فلسفة لوك السياسية
١. القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية عند جون لوك
قد يكون المفهوم الأكثر مركزية في فلسفة لوك السياسية هو نظريته عن القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية. وجد مفهوم القانون الطبيعي قبل زمن لوك كوسيلة للتعبير عن فكرة أن هناك حقائق أخلاقية معينة تنطبق على جميع البشر، بغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه أو الاتفاقات التي أبرموها. كانت أهم التناقضات المبكرة هي تلك التي بين القوانين الطبيعية، القابلة للتطبيق بشكل عام، وتلك التي كانت تقليدية وتكون فقط في الأماكن التي يوجد فيها ذلك التقليد. يصاغ هذا التمييز أحيانًا على أنه الفرق بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي.
يختلف القانون الطبيعي أيضًا عن القانون الإلهي من حيث أن الثاني -في التقليد المسيحي- يشير عادةً إلى تلك القوانين التي أنزلها الرب مباشرة على الأنبياء ومن خلال الكتاب الملهمين الآخرين. فيمكن اكتشاف القانون الطبيعي عن طريق العقل وحده وينطبق على جميع الناس، في حين أن القانون الإلهي لا يمكن معرفته إلا من وحي الإله الخاص وينطبق فقط على أولئك الذين اصطفوا والذين يأمر الإله على وجوب اتباعهم تحديدا. وهكذا رأى بعض الكتاب في القرن السابع عشر – بمن فيهم لوك – بأنه ليست جميع الوصايا العشر ناهيك عن بقية شريعة العهد القديم ملزمة على جميع البشر. حيث تبدأ الوصايا العشر “اسمع يا إسرائيل” وبالتالي فهي تلزم فقط على الذين وجهت إليهم (Works 6:37). (إن الإملاء والتنسيق في اقتباسات لوك في هذا المدخل محدثة). وكما سنرى أدناه… على الرغم من أن لوك يعتقد أن القانون الطبيعي يمكن أن يعرف بدون وحي، إلا أنه لم ير أي تناقض في أن يلعب الرب دورًا في الحجة طالما أن الجوانب المتصلة به يمكن اكتشافها بالعقل وحده. حيث في نظرية لوك، القانون الإلهي والقانون الطبيعي متسقان ويمكن أن يتداخلان في المضمون؛ لكنهما ليسا متوازيان. وبالتالي لا يرى لوك مشكلة عندما يأمر الكتاب المقدس بقانون أخلاقي أكثر صرامة من الذي يمكن اشتقاقه من القانون الطبيعي، ولكن يرى مشكلة حقيقية إذا كان الكتاب المقدس يعلم ما هو مخالف للقانون الطبيعي. أما في الممارسة العملية، فقد تجنب لوك هذه المشكلة لأن التوافق مع القانون الطبيعي كان أحد المعايير التي استخدمها عند اقرار التفسير الصحيح لنصوص الكتاب المقدس.
اكتسبت لغة الحقوق الطبيعية في القرن الذي سبق لوك مكانة بارزة أيضًا من خلال كتابات مفكرين مثل غروتيوس Grotius وهوبز Hobbes وبوفندورف Pufendorf. فبينما يؤكد القانون الطبيعي على الواجبات، تؤكد الحقوق الطبيعية عادة على الامتيازات أو المطالبات التي يحق للفرد الحصول عليها. هناك خلاف كبير حول كيفية فهم علاقة هذه العوامل ببعضها البعض في نظرية لوك. يرى ليو شتراوس Leo Strauss (١٩٥٣) والعديد من أتباعه بأن الحقوق أساسية، إلى درجة تصويرهم لموقف لوك على أنه مشابه لموقف هوبز خصوصا. حيث يشيرون إلى أن لوك دافع عن نظرية تسعى وراء المتعة البشرية (مقال ٢. ٢٠) وادعوا بأنه يتفق مع هوبز حول طبيعة المصلحة الذاتية للبشر. وزعموا أن لوك يعترف بواجبات القانون الطبيعي فقط في الحالات التي لا تتعارض مع أمننا، مما يؤكد أيضًا أن حقنا في الأمن يتفوق على أي من واجباتنا.
وفي الطرف الآخر، تبنى علماء أكثر وجهة نظر دن Dunn (١٩٦٩) وتولي Tully (١٩٨٠) وأشكرافت Ashcraft (١٩٨٦) بأن القانون الطبيعي – وليس الحقوق الطبيعية – هو الأساسي. وهم يعتقدون أن لوك عندما شدد على حق الحياة والحرية والممتلكات كان يشير في المقام الأول إلى واجباتنا تجاه الآخرين: عدم القتل أو الاستعباد أو السرقة. يجادل معظم العلماء أيضًا بأن لوك أقر بواجب عام للمساعدة في الحفاظ على الجنس البشري، بما في ذلك واجب الصدقة على من لا يملك طريقة أخرى لكسب العيش (مقالتان ١. ٤٢). يعتبر هؤلاء العلماء أن الواجبات أساسية بالنسبة للوك لأن الحقوق موجودة لضمان قدرتنا على الوفاء بواجباتنا. يتخذ سيمونز Simmons (١٩٩٢) موقفا مشابها لمجموعة العلماء السابقين، لكنه يدعي أن الحقوق ليست مجرد جانب آخر من الواجبات بالنسبة للوك، وليست مجرد وسيلة لأداء واجباتنا. بل تعتبر الحقوق والواجبات أساسية بنفس القدر لأن لوك يؤمن “بمنطقة قوية من الحيادية” حيث تحمي الحقوق قدرتنا على اتخاذ القرارات. في حين أن هذه القرارات لا يمكن أن تنتهك القانون الطبيعي، إلا أنها ليست مجرد وسيلة لتحقيق القانون الطبيعي أيضا. ويتساءل براين تيرني Brian Tierney (٢٠١٤) عما إذا كان الإنسان بحاجة إلى إعطاء الأولوية للقانون الطبيعي أو الحقوق الطبيعية حيث أن كلاهما يحدث عادة كنتيجة طبيعية. ويجادل بأن نظريات الحقوق الطبيعية الحديثة متطورة من مفاهيم العصور الوسطى للقانون الطبيعي التي تضمنت أذونات للتصرف أو عدم التصرف بطرق معينة.
لقد كانت هناك بعض المحاولات لإيجاد حل وسط بين هذه المواقف. حيث تقر نسخة مايكل زوكيرت Michael Zuckert (١٩٩٤) عن موقف شتراوس بوجود اختلافات أكثر بين هوبز ولوك. فلا يزال زوكيرت يشكك في صدق إيمان لوك، لكنه يعتقد أن لوك طور موقفًا يعزز حقوق الملكية من حيث أن البشر أحرار، وهو ما أنكره هوبز. أكد آدم سيقريف Adam Seagrave (٢٠١٤) هذا الجدل أكثر… حيث جادل بأن ادعاء لوك بأن البشر ملك الإله وأن البشر أحرار هو تناقض واضح. حيث بنى ادعائه هذا على نصوص من كتابات لوك الأخرى (خاصة في مقال حول فهم الإنسان). يتحدث لوك عن البشر ككل في النصوص المتعلقة بالملكية الإلهية، بينما في النصوص المتعلقة بالملكية الذاتية فهو يتحدث عن البشر كأفراد لديهم القدرة على الامتلاك. لقد خلق الإله البشر قادرين على التمتع بحقوق الملكية فيما يتعلق ببعضهم البعض على أساس حرية عملهم. وكلاهما يؤكد على الاختلافات بين استخدام لوك للحقوق الطبيعية والتقاليد الأولى للقانون الطبيعي.
هناك نقطة خلاف أخرى تتعلق باعتقاد لوك أن القانون الطبيعي يمكن في الواقع أن يعرف بالعقل. إن شتراوس Strauss (١٩٥٣) وبيتر لاسليت Peter Laslett (مقدمة لرسالتي لوك) – على الرغم من اختلافهما الشديد في تفسيراتهما للوك عامةً – يرون بأن نظرية لوك للقانون الطبيعي مليئة بالتناقضات. يدافع لوك في مقال حول فهم الإنسان عن نظرية المعرفة الأخلاقية التي تنفي إمكانية وجود أفكار فطرية (Essay Book 1) ويدعي أن الأخلاقية قادرة على البرهنة بنفس طريقة الرياضيات (مقال ٣. ١١. ١٦، ٤. ٣ ). ومع ذلك لم يقم لوك في أي من أعماله باستنباط كامل للقانون الطبيعي من المقدمات الأولى. وأيضا يبدو أن لوك في بعض الأحيان يرجع إلى الأفكار الفطرية في الرسالة الثانية (٢. ١١)، وفي كتابه معقولية المسيحية (Works 7:139) فقد اعترف بأنه لم يطبق أحد مطلقًا القانون الطبيعي كامل من حيث العقل فقط. يستنتج شتراوس من ذلك بأن هذه التناقضات الموجودة تظهر للقارئ اليقظ أن لوك لا يؤمن حقًا بالقانون الطبيعي على الإطلاق. ويقول لاسليت بشكل أكثر تحفظا وببساطة بأنه يجب أن يفصل بين لوك الفيلسوف ولوك الكاتب السياسي.
كثير من العلماء يرفضون هذا الموقف. يولتون Yolton (١٩٥٨) وكولمان Colman (١٨٨٣) وأشكرافت Ashcraft (١٩٨٧) وجرانت Grant (١٩٨٧) وسيمونز Simmons (١٩٩٢) وتوكنس Tuckness (١٩٩٩) وإسرايلسون Israelson (٢٠١٣) وروسيتر (٢٠١٦) وكونولي (٢٠١٩) وآخرون يجادلون بأن نصوص لوك لا تعتبر غير متسقة للغاية في كتابه معقولية المسيحية. فلا يعني عدم استنتاج القانون الطبيعي كامل من المبادئ الأولى أنه لم يستنتج أي منه. حيث أن النصوص التي يفترض أنها متناقضة في الرسالتين بعيدة كل البعد عن أن تكون قاطعة. في حين أنه من الصحيح أن لوك لا يقدم استنتاج في المقال، فليس من الواضح أنه كان يحاول ذلك. يبدو أن القسم ٤. ١٠. ١-١٩ من ذلك الجزء كان يركز أكثر على إظهار امكانية الاستدلال بالمصطلحات الأخلاقية وليس على تقديم تفسير كامل للقانون الطبيعي. إلا أنه يجب الاعتراف بأن لوك لم يتعامل مع موضوع القانون الطبيعي بشكل منهجي كما ينبغي. وقد تتطلب محاولات صياغة نظريته بتفصيل أكثر فيما يتعلق بأساسها ومحتواها إلى إعادة بنائها من نصوص متناثرة بين العديد من النصوص المختلفة.
