تعود الواقعية، بعد عدة عقود من إنكار وجود أي شيء يتجاوز التفسير. ويرجع المفكرون في تقاليد ما بعد الحداثة إلى الواقع. تجادل مجموعة جديدة من المفكرين القاريين – بما في ذلك ماوريتسيو فيراريس، غراهام هارمان، وماركوس غابرييل- بأن الواقعية هُجرت بشكل غير عادل وغير حكيم. في حين أن جزءًا من دوافعهم فلسفية بحتة، فإنهم يرون أيضًا الواقعية كدفاع ضد نمط سياسي نيتشوي فظ يتجسد في مجموعة من قادة العالم الذين يتصرفون وكأن الحقيقة هي كل ما يقولونه. حتى في علم الاجتماع، فإن التنظير الهش، الخالي من الميتافيزيقا، لنظرية الفاعل العقلاني قد انضمت إليها “الواقعية النقدية”، وهي نظرة ميتافيزيقية ثقيلة تقبل أن الأشياء لها طبيعة موضوعية تجعلها ما هي عليه، وقوى تمكن التفاعلات السببية الحقيقية بين الأشياء.
في غضون ذلك، ظلت الفلسفة التحليلية واقعية في الغالب منذ نشأتها، لكنها واجهت أيضًا صعوبة فيما إذا كان يمكن تبرير مطالبتنا بمعرفة لعالم خارج رؤوسنا، أو أي معرفة على الإطلاق. في الآونة الأخيرة، مع ذلك، فقد تحدا المفكرون من كافة حدودها هذا الشك المتكرر، مشيرين إلى افتراضات معيبة ولكن عميقة التأصل في هذا الإرث الديكارتي -مثلاً، أن أفكارنا عن العالم منفصلة جذريًا عن العالم الخارجي نفسه- وتذكير أتباع الفلسفة التحليلية بأننا مفكرون متجسدون في العالم الواقعي، حتى قبل التفكير الواعي.
لا أحد يبدأ الحياة كمعارض للواقعية. في الواقع، من الناحية التاريخية، يبدو أن الواقعية هي موقفنا الافتراضي. لماذا إذاً أصبحت الواقعية، حتى وقت قريب، غير مقنعة؟ يمكن أن تكون إحدى الإجابات هي أن معارضة الواقعية هي نتيجة غير مقصودة للتنوير.
تنوير غير مقصود
يعتقد العديد من مفكري عصر التنوير، إن لم يكن معظمهم، أن انتصار العقل وظهور العلم الجديد من شأنه أن يحسن آفاق البشرية وظروفها المادية. والمعرفة، من هذا المنطلق، تكسر بشكل تحرري، القيود التي أعاقت البشرية.
ولكن في حين أن هذه المعرفة التحويلية، المطبقة من خلال التكنولوجيا والطب، حسنت حياة الإنسان دون شك، فقد جاءت مع تحولات اجتماعية ومؤسسية لا يمكن تصورها. حيث صار النقل ميكانيكيًا، والاتصالات جماهيرية، وبدت المجتمعات البشرية مجردة وغير شخصية. عاش الناس في شقاق عظيم مع الطبيعة، وتفاعلوا بشكل أكثر حصرية مع البيئات المصممة. بدأ التصنيع والتحضر والآثار الاجتماعية والثقافية الأخرى لتطبيق علم التنوير في طمس الحدود بين العالم الطبيعي (أو الحقيقي) والعالم الاصطناعي لدى العديد من الشعوب. بالنسبة للبعض، بدأ هذا الشعور بـ “عدم الإدراك” يقوض معقولية الوصول إلى واقع مستقل عن العقل.
في أواخر القرن التاسع عشر، خلص فريدريك نيتشه إلى أن وجهة نظر العالم التي قدمها علم التنوير لم تترك مجالًا للأخلاق الموضوعية. وبالتفلسف عبر مطرقة أعلن أن الأفكار العظيمة والتحويلية ليست أكثر من تفصيل وجهات نظر المفكرين الأقوياء، وبالتالي فإن ادعاءها بتمثيل موضوعي للواقع ضعيف أو معدوم. كانت فكرة الحقيقة في الأساس، بحسب نيتشه، أداة قوية تُستخدم للتلاعب بالآخرين والسيطرة عليهم. والنتيجة، على حد تعبير الفيلسوف الإيطالي ماوريتسيو فيراريس، هي “مغالطة القوة المعرفية: يجب النظر لكل شكل من أشكال المعرفة بعين الريبة، كتعبير عن نوع من السلطة”.
إن هذه الريبة في المعرفة على أنها مجرد تعبير عن السلطة، معززة في الأعراف والمؤسسات والنماذج الثقافية، نوقشت وفصلت من قبل مفكرين من القرن العشرين مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا وريتشارد رورتي. ما كان ينظر إليه فلاسفة عصر التنوير على أنه تحرير للبشرية كان ينظر إليه هؤلاء المفكرون “ما بعد الحداثيون” كأداة للقمع، سواءً كانت محتملة أو فعلية. بالنسبة للمدافعين الأكثر صرامة عن هذا الموقف، فإن الطريقة الوحيدة لتجنب إساءة استخدام أي ادعاءات بمعرفة الواقع هي تفكيك مثل هذه الادعاءات، وفي النهاية إنكار إمكانية مثل هذه المعرفة.
