وصلتني قبل شهور صورة لغلاف كتاب لافت، فبحثت عنه وسألت، ثمّ تبين بجهود بعض الأصدقاء أنه لايزال تحت الطبع، وقد تفضلوا عليّ فتابعوا مشكورين خروجه من المطبعة حتى وصلتني نسخة منه هي من أوائل النسخ التي بيعت، فشرعت أقرأه مرجئًا غيره، وفي الإرجاء وإعادة الترتيب حلول للطوارئ، وابتعاد عن الجمود المعيق.
عنوان هذا الكتاب: نظام التفاهة، تأليف آلان دونو أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة كيبيك في كندا، وترجمة د.مشاعل عبدالعزيز الهاجري أستاذة القانون الخاص في كلية الحقوق بجامعة الكويت، صدرت طبعته الأولى عن دار سؤال في بيروت عام (2020م)، ويقع في (365) صفحة، ويتكون من إهداء وتحية فمقدمة المؤلف، ثمّ أربعة فصول فالخاتمة.
أعدت المترجمة دراسة متينة عن الكتاب، بلغ عدد صفحاتها قريبًا من ستين صفحة تشمل عدة عناوين عن الكاتب والكتاب والترجمة وأطروحات الكتاب الكبرى من وجهة نظر المترجمة صاحبة العلم والفكر واللغات، وسيكون هذا المقال خاصًا عن هذه الدراسة، وفي مقال آخر سوف نستعرض باقي فصول الكتاب بإذن الله إن رأيت فيه مزيد على ما في دراسة المترجمة.
تخبرنا د.مشاعل أنها قرأت الكتاب فأحبته وترجمت منه فصلًا، ثمّ تواصل معها الناشر لترجمته كاملًا فاعتذرت بالانشغال فلم يصرفهم اعتذارها، وواصلوا الإصرار والإلحاح فكانت النتيحة ما نقرأه ونكتب عنه الآن، وبناء على ذلك منحت د.الهاجري تحية لدار سؤال على الإصرار والمتابعة والتعاون، ولها ولهم من القراء العرب تحية مضاعفة ممنوحة؛ وهذا من أقل الواجب.
أما المؤلف فهو أستاذ الفلسفة بجامعة كيبيك الكندية، وهو ناشط في التصدي للرأسمالية المتوحشة، أوجعت مساعيه أطرافًا نافذة بعد أن حارب جشعها وفضح حقائق خافية من مسالكها، خاصة شركات التعدين التي لاحقته قضائيًا بعد أن أصدر كتابه المثير: “كندا السوداء: النهب والإفساد والإجرام في أفريقيا”، وله بالمناسبة كتب أخرى حصدت شعبية لافتة بين القراء ومجموعات القراءة.
وهذا الكتاب مهم ينبغي أن يُقرأ بهدوء على رأى المترجمة ولا ينبئك مثل خبير، وقد نشره المؤلف عام (2017م)، فوجد رواجًا عالميًا بسبب أطروحاته الجريئة وأسلوبه المختلف، ويدور حول فكرة محورية ملخصها أننا بنص كلمات د.الهاجري -في العالم أجمع أو أكثره- نعيش في مرحلة تاريخية يسود فيها نظام أدى تدريجيًا إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الدولة الحديثة.
وصرنا -والكلام للمترجمة- نلحظ صعودًا غريبًا لقواعد تتصف بالرداءة والانحطاط؛ فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغاب الأداء الرفيع، وهُمشت منظومات المبادئ، وبرزت الأذواق الوضيعة، وأُبعد أهل الكفاءة والكفاية؛ حتى سادت شريحة من التافهين لخدمة أغراض السوق بشعارات تدعي الحرية، تلك الحرية التي كان ينادي مونتسكيو بصونها عن الابتدال.
كما أفصحت المترجمة عن سبب ترجمتها لهذا الكتاب بتقاطعه مع أفكار كتبت هي حولها فيما مضى تحوم حول غياب العقل النقدي، وموجات التسطيح، ودعاوى الخبرة، وتوحش السوق، ووهم الكاريزما، والفساد، وعطب المؤسسات، وجودة نظم التعليم وجدواها، وتسليع الحياة العامة، والعلاقة بين المال والسياسة، والإدارة الشكلية بمفرداتها الخالية من المعنى حتى لو كانت كلماتها رنانة.
