تحيَّرتُ كثيرًا وأنا أُفكِّر في كتابة مُقدِّمة لرواية بمثل هذا الحجم، رحمةً بأعصاب القارئ الذي تحمَّس وقرَّر البدء في هذه الرحلة الطويلة من الأساس. وجدتُّني أسألُ نفسي: ماذا عساي أن أقول؟ ألا تكفي كل هذه الصفحات التي أمام القارئ لإنهائها؟ هل يحتاج إلى تمهيد طويل آخر يُثقِل كاهله وأعصابه؟ الإجابة لا من دون شك.
لكنني وجدت الأمر ضروريًّا في النهاية، لذا قرَّرت أن أكون مُختصرًا قدر الإمكان.
من الناحية الفنية، تُعدُّ رواية ستيڤن كينغ «الشَّيءُ» كتابًا، لكنها في حقيقة الأمر تتشارك في بعض خصائصها الفيزيائية مع قالب القرميد. إن حمل كتاب بهذا الحجم والتنقُّل به من مكان إلى آخر ليس فقط عملً مُرهقًا، بل تدريبًا حقيقيًّا لعضلات ذراعك.
لذا كان الدافع الحقيقي وراء هذه المُقدِّمة هو محاولة طمأنتك يا عزيزي القارئ، ورُبَّما إثارة حماستك. نعم هذا عملٌ ضخم، بل أحد أضخم الروايات الأمريكية، وهذه حقيقة لا تحتاج منك البحث على الشبكة العنكبوتية للتأكُّد منها، فقط تكفيك رؤية الكتاب على رفِّ إحدى المكتبات، أو الإحساس بثقله بين يديك. لكن هذا لا يعني أبدًا أنه كتاب يثير الضجر، قد يسبب الإجهاد رُبَّما، أو الاستنزاف، لكن ليس الضجر. إن ستيڤن كينغ قاصٌ بارعٌ مُنمَّق العبارة رُبَّما هو الأبرع في تخصُّصه على الإطلاق، كما أنه حرفيٌّ مُتمرِّس في خلق شخصيات كاملة الاستدارة من لحم ودم تجد نفسك حزينًا على فراقها بعد انتهائك من الكتاب، وقد تبكيها.. هذا فضلً عن مهارته في التلاعب بشتَّى أساليب السرد القصصي بكل سلاسة، بقدر مهارته في إثارة رعبك.
سيرحل بك كينغ بعيدًا إلى بلدة ديري الشمالية، وسيقلب لك كل حجرٍ فيها. إن ديري في حقيقة الأمر هي مدينة بانجور الأمريكية التي يقطنها كينغ، ومعظم المعالم المذكورة في الرواية كبُرج المياه وتمثال بول بونيان وغيرها هي معالم حقيقية في بانجور التي طاف فيها كينغ قبل كتابة الرواية لرصد تفاصيلها وتدوين ملاحظات عنها لاستخدامها في إكساء مدينته الخيالية المُخيفة لحمًا ودمًا. سيحكي لك كينغ عن تاريخ ديري القديم، وكل الأحداث الجسام والتوافه التي وقعت فيها. لن يترك لك معلمًا إلا وسيسرد تاريخه، ولا شخصًا إلا وأنت تعلم عنه كل ما أردت وما لم ترد من تفاصيل، وستجد نفسك بعد انتهائك من الرواية تعلم عن ديري وجغرافيتها وشخوصها ومعالمها أكثر ممَّا تعلم عن مسقط رأسك. أحيانًا أحب أن أتكهَّن أن كينغ رفض إجراء أيِّ تعديلاتٍ على النص، ولم يسمح لأحد بلمسه لأنه أراد أن تكون شاقَّة في الواقع.. كالحياة.
ما أضمنه لك يا عزيزي القارئ بالتأكيد ليس براعة الترجمة (فهذه أنت القاضي والجلَّاد بخصوصها)، بل براعة السَّرد، وثرائه، وكيف سيتمكَّن عالم ديري المُتشابك من امتصاصك بالكامل ولن تستطيع منه فكاكًا إلا مع آخر صفحة من هذا المُجلَّد الضخم الذي أعلم أنك أحجمت كثيرًا عن اقتنائه في البداية، وأحجمت أكثر بعدها عن فتحه وأنت تنظر له قابعًا كالتابوت على رف مكتبتك. [جزء من مقدِّمة المترجم].