من الواقعية إلى الواقع
في حين يمكن أن يتحمل الفكر ما بعد الحداثي الكثير من اللوم عن نمط السياسة الذي يزعزع استقرار مفاهيم الواقع والحقيقة، فقد استفاد فلاديمير بوتين وسيلفيو برلسكوني ودونالد ترامب من انهيار توافق ثقافي واسع المدى حول ما هو صحيح بشكل معقول وما هي “الأخبار الزائفة”، وهو الانهيار الذي ساهمت فيه شكوك ما بعد الحداثة الشعبية. بعد ملاحظة إساءة برلسكوني القاسية للواقع خلال مسيرة الإعلامي المنتصر دائمًا كرئيس للوزراء الإيطالي، يجادل فيراريس أنه بدون فكرة أن بعض الأشياء هي كما هي، بغض النظر عما يعتقده أي شخص عنها، فمن غير الواضح كيف يمكن للمرء أن يقاوم ادعاءات الأقوياء. ويخلص إلى أنه “على عكس ما يعتقده العديد من المفكرين ما بعد الحداثيين، فهناك أسباب معقولة للاعتقاد، أولاً وقبل كل شيء بناءً على دروس التاريخ، أن الواقع والحقيقة دائمًا يحميان المستضعف من قمع القوي”.
إذا كانت شكوك ما بعد الحداثة في الواقعية هي نفسها الآن موضع شك، فماذا عن ذلك الشك الديكارتي المتأصل في الواقع؟ أحد الردود التي قدمها فلاسفة أكثر تأثرًا بالفينومينولوجيا مثل هوبير دريفوس وتشارلز تايلور هو انتقاد وجهة نظر ديكارت بأن الأفكار معزولة في العقل، ومحجوزة عن العالم الذي من المفترض أن تمثله. بمجرد قبول بنية “الداخل / الخارج”، ستكون هناك دائمًا مشكلة في كيفية الخروج من رأس المرء لمقارنة أفكار المرء بالعالم الحقيقي. يقدم كل من دريفوس وتايلر نهجًا بديلاً، مشيرين، أولاً، إلى أننا نتقبل تلقائيًا عوالم الحياة بأكملها بمصطلحات فهمنا لمواضيع التجربة العادية. بدون هذا الافتراض المسبق والفطري لإطار كلي، لا يمكننا حتى تحديد معظم الأشياء التي نفكر بها ونتحدث عنها. ويحدث الكثير من تبحرنا عبر العالم عن طريق التفاعل المعرفي مع بيئتنا المادية، تحت مستوى الإدراك الواعي. ولأننا نتفاعل باستمرار مع تلك البيئة، يجب أن نقبلها على أنها حقيقية.
إن مثل هذه الملاحظات حول كيفية تفسيرنا وتفاعلنا مع العالم معقولة، لكن ديكارتي متمسك سيشير إلى أن عالم الحياة الذي نفترضه تلقائيًا قد يكون وهمًا، على الرغم من أنه لم يُختر عمدًا. بالتأكيد يمكن أن نكون مخطئين بالصدفة! علاوة على ذلك، يمكننا جمع واقع العالم الخارجي من تفاعلنا اللاواعي معه فقط إذا افترضنا بالفعل أن التفاعل مع العالم الخارجي. بعد كل شيء، قد يكون المظهر الذي نتفاعل فيه لا شعوريًا مع العالم الخارجي مجرد جانب آخر من تصوراتنا الوهمية الداخلية.
بغض النظر عن التحديات المستمرة التي يفرضها الشكوكيون الديكارتيون، فمن الواضح أن الواقعية في تصاعد مرة أخرى. السؤال الحاسم الآن هو إلى أين يجب أن يتحول الواقعيون الجدد بمجرد استئناف موقفهم الواقعي. في النهاية، الواقعية مجرد وجهة نظر مفادها أن العالم هو على الأقل جزئيًا مسألة موضوعية، ومستقلة عما نفكر فيه وكيف نفسرها. وهذا يترك ما يشبه العالم الحقيقي المكتشف حديثًا، بصرف النظر عن وجوده الموضوعي.