وبالتالي فهذا الكتاب ينقل أفكارها عن الانتشار المستشري للتفاهة التي تسير وفق نظام دقيق لتمكينها كي تضرب بجذورها في المجتمع بشيء من المنهجية والاستقرار حتى لو بدت للمراقب غير الفاحص بأنها حال من الفوضى وسوء التدبير. ومن الصدف أن تتوافق سنة ميلاد المترجمة والمؤلف فزاد ذلك من ارتباطها بالكتاب عسى أن يكونا من جيل لا تنطلي عليه حيل التفاهة.
ثمّ عرجت المترجمة على منهج الترجمة وتحدياتها وهو بوح يزيد من تقديرنا للمترجمين ومعاناتهم في إيصال نتاج العالم الفكري لبني لسانهم، وأعلنت أن هذا الكتاب متعِب في موضوعه وأسلوبه، ومع أن أمثلته كندية وأوروبية إلّا أن أطروحته عالمية لمعيارية تلك الأمثلة. ولزيادة الحذق في الترجمة رجعت د.مشاعل لنسخة فرنسية وأخرى إنجليزية، واجتهدت في نقل أسلوب المؤلف ومعانيه بتعابير عربية.
وذكرت أن المؤلف يتدفق من خلال عقل ذكي يرى الارتباطات المعقدة بين الأشياء، وبأسلوب غاضب وطريقة متداخلة مثل من يحادث صديقًا في مقهى، ويبدو في بعض المواضع كأنه يمسك بكتفي القارئ ويهزهما، ويكفيكم من زمجرة المؤلف المقبلة في أثناء الكتاب هذه الكلمات الوصفية من المترجمة التي تجزم أن القارئ سيصل لنتيجة ملخصها أن ما تحدث عنه المؤلف في أماكن بعينها يتكرر في العالم كله.
وختمت المترجمة بصب خبرتها ومعاناتها في حقل الترجمة بما يسلي المترجم ويوقف القارئ على نصب هذه الفئة التي تعاني من الإجحاف، واقترحت التزام أساتذة الجامعات بترجمة أهم ما كتب في العلم والفكر والفن حسب اختصاصهم، وليتهم أن يفعلوا، وليت الجامعات أن تجعل الترجمة المتقنة واجبًا على أساتيذها له قيمة في الارتقاء الأكاديمي.
بعد ذلك انتقلت المترجمة لبسط القول في الأطروحات الكبرى للكتاب من خلال ستة عناوين، أولها: الإطار العام: اللعبة، فكل نشاط في الفضاء العام صار أقرب إلى لعبة يعرفها الجميع ولا يتكلم عنها أحد، وليس لها قواعد مكتوبة، وتغيب الأخلاق عن كيانها فيؤول مناط الأنشطة إلى حسابات المصالح المتعلقة بالربح والخسارة المادية أو المعنوية إلى أن يصاب الجسد الاجتماعي بالفساد بصورة بنيوية تُفقد الناس تدريجيًا اهتمامهم بالشأن العام؛ ليقتصروا على خاصة شؤونهم الفردية.
ومن المحزن أن يتنازع النجاح فريقان أحدهما عالي الهمة والآخر همته دنية، وهذا الفريق الأخير هو الذي يظفر بإدارة اللعبة لتوافقه مع متطلبات الحياة القائمة على النجاح السهل، وتبسيط الأمور، ونبذ المجهود؛ مما يضطر أهل العلو إلى النزول لإدراك أصحاب الشأن ذوي الهمة المتدنية؛ فتختفي أو تذوي بذلك قيم العلم والجمال.
