..
مقالي اليوم في النهار
..
تــحـــــت الـمجهــــر.. لـنهاد شـــــــريـــف
كائـنات جــرثــومـيــة تــفـــضــــح حـــــمـــاقـــــة الـجــــنـــس الــبــشـــــري
..
“في أعقاب الهبوط الناجح لرواد الفضاء المصريين أواخر عام 2183 على سطح المريخ في منطقة “السكون الأبدي” استقر الرأي على تشييد قاعدة ضخمة لبحوث الفضاء”. تلك القاعدة ينطلق منها كاتب الخيال العلمي نهاد شريف، في بناء روايته “تحت المجهر”، الصادرة حديثاً في القاهرة، لدى “مركز الحضارة العربية”. يتخذ من أقصى الجنوب الغربي لمصر مسرحاً له، حيث ينتهي بحر الرمال الأعظم، ويقف جبل “الجلف الكبير” شامخاً، في فضاء الصحراء الرحب، يُطلّ منه على الكون، وكائناته المتنوعة، المتباينة الأحجام، وعوالمها المدهشة. يمزج الخيال والواقع، مشكّلاً عجينة مجهرية، لكائنات جرثومية متناهية في الصغر، تدفع السرد وفق منهج علمي راسخ، يبحث في سبل التواصل، والتفاهم، والسلام، بينها وبين الكائن البشري.وفق تقسيم الرواية ثلاث محطات، يتكىء نهاد شريف في بنائه السردي على رؤية موسعة للكون، قائمة على “يوتوبيا” خاصة، متمثلة في إتحاد الدول العربية تحت مسمى “الولايات المتحدة العربية”، من خلال المنجز العلمي لاكتشافات فضائية، باتت ملموسة للقارىء، ويدعمها بقفزة زمنية، بعد أكثر من مئة وسبعين سنة من وقتنا الحالي. في المحطة الأولى، “العينة”، تُعقد اجتماعات طارئة لمجموعة العلماء والباحثين والعسكريين، في “قاعدة الجلف الكبير” الرئيسية، المختصة بأبحاث الفضاء البالغة التعقيد والسرية، التي تضم منصات إطلاق الصواريخ الكونية، ويعمل فيها 1250 فرداً، في مجموعات تتحرك بينها وبين القاعدة الفرعية في عمق الصحراء الغربية المصرية، على بعد 40 كيلومتراً. حيث يعممون حالة التأهب، على الرغم من أن إطلاق آخر مركبة كان لأغراض بحثية سلمية بحتة، من طريق الفحص المجهري الدقيق تحت الميكروسكوب، لعيّنة من هواء المريخ، التقطتها أذرع المركبة الميكانيكة، وعودتها سالمة دون ما يبرر تلك الحالة من الإستنفار والتحفز: “إن محاولاتنا وغيرنا لارتياد المريخ استهدفت أغراضاً شتى… أهمها أو قل العاجل منها أمران، أولهما التأكد من وجود مخلوقات ذكية، أو إثبات خلو الكوكب منها نهائياً”.في المحطة الثانية، “وباء من نوع جديد”، يتعرف الباحثون الى كائنات جرثومية حية، تُحدث ذبدبات تؤدي إلى إعتام الصور عبر شاشة الجهاز، ويقوم على الفور أحد العلماء بإبتكار تعديل على المجهر، يمكّّنه من رؤية تلك الجراثيم الحية بوضوح، والإستماع إلى أصواتها: “راقبا رأسه ووجهه المسطح بعض الشيء وقد استقرت في أعلاه عينان واسعتان شبه ناعستين أو تائهتين. كان واجماً، يحتويه انشغال عميق، وأيضاً كانت هناك تقطيبة أسى وحيرة تمتد بطول جبهته المتسعة من الأذن إلى الأذن”. تجاه حالة العجز في فهم إشارات الكائنات الجرثومية وأصواتها، فإن الكاتب يدفع هذه الكائنات الى التعبير عن نفسها، بأحرف متتالية، تظهر على وحدة العرض المرئي، معلنة تفوقها على العقل البشري: “إزاء عجز تدابيركم الكلي… أتدخل… أكلمكم بطريقتي… خلال جهازكم البدائي هذا… أنا بيماخور… ابن تيمينا امبراطورة بيبيم الخارجية… وبيبيم هو ذاته قمر المريخ ويسميه الفلكيون لديكم فوبوس”.