حتى الآن، يتجه الواقعيون الجدد في اتجاهات مختلفة. يعود الواقعيون النقديون إلى وجهة نظر أرسطية حول السببية، بقبولها للتفاعل السببي الحقيقي بدلاً من مجرد “الارتباط” بين الأحداث المهمة. يقترح فيرارس أن نعود إلى صورة تنويرية عامة، مع وجهة نظرها المتسامية للعلوم. أقترح أن أعرض رسمًا موجزًا للنظريات الميتافيزيقية الأساسية المعروضة الآن، ونتحرك نحو الاعتبارات الأكثر شيوعًا ونوضح بعض الفروق في الاستجابة للمشاكل النظرية المفتاحية التي يجب أن تساعد على مقارنة نقاط القوة والضعف النسبية لوجهات النظر ذات الصلة. ربما يُشار لخط الصدع الأكثر أهمية بين الخيارات المتنافسة بالسؤال عن ماهية اللبنات الأساسية للواقع. بالنظر إلى أن هناك واقع، مما هو مصنوع؟
طبيعية، يمكن ملاحظتها وقياسها
إن الطبيعية، أولاً بين مثيلاتها، أكثر شعبية بكثير من أي وجهة نظر أخرى منافسة في الفلسفة التحليلية. يبدو أنها الافتراض الظرفي الوحيد المقبول في العلوم الصعبة -الفيزياء والكيمياء- ومفضلة حتى في العلوم الأكثر ليونة -علم الأحياء، علم النفس وعلم الاجتماع. الطبيعة وجهة نظر مفادها أن اللبنات الأساسية للواقع هي أشياء يمكننا وصفها من الناحية العلمية- كل شيء مبني من أمور يمكن للعلم أن يدرسها. وبطريقة مختصرة: الواقع علمي. بتفكيكها قليلاً، يمكننا أن نرى أن الطبيعية لا تلزمنا بالتفكير في أن العلم قد وصف بالفعل أسس الواقع، ولكن مهما كانت كتل البناء هذه، فستكون من نوع الأشياء التي يمكن للعلم دراستها. أي أن هذه الأشياء الأساسية يمكن وصفها بالمصطلحات التجريبية والمصطلحات المرتبطة بالمراقبة والقياس بالطريقة الصحيحة.
يعتقد الكثيرون أن الواقع كما هو موضح هنا منظم بشكل هرمي، على الرغم من أنها ليست نتيجة تلقائية. تأتي أولاً كيانات فيزيائية أساسية، تتكون منها الكيانات الجزيئية في الكيمياء، والتي تشكل اللبنات الأساسية للحياة كما تدرسها البيولوجيا، والتي تشكل أشكال الحياة “الأعلى” – بما في ذلك البشر وأدمغتهم- مع الظواهر النفسية المصاحبة لذلك، والتي بالتنسيق مع أشكال الحياة الأخرى تؤدي لتصاعد الظواهر الاجتماعية.
يكمن جزء من جاذبية المذهب الطبيعي في نجاحه في استبدال التصور الذي طالما سيطر على الغرب. رأى هذا الرأي، الذي هو توليف بين المسيحية والفكر الأرسطي، أن جوهر أي شيء هو “ما” و”كيف” يهدف إلى “الخير” الخاص به كما صممه ووجهه الرب. كان التفكير أن جميع الكائنات الحية لديها غائية مدمجة واتجاه ونهاية. ولكن حتى حين ساهم هذا التوليف في العصور الوسطى بشكل مباشر في صعود العلم الحديث، فقد أضاع تركيزه الاستنباطي على السببية مصداقيته حيث أجاب العلم الجديد بثبات على العديد من الأسئلة القديمة بمظاهرات تجريبية لا تحتاج إلى علم الغائية. واحدة تلو الأخرى، تقدمت مجالات الدراسة التي أظهرت القليل من التطور على مدى آلاف السنين السابقة في خطوات حاسمة: علم الفلك أولاً، ثم الميكانيكا، ثم الفيزياء بشكل عام، ثم الكيمياء، ثم مجالات واسعة من علم الأحياء والطب. بدا واضحًا أن الواقع سيتم تفسيره من خلال الملاحظة، وليس من خلال إغراء التوجه الراسخ نحو “الخير”.
مشكلة الإنساوية
لأن المذهب الطبيعي يدعي أن كل شيء واقعي يمكن أن تُتبع جذوره في نهاية المطاف إلى ما يمكن أن يصفه العلم، يصبح واقع بعض الأشياء الأخرى موضع شك. يتضمن ذلك الوعي والقيمة والأخلاق والمعنى والغائية والعقل والنية والإرادة الحرة والحياة والروح والنفس. يسمي الطبيعيون هذه الأشياء أحيانًا بـ “الشبحية”، لأنه يصعب من منظورهم فهم هذه الظواهر من الناحية المادية، مثل الأشباح وما شابه.
ولكن بما أن هذا المصطلح يبدو ازدرائي بعض الشيء، فسأطلق على هذه الظواهر مصطلحًا أقدم يدل على خاصية الإنسان المميزة: إنساوية- Humanitas. في النهاية، معظم هذه الظواهر “غير العلمية” معنية بشكل مركزي في مفهوم تقليدي للإنسانية. البشر هم ذوات حية، واعية، تدرك وتمتلك قيمة عظيمة، وتسترشد تفاعلاتهم مع الآخرين بإحساس أخلاقي، يقدرون ويبحثون عن المعنى، ويتبحرون ويفهمون الواقع باستخدام عقولهم وإرادتهم. لا تقتصر هذه الميزات على البشر. لكنهم متحدون في الإنسانية.