وانطلقت المترجمة عقب ذلك للحديث عن لغة خطاب التفاهة ضمن العنوان الثاني، فرفعت قيمة الموقف الممتنع من منظور حسن؛ فليس مطلوبًا ممن لا يعلم أو يخاف التبعات أن يكون له رأي معتنق دومًا في كل مسألة، فاعتناق الرأي مهارة بيد أن نقيضها مهارة هي الأولى والأهم في أحوال معينة، فالعارفون لا يطلبون التأييد من غير العارفين، وإنما يتمنون عليهم أن يتجنبوا إرباك المشهد بتدخلاتهم البعيدة عن الاستنارة؛ فهم غير ملزمين أخلاقيًا أو قانونيًا بتأييد أيّ طرف، وهذا المسلك الحكيم مرفوض من نظام التفاهة الباحث عن مناصرين من خلال الإغراق في أسلوب القصص حين التعاطي مع الموضوعات الكبرى التي تستلزم العمق الفكري وليس الطرح الحكواتي.
كما يستخدم نظام التفاهة لغة خشبية جوفاء محملة بالتأكيدات والحشو والتكرار بألفاظ مختلفة وطنانة ومجردة من أيّ طاقة اجتماعية أو قوة أخلاقية، وآخر حيلهم اللغوية تكمن في التبسيط الخطر ولا يعني هذا رفع مكانة تعقيد الكلام وإنما خلاصته ما أثر عن آنشتاين بأن كل شيء ينبغي أن يكون في أبسط أشكاله على ألّا يكون أبسط مما هو عليه في الواقع.
أما ثالث عناوين المترجمة فعن الأكاديميا وخصصته لما يحيط بالجامعة أو الخبير من أوحال التفاهة، فغدت بعض الجامعات متجرًا للمعرفة بدلًا من أن تكون صانعة منتجة للمعارف والأفكار، وسيطرت التفاهة على كثير من أطروحاتها ومناهجها وأقسامها وطرق تدريسها التي أقصت التفكير النقدي والعلمي بعيدًا في صورة من العبث المميت لكيان علمي عريق، وأصبح الخبير ذو تخصص ضيق يخدم السوق دون أن يكون واسع الأفق بما يكفي لعلاج المشكلات المجتمعية بعلمه وخبرته، بل صار لبعضهم هوية مؤسساتية يرضخ لها وإن خالفت مقتضيات العلم، ومناهج البحث، ونتائجهما الموضوعية.
والعنوان الرابع هو التجارة والاقتصاد في بُعدين أولهما الحوكمة التي تُعنى بتنظيم العلاقة بين جميع الأطراف وتستلزم الشفافية التي تقول المترجمة إنه مع كثرة تردادها وأضرابها من المفردات إلّا أن مستوى الفساد في تعاظم متغول، فضلًا عن أن الشفافية الكاملة تقضي على ملكة الحدس المطلوبة، والبعد الآخر عن تنميط العمل بسبب حرية السوق؛ فتحول مفهوم العمل من حرفة تتطلب الإبداع إلى مهنة لكسب الرزق فقط فانحدر الأداء، والمحصلة النهائية للتجارة والعمل أن تضخمت ثروة الأثرياء استنادًا لعلاقاتهم الواسعة والمفيدة، وازداد فقر الفقراء لأن قدراتهم ومواهبهم وجدت أمامها الجدران الصلبة.
بينما احتلت الثقافة العنوان الخامس إذ صارت أداة مهمة لتوطيد أركان نظام التفاهة من خلال اللغة التي عوملت مثل عجينة قابلة للتشكيل أو سائل يأخذ أبعاد إنائه، وباستخدام الصحافة بخصائصها ذات الاختزال والتكثيف والإبراز هذا في الرزين منها، أما صحافة التابلويد وهو النمط المهتم بالفضائح والملاهي وأخبار المشاهير فلها آثار فادحة على ضحايا تعاطيها الضحل بسبب انتاجها لكتّاب يكررون ما يسمعون دون علم مما نجم عنه ظاهرة سميت “الأميون الجدد” وللمترجمة مقالة عنهم مترجمة ومنشورة في مدونتها لا كثرهم الله من قوم سوء.
وصنعت صحافة التفاهة جماهير غفيرة عاجزة عن رؤية الصورة الكلية، تعاني من وعي غائب، واستهلاك مفرط للملذات، مع تخمة في الجهل جلبت معها يقينًا بصواب ما ينشر في الصحف حتى غدا المنشور عندهم عنوانًا للحقيقة؛ وفي الواقع فإن نظام التفاهة لا يثبت فعاليته القصوى إلّا مع مثل هؤلاء الناس الذين يصدقون الرسالة الإعلامية دونما تمحيص أو فحص أو وضع ذرة من الشك عليها.
