غالبا ما يبدو صوت الجنون في الثقافة العربية الاسلامية، شكلا من اشكال الرد الثقافي الذي انتجه المجتمع العربي تجاه وضع تاريخي تناحري طبقي. وكان هذا الصوت أداة من أدوات مناهضة المجتمع لعوامل القمع والاستبداد والاستغلال التي تعاني منها الفئات الاجتماعية الموجودة في حالة تعارض مع قوى الحكم والمرجعية الاجتماعية للسلطة الحاكمة. وهكذا، يبدو ان المثقفين في المجتمع الاسلامي العربي، قد استعملوا صوت الجنون في شبكة الصراع الاجتماعي يوسف شاهين يستعمل شخصية الأبله في فيلم »باب الحديد« وعلاقته بسوق علاقات العمل في مصر، كذلك فيلم »أبو كرتونة« بطولة محمود عبد العزيز تماما، كما كانت الأوساط الشعبية العامة، تتداول صوت الجنون، وتتبناه، وتحتفي به، وتشيع محمولاته في المجالس، مجالس الذكر، والدعاء، والاحتفالات والمناسبات الدينية والصوفية، مجالس مخافة الله ومحبته في آن. في كل مجنون، مجنون حقا، وليس مريضا نفسانيا، مجنون مثل جبران خليل جبران وأدونيس ومحمد علي شمس الدين ويوسف ادريس ونجيب سرور وبيرم التونسي، شيء من الألوهة التي كانت موجودة في جسد الحلاج وفي »طواسينه«. فالسهروردي كان فيلسوفا صوفيا مجنونا، أحيا الموتى، مثلما فعل السيد المسيح، عليه السلام، ونال القتل ثمنا لمعجزاته الصوفية السحرية الخارقة. والنبي يحيى، عليه السلام، او يوحنا المعمدان، كان نبيا مجنونا، لا يأكل الا أعشاب الغابات، ولا يغطي جسده الطاهر المبارك الا بقطعة خيش وأعشاب صنعها بنفسه، مثلما كان غاندي العظيم يصنع ثيابه بنفسه. صوت المجنون والكتاب الذي بين يدينا، »خطاب الجنون في الثقافة العربية« لمؤلفه محمد حيان السمان، الصادر عن دار رياض الريس، في طبعته الاولى/ كانون الاول، 1993، يحتوي مقدمة وستة فصول، وخاتمة. يتضمن الفصل الثاني موقع صوت الجنون في المجتمع والثقافة العربية، ويحتوي الفصل الثالث على المميزات الجمالية التعبيرية في الشخصية الجنونية، ويعالج الفصل الرابع صوت الجنون ومسألة الخلافة الاسلامية، ويتناول الفصل الخامس المجنون قائدا، اما الفصل السادس والاخير، فيدرس صوت الجنون في فضاء المدينة الاسلامية. ان استدعاء المجنون، وإدخال منطوقه في أنساق تعبيرية ثقافية مختلفة، وبهذه المطاوعة الأفقية والعمودية، في التعبير عن الهمّ الاجتماعي التاريخي، والتطلعات الشعبية المختلفة، وقابلية الامتلاء بأشكال من موضوعات النزوع الجماعي والمعاناة اليومية، للكتلة البشرية، في المجتمع العربي الاسلامي الوسيط، بمختلف التجسدات الحكائية والدلالية والفنية لهذا النزوع والمعاناة، ذلك كله، يشكل في هذا الكتاب إحاطة هامة في الشكل والدلالة، بحالة ثقافية من طور راق، وعلى تفاعل حي وخلاق، بين مسار الواقع ومستويات الصراع فيه، من طرف، وبين أشكال التعبير والتخييل والابداع، من طرف آخر. ربما كان الجاحظ في أواخر القرن الثاني الهجري هو الرائد في مضمار استدعاء صوت المجنون الى مشروعه الثقافي. والحق ان »البيان والتبيين« للجاحظ، و»عقلاء المجانين« للحسن النيسابوري في القرن الخامس الهجري يمثلان علامتين بارزتين في مسار استدعاء صوت الجنون، واعادة انتاجه في الخطاب الثقافي، مما أنتج مشروعا متكاملا شمّالا، يتضمن تراجم الشخصيات الجنونية منذ العصر الراشدي، مع تمهيد لغوي وتأطير غني لمختلف مستتبعات الموضوع. وبين هذين الكتابين، وخارجهما، برزت استدعاءات متكررة للشخصية الجنونية ولصوت الجنون. بعضها، يعكس همّا ثقافيا تعبيريا أصيلا، كما في »الأغاني« و»العقد الفريد« و»نثر الدر« و»صفة الصفوة« الخ.. وبعضها استدعاءات ثانوية، تردد تجربة، وتستعيد منهجا، في التعبير والتنظيم النصي، كما في »غرر الخصائص« و»لواقح الأنوار« الخ.. رسم صوت الجنون، كما عند جبران خليل جبران او عند أدونيس عندما يقول »يلزمني جنون آخر لكي أعرف من أنا، في عصر كمثل فاصلة بين الموت والموت«، بأصالة واضحة في الشكل والمحتوى، جوانب ومستويات من صورة الذات العربية، في مسارها الاجتماعي التاريخي، بانكساراتها، وتطلعاتها، بجدها وهزلها، بوعيها الظلامي المنكفئ، او التاريخي المنطلق، الذي يستشرف أفقا آخر، أكثر رحابة وجمالا. وكان الجانبان، الذاتي والموضوعي، يتكاملان في حضورهما بصوت