لفهم موقف لوك على أساس القانون الطبيعي فيجب أن يوضع ضمن نقاش أوسع تحت نظرية القانون الطبيعي التي سبقت لوك، ما يسمى بجدل “الارادية – العقلانية” أو جدل “إرادوي – عقلاني”. وفي أبسط صورة يعني الجدل الإرادوي أن الصواب والخطأ تحددهما إرادة الإله ونحن ملزمون بطاعتها لمجرد أنها إرادة الإله. وعندما لا تتبع هذه المواقف، يقوم الجدل الإرادوي على أن الإله يصبح غير ضروري للأخلاق حيث يمكن تفسير كل من القوة الملزمة للأخلاق ومضمونها دون الرجوع إلى الإله. فتشرح العقلانية بأن هذا التفسير يجعل الأخلاق تعسفية ويفشل في تفسير سبب التزامنا بطاعة الإله. ويجادل جريدون زورزي Graedon Zorzi (٢٠١٩) بأن “الفرد” هو مصطلح ارتباطي بالنسبة للوك، مما يشير إلى أننا سنحاسب من الإله على اتباعنا للقانون.
وفيما يتعلق بأسس ومضمون القانون الطبيعي فموقف لوك ليس واضحًا تمامًا. فمن ناحية معينة، وفي العديد من الحالات يدلي فيها بتصريحات تبدو إرادوية تفيد بأن القانون يتطلب مشرعًا يتمتع بالسلطة (مقال ١. ٣ .٦ ، ٤. ١٠. ٧). ويصر لوك ويكرر أيضا في مقالات عن قانون الطبيعة على أن المخلوقات يجب عليها الالتزام بطاعة خالقها (المقالات السياسية ١١٦-١٢٠). أما من ناحية أخرى، توجد عبارات تشير إلى معيار أخلاقي خارجي يحتم توافق الإله معه (الرسالتان ٢. ١٩٥ ؛ Works 7:6). فمن الواضح أن لوك يريد تجنب الإيحاء بأن مضمون القانون الطبيعي تعسفي. فقد اقترح العديد من الحلول. وأحد الحلول التي اقترحها هرتسوغ Herzog (١٩٨٥) جعلت من لوك عقلاني من خلال ارساء التزامنا بطاعة الرب على واجب الامتنان الذي يسبقه ويكون مستقلاً عن الإله. والخيار الثاني الذي اقترحه سيمونز Simmons (١٩٩٢) هو ببساطة اعتبار لوك إرادوي لأن تصريحاته تشير غالبا إلى ذلك. أما الخيار الثالث الذي اقترحه توكنس Tuckness (١٩٩٩) (ولمح له جرانت Grant ١٩٨٧ وأكده اسرايلسون Israelelson ٢٠١٣) هو التعامل مع مسألة الإرادوية على أنها تتكون من جزأين مختلفين وهي الأساسيات والمضمون. من وجهة النظر هذه فإن لوك بالفعل إرادوي فيما يتعلق بالسؤال “لماذا يجب أن نمتثل لقانون الطبيعة؟” يعتقد لوك أن المنطق – بصرف النظر عن إرادة الحاكم – يمكن أن يرشدنا فقط. وفيما يتعلق بالمضمون، يجب أن يتوافق المنطق الإلهي والمنطق البشري بكفاية حيث يمكن للبشر أن يقدروا مشيئة الإله المحتملة. اعتبر لوك أنه بينما أن الإله خلقنا بعقل من أجل اتباع إرادته، فقد يتوافق المنطق البشري والمنطق الإلهي بدرجة كافية بحيث لا يبدو القانون الطبيعي تعسفيا بالنسبة لنا.
يجب على المهتمين بالعلاقة المعاصرة لنظرية لوك السياسية أن يناقشوا جوانبها اللاهوتية. حيث يجعل أتباع شتراوس من نظرية لوك ذات صلة معاصرة من خلال الادعاء بأن الأبعاد اللاهوتية لفكره هي في الأساس بلاغية؛ وما هي إلا “غطاء” لحمايته من اضطهاد السلطات الدينية في عصره. ويعتبر آخرون مثل دان Dunn (١٩٦٩) وستانتون Stanton (٢٠١٨) أن لوك له صلة محدودة بالسياسة المعاصرة، لأن الكثير من حججه تعتمد تحديدا على الافتراضات الدينية التي لم تعد تناقش على نطاق واسع. وقد حاول بعض الكتاب مثل سيمون Simmons (١٩٩٢) وفيرنون Vernon (١٩٩٧) فصل أسس جدل لوك عن جوانب أخرى منه. وعلى سبيل المثال، يجادل سيمون بأن فكر لوك مفرط بشموليته “over-determined”، حيث يحتوي على كل من الحجج الدينية والعلمانية. ويدعي أن القانون الأساسي للطبيعة بالنسبة للوك هو “الحفاظ على البشرية قدر الإمكان” (رسالتان ٢. ١٣٥). وفي بعض الأحيان يدعي بأن لوك يقدم هذا المبدأ تحت مبدأ نظرية العواقبية rule-consequentialist”: حيث أنه المبدأ الذي نستخدمه لتحديد الحقوق والواجبات الأدق التي هي علينا جميعًا. وفي مواضع أخرى، يلمح لوك أكثر إلى تبرير كانط الذي يؤكد على سوء معاملة نظرائنا كما لو كانوا مجرد وسيلة لتحقيق غاياتنا. بينما يذكر والدرون Waldron (٢٠٠٢) ادعاء معاكس: بأن اللاهوتية عند لوك تقدم في الواقع أساسًا أكثر صلابة لفرضيته عن المساواة السياسية مقارنة بما تقدمه المناهج العلمانية المعاصرة التي تميل ببساطة إلى تأكيد المساواة.
وفيما يتعلق بالمحتوى المحدد للقانون الطبيعي، فلا يقدم لوك أبدا بيانا شاملا لما يتطلب القانون الطبيعي. ففي كتاب الرسالتان Two Treatises، ذكر لوك كثيرا أن القانون الأساسي للطبيعة هو الحفاظ على البشرية قدر الإمكان. فيجادل سيمونز Simmons (١٩٩٢) أنه في الرسالتان Two Treatises ٢. ٦ يعرض لوك (١) واجب الحفاظ على النفس و(٢) واجب الحفاظ على الآخرين عندما لا يتعارض مع الحفاظ على النفس و(٣) واجب عدم سلب حياة الآخرين و (٤) واجب عدم التصرف بطريقة “تميل إلى تدمير” الآخرين. ويميل المفسرون الليبراليون لنهج لوك إلى التقليل من أهمية الواجبات ١ و٢. ويقدم لوك قائمة شاملة أكثر في كتاباته الأولى – التي لم تنشر خلال حياته – وهي مقالات عن قانون الطبيعة. ومن المثير للاهتمام أن لوك هنا يثني على الإله ويكرمه كما هو مطلوب بموجب القانون الطبيعي وبموجب ما يمكن أن نسميه صفات الشخصية الخيّرة.
٢. حالة الطبيعة
لقد فسر مفهوم لوك لحالة الطبيعة بعدة طرق. ففي الوهلة الأولى يبدو الأمر بسيطا جدا. حيث كتب لوك “الحاجة [الافتقار] إلى حاكم مشترك وسلطة يضع جميع البشر في حالة الطبيعة” وأيضا: “عندما يعيش البشر معا وفقا للعقل بلا حاكم مشترك على الأرض وسلطة تحكم فيما بينهم، فعلى نحو صحيح تلك هي حالة الطبيعة”. (رسالتان ٢. ١٩Two Treatises) فأخذ العديد من المفسرين ذلك على أنه تعريف لوك، واستنتجوا أن حالة الطبيعة تحدث عندما لا توجد سلطة سياسية شرعية قادرة على الحكم في النزاعات وعندما يعيش الناس وفقا لقانون العقل. وبناء على هذا تختلف حالة الطبيعة عن المجتمع السياسي الذي يوجد فيه حكومة شرعية، وعن حالة الحرب عندما يفشل الناس في الالتزام بقانون العقل.
يعرض سيمونز Simmons (١٩٩٣) تحديا مهما لهذا الرأي. حيث يشير سيمونز إلى أن العبارة أعلاه صيغت كشرط كافٍ وليس كشرط ضروري. فقد يتمكن شخصان – في حالة الطبيعة – من تفويض شخص ثالث لتسوية النزاعات بينهما دون الخروج عن حالة الطبيعة، حيث لن يكون للطرف الثالث على سبيل المثال سلطة تشريعية من أجل المنفعة العامة. يدعي سيمونز أيضًا أن غالبا ما تفشل التفسيرات الأخرى في تفسير حقيقة أن هناك من يعيش في دول ذات حكومات شرعية ومع ذلك يكونون تحت حالة الطبيعة: الزوار الأجانب (رسالتان Two Treatises ٢. ٩) والأطفال دون سن الرشد (٢. ١٥ ، ١١٨) وذوي “الإعاقة” العقلية (٢. ٦٠). ويدعي أن حالة الطبيعة هي مفهوم علائقي يصف مجموعة معينة من العلاقات الأخلاقية التي تكون بين أشخاص معينين، بدلا من كونها وصف منطقة جغرافية معينة بلا حكومة ذات سيطرة فعالة. إن حالة الطبيعة هي مجرد طريقة لوصف الحقوق والمسؤوليات الأخلاقية التي تكون بين البشر الذين لم يوافقوا على حل نزاعاتهم بواسطة الحكومة الشرعية نفسها. هذه المجموعات المذكورة للتو إما أنها لم توافق أو لا يمكنها أن توافق؛ لذا فهي تظل تحت حالة الطبيعة. وبالتالي قد يكون “أ” في حالة الطبيعة مع “ب”، ولكن ليس مع “ج”.
يتناقض تفسير سيمونز بحدة مع تفسير شتراوس (١٩٥٣). وفقا لشتراوس، يقدم لوك حالة الطبيعة على أنها وصف واقعي لما يشبه المجتمعات الأولى، وعند التدقيق يكشف هذا السرد مدى ابتعاد لوك عن التعاليم المسيحية. حيث يجادل هو وأتباعه بأن نظريات حالة الطبيعة تتعارض مع رواية الكتاب المقدس في سفر التكوين وهي دليل على أن تعاليم لوك مشابه لتعاليم هوبز. كما هو مذكور أعلاه في تفسير شتراوس، تبدو تصريحات لوك المسيحية مجرد واجهة تخفي آرائه المعادية للمسيحية أساسا. وفقا لسيمونز، فنظرا لأن حالة الطبيعة هي سرد أخلاقي، فهي متوافقة مع مجموعة متنوعة من التفسيرات الاجتماعية دون تناقض. فإذا عرفنا أن مجموعة من البشر تحت حالة الطبيعة، فإننا نعرف فقط الحقوق والمسؤوليات التي يعملون بها تجاه بعضهم البعض؛ ولا نعرف عما إذا كانوا أغنياء أو فقراء أو مسالمين أو شرسين.
قام جون دون John Dunn (١٩٦٩) بتفسير تابع لما يتعلق بالعلاقة بين حالة الطبيعة عند لوك ومعتقداته المسيحية. فادعى دون أن حالة الطبيعة عند لوك ليست تطبيقا للأنثروبولوجيا التاريخية بقدر ما هي انعكاس لاهوتي عن حالة الإنسان. ووفقا لتفسير دون، إن طرح لوك عن حالة الطبيعة هو تعبير عن موقفه اللاهوتي، أي أن الإنسان وجد في عالم خلقه الرب لأهداف خاصة، ولكن الحكومات أوجدها البشر من أجل تعزيز تلك الأهداف.