بعد ظهور العلم الحديث من القرن الخامس عشر حتى القرن السابع عشر، افترض الكثيرون أننا سنجد تفسيرات طبيعية لكل الواقع، بما في ذلك عوالم الإنساوية. مع ذلك، فإن علم الأحياء لم يكتسب الطابع الحاسم المتين للفيزياء أو الكيمياء. قد نعرف المزيد عن كيفية عمل الأجسام الحيوانية والنباتية، ولكن لا يوجد حتى الآن تقرير طبيعي كاف عن ماهية الحياة- ما الذي يجعل الكائنات الحية تختلف بشكل خاص عن الأشياء الجامدة. بالتأكيد، بدأ المد يغير اتجاهه بخصوص تعقيد هذا السؤال. وبالمثل، كان من المفترض أن تحل ثورة العلوم الإدراكية التي انطلقت في الجزء الأخير من القرن العشرين لغز الوعي، ولكن على الرغم من كل ما قامت به من أجل توضيح الروابط العصبية للوعي وعمليات الدماغ المتنوعة، فإنها لا تزال غير قادرة على تحديد الوعي نفسه. منذ الثورة العلمية، كانت هناك محاولات عديدة لتطبيق أساليب العلوم الطبيعية لتوضيح بل وحتى المساعدة في الفصل في المسائل الشائكة حول القيمة والأخلاق. وقد فشلت كلها، رغم الزعم في كثير من الأحيان أنهم يثبتون أشياءً لا يمكن لمناهجهم تحقيقها في الواقع. وبالمثل باءت بالفشل جهود “طبعنة” القصد والإرادة الحرة والروح وغيرها.
المذهب الطبيعي هو جزء من الإرث المستمر للتنوير، الذي أنتج أول فهم ذاتي منهجي. لكن يجب أن تجعلنا الصعوبات التفسيرية نقف عندما نسمع دعوات مبسطة للعودة إلى يقينيات التنوير من أساتذة العلم أمثال ستيفن بينكر أو من الواقعيين الجدد أمثال موريزيو فيراريس. ليس ذلك لنفي إنجازات العلم الحديث التي لا تعد ولا تحصى في كشف حدود التفسير العلمي والفلسفة التي تحاول تفسير كل شيء فقط عبر المصطلحات التي يقدمها العلم.
نكهتان للمذهب الطبيعي
إذًا ما العمل؟ لقد استجاب الطبيعيون لهذه المشاكل التفسيرية المستعصية بطريقتين، تاركين لنا فعليًا نسختين من المذهب الطبيعي: خلاب و غير خلاب. يدرك الطبيعي الغير خلاب الصعوبات التفسيرية ويقترح الحل: لقد كافحت الطبيعية لتفسير هذه الظواهر لأنها ليست حقيقية. لا يمكننا تفسير الوعي بالمصطلحات العلمية لأنه لا يوجد وعي – إنه مجرد وهم. لا يمكننا تفسير الأخلاق من الناحية العلمية لأنه لا يوجد أخلاق، وهلم جر. الخطأ، الذي يقع فيه هؤلاء المفكرون، هو قبول التجربة العادية بدلاً من اتباع التحقيق التجريبي الأكثر ثقة.
المشكلة في هذا النهج أنه يؤدي في النهاية إلى عدم الاتساق. ألكساندر روزنبرغ، الفيلسوف بجامعة ديوك، هو من أكثر المؤيدين للطبيعية الغير خلابة. في معالجته لهذا الرأي في: The Atheist’s Guide to Reality، يجادل بأن كل ما أسميه الإنساوية أمر خادع. جزء من النتيجة أنه نظرًا لعدم وجود تعمد، فلا يوجد فكر، وبالتالي لا يوجد شيء كسبب، وبالتالي أيضًا لا توجد أسباب لقبول أي وجهة نظر. لكن كتاب روزنبرغ بالكامل يزعم أنه يقدم أسبابًا لقبول وجهة نظره … أنه لا توجد أسباب لقبول أي وجهة نظر. إذا كانت قضيته عقلانية، فهذا يعني أنها ليست كذلك. لذا يبدو أن الظواهر غير الطبيعية مطلوبة لنشاط المنطق نفسه. يبدو أن المذهب الطبيعي الغير خلاب بشكل تام غير ناجح.
يعتقد المؤيد للطبيعية السحرية أن الظواهر الشبحية للتجربة الإنسانية –الإنساوية– يمكن تفسيرها بالطريقة الصحيحة. قد يعتقد البعض بهذا ببساطة لأنهم لا يدركون الصعوبات التي يواجها المذهب الطبيعي في هذه النقاط. لكن الكثيرين يدركونها، ومع ذلك يحافظون على الثقة بوجود مثل هذا التفسير، حتى لو لم نجده بعد. بالنظر إلى الفشل العام في طبعنة معظم الإنساوية على مدى الأربعمئة عام الماضية، ما مرد هذا التفاؤل؟ بالنسبة للبعض، السبب أن البدائل كلها تبدو أسوأ. يبدو جزأ ضخم من الخبرة البشرية دقيقًا في فئاتها الواسعة -هناك حقيقة أخلاقية (حتى لو كان من الصعب معرفتها)، وإرادة حرة، ووعي- لذا لا يمكننا إنكار ذلك. ولكن لا يمكننا أيضًا أن ننكر أنه في نهاية المطاف، فإن كل ما نعاني منه يجب أن ينشأ من الواقع التجريبي الأساسي. في النهاية، ما سيكون البديل عن الطبيعية؟ واقعية غير علمية بشكل أساسي؟ حتى لو وجد مثل هذا الشيء، كيف يمكننا أن نعرفه، ونحن بعيدون، عن الأساليب العلمية الموثوقة؟
بديل أفضل باسم أسوأ
الإجابة على هذه الأسئلة تعطينا وجهات النظر التالية. هذه الفئة ليس لها اسم جذاب. في الواقع، تُعرف في الوقت الحالي ببساطة بأنها غير طبيعية. ما يوحد مشاهدات الصورة الكبيرة في هذه الفئة هو – كما يوحي الاسم – أن كل منها يقبل بطريقة ما شيئًا حقيقيًا لا يمكن وصفه بالمصطلحات العلمية. في شكل مختصر: لا يمكن للعلم أن يشرح كل شيء. الطريقة الأكثر وضوحًا لعدم كونك طبيعيًا هي الاعتقاد بأن الرب موجود، لأن الموجود الخارق غير المرئي لا يقدر العلم على وصفه بوضوح- لن يكون الرب مصنوعًا من الجسيمات دون الذرية، ولديه كتلة، وما إلى ذلك. ولكن هناك الكثير من الطرق الأخرى، كذلك.