الجنون، وفي صياغته على مستوى الشكل اللغة وعلى مستوى الدلالة المضمون بحيث ينهض الموضوعي ويستعلن من خلال الذاتي، ويتقدم الذاتي ليشهد ويرى، بوصفه حالة موضوعية، تجد شرط وجودها ومشروعيته في مسار الوعي والتاريخ. ان الجانب الذاتي للمجنون يتجسد في مستوى الشكل، من خلال الكلمة المختزنة »للأنا الشعرية«، بكل ألقها ونوازع التمرد والاحتجاج واللعنة فيها ولهذه الكلمة حضور واضح في صوت الجنون، يرتقي الى منزلة الميزة الجمالية الواضحة، في الخطابين الشعري والنثري للمجنون. وهنا، في هذا المستوى، يكمن جانب هام من أصالة صوت الجنون وإبداعيته بوصفه صوتا رافضا ناقما ممزقا، دأبه خلخلة السائد السلطوي وإسقاطه، وإدانته، عبر لغة تنسج بتوترها وانفعالاتها واختراقاتها الدلالية، جماليات الايصال والتعبير. وهي لغة تستلهم في إنبنائها مجمل جماليات النثر والشعر العربيين خاصة في حقل التصوف وأدبه عند النفري والحلاج والسهروردي وابن عربي وابن الفارض ولكنها تمتلك خصوصيتها من كونها تعمل في داخل نسق الجنون، بكامل متعلقاته وعناصره ودلالاته في الوعي والمجتمع. التمرد وعلى مستوى الدلالة، المضمون، فان الجانب الذاتي في صوت الجنون يستعلن من خلال الموقف المتمرد المغترب، والفردي الممزق، تجاه مسار الواقع ومآل الناس. ونحن نلاحظ في صوت الجنون بعدا هجائيا نقديا فرديا موجها الى ناس المدينة الاسلامية إجمالا، بوصفهم كتلة تاريخية اجتماعية واحدة متجانسة، اعتراها الفساد، فاستقطبت من ثم إدانة المجنون ونقمته، من نقطة إشراف تتيح الرؤية والازدراء، ومن موقع العارف الخبير، وبمنطق يتراوح بين الحكمة والعبث، كما في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وبين التأسي الفاجع والسخرية اللاذعة، والفانتازيا الحاملة لأزمة التواصل والتشاكل الاجتماعيين. ان الجنون، يتبدى هنا، كموقع يتيح لصاحبه امتلاك وعي فردي يرى فساد الناس، وعري الرموز المتعالية، ولكنه في ارتهانه الى شروط تاريخية ايديولوجية محددة، كان يتمترس، في رؤاه الى الوقائع، خلف منطق الندب والهجاء الفرديين، أكثر من ان يستشرف شروطا اخرى، او يرسم عوالم اخرى. وهذا الموقع الذي يرى منه المجنون الى فساد الناس، قد يكون على مستوى الفضاء المادي المقبرة (كما في فيلم يوسف شاهين الأخير الرجل الآخر) او البيمارستان (مستشفى المجانين) (كما في الفيلم الاميركي »طيران فوق عش الكوكو«) او في السوق او في الشارع (كما في أفلام دريد لحام الجميلة بفكاهيتها الجنونية).. الخ ولكنه في جميع الاحوال يحيل الى خارج الجنون يحاكم داخلا الناس والتاريخ وهذا الداخل خاطئ ومدان، ولقد أعطت هذه الوضعية العلاقة صوت الجنون مشروعية محاكمة الكتلة الاجتماعية التاريخية، من موقع لا يرتهن الى سلوك أفرادها وتطلعاتهم ومآل أحوالهم. وتجد الفردية الناقمة تجسدها المتطرف في صوت الجنون، استنادا الى معادلة الفرد الأمة، بحيث توضع الذات المتكلمة حاملة صوت الجنون في طرف، والكتلة المدانة الامة في طرف آخر، ليتم عبر هذه الصورة، دفع الهجاء الفردي لكتلة اجتماعية تاريخية الى ذروة الإدانة العدمية والنقمة المتمردة. قيل لمجنون: أيسرك ان تصلب في صلاح هذه الأمة؟ قال: لا ولكن يسرني أن تصلب الأمة في صلاحي! استدعاءات ثلاثة للمجنون وصوته، شهدتها الثقافة العربية المعاصرة الاول قام به جبران خليل جبران في كتابه »المجنون«، والثاني قام به أدونيس في كتابه »مفرد بصيغة الجمع« و»وقت بين الرماد والورد« والثالث قام به محمد علي شمس الدين في كتابه الأخير »منازل النرد«. بكلام آخر، ان الجنون عند جبران وفي قصائد الحداثة، بدءا من »المسيح بعد الصلب« لبدر شاكر السياب، وسواها، كقصيدة ادونيس »اسماعيل«، هو حالة تتيح امكانية وعي التصدع والجهر بهذا الوعي على حد تعبير خالدة سعيد. ان لصوت الجنون قابلية الانبناء مجددا في الثقافة العربية الحديثة وإبداعاتها النثرية والشعرية، والحضور المستمر والأصيل، كشكل من أشكال الوعي والتعبير، وكنسق للشكل والدلالة، يزيح اللامعقول السائد، ويجهر بالسري والمخبوء، ويعلن على الملأ، امكانية إسقاط السلطوي المخيف، واللاإنساني.
رابط المراجعة: هنا
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.