وهكذا فإن نظرية لوك عن حالة الطبيعة ستكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بنظريته عن القانون الطبيعي، حيث أن الأخيرة تحدد حقوق البشر ووضعهم كأشخاص أحرار ومتساوين. كلما زاد مستوى قبول وصف لوك للبشر بأنهم أحرار ومتساوون ومستقلون، أصبحت حالة الطبيعة مفيدة أكثر كأداة لتمثيل البشر. إلا أنه من المهم أن نتذكر عدم ادعاء أي من هذه التفسيرات أن سرد لوك عن حالة الطبيعة ليس سوى تجربة فكرية، أي بنفس الطريقة التي يعتقد عادة أن كانط ورولز يستخدمان فيها هذا المفهوم. ولم يقم لوك بالرد على الحجة القائلة “متى وجد أشخاص في مثل هذه الحالة” بقول لا يهم لأنها مجرد تجربة فكرية. بل قال كان هناك بشر تحت حالة الطبيعة ولازال يوجد أيضا (رسالتان Two Treatises ٢. ١٤). حيث بدى من المهم بالنسبة له أن بعض الحكومات على الأقل قد تم تشكيلها بالفعل بالطريقة التي اقترحها. أما عن مدى أهمية ما إذا كانت قد وجدت أم لا، فستناقش أدناه تحت موضوع الموافقة، حيث أن السؤال الرئيسي هو ما إذا كانت الحكومة الجيدة يمكن أن تكون شرعية حتى لو لم تحصل على موافقة الشعب الذي يعيش تحت ظلها؛ وتميل نظريات العقد الافتراضي والعقد الفعلي إلى الإجابة على هذا السؤال بشكل مختلف.
٣. الملكية
يعتقد عمومًا أن أفكار لوك عن الملكية هي من بين أهم مساهماته في الفكر السياسي، ولكنها أيضا أحد الجوانب التي تعرضت لأشد الانتقادات. حيث نوقش باهتمام ماهية أهداف لوك بالضبط التي حاول تحقيقها بنظريته. ومن هذه التفسيرات، تلك التي طورها ماكفيرسون C.B. Macpherson (١٩٦٢) والتي ترى أن لوك دافع عن التراكم الرأسمالي المطلق. ووفقا لتفسير ماكفيرسون، يعتقد أن لوك وضع ثلاثة قيود على تراكم الملكية في حالة الطبيعة: (١) يجوز للمرء أن يمتلك فقط بقدر ما يمكن للمرء استخدامه قبل أن يفسد (رسالتان ٢. ٣١) و(٢) يجب على المرء ترك “ما يكفي وبنفس جودة ما أخذ” للآخرين (قيد الاكتفاء) (٢. ٢٧)، و(٣) لا يجوز (مفترضا) أن يمتلك المرء إلا من خلال العمل (٢. ٢٧). ويدعي ماكفيرسون أنه مع تطور الجدل، يتجاوز كل من هذه القيود. حيث لا يصبح قيد الفساد ذو فائدة مع اختراع النقود لأنه يمكن تخزين القيمة في وسيط لا يفسد (٢. ٤٦-٤٧). وتتجاوز قيود الاكتفاء لأن نشأت الملكية الخاصة تزيد من الإنتاجية لدرجة أنه حتى أولئك الذين لم تعد لديهم فرصة امتلاك أرض ستتاح لهم فرصة أكبر للحصول على ما هو ضروري للحياة (٢. ٣٧). حسب وجهة نظر ماكفرسون، فإن شرط “ما يكفي وبنفس جودة ما أخذ” هو في حد ذاته مشتق من مبدأ سابق يضمن فرصة اكتساب ضروريات الحياة من خلال العمل. يجادل ماكفيرسون بأن القيد الثالث لم يكن قيدًا من القيود التي تمسك بها لوك على الإطلاق. على الرغم من أن لوك يبدو أنه يقترح عدم امكانية المرء من الامتلاك إلا في حالة عمله شخصيا على ما يملك؛ فيجعل العمل هو مصدر حقوق الملكية. فقد وضح لوك بصراحة أنه حتى في حالة الطبيعة فإن “العشب الذي قطعه خادمي” (٢. ٢٨) هو ملكي. فحسب ماكفيرسون، صرح لوك بوضوح أن العمل يمكن أن يحول الملكية. وكما يمكن توقعه فإن ماكفيرسون ينتقد “الملكية الفردية” التي تمثلها نظرية لوك عن الملكية. ويجادل بأن محتواها يعتمد على فرضية العقلانية التفاضلية بين ذوي رأس المال والعمال المأجورين وعلى تقسيم المجتمع إلى طبقات واضحة. ونظرا لكون لوك ملزمًا بهذه القيود، يجب أن نفهم أنه يشمل فقط مالكي الأراضي كأعضاء مصوتين في المجتمع.
لقد انتقد فهم ماكفيرسون لسرد لوك من عدة جهات مختلفة. حيث جادل آلان رايان Alan Ryan (١٩٦٥) أنه بما أن الملكية بالنسبة للوك تشمل الحياة والحرية بالإضافة إلى الأرض (رسالتان ٢. ٨٧)، فإن من لا يملكون أرضا يمكن أن يكونوا أعضاء في المجتمع السياسي. ثم يتحول الخلاف بين الاثنين إلى ما إذا كان لوك يستخدم “الملكية” بالمعنى الأكثر شمولية في بعض النصوص المهمة. وهاجم جيمس تولي James Tully (١٩٨٠) تفسير ماكفيرسون بالإشارة إلى أن الرسالة الأولى تحديدا تتضمن واجب الصدقة على من لا يملكون وسائل أخرى للعيش (١. ٤٢). في حين أن هذا الواجب يتوافق مع وجوب عمل الفقراء بأجور منخفضة، إلا أنه يضعف ادعاء بأن من لديهم ثروة ليس لديهم واجبات اجتماعية تجاه الآخرين.
طالب تولي Tully أيضا بإعادة تفسير جوهري لنظرية لوك. ركزت التفسيرات السابقة على الادعاء بأنه بما أن الأفراد يمتلكون ما يعملون به، فعندما يخلطون العمل بما هو غير مملوك فقد يصبح ملكهم. وانتقد روبرت نوزيك Robert Nozick (١٩٧٤) هذه الحجة بمثاله الشهير عن خلط عصير الطماطم الذي يمتلكه المرء مع البحر. فعندما نخلط بين ما نملكه وما لا نملكه، فلماذا نعتقد أنه هنا نكتسب ملكية بدلاً من أن نخسرها؟ وحسب سرد تولي فإن التركيز على مثال الخلط هذا يفوت تركيز لوك على ما يسميه “نموذج الصنعة workmanship model”. يعتقد لوك أن الصناع لديهم حقوق ملكية لما يصنعونه تمامًا كما الإله يملك البشر لأنه خالقهم. فالبشر مخلوقين على صورة الإله ويشتركون معه – وإن كان بدرجة أقل بكثير – بالقدرة على تشكيل وصياغة البيئة المادية وفقا لنمط أو خطة عقلانية. انتقد والدرون Waldron (١٩٨٨) هذا التفسير بأنه سيجعل حقوق الصناع مطلقة بنفس الطريقة التي يكون فيها حق الإله على خليقته مطلقا. دافع سرينيفاسان Sreenivasan (١٩٩٥) عن حجة تولي Tully ضد رد والدرون Waldron من خلال تمييزه بين الخلق والصنع. فالخلق هو وحده الذي يولد حق الملكية المطلق والإله وحده قادر على الخلق، ولكن الصنع يماثل الخلق وهو يولد حقا مشابها – وإن كان أضعف.
هناك جانب آخر مثير للجدل في تفسير تولي Tully لسرد لوك وهو تفسيره لشرط الكفاية وآثارها. ففي تفسيره يكون جدل الاكتفاء مهم ليكون جدل لوك معقولا. ونظرًا لأن لوك بدأ بفرضية أن العالم ملك الجميع، فإن الملكية الفردية لا يمكن تبريرها إلا إذا أمكن إثبات أنها لا تؤثر سوءًا على أحد. أي في الظروف التي لا تكون فيها السلعة المملوكة نادرة حيث يتوفر الكثير من الماء أو الأرض، فإذا ملك الفرد جزء منها فهو لا يضر بالآخرين. وفي حالة عدم استيفاء هذا الشرط، فالذين حرموا من السلعة يحق لهم الاعتراض على هذه الملكية. وفقا لتولي، فقد أدرك لوك أنه بمجرد أن تصبح الأرض نادرة تبطل الحقوق السابقة التي حصل عليها من خلال العمل؛ لأن شرط “ما يكفي وبنفس جودة ما أخذ” لم يعد متاحًا للآخرين. فبمجرد أن أصبحت الأرض نادرة، لا تكون الملكية شرعية إلا من خلال إنشاء مجتمع سياسي.
يدعي والدرون Waldron (١٩٨٨) أنه على عكس طرح ماكفيرسون Macpherson (١٩٦٢) وتولي Tully (١٩٨٠) وآخرين، فإن لوك لم يتبنى شرط الكفاية على الإطلاق. ويشير إلى أن لوك تحديدا جعل الاكتفاء شرطا كافيا وليس شرطا ضروريا عندما يقول أن العمل يولد حق الملكية “على الأقل عندما يوجد ما يكفي وبنفس الجودة للآخرين” (رسالتان ٢. ٢٧). يعتبر والدرون أن لوك قدم بيان وصفي وليس معياري للشروط السابقة. ويجادل والدرون أيضا أنه في النص لم يعرض شرط “ما يكفي وبنفس جودة ما أخذ” على أنه قيد ولم يشمل مع القيود الأخرى. حيث يعتقد والدرون أن هذا الشرط سيقود لوك إلى استنتاج سخيف أنه في ظروف الندرة يجب أن يموت جميع البشر جوعا لأنه لن يحصل أي شخص على موافقة بالإجماع، وأي امتلاك سيجعل الآخرين أسوأ حالًا.
