اليوم، نصل إلى نهاية جولتنا بين المؤلفات التي تناولت تاريخ الثقافة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ وعلى العكس من الكتب الثلاثة السابقة، التي اهتمت بأشكال الثقافة العربية المتنوعة، فإن كتابنا الأخير يركز مؤلفه على فرع واحد من فروع الثقافة، البحث الفلسفي، وفي ثقافة المصرية العربية على وجه الخصوص، ولهذا السبب خصصت له الموقع الأخير في مؤلفات هذا الشهر لأهمية الفكر الفلسفي عامة في تحريك مشروع النهضة.
الكتاب الذي أرشح اليوم عنوانه (رواد التجديد في الفلسفة المصرية المعاصرة في القرن العشرين) لمؤلفه الأكاديمي والمفكر المصري (د. مصطفى النشار)، والكتاب في طبعته الثانية يستعرض آفاق الفلسفة في مصر المعاصرة من خلال خمس وعشرين من أعلام الفلسفة المصرية المعاصرة، منهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر، وقد اشترط المؤلف على نفسه عند اختيار الأحياء أن يكونوا من أبناء الثلث الأول من القرن العشرين، كما اشترط ألا يحصر نفسه في الترجمة مدرسة دون غيرها، وأن يلتزم التوازن بين التيارات الفكرية المختلفة.
الكتاب مكون من تصديرين، ومدخل عام، ثم خمسة وعشرين فصلًا، تناول المؤلف في كل فصل منها علم من أعلام الفلسفة في مصر المعاصرة. قدم المؤلف في تصدير الطبعة الأولى دافعه لتأليف الكتاب، وما خطه لنفسه من خطة عمل فيه؛ وفي تصدير الطبعة الثانية يبين الاختلافات بين هذه الطبعة وسابقتها، وما أضافه من فصول إلى الكتاب؛ أما في مدخله، فيشرح فيه المنهج الذي التزمه في اختيار المترجمين وعرض أعمالهم. وقد التزم المؤلف في الفصول الخمسة والعشرين بنفس طريقة العرض، فيبدأ ببيان أهمية صاحب الترجمة ومكانته في الفكر المصري المعاصر عامة، والفلسفة المصرية خاصة؛ ثم يلحق ذلك بترجمة قصيرة يركز فيها على البناء العلمي والفكري للمترجم، يلي ذلك عرض أهم المؤلفات التي قدمها المترجم للمكتبة الفلسفية العربية، ثم يتوقف ليناقش أهم أراء وأفكار واسهامات صاحب الترجمة، وينهي الفصل ببيبلوجرافيا لصاحب الترجمة.
ميزة الكتاب أنه ألقى الضوء للقارئ الغير مهتم بالفلسفة على بعض الشخصيات الأكثر تأثير في الفلسفة المصرية المعاصرة والذين لأسباب عدة يكاد يخفى ذكرهم في المجتمع الثقافي اليوم؛ من هؤلاء إبراهيم بيومي مدكور والذي اسهم في نشر التعليم الفلسفي من خلال مؤلفاته ومن خلال عمله في مجمع اللغة العربية وما أشرف عليه من اعمال تأليف وإصدار المعاجم والقواميس المتخصصة؛ ومنهم ايضًا زكريا إبراهيم والذي من خلال سلسلة مؤلفاته عن مشكلات الفلسفة قد ساهم في نشر الوعي بين القراء الغير مختصين عن المشاكل الرئيسة في الفلسفة؛ كما ترجم المؤلف أيضًا لواحدة من رائدات الدراسات الفلسفية في مصر، أميرة مطر وبين مساهمتها في مجال فلسفة الجمال على وجه الخصوص.
من ناحية أخرى، اختار المؤلف في ترجماته أعلام لا يمكن تجاهلهم عند التعرض للفلسفة المصرية المعاصرة، مثل عبد الرحمن بدوي وهو يكاد يكون الفيلسوف الاغزر انتاجًا في اللغة العربية في القرن العشرين؛ وعلى سامي النشار صاحب الأعمال الأساسية في مجال الفلسفة الإسلامية وعلوم الكلام؛ وأحمد فؤاد الأهواني والذي أثري المكتبة العربية بمؤلفاته وترجماته وتحقيقاته للأصول العربية وغير العربية.
ويمكن قراءة هذا الكتاب في ضوء المشروع الفكري لمؤلفه، مصطفى النشار، والذي عمل من خلال ما سبق من مؤلفات وبحوث على التأكيد على المساهمة الشرقية عامة، والمصرية خاصة، في تاريخ الفلسفة، رافضًا الزعم القائل بأن الفلسفة يونانية قديمً وأوروبية اليوم؛ فحاول من خلال كتابه هذا أن يؤكد على أصالة مشاركة من ترجم لهم في الحركة الفلسفية، ولذلك تجده في كثير من التراجم يستكشف تلك المناطق من فكر من ترجم له التي يتخلص فيها المترجم من المركزية الأوروبية ويبحث عن حلول للمشاكل الفلسفية التي يرحها منطلقًا من عناصر هويته الحضارية؛ ولهذا السبب فإني أري رأي شخصي أن بعض من ترجم لهم في كتابه لا ينطبق عليهم هذا الوصف، بل أنهم غرباء تمامًا عن هويتهم ومشكلات مجتمعاتهم.
بقلم: وسام الدين عبده
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.