قصة تاريخية أو شبه تاريخية، عن فلاد المخوزق أمير مقاطعة ولاشيا في رومانيا عهد الدولة العثمانية، الذي لطالما كان مادة دسمة جدا للحديث عن أسطورته منذ أعاد أحمد خالد توفيق استحضارها في بعض نصوصه، ومن ثم تامر إبراهيم في صانع الظلام، ومنصور عبد الحكيم في دراكولا.
ولاحقا تكرر تناول المادة في أكثر من عمل غير سردي، مثل دراكولا من إعداد ميساء خضير، ومجتمع الكونت دراكولا من إعداد يسرية أبو مسلم السيد.
إلا أن المعالجة العربية الأهم للشخصية، والتي تضاهي في جودتها نظيرتها الإنجليزية لبرام ستوكر مبتدع شخصية دراكولا من وحي ما نُسج من أساطير حول فلاد الواشي، هي رواية المخوزق، مستدعيا الكاتب في عنوان الرواية اللقب الأكثر شهرة من صاحبه نفسه، ومن شخصية الكونت دراكولا الذي تظل وسيلة القتل الأكيدة له هو وتد خشبي يُغرس / يُخوزق في صدره.
دراكولا هو أشهر شخصية مرعبة في تاريخ المخيلة الغربية، ومن الجدير بالذكر، الإشارة إلى معالجة أحمد سعداوي، لثان أشهر شخصية مرعبة؛ مسخ فرانكشتاين، حين قدم لنا فرانكشتاين في بغداد.
كنت أحسب أنه لن يضاهي أحد ما فعله تامر إبراهيم، حين مزج بين المعلومات التاريخية والأحداث السردية داخل روايته المشار إليها أعلاه، نجح أشرف فقيه، ومن خلال مجموعة ممتازة من الأوصاف البديعة والمريعة، في نقل القارئ العربي وغير العربي إلى عصر غير عصره، لنعاصر معه أحداث قتل عشوائي وبدون تفسير، بعد مقتل فلاد، ما يُستدعى معه، ومن قبل محمد الفاتح نفسه، محقق بارع فكأن الرواية مسرح عجيب مزج بين التاريخ والجريمة والرعب!.
محمد الفاتح سيطر على والاشيا، بل رومانيا كلها، ولكن ثمة خطر مجهول يخيف العامة، شيء غير قادر القائد العربي الكبير على الإمساك به، وشيء لا يمكن الإمساك به، لن تتمكن من قتله أو الحكم عليه بالإعدام.
ينطلق المحقق أورهان بأمر من الإمبراطور العثماني نفسه، في مغامرة غير محمودة العواقب، متتبعا حكايات المقاهي والحانات، ويغوص تدريجيا أكثر فأكثر داخل منطقة الأفلاق، حيث قاع جنهم فعليا من الأحداث الجارية أو الماضية، حيث الحديث لا يتوقف عن أشجار الموت (الخوازيق المعلق بها أجساد ولجت القضبان فيها). والكاتب لا يتورع عن ذكر أي تفاصيل أنفية وعينية عن أحداث دموية جرت في العام 863 هجريا. بل وتصل جرأته في الوصف إلى المقارنة بين خوازيق دراكولا وسلسلة جنهم التي ذرعها سبعون ذراعا [ص 123]. ويقدم لنا تنويعة لا بأس بها من ألوان العذاب، ليس أسوأها انتزاع الأحشاء من الشخص حيا وينظر إلى الكلاب تلتهم أمعاءه، فنجد أن “المرأة التي تحمل سفاحا يُقطع ثديها ويخيط مكانه رأس الوليد الذي جلبته بالحرام” [ص 174]. “لم تبق عائلة في والاشيا وترانسلفانيا وإلا وسُلق أحد أفرادها حيا أو قُطع أو عُلق من ساقيه ونُشر من بينهما بالمناشير” [ص 174].