قدم سرينيفاسان Sreenivasan (١٩٩٥) أحد أقوى الحجج للدفاع عن موقف تولي. فقد جادل بأن استخدام لوك المتكرر لشرط “ما يكفي وبنفس جودة ما أخذ” يشير إلى أهمية العبارة في الجدل. وعلى وجه الخصوص، فهي الطريقة الوحيدة التي يمكن الاعتقاد أن لوك قدم فيها بعض الحلول لحقيقة أن موافقة الجميع ضرورية لتبرير الملكية في حالة الطبيعة. إذا لم يتعرض الآخرون للأذى، فليس لديهم أسباب للاعتراض ويؤخذ بأن ذلك موافقة جماعية، بينما إذا تعرضوا للأذى فمن غير المعقول اعتبارهم موافقون. ينحرف سرينيفاسان عن تولي في بعض النواحي المهمة. حيث أنه يفسر شرط “ما يكفي وبنفس جودة ما أخذ” بمعنى “ما يكفي وفرصة لتأمين ملكية الفرد” وليس ” ما يكفي وبنفس جودة السلعة (مثل الأرض)”. وكان لذلك ميزة جعلت من سرد لوك عن الملكية أقل تطرفا، حيث لا يضع أن لوك يعتقد أن الهدف من نظريته هو إظهار أن جميع حقوق الملكية الأساسية غير صالحة عند نشأت المجتمعات السياسية. أما عن العيب في هذا التفسير – كما يعترف سرينيفاسان – هو أنه يثقل كاهل لوك بحجة خاطئة. فالذين لديهم فقط فرصة للعمل تحت أجور معيشية لم يعد لديهم الحرية التي توفرت للأفراد قبل الندرة للاستفادة من فائض القيمة الكامل الذي يخلقونه. بمعنى أنه لم يعد العمال الفقراء يتمتعون بالمساواة في الحصول على المواد التي يمكن تصنيع المنتجات منها. يعتقد سرينيفاسان أن نظرية لوك غير قادرة على حل مشكلة كيفية حصول الأفراد على حقوق الملكية الفردية دون موافقة فيما يعتبر ملكية الناس جميعا أساسا.
يقدم سيمونز Simmons (١٩٩٢) استنتاج مختلف. حيث انضم إلى والدرون (١٩٨٨) ضد تولي (١٩٨٠) وسرينيفاسان (١٩٩٥) في رفض نموذج الصنعة. فهو يدعي أن الإشارات إلى “الصنع” في الفصل الخامس من الرسالتين لا تشير إلى المعنى الصريح للكلمة حتى يكون نموذج الصنعة صحيحًا. حيث يعتقد لوك أننا نمتلك أنفسنا على الرغم من أننا لا نخلق أنفسنا. يدعي سيمونز أنه بينما كان لوك يؤمن بأن الإله له حقوق كونه الخالق، فإن للبشر حقا محصورا ومختلفا كأوصياء وليس كصناع. يبني سيمونز جدله هذا جزئيا على قراءته لحجتين واضحتين اتخذها لوك: الأولى تبرر الملكية على أساس إرادة الإله والاحتياجات البشرية الأساسية، والثانية تبرر الملكية على أساس “خلطها” بالعمل. وفقا للحجة الأولى، يمكن تبرير بعض حقوق الملكية على الأقل من خلال أن المشروع الذي يسمح بالاستيلاء على الممتلكات دون الموافقة له عواقب مفيدة للحفاظ على البشرية. هذه الحجة شاملة جدا بالنسبة لسيمونز من حيث أنه يمكن تفسيرها من ناحية لاهوتية أو من ناحية بسيطة لمبدأ نظرية العواقبية. وفيما يتعلق بالحجة الثانية، لا يعتبر سيمونز العمل مادة “مخلوطة” حرفيا، بل هو نشاط هادف يسعى إلى تلبية احتياجات الحياة ووسائل الراحة. ومثل سرينيفاسان يرى سيمونز أن هذا ينبع من حق سابق للبشر في تأمين معيشتهم، لكنه يضيف أيضا حقا سابقا في الحكم الذاتي. يمكن أن يولد العمل مطالبات بالملكية الخاصة لأن الملكية الخاصة تجعل الأفراد أكثر استقلالية وقدرة على توجيه أشغالهم. فيعتقد سيمونز أن حجة لوك فاشلة في نهاية المطاف لأنه قلل من تقدير المدى الذي يمكن أن يؤدي فيه العمل المأجور إلى جعل الفقراء يعتمدون على الأغنياء مما يقلص الحكم الذاتي. وينضم أيضا إلى جدل الذين يجدون أن طرح لوك عن الموافقة عند الحديث عن الأموال غير كاف لتبرير توسع الملكية غير العادل الموجودة حاليا.
اقترح بعض الكتاب أنه ربما كان للوك هدفا إضافيا عندما كتب الفصل الخاص بالملكية. أشار تولي (١٩٩٣) وباربرا أرنيل Barbara Arneil (١٩٩٦) إلى أن لوك كان مهتما ومشاركا في شؤون المستعمرات الأمريكية، وأن نظرية لوك عن العمل أدت إلى استنتاج مناسب مفاده أن عمل السكان الأمريكيين الأصليين ولد حقوق الملكية على الحيوانات التي اصطادوها فقط وليس على الأرض التي اصطادوا عليها والتي اعتبرها لوك متاحة للاستيلاء عليها. وأيضا جادل ديفيد أرميتاج David Armitage (٢٠٠٤) بأن هناك أدلة على أن لوك شارك بفعالية في مراجعة الدستور الأساسي لولاية كارولينا في نفس الوقت الذي كان يكتب فيه الفصل الخاص بالملكية في الرسالة الثانية. إلا أن مارك غولدي Mark Goldie (١٩٨٣) ينبه من عدم تجاهل حقيقة أن الأحداث السياسية في إنجلترا كانت محور تركيز لوك الأساسي في كتابة الرسالة الثانية.
أما السؤال الأخير فيتعلق بمكانة حقوق الملكية المكتسبة تلك في حالة الطبيعة بعد نشأت المجتمع المدني. يبدو من الواضح أن لوك يعترف على الأقل بفرض الضرائب تحت موافقة الأغلبية بدلا من طلب الموافقة بالإجماع (٢. ١٤٠). اعتبر نوزيك Nozick (١٩٧٤) لوك ليبراليًا، بسبب أنه ليس للحكومة الحق في استخدام الممتلكات من أجل المصلحة العامة دون موافقة المالك. وبناء على تفسيره، قد تفرض الأغلبية الضرائب بالمعدل المطلوب فقط حتى تنجح الحكومة بحماية حقوق الملكية. أما من الناحية الأخرى فيعتقد تولي (١٩٨٠) أنه عندما تتشكل الحكومة تكون الأرض نادرة بالفعل وبالتالي فإن ما امتلك سابقا تحت حالة الطبيعة لم يعد صالحا وبالتالي لم يعد مقيدا على الإجراءات الحكومية. أما وجهة نظر والدرون (١٩٨٨) فهي بينهما، حيث يعترف بأن حقوق الملكية هي من بين حقوق حالة الطبيعة التي تستمر في تقييد الحكومة، ولكن يرى الهيئة التشريعية على أنها تتمتع بالقدرة على تفسير ما يتطلب القانون الطبيعي في هذه المسألة بطريقة جوهرية جدا.
٤. الموافقة والالتزام السياسي ونهايات الحكومة
تبين القراءة المباشرة لفلسفة لوك السياسية أن مفهوم الموافقة يلعب دورا مركزيا. حيث يبدأ تحليله بعرض حالة الأفراد في حالة الطبيعة عندما لا يخضعون لسلطة شرعية مشتركة قادرة على التشريع أو الفصل في النزاعات. وفي حالة الطبيعة هذه من حرية واستقلالية، يؤكد لوك على الموافقة الفردية كآلية من خلالها تنشأ المجتمعات السياسية ثم ينضم الأفراد إلى تلك المجتمعات. في حين أن هناك بالطبع بعض الالتزامات والحقوق العامة التي يتمتع بها الناس جميعا من قانون الطبيعة، فإن الالتزامات الخاصة لا تنشأ إلا عندما نتعهد بها طوعيا. يصرح لوك بوضوح أنه لا يمكن للمرء أن يصبح كامل العضوية في المجتمع إلا من خلال الموافقة الصريحة (رسالتان ٢. ١٢٢). تميل المؤلفات المعنية بنظرية لوك عن الموافقة إلى التركيز على الطريقة التي يجيب بها لوك أو لا يجيب بنجاح على الاعتراض التالي: قلة من الناس وافقوا على حكوماتهم فعلا لذا لا توجد – أو تكاد لا توجد – حكومات شرعية حقا. يعتبر هذا الاستنتاج إشكالي لأنه يتعارض بوضوح مع هدف لوك.
إن حل لوك الأوضح لهذه المشكلة هو مذهبه في الموافقة دون تصريح علني (الضمنية). ببساطة عندما يستفيد الفرد من بلد ما فهو يعطي موافقة ضمنية لحكومتها ويوافق على قوانينها أثناء العيش داخل أراضيها. ولهذا يعتقد لوك أن ذلك يفسر التزام الأجانب المقيمين بقوانين الدولة التي يقيمون فيها، ولكن أثناء اقامتهم فيها فقط. وتخلق وراثة الملكية رابطا أقوى، حيث أن المالك الأصلي يضع الملكية تحت سلطة المجتمع دائما. فالورثة عندما يقبلون أملاك آبائهم، يوافقون على سلطة المجتمع على تلك الملكية (رسالتان ٢. ١٢٠). هناك جدل حول ما إذا كان ينبغي اعتبار وراثة الأملاك موافقة ضمنية أو صريحة. في أحد التفسيرات يعتقد لوك أنه من خلال قبول الفرد للملكية فهو يكتسب كامل العضوية في المجتمع؛ مما يعني أن الفرد يجب أن يعتبر ذلك بمثابة موافقة صريحة. يقترح جرانت Grant (١٩٨٧) أن نموذج لوك كان من الممكن أن يكون آلية واضحة للمجتمع عندما يعطي البالغون موافقة صريحة تكون شرطا مسبقا عند وراثة الملكية. وفي تفسير آخر، اعترف لوك أن الورثة لم يصرحوا بوضوح بالتزامهم السياسي عند وراثتهم لتلك الممتلكات.
ومع ذلك فقد حل هذا الجدل، حيث سيوجد في أي مجتمع حالي أو سابق العديد من الأفراد الذين لم يعطوا أبدًا موافقة صريحة؛ وبالتالي تنشأ الحاجة إلى طريقة مشابهه للموافقة الضمنية لشرح كيف يمكن أن تظل الحكومات شرعية. ويجد سيمونز صعوبة في اعتبار مجرد المشي في الشارع أو وراثة الأرض مثال على “تحول متعمد وطوعي للحقوق” (سيمونز Simmons ١٩٩٣ ، ٦٩). ويجادل بأن موافقة الفرد بالأفعال بدلاً من الكلمات هو جانب واحد؛ ولكن الادعاء بأن الفرد قد وافق دون أن يدرك ذلك يعد جانب مختلف تمامًا. إن مطالبة الفرد بترك جميع ممتلكاته والهجرة من أجل تجنب الموافقة الضمنية تخلق حالة لا تكون فيها الإقامة الدائمة خيارا حرا وطوعيا. يتفق سيمونز مع لوك على أن الموافقة الصريحة ضرورية للالتزام السياسي ولكن يختلف حول كون معظم الناس قد منحوا هذه الموافقة فعلا. ويدعي سيمونز أن أفكار لوك تميل إلى “اللاسلطوية الفلسفية”، والتي تعني أن معظم الناس ليس لديهم التزام أخلاقي لطاعة الحكومة، على الرغم من أن لوك نفسه لم يقدم هذا الادعاء.
