مراجعة كتاب الماء و الأحلام
عنوان فرعي : دراسة عن الخيال و المادة
للفيلسوف الفرنسي باشلار
أولاً : عن باشلار
يعد غاستون باشلار – الفيلسوف الفرنسي- من أهم فلاسفة القرن العشرين و شغل اهتمامه بالإضافة للفلسفة ( بفروع فلسفية منها: الابسيتمولوجيا و الاستطيقيا/ علم الجمال و فلسفة العلم) ، علم النفس و اللسانيات و ترك تركة سيكون من الرائع مطالعتها و الوقوف عندها. و من أبرز مؤلفاته:
الماء و الأحلام
شاعرية أحلام اليقظة
التحليل النفسي للنار
الهواء و الرؤى
تكوين العقل العلمي
ثانياً: كتاب الأحلام و الماء:
في هذا الكتاب يقدم باشلار دراسة مستفيضة عن الماء لعلها أقرب للشاعرية الممزوجة بالفلسفة و التحليل النفسي ، فهي أبعد ماتكون عن موضوع بحث علمي تحليلي للماء من حيث هو مكون مادي أو أحد المركبات التي تتشكل نتيجة اتحاد عنصرين كيمائين معروفين في جدول العناصر الدورية في الكيمياء.
و هذا المنطلق للدراسة الذي يتبناه باشلار يعرج بنا على ناحية أدبية خيالية تستخرج دوافن النفوس و تطير بها في عالم من الخيال. الخيال الذي لربما في كتابه الأخير “شاعرية أحلام اليقظة” سيخصص له جزء كبير من الثقل الابسيتمولوجي في معادلة المعارف البشرية و فضاء الإمكانات الفكرية.
١- الماء كملهم لخيال باشلار
لعل أبرز ما يمكن اكتشافه من هذه الدراسة و ما يقر به باشلار نفسه هو نشأته الطفولية بالقرب من مجرى أحد الأنهار و التي تركت في مخيلته ذكريات خصبة و آثار لن يمكن محوها لاحقاً و ستقوم في المستقبل بتشكيل نوعية فكر هذا الرجل الذي سيتسم بالشاعرية و الخيال الخصب و أحلام اليقظة من ناحية و ستمد أسلوبه الأدبي بمخزون من البلاغة و الروعة و لاشك -كما في اعتقادي- أن الطبيعة هي الملهم الأول لكل فكر و خيال و بلاغة أدبية لدى الإنسان و كلما كان الاقتراب أكثر من الطبيعة و الالتصاق بها كلما كان الأثر المطبوع أشد.
٢- رحلة من الماء الفيزيائي إلى الماء الميتافيزيقي
لعل هذه العبارة أجدها تشرح جزءاً مهماً من الرحلة المائية التي يريد باشلار أن يأخذنا إليها، فوجود الماء كمادة فيزيائية لا شك منها و لكنها مجرد البداية و هي نقطة الانطلاق – للانقذاف في عالم واسع مفتوح من التأملات الميتافيزيقية (الماوراء طبيعية) في ماهية الماء بشتى أنواعه و أحواله ، فمن الماء الهادىء الساكن للماء العميق ، للماء المطهر و أخيراً للماء العنيف الغاضب الذي لا يعرف الرحمة.
و لكل تلك الأحوال التي يكون عليها الماء انعكاسات نفسية معينة على الإنسان و على تصوره لعلاقته مع الماء و كلها تستتبع تأملات فلسفية معينة.