بينما يعتقد غير الطبيعيين أن بعض الأشياء لا يمكن تفسيرها بمصطلحات العلوم، إلا أن جميع غير الطبيعيين تقريبًا يعتقدون في هذه الأيام أن بعض الأشياء يمكن تفسيرها بهذه الطريقة. أي أن قلة قليلة منهم تعتقد أن لا شيء يمكن تفسيره من الناحية العلمية. في الماضي، اعتبر البعض أن كل شيء، في النهاية، عقلي أو روحي. ولكن اليوم، يعتقد معظم غير الطبيعيين الذين يقبلون بعض الواقع العقلي أو الروحي الأساسي أن هناك عالمًا تجريبيًا.
السؤال الأساسي والمنظم للآراء غير الطبيعية هو كيف ولماذا ظهرت الإنساوية في الكون على الإطلاق. حتى إذا كانت لدينا فكرة عن الكتل البنائية اللازمة لواقع يشمل البشر، فإن هذا لا يخبرنا عن السبب الذي جعل الكتل البنائية تتجمع معًا بالطريقة الصحيحة لإنتاج هذه الحقيقة بالذات. هذا هو الفرق بين، على سبيل المثال، التساؤل عن هيكل ومواد أعجوبة معمارية والتساؤل عن أدى لتصميمها وإنتاجها. تتعلق مجموعة واحدة من الأسئلة بالشكل والمواد، وتتعلق المجموعة الأخرى بكيفية تكونها أساساً. القضية هي كم يكون تفسير هذا النشوء منطقيًا. (المصطلحات الفلسفية الواضحة مقابل التفسيرات الغاشمة) بالنسبة لكل من غير الطبيعيين والطبيعة السحرية، فإن المشكلة ملحة.
لنفترض أن الأشياء المادية الأساسية -مثل الكواركات- لديها ما يلزم لإثارة الحياة والوعي والقيمة وبقية البشر. حتى لو كان الأمر كذلك، فلماذا ستنظم الكواركات نفسها -وفقًا لتوجيهات قوانين الطبيعة- في النهاية لإنتاج الحياة؟ لا يوجد شيء نعرفه عن الأشياء المادية الأساسية أو قوانينها التي تشير إلى أنه من المحتمل حدوث ذلك. ولماذا ينتج الانتقاء الطبيعي الذي يعمل على طفرة عشوائية في الكائنات الحية كائنات واعية، ناهيك عن كائنات بشرية واعية بشكل خاص؟ لا يوجد غرض يمكن تمييزه في الطفرة – لهذا السبب نقول أنه عشوائي. لذلك يبدو من غير المحتمل أن يؤدي الواقع الطبيعي إلى ظهور الحياة والوعي.
لكنها فعلت. فماذا نستنتج من هذا؟
يعتقد البعض أننا محظوظون فقط، ويشيرون إلى أن وجود أي كون معين ضئيل الاحتمال للغاية، لذلك لا ينبغي أن نُفاجأ بأن كوننا كذلك أيضًا. ولكن بالنسبة للكثيرين، يبدو هذا الرد مرفوضًا. خذ في الاعتبار مثلاً عدد التكوينات التي يمكن أن يشكلها سقوط 500 عود أسنان من صندوق. احتمال أن يكون كل تكوين هو الذي ينتج ضئيل جدًا. ومع ذلك، إذا نظرت للأسفل ورأيت أن أعواد الأسنان قد شكلت اسمك، فقد يستدعي هذا مزيدًا من التوضيح أكثر من مجرد “حسنًا، كان ذلك غير محتمل مثل أي نتيجة أخرى…”
قد يقترح آخرون (كما يفعلون استجابةً لـ “الضبط الدقيق”) أن كوننا هو مجرد واحد من عدد كبير جدًا من الأكوان في “الأكوان المتعددة”، والتي يتم عبرها تحقيق جميع الطرق المختلفة التي قد يتحول إليها الكون. في الغالبية العظمى من هذه، كما قد نتوقع، لا تتطور الحياة الواعية. ولكن في جزء صغير منها، يحدث ذلك. ولا يمكننا حتى أن ندرك أننا كنا واعين وحيويين ما لم نكن في أحد تلك العوالم. لذلك ليس من المفاجئ حقًا أن ندرك هذا. حُلت المشكلة.
معضلة هذا الرد أنه يتطلب افتراض عدد غير محدود من الأكوان الإضافية لجعل تطور الإنساوية في الواقع بعيد الاحتمال بشكل أقل. ذلك غير مدروس، على أقل تقدير.