تتخذ هانا بيتكين Hannah Pitkin (١٩٦٥) نهجا مختلفا تماما. حيث تدعي أن منطق لوك يجعل الموافقة أقل أهمية في الممارسة مما قد تبدو عليه. إن الموافقة الضمنية هي في الواقع تخفيف لمفهوم الموافقة، لكن بالنسبة لسرد لوك فالمحتوى الأساسي لما يجب أن تكون عليه الحكومات يحدده القانون الطبيعي وليست الموافقة. لو كانت الموافقة أساسية حقًا في سرد لوك، فسنكتشف السلطة الشرعية لأي حكومة من خلال العقد الذي اتفق عليه المؤسسون الأولون. إلا أن بيتكين تعتقد أن شكل وصلاحية الحكومة بالنسبة للوك يحددها القانون الطبيعي. وبالتالي فإن ما يهم حقا ليست الموافقة المسبقة ولكن جودة الحكومة الحالية وما إذا كانت تتوافق مع ما يتطلب القانون الطبيعي. على سبيل المثال، لا يعتقد لوك أن المشي في شوارع البلد أو وراثة الممتلكات في ظل نظام استبدادي يعني موافقتنا على ذلك النظام. وبالتالي فإن نوعية الحكومة وليست الموافقة الفعلية، هي من تحدد شرعية الحكومة. يعترض سيمونز على هذا التفسير قائلا أنه يفشل في تفسير النصوص العديدة التي يقول فيها لوك بالفعل أن الفرد لا يكتسب التزامات سياسية إلا بموافقته.
يتبع جون دون John Dunn (١٩٦٧) نهجا مختلفا. فقد ادعى بأن قراءة ما يعتبر “موافقة” في مفهوم لوك حديثا هي مفارقة تاريخية. بينما تشدد النظريات الحديثة على أن الموافقة هي موافقة حقيقية فقط إذا كانت متعمدة وطوعية، إلا أن مفهوم لوك للموافقة أوسع بكثير. بالنسبة إلى لوك، يكفي أن يكون الناس “غير معارضين”. فالرضوخ الطوعي – حسب تفسير دون – هو كل ما نحتاج. ودليلا على ذلك يشير دون إلى العديد من حالات الموافقة التي يستخدمها لوك، مثل “الموافقة” على استخدام الأموال، حيث تكون أكثر منطقية تحت هذا التفسير الواسع. ويعترض سيمونز على أن هذا التفسير يتجاهل الحالات التي يتحدث فيها لوك عن الموافقة كخيار متعمد، وأن ذلك يجعل لوك ثابت المبدأ ليدفع ثمن كونه غير مقنع.
استمرت الدراسات الحديثة في التحقيق في هذه المسائل. حيث يحلل ديفيس Davis (٢٠١٤) مصطلحات لوك ويجادل بأنه يجب علينا التمييز بين المجتمع السياسي والحكومة الشرعية. حيث أن الذين اعطوا موافقة صريحة هم فقط أعضاء في المجتمع السياسي، بينما تمارس الحكومة سلطة شرعية على أنواع مختلفة من البشر الذين لم يعطوا الموافقة. فإن الحكومة هي صاحبة السلطة العليا في بعض النواحي، لكن بلا سيادة ملكية. ويجادل أيضا (٢٠١٧) بأنه يمكن للمرء أن يعطي موافقة فعلية في زمن لوك من خلال الإعلان عن نيته في إدلاء صوته بدلاً من التصويت لمرشح معين. فتفسر الأولى بشكل معقول على أنها تمثل موافقة إيجابية على كونك عضوا في مجتمع سياسي. مثال معاصر هو التسجيل للتصويت وعدم التصويت فعليا. ثم يقدم فان دير فوسين Van der Vossen (٢٠١٥) حجة لها صلة بذلك، مدعيا أن الموافقة الأولية لمالكي الأراضي ليست الآلية التي تحكم الحكومات من خلالها منطقة معينة. بل يعتقد لوك أن الناس (ربما الآباء في البداية) ببساطة يمارسون السلطة السياسية ثم يوافق الناس ضمنيًا. تعتبر هذه الموافقة الضمنية كافية لتبرير سلطة بدائية تحكم على الموافقين. ومن ثم فإن المعاهدات بين هذه الحكومات سترسم الحدود الإقليمية. يذهب هف Hoff (٢٠١٥) إلى أبعد من ذلك، مجادلاً بعدم الحاجة حتى إلى التفكير في فعل محدد لإعطاء الموافقة الضمنية (مثل اتخاذ قرار عدم الهجرة) حتى تعتبر ضرورية لخلق التزام سياسي. فبدلاً من ذلك، تعطى الموافقة الضمنية إذا كانت الحكومة نفسها تعمل بشكل يظهر مسؤوليتها تجاه الشعب.
هناك سؤال ذو صلة ويعني بمدى الالتزام السياسي عند اعطاء الموافقة. تؤكد المدرسة التفسيرية التي تأثر بها شتراوس على أولوية الأمن. نظرا لأن واجبات القانون الطبيعي تنطبق فقط عندما لا يهدد أمننا (رسالتان ٢. ٦)، حيث تسقط التزاماتنا في الحالات التي يتعرض فيها أمننا للتهديد المباشر. وذلك له آثار مهمة إذا أخذنا في الاعتبار الجندي الذي يرسل لتنفيذ مهمة يكون الموت فيها محتمل للغاية. يشير جرانت Grant (١٩٨٧) إلى أن لوك يعتقد أن الجندي الذي يهرب من مثل هذه المهمة (٢. ١٣٩) يستحق حكم الإعدام. يرى جرانت أن لوك يدعي ليس فقط بأن قوانين الإعدام بحق المتهرب شرعية بمعنى أنه يمكن تنفيذها بلا لوم (وهو أمر قد يوافق عليه هوبز)، ولكنها تعني أيضا التزاما أخلاقيا من جانب الجندي حيث يضحي بحياته من أجل المصلحة العامة (وهو أمر قد يرفضه هوبز). وفقا لجرانت، يعتقد لوك أن ما نقوم به لإعطاء الموافقة يمكن بالواقع أن يمتد إلى الحالات التي يؤدي فيها الوفاء بالتزاماتنا إلى المخاطرة بحياتنا. حيث يعتبر قرار الانضمام إلى المجتمع السياسي قرارا أبديا لهذا السبب تحديدا: يجب الدفاع عن المجتمع فإذا كان بإمكان الناس إلغاء موافقتهم عند نقطة حماية المجتمع عند تعرضه للهجوم، فإن الموافقة عند نقطة الانضمام إلى المجتمع السياسي ستكون بلا جدوى لأن المجتمع السياسي سيفشل عندما تشتد الحاجة إليه. فقد يتخذ الناس قرارا محسوبا عندما ينضمون إلى المجتمع، حيث خطر الموت عند القتال هو جزء من هذه الحسابات. يعتقد جرانت أيضًا أن لوك يعترف بالواجبات المتبادلة حيث أن البعض يخاطر بحياته.
تركز معظم تفسيرات منهج لوك عن الموافقة لحل مشكلة الالتزام السياسي. ثم يستكشف نهجا مختلفا الدور الذي تلعبه الموافقة في تحديد – هنا وحاليا – الغايات المشروعة التي يمكن أن تسعى الحكومات لتحقيقها. التقط جزء من هذا النقاش من مناظرة بين سيليجر Seliger (١٩٦٨) وكيندال Kendall (١٩٥٩)، حيث أن الأول يعتبر لوك دستوريًا بينما الثاني يرى أن لوك يمنح سلطة غير محدودة تقريبا للأغلبية. في التفسير الأول، ينشأ الدستور بموافقة الشعب كجزء من إنشاء الدولة. أما في التفسير الثاني، ينشئ الشعب مجلسا تشريعيا يحكمه صوت الأغلبية. وجهة نظر ثالثة قدمها توكنس Tuckness (٢٠٠٢أ) ترى أن لوك كان مرنا في هذه المرحلة وأعطى الناس مرونة كبيرة في صياغة الدستور.
يركز الجزء الثاني من المناظرة على الغايات بدلاً من المؤسسات. يذكر لوك في الرسالتين أن سلطة الحكومة تقتصر على المصلحة العامة. إنها سلطة “ليس لها غاية سوى الحماية” وبالتالي لا يمكن أن تبرر قتل المواطنين أو استعبادهم أو نهبهم (٢. ١٣٥). يفسر الليبرتاريون مثل نوزيك Nozick (١٩٧٤) ذلك على أنه يشير إلى أن الحكومات موجودة فقط لحماية الناس من التعدي على حقوقهم. يلفت التفسير البديل الذي قدمه توكنس Tuckness (٢٠٠٢ب ، ٢٠٠٨أ) الانتباه إلى حقيقة أن صياغة القانون الطبيعي التي يركز عليها لوك في الجمل التالية هي إيجابية، حيث يجب الحفاظ على الجنس البشري “قدر الإمكان”. في هذا التفسير الثاني، تقتصر الحكومة على تحقيق أغراض القانون الطبيعي، ولكنها تشمل أهدافا إيجابية بالإضافة إلى حقوق سلبية. وفقا لوجهة النظر هذه، تمتد قوة تعزيز المصلحة العامة إلى الإجراءات المصممة لزيادة السكان وتطوير الجيش وتقوية الاقتصاد والبنية التحتية وما إلى ذلك… بشرط أن تكون مفيدة بشكل غير مباشر لهدف الحفاظ على المجتمع. وهذا يفسر وصف لوك – في الرسالة – للتعزيز الحكومي “للأسلحة والثروات وزيادة المواطنين” على أنه العلاج المناسب لخطر الهجوم الأجنبي (أعمال ٦: ٤٢).
٥. لوك والعقاب
عرّف جون لوك السلطة السياسية بأنها “الحق في سن قوانين من عقوبات الإعدام إلى جميع العقوبات الأقل” (رسالتان ٢. ٣). وبالتالي فإن نظرية لوك في العقاب هي مركزية لرؤيته السياسة وجزء مما اعتبره مبتكرا في فلسفته السياسية. لكنه أشار أيضًا إلى نظريته في العقاب على أنها “فكرة غريبة جدًا” (٢. ٩)، ربما لأنها تتعارض مع افتراض أن الملوك فقط من يمكنهم العقاب. يعتقد لوك أن العقوبة تتطلب وجود قانون، وبما أن حالة الطبيعة يحكمها قانون الطبيعة فمن الجائز أن الفرد “يعاقب” الآخر تحت تلك الحالة. حيث أن منطق لوك هو أن القانون الأساسي للطبيعة هو الحفاظ على الجنس البشري، وبما أن هذا القانون سيكون “بلا فائدة” عند انعدام وجود قوة بشرية لفرضه (رسالتان ٢. ٧) لذا يجب أن يكون جائزا للأفراد معاقبة بعضهم حتى قبل وجود الحكومة. كان لوك في جدله هذا يختلف مع صموئيل بوفيندورف Samuel Pufendorf (١٩٣٤)، حيث جادل صموئيل بوفندورف بشدة أن مفهوم العقوبة لا معنى له بدون هيكل قانوني حقيقي معترف به.
