4 صياغات لقصة حي بن يقظان
تمثل النصوص الأربعة التي كتبها ابن سينا وابن طفيل والسهروردي وابن النفيس عن «حي بن يقظان»، حلقات متوالية من الإبداع الفلسفي والأدبي الممتد عبر تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وقد احتوت النصوص إلى جانب التصوف على العديد من جوانب العلم، كنظرية النشوء والارتقاء في قصة ابن طفيل، واكتشاف الدورة الدموية في قصة ابن النفيس.
وقد أعاد يوسف زيدان إصدار هذه النصوص الأربعة في مجلد واحد، موضحاً أنه لم يتصل تراث أمة من الأمم كما اتصل تراث هذه الأمة العربية الإسلامية، فقد قامت الحضارات حيناً من الدهر ثم ولّت، ولم يمتد منها طوال ألف عام متصلة إلا أقل القليل، وظهر التواصل الحضاري في العديد من مظاهر التاريخ العربي الإسلامي، ففي الأدب القصصي (الفلسفي) بالذات تواصل فكر المسلمين عبر مئات السنين فكان من شواهد هذا التواصل قصة «حي بن يقظان» التي صيغت على يد أربعة من أعلام الإسلام.
أول هؤلاء الشيخ الرئيس ابن سينا، وقد تجلت عبقريته في ميدان الطب، ووضع فيه موسوعته الشهيرة «القانون في الطب»، ويحكي في قصة «حي بن يقظان» رحلة العقل الإنساني إلى الملكوت الأعلى من خلال شخصية «حي» الذي يرمز به إلى النوع الإنساني «ابن يقظان» أي العقل اليقظ في الإنسان، وفي بداية القصة يحكي ابن سينا كيف التقى هذا الشيخ البهي الذي عرفه بنفسه قائلاً: «أما اسمي ونسبي فحي بن يقظان، وأما بلدي فمدينة بيت المقدس، وإنما حرفتي فالسياحة في أقطار العوالم، حتى أحطت بها خبرا».
يشير زيدان إلى أن اعتقاداً ساد بأن «ابن سينا» عالم يغلب على كتاباته الأسلوب العلمي الجاف الرصين، لكننا في هذه القصة نجد له أسلوباً إبداعياً يتشح بالإشارات ويمتلئ بالدلالة، وهو ما نجده في بعض رسائله الصغرى وفي قصيدته العينية الشهيرة في النفس.
أثارت القصة أعلاماً آخرين فتوقف عندها تلاميذ الشيخ الرئيس بالشرح، لكن «السهروردي» توقف عندها معارضاً ابن سينا في صرفه معظم القصة للكلام عن العالم الأرضي، دون الولوج إلى الإشارات الربانية، وتوقف عندها ابن طفيل فتوسع في الكلام عن نشأة «حي بن يقظان» وزاد الأفكار تفصيلاً، وأضاف إليها أفكاره الخاصة، كما توقف عندها ابن النفيس، فلمح بثاقب بصيرته أن ابن سينا جعل العقل يرتقي إلى الملكوت الأعلى، دون هداية من شريعة.
يوضح زيدان أن السهروردي كتب القصة وجعل عنوانها «الغربة الغربية»، وكتبها ابن طفيل بنفس عنوانها «حي بن يقظان»، أما ابن النفيس فقد كتبها بعنوان مملوء بالدلالة المخالفة لدلالة عنوان ابن سينا، فجعلها «فاضل بن ناطق» ومع تلك الصياغات للقصة نكتشف عملية التواصل التراثي.
يقول السهروردي في مدخل قصته: «إني لما رأيت قصة»حي بن يقظان«صادفتها مع ما فيها من عجائب الكلمات الروحانية والإشارات العميقة، متعرية من تلويحات تشير إلى الطور الأعظم، وهو السر الذي تترتب عليه مقامات أهل التصوف وأصحاب المكاشفات، وما أشير إليه في«حي بن يقظان» إلا في آخر الكتاب، حيث قيل (ولربما هاجر إليه أفراد من الناس) فأردت أن أذكر منه شيئاً في طرز قصة سميتها أنا «قصة الغربة الغربية».
أما ابن طفيل فقد ترك مجموعة مؤلفات في الطب والفلسفة، ومنها كتابه «حي بن يقظان» الذي يرد في أصول مخطوطاته على النحو التالي:«رسالة حي بن يقظان في أسرار الحكمة المشرقية، استخلصها من درر جواهر ألفاظ الرئيس أبي علي بن سينا، الإمام الفيلسوف الكامل العارف أبو بكر بن طفيل، ولم يلجأ ابن طفيل إلى ذلك الأسلوب الرمزي الذي نراه عند ابن سينا، فهو يكثر من السرد الحكائي في قصته في حين يعتمد ابن سينا على الإيجاز الموحي». استفاض ابن طفيل في شرح أفكاره العامة من خلال صفحات «حي» بينما اكتفى ابن سينا بالإشارة إلى مسائل معينة، فإذا كانت القصة عند ابن سينا تبرز جانباً دقيقاً من فكره الفلسفي فإن القصة كما كتبها ابن طفيل تعبر عن مجمل أفكاره وفلسفته الطبيعية والدينية، ولذلك جاءت القصة عنده أطول وأكثر تفصيلاً.
المصدر: الخليج
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.