لذلك، بالنسبة لغير الطبيعيين، هنا مسلك الخيط في الإبرة: شرح كيف يتحد العالم المادي والإنساوية في واقع مشترك، دون مضاعفة الأكوان إلى مالانهاية، أو تجاهل أهمية وجودنا. وهذا بالضبط ما يحاول فعله توماس ناجيل في كتابه المثير للجدل العقل والكون.
حلُّ ناجيل هو وضع قوانين غائية جديدة للطبيعة. مثلما يعتقد البعض أن هناك قوانين مسؤولة عن سلوك العالم المادي، يقترح ناجل أن هناك قوانين تربط الجوانب الرئيسية للإنساوية بتطوير العالم المادي بمرور الوقت. “تهدف” القوانين، إلى حد ما، إلى إيجاد الحياة، ومن ثم إيجاد حياة واعية. مثل هذه القوانين ستمارس شيئًا يشبه الضغط على الترتيبات العشوائية للجزيئات لتشجيع تكوين الحياة، وعلى الانتقاء الطبيعي، لصالح تطور الكائنات الواعية. إذا كانت مثل هذه القوانين موجودة، فإن حقيقة وجود حياة واعية ليست إعجازية. عوضًا عن ذلك، بالنظر إلى هذه القوانين، هذا ما يجب أن نتوقعه. ستجعل هذه القوانين ظهور الإنساوية أمرًا مفهومًا.
الصعوبة الرئيسية التي تواجه وجهة نظره ناجيل هي أنه من الصعب فهم فكرة أن الواقع يمتلك ببساطة قوانين تعزز الحياة والوعي. إن تعزيز وجود ناتج ذو قيمة هو أحد مزايا الكائن العاقل. يمكننا نحن البشر أن نفهم أهمية الأشياء الثمينة، وبالتالي يمكننا محاولة التصرف باسم القيمة. “لقد حاولت إنقاذ حياتها لأن حياتها جيدة” هو ادعاء منطقي. لكن الواقع نفسه ليس عاملًا عقلانيًا يمكنه “التصرف” لتعزيز أشياء ثمينة مثل الحياة والوعي. يفكر المرء في ادعاء الساحر غاندالف، في فيلم The Lord of the Rings، أن الخاتم الأوحد “يريد أن يُعثر عليه”. باستثناء أنه في هذه الحالة، فالأمر ليس خاتمًا في رواية خيالية – إنه الواقع بكامله. “يريد الواقع أن توجد حياة واعية”. ذلك محير للغاية، إن لم يكن غير متماسك.
يبدو أننا ما زلنا بحاجة إلى شيء آخر لشرح سبب وهب الواقع للحياة والوعي. كما توقعت على الأرجح، هناك خيار شائع تاريخيًا لم أناقشه بعد، على الرغم من أنه خيار يأمل ناجيل في عدم وجوده.
الثلاثة الكبار
نعم، إنه الرب. أكثر وجهات النظر غير الطبيعية التي يمكن التعرف عليها هي الامتدادات الميتافيزيقية للديانات التوحيدية “الثلاثة الكبار”: المسيحية والإسلام واليهودية. في بعض النسخ الأكثر انتشارًا لهذه الآراء، يكون الرب كائنًا شخصيًا، مع ما يشبه العقلانية والإرادة. وحول هذه الآراء، من المفترض أن يكون الرب قد خلق البشر ليكونوا مثله في هذه النواحي (سواء بالتدريج عبر التطور أو على الفور من خلال الخلق الخاص). الإنساوية هي في النهاية نوع من هبة من الألوهية. ليست مصادفة كونية أن الحياة الواعية ظهرت. بدلاً من ذلك، فإن الحياة الواعية موجودة في الكيان الأساسي – الرب نفسه. ووهب الرب نفسه من خلال الخلق وأحدث المزيد من الحياة الواعية. لذلك من منظور الثلاثة الكبار، فإن ظهور الإنساوية واضح.
كما رأينا، فإن الخطوة الأولى نحو تنظيم مختلف وجهات النظر غير الطبيعية هي النظر في مدى منطقية تفسيرهم لظهور الإنساوية. والخطوة الثانية هي النظر فيما إذا كانت وجهة النظر توحد أو تجزأ الطبيعي والغير طبيعي. لا أعرف أحدًا يصف وجهة نظره بأنها “مجزأة”، لكن هذا صحيح بالنسبة لبعض وجهات النظر. في تخصصي الأساسي للفلسفة التحليلية، يبدو هذا النوع من الآراء شائعًا إلى حد ما بين غير-الطبيعيين. قد يكون الاعتبار القياسي أن شخصًا ما يرى أن الصورة الطبيعية معقولة جدًا … باستثناء هذه الظاهرة المضادة أو تلك التي لا يبدو أنها تُنقص، مثلما تفعل القيمة الموضوعية. تضاف كتل البناء القابلة للوصف العلمي -مثل الجسيمات دون الذرية وخصائصها- بطريقة ما بحيث تكون بعض الأشياء جيدة وقيمة. ولكن كيف يتم توحيد القيمة الموضوعية بأساسها المادي؟ في حين أن البعض لديه نظرية هنا، فإن البعض سيدعي عدم المعرفة: “لا فكرة لدي- ولكن كل من القيمة الموضوعية وعالم الظواهر الفيزيائية الأوسع يتعايشان بطريقة ما.”