أدرك لوك أن الاعتراض المهم على السماح للناس بالتصرف كقضاة يتمتعون بسلطة العقاب في حالة الطبيعة هو أن الأمر سينتهي بهم ليكونوا قضاة على أنفسهم أيضا. ثم اعترف لوك حالا أن هذه عقبة وسبب رئيسي لترك حالة الطبيعة (رسالتان ٢. ١٣). أصر لوك على هذه النقطة لأنها ساعدت في تفسير الانتقال إلى المجتمع المدني. لقد اعتقد لوك أنه في حالة الطبيعة يتمتع البشر بحرية الانخراط في “النشاطات العفوية” (الأفعال التي لا تنتهك أي قوانين مطبقة)، والسعي إلى الحفاظ على أنفسهم في حدود القانون الطبيعي، ومعاقبة من ينتهك قانون الطبيعة. إن سلطة السعي لحماية النفس محدودة في المجتمع المدني بموجب القانون، وتنقل سلطة العقاب إلى الحكومة (رسالتان ٢. ١٢٨ – ١٣٠). وبالتالي فإن سلطة العقاب في حالة الطبيعة هي الأساس لحق الحكومات في استخدام القوة القسرية.
إلا أن الأمر يصبح أكثر تعقيدا إذا نظرنا إلى مبادئ العقوبة. غالبًا ما تقسم مبررات العقوبة إلى تلك التقدمية وتلك الرجعية. تتضمن المبررات التقدمية ردع الجريمة وحماية المجتمع من الأشخاص الخطرين وإعادة تأهيل المجرمين. وعادة ما تركز المبررات الرجعية على الجزاء والعقاب بشكل مماثل للجريمة. قد يبدو أن لوك يربط بين هذين المبررين في نصوص كالتالي:
ولهذا يكون في حالة الطبيعة فرد أعلى سلطة من الآخر - ولكن بلا قوة مطلقة أو تعسفية - ليسيطر على مجرمًا عندما يكون بين يديه وفقًا لمشاعر الغضب العاطفية أو رغبته المفرطة اللامحدود، ولكن فقط للانتقام منه بقدر ما يمليه العقل والضمير المتزن بما يتناسب مع جريمته، وذلك يمكن أن يكون بمثابة تعويض وردع. ولهذان السببان فقط يكون ايذاء الفرد للآخر قانونيا، وهو ما نسميه العقاب. (رسالتان ٢. ٨)
يعترف لوك بالانتقام والعقاب فقط من أجل التعويض والردع. ويجادل سيمونز بأن هذا دليل على أن لوك يجمع بين سببي العقوبة كلاهما في نظريته. إلا أن هناك دراسة استقصائية لمبررات العقاب للحقوق الطبيعية الأخرى في القرن السابع عشر تشير إلى أنه كان من الشائع استخدام كلمات مثل “الجزاء” في النظريات التي ترفض ما نسميه اليوم العقوبة الجزائية (Tuckness 2010a). في النص المقتبس أعلاه يقول لوك أن مقدار العقوبة المناسبة هو المقدار الذي يعوض الأطراف المتضررة ويحمي الشعب ويردع الجريمة في المستقبل. أما عن موقف لوك تجاه العقوبة في كتاباته الأخرى حول التسامح والتعليم والدين فيتبع هذا المسار باستمرار لتبرير العقوبة على أسس أخرى غير الجزاء. يدعي توكنس Tuckness أن تأكيد لوك على التعويض مثير للاهتمام لأن التعويض يعتبر رجعي بطريقة ما (فهو يسعى إلى استعادة شأن سابق) ولكنه تطلعي أيضًا من حيث أنه يوفر فوائد حقيقية لمن يتلقى التعويض. هناك رابط هنا بين فهم لوك للعقاب الطبيعي وفهمه لعقوبة الدولة الشرعية. حتى في حالة الطبيعة فإن التبرير الأساسي للعقاب هو أنه يساعد على تعزيز الهدف الإيجابي المتمثل في الحفاظ على حياة الإنسان وممتلكاته. حيث أن التركيز على الردع والأمن العام والتعويض في العقوبات التي تديرها الحكومة يعكس هذا التأكيد.
المعضلة الثانية فيما يتعلق بالعقاب هو جواز العقاب دوليًا. يصف لوك العلاقات الدولية بأنها تحت حالة الطبيعة، ومن حيث هذا المبدأ يجب أن تتمتع الدول بنفس السلطة لمعاقبة انتهاكات القانون الطبيعي في المجتمع الدولي التي يتمتع بها الأفراد في حالة الطبيعة. وهذا من شأنه أن يضفي الشرعية – على سبيل المثال – على معاقبة الأفراد على جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية حتى في الحالات التي لا تسمح فيها قوانين دولة معينة ولا القانون الدولي بالعقوبة. ولهذا في الحرب العالمية الثانية حتى مع عدم الاعتراف “بجرائم العدوان” في ذلك الوقت كجريمة مبررة للعقوبة الفردية، فإذا انتهك مبدأ القانون الطبيعي الذي يقضي بعدم حرمان الأفراد من الحياة أو الحرية أو الممتلكات؛ فإن المذنبون يمكن أن يكونوا عرضة لعقوبة جنائية. لذا كان التفسير الشائع هو أن القدرة على العقاب دوليًا متناسقة مع القدرة على العقاب في حالة الطبيعة.
إلا أن توكنس Tuckness (2008a) جادل بأن هناك عدم تناسق بين الحالتين لأن لوك يتحدث أيضا عن محدودية الدول في الأهداف التي يمكنها السعي لتحقيقها. حيث غالبا ما يقول لوك أن سلطة الحكومة تستخدم لحماية حقوق مواطنيها وليس من أجل حقوق جميع البشر في كل مكان (رسالتان ١. ٩٢ ، ٢. ٨٨ ، ٢. ٩٥ ، ٢. ١٣١ ، ٢. ١٤٧). يجادل لوك بأنه في حالة الطبيعة يجب على الفرد استخدام سلطة العقاب للحفاظ على مجتمعه – وهو الجنس البشري ككل. ولكن بعد تشكيل الدول فإن سلطة العقاب ستستخدم لصالح مجتمعه الخاص. في حالة الطبيعة لا يطلب من الشخص أن يخاطر بحياته من أجل الآخر (رسالتان ٢. ٦)، وهذا من المفترض أن يعني أيضا أن الفرد غير مطالب بالعقاب في حالة الطبيعة عندما تكون محاولة العقاب خطر على حياة المعاقِب. لذلك قد يعترض لوك على فكرة إجبار الجنود على المخاطرة بحياتهم لأسباب تتعلق بالإيثار. في حالة الطبيعة قد يرفض أي فرد محاولة عقاب الآخرين إذا كان ذلك خطر على حياته، وبالتالي فإن لوك يفسر أن الأفراد ربما لم يوافقوا على السماح للدولة بالمخاطرة بحياتهم من أجل عقاب إيثاري على جرائم دولية.
٦. فصل السلطات وحل الحكومة عند جون لوك
يرى لوك أن الحكومة الشرعية تقوم على فكرة الفصل بين السلطات. أولا وقبل كل شيء السلطة التشريعية. يصف لوك السلطة التشريعية بأنها عليا (رسالتان ٢. ١٤٩) حيث تمتلك السلطة النهائية في “كيفية استخدام السلطة على الشعب” (٢. ١٤٣). ويظل المجلس التشريعي ملزما بقانون الطبيعة وغالب ما يقوم به هو وضع قوانين تعزز أهداف القانون الطبيعي وتحدد العقوبات المناسبة (٢. ١٣٥). ثم تكلف السلطة التنفيذية بتطبيق القانون كما هو مطبق في حالات محددة. ومن المثير للاهتمام أن سلطة لوك الثالثة تسمى “السلطة الفيدرالية” وهي الحق في التصرف دوليًا وفقًا لقانون الطبيعة. ولأن الدول لا تزال في حالة الطبيعة فيما بينها، فيجب عليها اتباع القانون الطبيعي حيث يمكنها معاقبة بعضها البعض عند انتهاك ذلك القانون من أجل حماية حقوق مواطنيها.
إن حقيقة عدم ذكر لوك للسلطة القضائية كسلطة منفصلة توضح أكثر التمييز بين السلطات والمؤسسات. حيث تتعلق السلطات بالوظائف. إن امتلاك السلطة يعني أن هناك وظيفة (مثل سن القوانين أو تطبيق القوانين) يمكن أن يقام بها شرعيا. عندما يقول لوك أن السلطة التشريعية أعلى من السلطة التنفيذية فهو لا يعني أن البرلمان أعلى من الملك. يؤكد لوك ببساطة أن “من يعطي القوانين للآخر يجب أن يكون أعلى منه” (رسالتان ٢. ١٥٠). وأيضا يعتقد لوك أنه من الممكن لأكثر من مؤسسة أن تشترك في نفس السلطة، على سبيل المثال السلطة التشريعية في زمنه كانت مشتركة بين مجلس العموم ومجلس الأعيان والملك. حيث أن الثلاثة يجب أن يتفقوا على أمر ما ليصبح قانونا، فالثلاثة جميعا جزء من السلطة التشريعية (١. ١٥١). كما يعتقد أن السلطة الفيدرالية والسلطة التنفيذية عادة في أيدي السلطة التنفيذية، لذلك من الممكن لنفس الفرد أن يمارس أكثر من سلطة (أو وظيفة). لذا لا يوجد تطابق فردي بين السلطات والمؤسسات (توكنس Tuckness ٢٠٠٢أ).
لا يعارض لوك وجود مؤسسات مستقلة تسمى المحاكم لكنه لا يرى التفسير القانوني كوظيفة أو سلطة مميزة. بالنسبة إلى لوك يتعلق التشريع في المقام الأول بالإعلان عن قاعدة عامة تنص على أنواع الجرائم والعقوبات المناسبة. السلطة التنفيذية هي سلطة إصدار الأحكام اللازمة لتطبيق تلك القوانين على حالات محددة وإدارتها وفقًا لتوجيهات القانون (رسالتان ٢. ٨٨ – ٨٩). كل من هذه الإجراءات لها تفسير. ينص لوك على أن القوانين الوضعية “صحيحة إلى حد ما، حيث أنها مبنية على قانون الطبيعة ومن خلاله تنظم وتفسر” (٢. ١٢). بعبارة أخرى يجب على السلطة التنفيذية تفسير القوانين في ضوء فهمها للقانون الطبيعي. وبشكل مشابه تتضمن السلطة التشريعية تخصيص قوانين الطبيعة وتحديد كيفية تطبيقها على ظروف معينة (٢. ١٣٥) وذلك يدعو أيضًا إلى تفسير القانون الطبيعي. لم يعتبر لوك تفسير القانون على أنه وظيفة مستقلة لاعتقاده بأنه جزء من كل من الوظائف التشريعية والتنفيذية (توكنس Tuckness 2002a).