٣- الماء بين الضعف و القوة
يقول تشجوانغ زي “ رجل الخير الأسمى هو كالماء.. الماء المفيد لكل شيء لا ينافس أحداً ، يقيم في الأماكن المرتفعة التي يتبعد عنها الجميع. لا شيء يفوق الماء في ليونته و ضعفه.. و لكن عندما يبدي صلابة و قوة لا شيء يمكن أن يتفوق عليها ، أن ينتصر الضعف على القوة و الليونة على الصلابة”. لعل هذه الكلمات التي سطرها حكيم الصين العظيم تشجوانع زي منذ آلاف السنين تناسب بشكل كبير لشرح مقصد باشلار من كتابه.. هي في المحصلة حديث عن سحر الماء و تقلبات أحواله بين الليونة و الصلابة، بين الضعف و القوة، ذلك الماء الغامض. الذي يقول عنه الله عزوجل “ و جعلنا من الماء كل شيء حي” إذ هو نفسه مادة الحياة لكل شيء و في نفس الوقت المادة التي تسلب الحياة إذا ضربت بعنف – كما في طوفان نوح – الذي هو حالة من حالات غضب الماء ، كما في البحار الهائجة ، كما في حالات الأعاصير البحرية و المد البحري.
٤- الأمثلة و الاقتباسات من النصوص الأدبية و الشعرية و المثيولوجيا
يكثر باشلار من ضرب الأمثلة الشعرية و الأدبية و اقتباسها و تحليلها. و هذه النصوص التي يأتي بها تكون لها علاقة بموضوع البحث الذي هو الماء و هو يقر بأن الأسلوب الأدبي لا الرسم هو ما يعطي الخيال انفلاته. بيد أنني سأسجل نقطة انتقاد هنا بالنسبة لكثرة الاقتباسات التي أوردها باشلار في كتابه حتى يخيل للقارىء أن كتابه مجموعة من الاقتباسات و التعليق عليها ، بالرغم من عمق محتوى أطروحته و روعتها.
كما لا يفوته أن يقتطع لنا من الميثولوجيا الانسانية المقاطع ذات الصلة بعلاقة الانسان بالماء في شتى حالاته. و هنا يحضر الماء الأسطوري المرعب أو الإلهي العجائبي المزيل للأسقام، و بالتأكيد أساطير البحار و لا يفوتنا أن نستعرض نبتون -إله البحار- و موقفه من الهيلانيين بعد هزيمة طروادة و كيف أن نبتون في الميثولوجيا الاغريقية يشكل رمزاً على غضب المياه و هيجانها.
٥-الماء و الموسيقى و اللغة
يختتم باشلار كتابه بفصل جميل جداً عن الصوتيات السائلة و موسيقى اللغة و يربط ذلك بسيولة الماء، لربما سيثير هذا الفصل الختامي من لديه اهتمام خاص باللسانيات لمزيد من البحث حول الفونولوجيا و أبعادها البيولوجية.
مصدر المراجعة: هنا
Raven Fergany –
الماء سيد اللغة السائلة، اللغة غير المتعثرة، اللغة المتواصلة، اللغة التي تجعل الايقاع مناسبا، التي تمنح الايقاعات المختلفة المادة المتجانسة، إذن لن يتردد باشلار في إعطاء معناها الكامل للتعبير الذي يُفصِح عن نوعية شعر سائل ومُفعّل، يجري من ينبوع.
المفكّر والكاتب الفرنسي باشلار الذي اعتبره اعظم فلاسفة العلوم والشعر بالاضافه الى كونه مَثَلي الابتسمولوجسي الاعلى الذي جعلني أُدْرِك تأملات لم اشعر بها من قبل ذات صلة وثيقة بالبحث العلمي وفلسفة العلوم اضافة الى المعرفة يسرد في هذا الكتاب العلاقة بين المادة والخيال والذي بدوره يقسم الخيال الى خياللين؛
خيال مادي وخيال صوري، ويؤسس في بحثه هذا تأمّل الخيال المادي ويعده ملكة تشكل من العناصر المادية الاربعة المتطابقة مع اربعة امزجة (الماء، والتراب، والنار، و الهواء) الصور التي تُجاوز الواقع وتغنيه. ومن ثم فهي ملكة فوق بشرية! بهذه الروعة والدهشة يبهرني باشلار في كل مرة اختك كتابا له.
Raven Fergany –
..