ولم تسلم الكتب من عبث نظام التفاهة بواسطة قوائم الأكثر مبيعًا، وضمور المؤلفات النقدية أو ذات المحتوى القيم والأفكار الخالدة أو المؤثرة، ومن الطبيعي أن يُبتلى التلفزيون بهذا الأمر من طريقين هما المذيع والضيف، فمعيار انتقاء المذيع الآن يقوم على الجمال أو الوسامة، ولو كانت الجميلة بلهاء، أو كان الوسيم فارغًا؛ ففقدنا المنتجات القيمية الثمينة، وغارت ثقافة الجمال الحقيقي بيننا.
وأما الضيوف فصاروا قادة التأثير من خلف الشاشات، وكلما انحدر الضيف في مقياس الذوق والأدب والحس السليم فسوف يحظى بتسويق أكبر، ونجاح مضمون، ومنصب جاهز لأمثاله، والمشتكى لله، كما شاركت الشبكات الاجتماعية في ترميز التافهين، وتبع تفاهة الفن انسياق المجتمع مثل القطيع نحو الموضة في اللباس والحركة والأكل؛ واختفت من الفنون الدفقات الروحية الرفيعة المهذبة.
ثمّ جعلت د.مشاعل السياسة سادس عنوان لها، وهو المجال الأخطر والأخصب لازدهار نظام التفاهة، وترى المترجمة أن السياسي مسكون بإشغال الناس في ناحيتين، الأولى هي شؤون المعيشة من خلال الأسعار والاستهلاك والخدمات والرسوم والرواتب، والثانية هي أنشطة الفرجة واللهو، حتى أصبحت ثنائية “الخبز والألعاب” من الأولويات التافهة للساسة الذين يضللون شعوبهم.
وبعد هذا التطواف قالت المترجمة تحت عنوان جديد يختصر ويؤلم: الهدف النهائي هو إسباغ التفاهة على كل شيء، وأنكى ما في ذلك سهولة تنفيذ هذه المهمة ويسر تحقيقها بسلاسة من خلال البهرجة والابتذال التي تستهدف إذهال العين بينما القاعدة المنسوبة للفرنسي تاليران تقول: كل شيء يُبالغ فيه فهو غير ذي أهمية!، وهي قاعدة تنسف هذا الظهور المزخرف.
ومنها الإفراط في التفاصيل لتحقيق غاية قال عنها نيتشه: “يكدرون مياههم؛ كي تبدو عميقة”، ولا يظنّ أحد أن سدنة نظام التفاهة لا يعملون، فهم يتعبون لإصابة هدفهم، ويعملون دون كلل لتحويل كلّ شيء إلى مصدر للمتعة وحسب، ويجتهدون لإسباغ الأهمية على الصغائر وتضخيم التفاصيل التافهة، وإن ملاحظة ذلك يفيدنا في فهم أوجه الخطاب المنتشر كما ترى المترجمة.
وأنهت المترجمة مقدمتها المذهلة عن هذا الكتاب الجدير بالقراءة قائلة بأن الكاتب عرض نظام التفاهة من خلال محاور السياسة والتجارة والتعليم والثقافة، بينما تجدها هي أعراضًا خطيرة ومهمة لمرض لا يُعرف كنهه إلا من عدسة الفلسفة التي ربما تكشف أسباب سيادة الأذواق المنحطة وكيفية النجاة منها، وإلى أن يأتي ذلك في المستقبل فلا مناص لنا من مواجهة التحدي اليومي بسبب حتمية الاحتكاك بالتافهين ونظام التفاهة، ومن يفعل ذلك ويقوى نفسه فهو فدائي حسب وصف المترجمة التي غادرت المقدمة، وأسلمتنا للكتاب الماتع الفريد، ليصبح موضوع مقال قادم قريبًا بإذن الله تعالى، فقولوا -غير مأمورين-: آمين، وإن كنت أتمنى أن يسعى كل قارئ لاقتناء نسخة منه.
بقلم: أحمد بن عبد المحسن عسّاف
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.