من ناحية أخرى، لنفترض أن هناك عالِمًا إدراكيًا يعتقد أن عمليات الدماغ تشرح العقل البشري، لكنه يعتقد أن الوعي يمكن أن ينشأ هناك، لأنه في الصميم، كل شيء واعٍ بطريقة ما. (تزداد شعبية هذا الرأي، الذي يُدعى panpsychism). وجهة نظر هذا العالم أكثر انتظامًا، لأنها تفرض علاقة أساسية بين الطبيعي وغير الطبيعي.
في هذا التوجه أيضًا، يحصل الثلاثة الكبار على درجات عالية. يمكن لوجهات نظرهم أن ترجع الإنسان إلى مصدره في الرب، على الرغم من أنه، على عكس الرب، يتشكل البشر “من تراب الأرض” (سفر التكوين 2:7)، ولهم أساس مادي مثل الكثير من بقية الخليقة. هذا يشير إلى أن المادية تهدف جزئيًا إلى دعم الإنساوية. بهذه الآراء، نحصل على كل من الوحدة وتفسير لوجود الإنساوية.
وضعت نسخ مسيحية ومسلمة ويهودية من الآراء الإيمانية حول الواقع في أوائل العصور الوسطى. في كل حالة، اتبعت عملية التطوير نفس النص البرمجي تقريبًا: خذ ما تعرفه عن إلهك من نصوصك المقدسة، وقم بتدوين ذلك في دور المخطط الرئيسي في النظام الميتافيزيقي لأرسطو. عندئذٍ فإن التفاصيل الدينية المتعلقة بالرب سوف تتدفق عبر بقية النظام، مما يجعل كل منها مسيحيًا أو مسلمًا أو يهوديًا. لكن الإطار العام ظل بشكل أساسي أرسطيًا.
وفقًا لأرسطو وأنصاره اللاحقين -بما في ذلك توماس الأكويني- يمكن معرفة معظم نظامه الميتافيزيقي من خلال التفكير في عالم التجربة المشتركة. على سبيل المثال، عندما ترى حيوانًا مصابًا، فإنك تدرك أن الإصابة ليست جيدة له، وبالتالي تكون قادرًا على معرفة شيء حول ما هو جيد له، وبالتالي تعرف شيئًا عن مكون ازدهاره. ما الذي يجعل التوليفات التوحيدية مختلفة أنها تحتوي أيضًا على معلومات يعتقد أولئك الذين صاغوا هذه التوليفات أنه تم الكشف عنها خصيصًا لهم من الرب. على سبيل المثال، إن التفكير في التجربة لن يكشف لنا أن الرب أخذ الطبيعة البشرية مثل يسوع المسيح، وأن محمد رسول الله، أو أن اليهود هم شعب الرب المختار. إضافة الوحي تضيق جاذبية هذه الآراء، حيث أن أولئك الذين يقبلون أن الرب تحدث إلينا حقًا فقط هم الذين يمكنهم قبولها. بالإضافة إلى ذلك، فإن المحتوى المحدد للوحي يضيق جاذبية الآراء أكثر، لأنها تتضمن ادعاءات غالباً ما نجدها غير قابلة للتصديق- أن الجميع آثمون، وأن البعض سيعاقبون إلى الأبد في الجحيم، ويجب على الكل الاستسلام، إلخ.
من زاوية فلسفية أكثر، فإن المشكلة الكبرى مع الثلاثة الكبار هي مشكلة الشر. إذا كان الرب خيرًا بشكل تام وقويًا وعارفًا لكل شيء، فلا يجب أن يكون هناك شر في الواقع. إذا كان خيرًا تمامًا، فسيريد منع الشر؛ إذا كان قويًا جدًا، فسيكون قادرًا على منعه؛ وإذا كا عالمًا، فسيكون دائمًا قادرًا على رؤية عواقب أفعاله ليمنعها. ومع ذلك، هناك شر، وغالبًا شرٌّ مروع. وهكذا، يبدو أنه لا يوجد إله.
أو على الأقل هكذا يُحاج في الأمر في بعض الأحيان. ما يلي من الحجة هو الأكثر تعقيدًا. لمعرفة ما أعنيه، ضع في اعتبارك هذه التجربة الفكرية. لنفترض أنه أثناء المشي في الغابة على قطعة من الفخار (وليس ساعة). تفحصها وتجد أن الوعاء شكله جميل، لكن المقبض فظ -بل بشع- التشكل. بالإضافة إلى ذلك، طلي الجزء الخارجي من الوعاء بشكل رائع، ولكن يبدو أن الداخل جرح فقط بالفرشاة. ماذا يجب أن تستنتج؟ نظرًا لعدم احتمالية قيام الطين بترتيب نفسه بشكل طبيعي في مثل هذا الشكل الجميل والدهان الذي يصبغ الخارج بشكل جميل جدًا، فقد صنعه شخص ما بالتأكيد. في الواقع، يجب أن يكون من صنعه شخص لديه إحساس بالجمال وموهبة في صنع الفخار. لكن المقبض الشرير وتهور إنهاء داخله تجعلك تدرك أنه لابد للقصة من بقية. هنا الاستدلال أقل وضوحًا، نظرًا لوجود العديد من التفسيرات المحتملة. ربما خضع الخزاف لتقلبات المزاج. ربما بدأ العمل فنان، ولكن أنهاه مبتدئ أو من هو أسوأ. ربما كانت القطعة الأصلية مثالية، ولكن بعد ذلك تضررت وأصلحها حرفي أقل احترافية. وهكذا دواليك.
