافيزيقية أساسية، يرى وايتهيد الطبيعة على أنها تتكون في نهاية المطاف من الأحداث. وتشمل الأحداث بين مكوناتها نعتبره عادة أجسام، كما كتب وايتهيد:
الجسم مكون في صفة حدث ما. في الواقع صفة الحدث ليست سوى الأجسام التي هي مكون فيه والطرق التي تلج بها تلك الأجسام في الحدث. ومن ثم فإن نظرية الأجسام هي نظرية مقارنة الأحداث. والأحداث قابلة للمقارنة فقط لأنها تجسد الدوام. نحن نقارن الأجسام في الأحداث كلما أستطعنا أن نقول: “ها هي مرة أخرى”. الأجسام هي العناصر في الطبيعة التي يمكن أن تكون “مرة أخرى” (1920م، 143-4)
وهكذا، في حين أن “الحقيقة الأكثر واقعية القادرة على التمييز المنفصل هي الحدث” (1920م، 189)، فإن الأجسام بالنسبة لوايتهيد – على عكس الأحداث – “لا تمر” (1920م، 143).
في وقت لاحق، قدم وايتهيد فكرة بدائية جديدة ميتافيزيقياً سماها “المناسبة الفعلية”. بالنسبة لوايتهيد، فإن المناسبة الفعلية (أو الكيان الفعلي) ليست جوهر دائم، ولكن عملية صيرورة. كما يقول وايتهيد، المناسبات الفعلية هي “الأشياء الحقيقية النهائية التي يتكون منها العالم”، فهي “قطرات من التجربة معقدة ومترابطة” (1929م، جزء 1، الفصل 2، قسم 1، ص 27).
كما يفسر دونالد شيربورن: “من المعتاد أن نقارن بين المناسبة الفعلية والجوهر الفرد (الموناد) الليبينيزي، مع التنبيه إلى أنه في حين أن الجوهر الفرد بلا نوافذ، فإن المناسبة الفعلية “كلها نوافذ”. الأمر كما لو أن أحدهم أخذ نظام مقولات أرسطو وسأل ما الذي يمكن أن ينتج إذا أُزيحت مقولة الجوهر من مكانها المرموق بمقولة العلاقة … “(شيربورن 1995م، 852). وكما يقول لنا وايتهيد نفسه: “فلسفة الكائن الحي هي عكس فلسفة كانط … بالنسبة لكانط، العالم يخرج من الذات. بالنسبة لفلسفة الكائن الحي، الذات تخرج من العالم “(مقتبس في شيربورن 1995م، 852).
ومن الواضح أن العديد من هذه الجوانب الرئيسية لميتافيزيقيا وايتهيد تتناقض مع وجهة النظر التقليدية للجوهر المادي. يقول وايتهيد:
“ثمة كوزمولوجيا علمية ثابتة تفترض مسبقاً أن الحقيقة النهائية للهيولي الغاشم الذي لا يمكن اختزاله – أو المادة – تنتشر عبر الفضاء في تدفق من التكوينات. هذه المادة في حد ذاتها لا معنى لها، ولا قيمة لها، ولا هدف لها، وهي تفعل ما تفعله متبعة روتيناً ثابتاً تفرضه علاقات خارجية لا تنبع من طبيعة وجودها. هذا الافتراض هو الذي اسميه “المادية العلمية”. وهو أيضاً افتراض سأطعن عليه لكونه غير مناسب تماماً للحالة العلمية التي وصلنا إليها الآن. (1925م، 22)
يقول وايتهيد إن افتراض المادية العلمية فعال في العديد من السياقات؛ لأنه فقط يوجه انتباهنا إلى فئة معينة من المشكلات التي يمكن تحليلها ضمن هذا الإطار. ومع ذلك فإن المادية العلمية أقل نجاحاً عند معالجة قضايا علم الغائية (teleology) (أو الغرض)، وعند محاولة تطوير صورة شاملة ومتكاملة للكون ككل.
وفقاً لوايتهيد، الاعتراف بأن العالم عضوي بدلاً من كونه مادي أمر ضروري لكل من يرغب في تطوير تصور شامل للطبيعة، وهذا التغيير في وجهة النظر يمكن أن ينتج بسهولة من محاولات فهم علم النفس البشري وعلم الغائية كما ينتج من محاولات فهم الفيزياء الحديثة. يقول وايتهيد: “الفيزياء الرياضية تفترض في المقام الأول مجال نشاط كهرومغناطيسي يتخلل المكان والزمان. القوانين التي تحدد هذا المجال ليست سوى الظروف التي يتقيد بها النشاط العام للتدفق في العالم، كما تُفرد نفسها في الأحداث” (1925م، 190). والنتيجة هي أن الطبيعة لم يعد يُعتقد أنها مجرد ذرات في الفراغ، وإنما “هيكل من العمليات المتطورة. الحقيقة هي العملية “(1925م، 90).
6. تأثير وايتهيد
خلافاً للأدوات المنطقية التي طورها وايتهيد مع راسل، فإن أعضاء المجتمع الفلسفي العريض احتضنوا محاولة وايتهيد لعمل توحيد ميتافيزيقي للمكان والزمان والمادة والأحداث والغائية بحماس فاتر. وقد يكون ذلك جزئياً بسبب الصلات التي رآها وايتهيد بين الميتافيزيقيا والألوهية التقليدي. وفقاً للويتهيد، فإن الدين يهتم بالديمومة وسط التغير، ويمكن لمسه في الترتيب الذي نجده في الطبيعة، وهو ما يطلق عليه أحياناً “طبيعة الله الأزلية” (1929م، 31، 32؛ جزء 5، الفصل 2، قسم1-7).
في وقت مبكر يعود إلى كتابته لكتاب “كيف يتكوّن الدين؟” (1926م)، كان وايتهيد مهتماً بتعزيز فكرة أن الدين يساعد على فهم معنى الديمومة وسط التغير. على الرغم من حقيقة أن العالم يتكون من الأحداث والعمليات (بدلاً من الأجسام غير المتغيرة)، من وجهة نظر وايتهيد لا يزال الله يوفر للعالم نوعاً من الديمومة. ويشمل المفكرون الذين تأثروا بهذا الجانب من عمل وايتهيد: جون بي كوب جونيور، وتشارلز هارتشورن، ونورمان بيتنجر، ومارجوري سوتشوكي.
وقد أدى تركيز وايتهيد على التغيير أيضاً إلى استنتاج بعض اللاهوتيين أنه بدلاً من أن يُنظر إلى الله على أنه المحرك التقليدي غير المتحرك، ينبغي أن يُنظر إلى الله على أنه يتأثر بالعالم بقدر ما يتأثر العالم بالله. وبفضل نشر كوب كتب مثل “هل فات الأوان؟ لاهوت علم البيئية” (1971م)، فإن بعض النظريات المعاصرة عن البيئة تأثرت أيضاً بأفكار وايتهيد.
وهكذا، على الرغم من أنه ليس مؤثراً بشكل خاص بين العديد من الفلاسفة العلمانيين الأنجلو-أمريكيين، إلا أن أفكار وايتهيد الميتافيزيقية لا تزال مؤثرة بين بعض علماء اللاهوت وفلاسفة الدين.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.