يتضح للقارىء أن تلك الكائنات المتناهية في الصغر، تحمل عقولاً فاعلة من البلازما، تتفوق على العقول الإلكترونية بمئة مليون ضِعف. وفي السياق السردي يجد أنها تعرف بوجود الإنسان على كوكب الأرض، وأنها درسته بدقة، وعرفت لغته، وممارساته الحياتية، منذ وُجد أول بشري، بدائي. ولديها سجلات تمتلىء بمسارات الإنسان عبر آلاف الأعوام. أيضاً تلمس مدى حماقة الجنس البشري، وعدوانيته، في ما عُرف عندها بيوم “الفناء المطلق”، حيث دمر الآدميون لها 121 كوكباً، مع إحصاء مبدئي للقتلى يفوق الثلاثة مليارات.تتبلور في المحطة الثالثة المواجهة الشرسة، وسبب توافد البعثة الإنتحارية الجرثومية، بقيادة بيماخور إلى كوكب الأرض، للثأر من الإنسان لما ألحقه ببني جنسها، وكواكبها، من قتل ودمار، وذلك بالسيطرة على رؤوس بعض العاملين في القاعدة، وتحريكهم عن بعد لسرقة ثلاث قنابل نووية، وزرعها في ممرات لتدمير مصر بأكملها، بعد الإتفاق على ساعة الصفر: “لقد اقتادت كائناتها أربعة رجال من خبراء قاعدتكم بعد السيطرة على أمخاخهم. لنقل القنابل إلى أماكن خفية. لاستخدامها بعدئذ ضدكم”. ينجح نهاد شريف في مسعاه، حين يحاور تلك الكائنات بالحجة والمنطق، ليبين للقارىء مدى ما تتمتع به من ذكاء، وقدرة على الفهم والتعايش، حين تعرف أن ما حدث لها من دمار، وقتل، كان نتيجة لجهل الإنسان بوجودها، وأن ذلك مصادفة بحتة، ليتصالح بيماخور مع قادة القاعدة، ويجمع أفراد كتيبته الإنتحارية مقرراً العودة إلى كوكبه البعيد: “المهم الآن أني مقتنع بوجهة نظركم. لكن يهمني أن أتأكد من الضمانات التي سنحصل عليها متى وصلنا إلى اتفاق”.بالتصالح القائم على التفاوض، تخرج عناوين الصحف ولافتات التلفزيون، لتعلن للناس ما حدث، وتحول وجهة البشر في كل مكان على سطح كوكب الأرض إلى مصر، للتعرف الى ما يتعلق بالكائنات الواحدة. أعلن في الإرسال الفضائي أن مصر تعرضت في موقع قاعدتها الفضائية العسكرية، جنوب غرب الصحراء الغربية، إلى غزوة كونية مباغتة، غير منتظرة، من كائنات ذكية محمولة في أحجام جرثومية، أتت من كواكب متفرقة ضمن مجرة صغيرة، واقعة في نطاق قمر المريخ، المسمى فوبوس. ونتجت الغزوة من خطأ مروري في انطلاقة مركبة فضاء مصرية، خلال رحلة روتينية لها إلى جو المريخ، لجمع عينات عشوائية من الغبار، والمعلقات الفضائية، حيث انحرفت المركبة عن مسارها، فلامست طرف المجرة الصغيرة، ودمرت عدداً من كواكبها وأقمارها.يؤكد نهاد شريف في “تحت المجهر”، قيمة السلام والمحبة، والتعايش من دون صراعات، من أجل الحفاظ على كائنات الكون. وهذا ما حاول أن يبثه في كتاباته، منذ روايته الأولى “قاهر الزمن”، الصادرة في “روايات الهلال” عام 1972
..
..
محمد العشري
..
نشر في 2007
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.