للفانتازيا العربية المتحررة من الأسر الهولويوودي رموزها واجواءها، ولها أيضًا همها الخاص النابع من بيئتها؛ كانت (تسعة عشر) فانتازيا عربية فلسفية مهمومة بالعالم الأخروي، ونسج مؤلفها خيالها من التراث العربي والإسلامي؛ وفانتازيا اليوم، استشرافية كابوسية سياسية، قدمها الأديب الجزائري واسيني الأعرج عام 2016 بعنوان (حكاية العربي الأخير: 2084)، وفيها يحاول المؤلف كتابة تاريخ مستقبل منطلقًا من معطيات واقع التشرذم العربي والعولمة بالقوة الناعمة والخشنة.
في عالم العربي الأخير، والذي تدور أحداثه في المستقبل القريب، وتحديدًا عام 2084، اختفت دول العالم وحل محلها تحالفات عملاقة تجمع العديد من الدول، أكبرها وأولها أمريوبيا الذي يجمع أمريكا وأوروبا ودولة أبناء العم التي يسميها أزاريا، والثاني تحالف روشيناريا الذي يضم روسيا والصين وايران، بينما أصبح العرب أو سكان أرابيا، شعوب منقرضة استحقت أن تعمل المنظمات الخيرية للحفاظ على من تبقى منهم كعينات أنثروبولوجية جديرة بالدراسة، العرب الذي أصبح عالمهم مجرد حطام وآبوا إلى جزيرتهم قبائل متناحرة، تعيش تحت تهديد منظمة الغراب والعطش وجيوش تحالف أمريوبيا المتمركزة في تلك القلعة في الربع الخالي، هذه القلعة بالذات التي تصبح محور أحداث الرواية، تلك الأحداث التي تدور بين شخصيتين متضادتين كل التضاد، الجنرال ليتل بروز سيد القلعة العنصري الكاره لكل ما هو عربي، والذي اختطف واحتجز العالم العربي الأصل ومواطن أمريوبيا آدم بغير ذنب، إلا أنه يملك العلم الكافي لصناعة قنبلة نووية مصغرة استوحى فكرتها من آلام أسرة زوجته اليابانية الأصل والتي فقدت أحباءها في نيران هيروشيما النووية.
وكما أن انقراض العرب المستقبلي هو نتيجة حتمية للتشرذم العربي وهزيمتهم النفسية والحضارية؛ فإن هيمنة الفاشية على العالم هي نتيجة طبيعية للعولمة على الطريقة الأمريكية، وهكذا فإن عالم العربي الأخير المتخيل هو نتاج هم عربي وهم عالمي؛ ولهذا نجد واسيني الأعرج مشدود بقوة لواحدة من أهم الفانتازيات الكابوسية السياسية في العالم، رواية (1984) للإنجليزي جورج أورويل، والتي استوحى منها اسم روايته، كما استوحى منها خرائط عالمه التي رسمها أقرب ما تكون لخريطة عالم أورويل الذي اقتسمته اوشيانا واورواسيا وإستاسيا وأصبحت فيه بلاد العرب، بل العالم الإسلامي، مجرد أراض موضوع نزاع بين هذه الدول.
ولكن الرابط الأهم بين كابوس واسيني الأعرج وكابوس أورويل، هو الجنرال ليتل بروز والذي جعله الأعرج حفيدًا مباشرًا للأخ الكبير، بيج بروزر شرير أورويل، وارثًا عن جده فاشيته وشعاراته السفسطائية الفارغة مثل (الكل مع الواحد والواحد مع الكل) و(كلنا لنا ومنك)، مثله الأعلى موسليني، ويمزج الأعرج في ليتل بروز كل موبقات وملامح جنرالات ماركيز ويوسا، جاعلًا منه رمزًا للعولمة الأمريكية المسلحة. ليتل بروز يكره كل من يختلف عنه، ومن خلال بعض الإشارات الخفية نعرف أن الرجل ينحدر من نسل يهود نجو من محرقة هتلر التي أنشئها لمن يختلفون عنه، ويخص العرب بحقده بعدما فقد رجولته في انفجار لغم للمقاومة العراقية في الرمادي، فهو يؤمن بأن العرب (أمم لا تصبح مفيدة لا عندما تتحول إلى رماد)، ويبشر بعولمة في عبارة (العربي الجيد الوحيد هو العربي الميت)، تلك العبارة التي صكها أحد الدبلوماسيين الأمريكيين واتخذتها منظمة جوش أمونيوم الإرهابية شعارًا لها.