إذا قارنا صياغة لوك لفصل السلطات بأفكار مونتسكيو Montesquieu اللاحق (١٩٨٩) فإننا نرى أنها ليست مختلفة تمامًا كما قد تظهر في البداية. على الرغم من أن مونتسكيو يعطي التقسيم الأكثر شهرة للسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحين يشرح ما يعنيه بهذه المصطلحات يعيد التأكيد على تفوق السلطة التشريعية ويصف السلطة التنفيذية بأن لها علاقة بالشؤون الدولية (السلطة الفيدرالية عند لوك) والسلطة القضائية معنية بتطبيق القوانين المحلية (السلطة التنفيذية عند لوك). لقد تغيرت المصطلحات أكثر من المفاهيم. حيث اعتبر لوك أن القبض على شخص ما ومحاكمته ومعاقبته جزء من وظيفة تنفيذ القانون وليست وظيفة مستقلة (Tuckness 2002a).
اعتقد لوك أنه من المهم أن تحتوي السلطة التشريعية على مجموعة من الممثلين المنتخَبين، ولكن كما رأينا يمكن أن تحتوي السلطة التشريعية على عناصر مَلكية وأرستقراطية أيضا. اعتقد لوك أن الناس لديهم الحرية في إنشاء دساتير “مختلطة” تستخدم كل ذلك؛ لهذا السبب فإن نظرية لوك لفصل السلطات لا تملي نوعا معينا من الدستور ولا تمنع المسؤولين غير المنتخبين من الحصول على جزء من السلطة التشريعية. كان لوك يهتم أكثر بأن الشعب لديه ممثلين يتمتعون بسلطة كافية تمنع التعدي على حريتهم ومحاولات فرض ضرائب عليهم دون مبرر. وذلك مهم لأن لوك يؤكد أيضا أن الشعب يظل القوة العليا الحقيقية دائما. حيث يحتفظ الشعب بحق “إزالة أو تغيير” السلطة التشريعية (رسالتان ٢. ١٤٩). ويمكن أن يحدث هذا لعدة أسباب. يمكن حل المجتمع بأكمله من خلال غزو أجنبي ناجح (٢. ٢١١)، لكن لوك اهتم أكثر بوصف الحالات التي يستعيد فيها الشعب السلطة من الحكومة التي انتخبوها. إذا تم تجاهل سيادة القانون أو إذا منع ممثلو الشعب من التجمع أو إذا غيرت آليات الانتخابات دون موافقة الشعب أو إذا سلم الشعب إلى قوة أجنبية، فيمكنهم حينئذ استعادة سلطتهم الأصلية وإسقاط الحكومة (٢. ٢١٢ – ١٧). يمكنهم أيضا التمرد إذا حاولت الحكومة سحب حقوقهم (٢. ٢٢٢). يعتقد لوك أن هذا مبرر لأن الشعب المضطهد من المرجح أن يتمرد على أي حال، ومن غير المرجح أن يتمرد الذين لم يتعرضوا للقمع. وفضلا عن ذلك فإن خطر احتمالية التمرد يجعل الاستبداد أقل احتمالاً أن يحدث (٢. ٢٢٤ – ٦). ولهذه الأسباب، في حين أن هناك مجموعة متنوعة من الأشكال الدستورية الشرعية، فإن تفويض السلطة بموجب أي دستور يفهم على أنه مشروط.
إن فكرة لوك عن فصل السلطات معقدة بسبب مبدأ الامتياز. الامتياز هو حق السلطة التنفيذية في التصرف دون إذن صريح قانوني أو حتى بمخالفة القانون من أجل تحسين القوانين التي تسعى إلى الحفاظ على حياة الإنسان. قد يأمر الملك – على سبيل المثال – بهدم منزل لمنع انتشار الحريق في جميع أنحاء المدينة (رسالتان ٢. ١٥٩). يعرّف لوك ذلك بشكل أوسع على أنه “سلطة الأمر بلا قانون لأجل المصلحة العامة” (٢. ١٦٦). ويشكل ذلك تحديا لفكرة لوك عن السيادة التشريعية. ثم يحل لوك هذا التحدي بتوضيح أن الأساس المنطقي لهذه السلطة هو أن القوانين العامة لا يمكن أن تغطي جميع الحالات المحتملة وأن الالتزام غير المرن بالقوانين سيضر المصلحة العامة وأن الهيئة التشريعية ليست دائما جاهزة لإصدار حكم (٢. ١٦٠) . تعتمد العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية على الدستور المحدد. إذا لم يكن للرئيس التنفيذي أي دور في السلطة التشريعية العليا، فيمكن للهيئة التشريعية أن تلغي قرارات السلطة التنفيذية وفقا لصلاحياتها عند استدعائها. ولكن إذا كان لدى الرئيس التنفيذي حق النقض (الفيتو) فستكون النتيجة حالة جمود بينهما. يصف لوك حالة جمود مماثلة يتمتع بها الرئيس التنفيذي عندما يملك سلطة استدعاء البرلمان ويمكنه بالتالي منع البرلمان من الاجتماع من خلال رفض دعوته إلى جلسة. في مثل هذه الحالة – كما يقول لوك – لا يوجد قاضٍ على الأرض بينهما حول ما إذا كانت السلطة التنفيذية قد أساءت استخدام صلاحياتها ولكل من الجانبين الحق في “الاحتكام إلى الرب” بنفس الطريقة التي يمكن للناس من خلالها اللجوء إلى الرب ضد الحكومة المستبدة (٢. ١٦٨).
إن مفهوم “الاحتكام إلى الرب” هو مفهوم مهم في فكر لوك. يفترض لوك أن البشر عندما يغادرون حالة الطبيعة ينشئون حكومة بدستور معين حيث تحدد ماهية الصلاحيات التي يحق للهيئات ممارستها. ويفترض لوك أيضا أن هذه الصلاحيات ستستخدم لحماية حقوق الناس وتعزيز المصلحة العامة. في الحالات التي يوجد فيها نزاع بين الشعب والحكومة حول ما إذا كانت الحكومة تفي بالتزاماتها فلا توجد سلطة بشرية أعلى يمكن الاستئناف لها. حيث أن الاستئناف الوحيد المتبقي – بالنسبة للوك – هو الرجوع إلى الرب. لذلك فإن مفهوم “الاحتكام إلى الرب” يتضمن حمل السلاح ضد الخصم وجعل الرب يحكم من هو على حق.
٧. التسامح عند جون لوك
طور لوك في رسالة في بالتسامح العديد من نقاط الجدل التي تهدف إلى إنشاء المجالات المناسبة للدين والسياسة. وتتمثل أفكاره الرئيسية في أن الحكومة لا ينبغي أن تستخدم القوة القسرية لمحاولة ادخال الناس إلى الدين الحقيقي وأن المجتمعات الدينية هي منظومات اختيارية ليس لها الحق في استخدام القوة القسرية على أتباعها أو غير اتباعها. إن أحد الحجج المتكررة التي يستخدمها لوك هي الدين تحديدا. حيث يجادل لوك بأنه لا يدعو المسيح ولا تعاليم العهد الجديد إلى أن القوة القسرية هي الطريقة المناسبة لإرشاد الناس إلى طريق الخلاص. كما أنه يذكر كثيرا ما يعتبره دليلا واضحا على النفاق؛ بأن الذين يسارعون في اضطهاد الآخرين بسبب اختلافات صغيرة في العبادة أو العقيدة لا يهتمون نسبيا بالخطايا الأخلاقية الأوضح والتي تشكل تهديدا أكبر على حالتهم الأبدية.
بالإضافة إلى هذه الحجج وحجج دينية مشابهة، يقدم لوك ثلاثة أسباب أكثر فلسفية بطبيعتها لمنع الحكومات من استخدام القوة القسرية لدفع الناس إلى تبني معتقدات دينية (Works 6:10–12). أولاً، يجادل بأن أرواح البشر لم تعهد إلى أي من حكم الرب أو البشر. وهذه الحجة تتماثل مع الحجة المستخدمة كثيرا في “الرسالتين” لخلق الحرية الطبيعية والمساواة للبشرية. لا يوجد في الكتاب المقدس ما يلزم الحكام بإدخال البشر إلى الدين الحقيقي، ولا يمكن للبشر أن يوافقوا على مثل هذا الهدف للحكومة لأن البشر بإرادتهم لا يصدقوا ما يأمرهم الحاكم بأن يؤمنوا به. فمعتقداتهم هي نتيجة لما يعتقدون أنه صحيح وليس ما يريدون. وحجة لوك الثانية هي أنه بما أن سلطة الحكومة هي القوة القسرية فقط، في حين أن الدين الحقيقي يملك قدرة الإقناع الداخلي الصادق للعقل، فإن القوة القسرية غير قادرة على إدخال البشر إلى الدين الحقيقي. أما حجة لوك الثالثة هي أنه حتى لو كان الحاكم قادرًا على تغيير آراء الناس فإن الحالة التي يقبل فيها الجميع دين الحاكم لن تدخل المزيد من الناس إلى الدين الحقيقي. والعديد من حكام العالم يؤمنون بأديان باطلة.
رد المعاصر جوناس بروست Jonas Proast (١٩٩٩ أ) بالقول أن حجج لوك الثلاث هم في الحقيقة حجتين فقط، بأن الإيمان الحقيقي لا يمكن فرضه وأننا لا نملك أي سبب للاعتقاد بصوابنا أكثر من غيرنا. جادل بروست بأن القوة القسرية يمكن أن تساعد في دفع الناس إلى الحق “بشكل غير مباشر وعن بعد”. كانت فكرته أنه على الرغم من أن القوة القسرية لا يمكن أن تغير مباشرة في العقل أو القلب، إلا أنها قد تدفع الناس إلى التفكير في الحجج التي قد يتجاهلونها أو أن تمنعهم من سماع أو قراءة ما يضلهم. إذا كانت القوة القسرية مفيدة بشكل غير مباشر في إدخال الناس إلى الدين الحقيقي، فإن لوك لم يقدم حجة مقنعة. أما بالنسبة إلى حجة لوك حول الضرر الذي ينتج من حاكم بدين باطل والذي يستخدم القوة للترويج لدينه، فقد ادعى بروست أن ذلك لا علاقة له لأن هناك فرقا وثيق الصلة أخلاقيا بين التأكيد على أن الحاكم قد يروج للدين الذي يعتقد أنه صحيح وبين التأكيد على أنه قد يروج للدين الحق. يعتقد بروست أنه ما لم يكن المرء في شك تام، فإن المرء يعتقد أن آراءه أفضل موضوعيا من تلك الآراء الأخرى.