لكن الأجزاء الجميلة من الوعاء تبدو رائعة جدًا لدرجة أنها لم تحدث بصرف النظر عن القصد الجمالي، حتى إذا كانت العناصر الأخرى تمنع أي استدلال سهل على الشخصية أو النوايا العامة للمبدع أو المبدعين. وبالمثل، هناك العديد من الردود المقبولة على الحجة من الشر. قد ننكر كمال الرب أو علمه أو كليته. قد نروي بعض القصص المعقدة حول لماذا سمح الرب بالشر على الرغم من صلاحه. لكن الجوانب الواقعية والجمالية للواقع قد تجعل من الصعب الاستنتاج أنه لم يكن هناك مصمم على الإطلاق. إن الدور الذي يمكن أن يلعبه الرب في تفسير ظهور الحياة والوعي -وتوحيدهما مع الجسد- يزيد فقط من معقولية الإيمان.
لكن هذا النوع من الاستجابة لمشكلة الشر لا يجعل أيًا من الثلاثة الكبار معقولًا جدًا، لأن كل منهم ملتزم بالخيرية التامة والعلم والقدرة المطلقة للخالق. يبدو أن ملائمة أي من الثلاثة الكبار مع الشر يتطلب إجابة “القصة المعقدة”.
الإيمان العلماني: عكس التسلسل الهرمي الطبيعي
ولكن ماذا لو تمسكنا بهذا الرب المدعوم عقلانيًا وتركنا الدين الموحى به؟
سيكون هذا عودة إلى شيء مثل ربوبية-deism القرن التاسع عشر، أو إله بعض فلاسفة ما قبل سقراط. في هذه الصورة، هناك إله عقلاني وقوي يمثل نشاطه الإبداعي جزءًا كبيرًا على الأقل من الواقع المميز. يوفر خلق الإله لحياة بشرية واعية تفسيراً واضحاً لوجود الإنساوية وأهميتها الواضحة. يمكن تحقيق وحدة الفيزيائي والإنساوي من خلال الرجوع لـ”فلسفة أرسطو الطبيعية”، على النحو التالي تقريبًا.
واحدة من النقاط الرئيسية للميتافيزيقيا الأرسطية هي أن الجوهر هو الأكثر أساسية، وأن معظم كل شيء آخر يجب فهمه في نهاية المطاف فيما يتعلق بالجوهر. أيضا، يمكن فهم أي شيء يحدث غبر أربعة علل، وهي: العلة المادية، أو ما يُكون شيء؛ العلة الشكلية، أو ترتيب أو شكل شيء ما؛ العلة الفعلية، أو كيف يتم تحقيق الشيء؛ والعلة النهائية، أو وظيفة أو غرض الشيء.
اتخذ الثلاثة الكبار هذا الإطار وربطوا الأسباب النهائية لجميع الأشياء بأغراض منشئها. يمكن لوجهة نظر “المؤمنين العلمانيين” أن تفعل الشيء نفسه: يمكن رؤية غرض كل شيء على أنه مضمن فيه من قبل الخالق، مع كل هذه الأغراض المنسوجة معًا في كل متماسك. لذا فإن جميع الأشياء الأساسية – الجواهر، مثل البشر والحيوانات- متحدة في تناغم أغراضها. في غضون ذلك، تم تصميم الجسيمات دون الذرية والظواهر الكمومية كما هي من أجل دعم الكائنات الحية: النباتات والحيوانات والبشر.
وهكذا، فإن الوعي والغرض والقصد والعقل مرتبطان بالنظام المادي، لأن الأشياء المادية الأساسية تُفهم من حيث الأدوار التي تلعبها للأشياء غير المادية. هذا انعكاس للتسلسل الهرمي الطبيعي، حيث يجب فهم الكائنات الحية من حيث الأشياء المادية الأساسية. لكن النتيجة هي ميتافيزيقيا غير طبيعية أكثر توحدًا.
يمكن أن يتجنب الإيمان العلماني -باعتباره وجهة النظر الموحدة والمفاهيمية التي تؤكد الإنساوية– مواجهة المشاكل التي تعيق الآراء الأخرى التي تمت مراجعتها هنا: عدم التناسق الذي تواجهه الطبيعية الغير خلاقة، والتجزأ الذي تعانيه الطبيعية الخلاقة واللاطبيعية الغير موحدة، المشاكل الغريبة لـ “القوانين العاملة” التي تواجه اللاطبيعية الناجيلية، والوحي الديني المثير للجدل والنسخ الأكثر دقة لمشكلة الشر التي تضر بمصداقية الميتافيزيقيا الدينية للتقاليد الإبراهيمية الثلاثة. وبينما نبدأ في إدراك عدم قدرة المذهب الطبيعي على اعتبار ما هو إنساني بشكل مميز، قد تعود القيمة التفسيرية لكائن إلهي إبداعي إلى التركيز. ربما يكون الإيمان العلماني فكرة حان وقتها … مرة أخرى.
نقلا عن: ميتامورفوسيس جورنال