أثناء استشكافه مجريات الأمور، يستكشف بطلنا أورهان ما يجري داخل نفسه، مثل لذة التحكم بمصير إنسان متغاطي تماما عن مذلة (حكم النفس على النفس) بفضل المنة السلطانية.
اكتشف أيضا كم هو وغد حقير، خاصة بعد أول جريمة تحدث في وجوده، داخل حمام محكم الإغلاق، مأخوذا الكاتب بنمطية اللغز الشهير لـ (جريمة داخل الغرفة المغلقة). وأثناء فحص الجثة، يستمتع الكاتب على ما يبدو في سرد التفاصيل، فالجثة في وضعية عنيفة لصاحبها، حيث “رقبته ملتوية بزاوية يستعصى على الأحياء تقليدها”. مات جدا على حد قول الراوي.
ومن الغرور الأرعن إلى التحقير ومغالاة في تعذيب الذات، خاصة عند موت الخصي دينيس، وخاض أورهان مجموعة لا بأس بها من الآلام التي أجاد التعبير عنها نصيا
- معلقا من شعر رأسه، مرتجفا بفعل الجوع والخوف، مجروح الوجه والكبرياء، مقيد الأطراف وخرقة مشبعة باللعاب تسد فمه، كأبأس رجل على وجه الأرض. [ص 86].
- مبررات الجوع والخوف والبرد خفّت .. إنما لم تختف.
- هل يتخدر المتخوزق وهو فوق مطيته الأخيرة؟ [ص 206].
وصف الحسناء الغجرية شيلا أثارني كثيرا الصراحة، خاصة حين “سمح لعينيه بأن تجولا بين الشفاه والنحر وما دون ذلك” [ص 106،107]، أو حين “يصرف عينيه عن قميصها الذي ألصقه البلل بما تحته” [ص 171]، أو حين “انحنت عليه فامتلأت عيناه بتكويرتي صدرها” [ص 171]. أو حين رآها ولا شيء يسترها “لا رداء حول انحناءاتها التي لا تكاد تثبت حتى تُعيد التشكل في اهتزازة رقص جديدة” [ص 185]. أو حين “تذكر وفرة جسدها بين يديه” [213].
وبرأيي، فإن الخطأ الأكبر كان بالانفصال عن فرسان السباهية، والسباهية على ما يبدو فرقة عسكرية قوية جدا في الحكومة العثمانية شبيهة بالإنكشارية. و الخطأ الثاني أنه وثق في قبيلة غجرية دون وجود مبررات حقيقية أو مقنعة كفاية تجعله يقتنع بتقديم المساعدة له. الخطأ الثالث أن مقدراته في علم تشريح الجثث واستنطاق الموتى لن تفيده كثيرا في مهمته الموحشة هذه، الترجمة أفيد له منها.
هذه الخبرة التي يسرد لنا الكاتب قصتها التي شوّقنا لها كثيرا، وإذا به يقتطع جزء من النص في قفزة زمنية استرجاعية للوراء ليحكي لنا أورهان كيف نجا بنفسه من الإدانة له بجريمة قتل، بواسطة ذكاءه وخبرته في الطب والتشريح. مع ذلك، جاءت مسألة اليد اليسرى هذه قديمة جدا.
بعد الفصل الحادي عشر، كان الإيقاع أبطأ قليلا وفيه مط وتطويل لا لزوم له وإن لم يكن أكثر من اللازم، ولكنه زاد في الفصول الثلاثة أو الخمسة قبل الفصل الأخير، حين نكتشف القاتلان ميخنا وميخائيل، لماذا دائما هناك رغبة لسرد القصة على شخص ميت سلفا وإن لم يمت بعد، لماذا لا يقتله ويخلص؟.
انتهت القصة بخاتمة مروعة وغير متوقعة، جمعت بين الصليب والخازوق في إشارة دينية سافرة.
والحبكة الأساسية التي تصور فلاد ككابوس أسود مخيم على عقول العثمانيين، تم اقتباسها سينمائيا في فيلم أمريكي بعنوان (دراكولا: غير مروي) سنة 2014، بعد عامين من صدور روايه الفقيه.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.