كرر جيريمي والدرون Jeremy Waldron (١٩٩٣) جوهر اعتراض بروست لأجل الجمهور المعاصر. وجادل أنه بغض النظر عن حجج لوك المسيحية، كان موقفه الرئيسي هو أنه من غير المنطقي من وجهة نظر المضطهد استخدام القوة القسرية في مسائل الدين لأن القوة القسرية تفيد فقط مع الإرادة، والإيمان ليس شيئًا نستطيع تغييره بالإرادة. أشار والدرون إلى أن هذه الحجة هي عائق واحد فقط للاضطهاد، وبالتالي لن تمنع المضطهد من الاضطهاد الديني لغرض آخر غير التحويل الديني – مثل الحفاظ على السلام. وحتى في الحالات التي يكون فيها للاضطهاد هدف ديني، يتفق والدرون مع بروست على أن القوة القسرية قد تكون فعالة بشكل غير مباشر في تغيير معتقدات الناس. تركز بعض المناقشات الحالية حول مساهمة لوك في الفلسفة السياسية المعاصرة في مجال التسامح على ما إذا كان لوك لديه إجابة جيدة على اعتراضات بروست ووالدرون. يجادل توكنس Tuckness (٢٠٠٨ب) وتيت Tate (٢٠١٦) بأن لوك قلل من أهمية حجة العقلانية في كتاباته اللاحقة.
يحاول بعض المنظرين المعاصرين إنقاذ جدل لوك من خلال إعادة تعريف الهدف الديني الذي يفترض أن الحاكم يسعى إليه. تشير سوزان ميندوس Susan Mendus (١٩٨٩) على سبيل المثال إلى أن غسيل الدماغ الناجح قد يدفع المرء إلى تبني مجموعة من المعتقدات، لكن هذه المعتقدات قد لا تعتبر صادقة. حيث أن المعتقدات الاجبارية قد تسبب مشاكل أيضا. يجادل بول بو حبيب Paul Bou Habib (٢٠٠٣) بأن ما يسعى إليه لوك حقا هو البحث الصادق عن الحقيقة وأن لوك يعتقد أن البحث الذي يكون فقط بسبب الإكراه هو بالضرورة غير صادق. لذا تحاول هذه الحجج إنقاذ حجة لوك من خلال إظهار أن القوة القسرية غير قادرة حقا على تحقيق الهدف الديني المنشود.
ويركز المفسرون الآخرون على حجة لوك الأولى حول السلطة المناسبة، وخاصة على فكرة أن تفويض السلطة يجب أن يكون بالموافقة. ويجادل ديفيد ووتون David Wootton (١٩٩٣) أنه حتى لو نجحت القوة القسرية في بعض الأحيان على تغيير معتقد الشخص، فإنها لا تنجح في كثير من الأحيان بأن يوافق الناس منطقيا على أن تمارس الحكومة تلك السلطة. حيث أن من لديه سبب وجيه بعدم تغيير معتقداته حتى عندما يتعرض للاضطهاد فلديه سبب وجيه لمنع سيناريو الاضطهاد هذا من الحدوث مطلقا. ويجادل ريتشارد فيرنون Richard Vernon (١٩٩٧) بأننا لا نريد فقط التمسك بالمعتقدات الصحيحة بل أيضا الاحتفاظ بها للأسباب الصحيحة. ونظرا لأن ما يحدد معتقداتنا هو ميزان الأسباب بدلاً من ميزان القوة القسرية فلن نوافق على نظام قد تؤثر فيه أسباب الاعتقاد التي لا صلة لها بنا. ويجادل ريتشارد تيت Richard Tate (٢٠١٦) بأن أقوى حجج لوك في التسامح متجذرة في حقيقة أننا لا نوافق على سلطة حكومية في هذا المجال، بل فقط للترويج لمصالحنا العلمانية والمصالح التي اعتقد لوك أن سياسة التسامح ستعززها.
مع ذلك ركز المفسرون الآخرون على الحجة الثالثة القائلة بأن الحاكم قد يكون مخطئا. حيث أن السؤال هنا هو ما إذا كانت حجة لوك تتطلب طرح الأسئلة أم لا. وفيما يلي أكثر حجتين واعدتين. يجادل ووتون Wootton (١٩٩٣) بأن هناك أسبابًا وجيهة للغاية – من وجهة نظر الفرد – للاعتقاد بأن الحكومات ستخطئ بشأن أي الأديان على حق. حيث أن الدافع وراء الحكومات هو السعي وراء السلطة وليس الحقيقة، ومن غير المرجح أن تكون مرشدة جيدة في الأمور الدينية. ونظرا لوجود العديد من الديانات المختلفة التي يعتنقها الحكام، فإذا كان أحدها هو الحق فمن المحتمل أن تكون آراء حاكمي غير صحيحة. ولهذا يرى ووتون أن لوك يوضح أنه من غير المنطقي – من وجهة نظر الفرد – الموافقة على الترويج الحكومي للدين. ويقدم توكنس Tuckness تفسيرا مختلفا للحجة الثالثة. حيث يجادل بأن احتمال أن يكون الحاكم مخطئا يولد مبدأ التسامح بناء على ما هو عقلاني من منظور المشرع وليس من منظور المواطن أو الحاكم. وبالرجوع إلى كتابات لوك الأخيرة حول التسامح، يجادل توكنس بأن نظرية لوك للقانون الطبيعي تفترض أن الرب – بصفته منشئ القانون الطبيعي – يأخذ في الحسبان أن الحكام الذين ينفذون القانون الطبيعي غير معصومين. إذا كان مبدأ “استخدام القوة القسرية للترويج لدين الحق” أمرا من أوامر القانون الطبيعي الموجهة إلى جميع الحكام، فلن ينجح ذلك الترويج في الممارسة العملية لأن العديد من الحكام يعتقدون أن دينهم هو الدين الحق. يدعي توكنس Tuckness أنه في كتابات لوك الأخيرة حول التسامح ابتعد عن الحجج القائمة على ما هو منطقي للفرد أن يوافق عليه عمليا. وبدلاً من ذلك شدد على أن الإنسان غير معصوم وعلى الحاجة إلى مبادئ عالمية.
٨. التعليم والسياسة
إن مواقف لوك المعرفية في مقال حول فهم الإنسان أوضحت عظم أهمية التعليم في فلسفته السياسية. وهجومه على الأفكار الفطرية زاد من أهمية توفير التعليم المناسب للأطفال لمساعدتهم على تلقي الأفكار الصحيحة. كما يشير في المقال إلى أن البشر يحكمون أنفسهم بمجموعة متنوعة من القوانين المختلفة وأكثرها فعالية عمليا هو “قانون الرأي أو السمعة”. (المقال ٢. ٢٨. ١٠) نظرا لأن الناس غالبا لديهم دافع كبير بأن يكونوا على سمعة جيدة، فإن المعايير الأخلاقية الفعالة داخل المجتمع في الثناء واللوم قوية ومهمة. من الناحية المثالية ستعزز هذه المعايير الاجتماعية القانون الطبيعي وبالتالي تساعد على استقرار المجتمع السياسي. فتشير كتابات لوك التعليمية إلى كيف ينشأ الأطفال بطريقة تجعلهم مواطنين صالحين في مجتمع ليبرالي (Tarcov ١٩٨٤). يعتقد البعض أن نهج لوك في التعليم، والذي يركز على التعليم داخل الأسرة، يجعل تأثير الدولة ضئيل للغاية على تكوين مواطني المستقبل (Gutmann ١٩٩٩). بينما يعتقد البعض الآخر أن لوك يمنح الدولة بالفعل سلطة كبيرة لتنظيم التعليم (Tuckness 2010b).
إن أهم كتابات لوك التعليمية هو كتاب بعض الأفكار عن التعليم، وهو عبارة عن رسائل نصائح كتبها لوك إلى صديقه إدوارد كلارك. وذلك يعني أن الكتاب مقصود لشخص بثروة نسبية يشرف على تعليم ابنه. كان الكتاب مشهورا جدا وطبع كثيرا في القرن الذي تلا نشره. تتمثل إحدى السمات البارزة للكتاب في طريقة تشجيع الآباء على تنمية وزيادة حب الطفل للثناء والاحترام (بعض الأفكار، ٥٦-٦٢). إن تنمية هذه الصفة تساعد الطفل على تعلم التحكم بالرغبات الضارة الأخرى، مثل الرغبة في السيطرة، وتعلمه عدم الاندفاعية بعدم التصرف إلا بعد التفكير.
يجادل بعض النقاد المعاصرين للوك – بإلهام من فوكو – بأن كتابات لوك عن التعليم ليست وصفة للحرية بل لتنشئة الأطفال الذين سيكونون مواطنين مطيعين للأنظمة الليبرالية (بولتس Baltes ٢٠١٦ ، Carrig ٢٠٠١ ، Metha ١٩٩٢). يشجع لوك الآباء على تنظيم بيئات الأطفال الاجتماعية بشكل صارم لتجنب إفساد الأطفال بالأفكار والتأثيرات الخاطئة. يأمل لوك في تأسيس أطفال لديهم حس قوي في إنكار الذات وأخلاقيات العمل التي تجعلهم متوافقين مع الاقتصاد الحديث الناشئ. فإذا كان الآباء يتحكمون بشدة في البيئة التعليمية للطفل بهدف إنشاء نوع معين من الأطفال، وإذا كان الناس في الواقع يسترشدون في المقام الأول بالمعايير المتكررة التي يحكمها الثناء واللوم، فيزعم النقاد أن هذا يكشف عن أن الليبرالية المستقلة في الواقع هي غطاء لفرض الامتثال.
ويجادل المدافعون عن لوك بأن هذا النقد يقلل من أهمية أن هدف كتابات لوك المتعلقة بالتعليم هو الحرية الهادفة. هناك أسباب للاعتقاد بأنه في ظل الظروف العادية، سيتوافق قانون الطبيعة وقانون السمعة مع بعضهما البعض مما يقلل من الأضرار المحتملة التي قد تنجم عن الذين يتبعون قانون السمعة (Stuart-Buttle ٢٠١٧). لقد صمم نهج لوك في التعليم لزيادة الامتثال للقانون الطبيعي (برادي Brady ٢٠١٣). حيث يعتمد ذلك كثيرا على ما إذا كان المرء يعتقد أن التوافق مع القانون الطبيعي يقلل أو يزيد من الحرية. في حين أنه من الصحيح أن لوك يدرك الطبيعة الاجتماعية للفرد تحت نظريته، إلا أن لوك لا يعتقد أن التربية والاستقلالية متعارضان بالضرورة (كوجانزون Koganzon ٢٠١٦ ، نزار Nazar ٢٠١٧). ونظرا لأن البشر يتوافقون بشكل طبيعي مع المعايير السائدة في مجتمعهم، ففي غياب نظريات لوك التعليمية لن يكون الناس أكثر حرية لأنهم ببساطة سيتوافقون مع تلك المعايير. صمم نهج لوك في التعليم لمنح الأطفال القدرة عندما يكبرون على تقييم المعايير السائدة بشكل نقدي، وربما رفضها. يفترض لوك أيضا أن عزلة الطفولة المبكرة ستنتهي وأن المراهقين سيفكرون بشكل مختلف عن آبائهم (Koganzon ٢٠١٦). في الواقع قد يستخدم لوك العرف لمساعدة الناس على تقييم تحيزاتهم العرفية بعقلانية (جرانت Grant ٢٠١٢).
مجلة حكمة الفلسفية
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.