آدم، العالم العربي المهاجر، والذي يمثل هجرة (والأولى هروب) العقول، واحدة من أهم أزمات العالم العربي، الذي يعيش في بنسلفانيا ويعمل في جامعتها ومتزوج من أمايا يابانية الأصل، فهو عربي ولكنه عالمي الانتماء، وهو يبحث عن قنبلة تنهي عصر القنابل، وهو في سجنه يتوحد مع الذئب الوحيد رماد، مع ما للذئب من رمزية الحكمة والشهامة والصعلكة كما عبر عنها الشنفرى وطرفة وطفيل الغنوي، ولكن ينتهي الحال برماد إلى مغادرة صاحبه آدم إلى وطنه في الصحراء بعدما أصابت رماد رصاصات القلعة. وفي محبسه يجد آدم العربي الحب في شخصية ايفا الغربية، والتي يعني اسمها بالعربية حواء، في إشارة إلى أن العالم بوسعه التوحد من جديد في شخصيهما، وهو ما تحول دونه الحرب التي يعلنها ليتل بروز ويرعاها.
ويركز واسيني الأعرج على منظمة الغراب الغامضة التي تنشر الرعب والفوضى فيما تبقى من أرابيا، ويصفها بأنها منظمة إرهابية تستخدم الدين محاكيًا صور داعش الإعلامية، ولكنه في الوقت نفسه يزرع بذور للشك في عقل قارئه بشأن حقيقة هذه المنظمة وزعيمها الغامض، فآدم سجين في قلعة ليتل بروز بحجة أن منظمة الغراب أرادت خطفه وليتل بروزر بخطفه وسجنه حماه من شر الغراب؟! الغراب نفسه عربي آخر اسمه سيف – انتبه لدلالة الاسم – لا تستطيع أن تحكم عليه أهو ذلك الإرهابي الذي قضى طفولة سادية يقتل القطط ويمزق أجسام الطيور الصغيرة مثلما أعتاد هوليوود تقديم العربي، أم هو عالم الرياضيات الذي وثق في الغرب، واغتالت طائرة أمريوبيه بدون طيار أسرته بالخطأ، فيبعث من رماد أحزانه غرابًا يطلب الانتقام العادل.
ولا يجد القارئ مناصًا من أن يسأل نفسه بينما احداث الرواية تتقدم، من هو العربي الأخير، آدم الحالم المغرق في مثاليته والذي يثق في الآخرين مهما أنزلوا به من الآلام، أم سيف الذي احترق في حزنه وألمه ورغبته في الانتقام وأحرق العالم من حوله. ولكن في جميع الأحوال، يكتشف القارئ أنه أيًا كان العربي الأخير، فإن مصيره الموت على يد حرب الإبادة التي يشنها ليتل بروز على القبائل التي ذبحت بعضها البعض بسبب العطش، ولكن واسيني الأعرج يعطي القارئ بعض أمل، فآدم – سواء كان العربي الأخير أم لم يكن – ينجو من محرقة ليتل بروز، وبالأخذ في الاعتبار دلالة اسم آدم، فإنه قد يكون العربي الأول.
مؤلف هذا العمل، واسيني الأعرج، أديب وناقد وأكاديمي جزائري، يقيم في فرنسا منذ عام 1994 حيث يعمل استاذًا للأدب الحديث في جامعاتها. يكتب واسيني الأعرج بالعربية والفرنسية، وهو من أكثر الأدباء العرب الأحياء تجريبًا في أعماله، وله العديد من الأعمال الروائية منها طوق الياسمين وسيدة المقام وشرفات بحر الشمال.
بقلم: وسام محمد عبده
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.