أما بالنسبة للاقتباس السينمائي، فيقول وائل رداد
مع صدور إعلان فيلم IT الجديد والمنتظر.. وبمناسبة قرب صدور النسخة المترجمة للعربية من الرواية التي أعتبرها من أجمل ما ألفه “ستيفن كينغ”.. وجدت نفسي أستذكر مشاهدتي الأولى لنسخة 1990 الرديئة, والتي كانت عبارة عن سلسلة تلفازية مصغرة, لكنها – حسب آراء كثيرين- حرمتهم النوم.. أجل.. نسخة “تيم كوري” التي يقهقه فيها كأبله طيلة الوقت وسط عشرات البلالين الملونة, ويتحول في نهايتها لعنكبوت عملاق يبدو من سلالة أعداء Power Rangers !
أنا لا أستخف بذكريات البعض.. في صغري شاهدت سلاسل “لعبة الطفل” و”كابوس شارع إيلما” و”موت الشر” و”سجين الجحيم”.. كانت تجارب مخيفة بحق وسلبتني النوم فعلا.. لكن مهرج المجاري ذاك يصعب أن يرعب سوى أولئك الذين يعانون من فوبيا المهرجين, ولهم الحق في ذلك.. لو شاهدت ظاهرة “مهرج الشارع” المتكاثرة فيديوهاتها عبر “يوتيوب” مصورة عددًا من المهرجين يخرجون ليلا لمطاردة السيارات لشعرت بالخوف حتى لو لم تكن مصابا بفوبيا المهرجين, ناهيك عن ارتباط صورة المهرج ذهنيا بسفاح مروع مثل “جون واين غايسي”, الذي كان يلاطف الصغار برداء وماكياج المهرجين نهارًا, ويقوم بجرائم قتل مثلية شنيعة ليلا..
وحين أعلن المخرج “كاري فوكوناغا” مخرج الموسم الأول – والرائع- من مسلسل True Detective عن نيته بتحويل الرواية لفيلم سعدت جدًا, الكل سعد, ثم انتهت السعادة لدى انسحابه من المشروع, وعلق “ستيفن كينغ” على ذلك قائلا: “لا مشكلة.. ستظل دائما نسخة 1990 متواجدة, وأداء تيم كوري الرائع لشخصية المهرج بيني وايز لن ينسى أبدًا!”
بالطبع يعرف من يتابعني كيف أجد آراء “كينغ” السينمائية.. هو أديب لا يشق له غبار, لكن آراءه السينمائية دائما محض هراء..
والآن.. مع عودة مشروع IT تحت إدارة “آندريز موشييتي” مخرج فيلم Mama وظهور الإعلان الذي راقني وبشدة, لا بد من ظهور تلك النوعية من الآراء المبتذلة على غرار: يبدو سخيفا, المهرج لا يبدو مرعبا, تغيير ألبوم الصور لشرائح ضوئية فكرة سخيفة.. الخ
في رأيي أن أسوأ فيلم عن المهرجين سيكون أفضل بمراحل من نسخة 1990 وأداء “كوري” المزعوم.. هنالك فيلم Clown الذي ظهر عام 2014 وهو ليس بالفيلم الجيد نهائيا, لكن مهرجه أفضل بمراحل من “بيني وايز” نسخة 1990
بإمكانك كره النسخة الجديدة.. لكن المقارنة هنا بالذات مخجلة للغاية.. إذا وجدت النسخة القديمة مرعبة فهذا حقك, ولكن إذا ما وجدت المهرج الجديد أضحوكة مقارنة بالقديم فاسمح لي.. أنت لا تعاني فوبيا المهرج بل من فوبيا الظهور بمظهر الأحمق! احترم دفاعه العدائي عن رأيه، وإن كنت لا أتفق معه فيه، النسخة القديمة كانت مخيفة فعلا.
ويقول شريف ثابت
الشئ هو كل الأدران السلوكية التي نجمها ونكتسبها خلال كل يوم وساعة ودقيقة نكبرها وتبعد بنا عن براءة سنى الطفولة. الشئ هو الأنانية والجهل والتطرف والنطاعة. هو اللص والمتحرش والفاسد والمنحرف والمتطرف والسائق الذي يكسر إشارة المرور والجار الذي يلقي بقمامته في منور العمارة، وزميلك في العمل الذي يبول تاركاً آثاره على مقعدة المرحاض.. والأخطر والأكثر إرعاباً من كل هؤلاء: السلبي الذي يرى كل هذا يحدث أمام عينيه فلا يحرك ساكناً ويشاهد بذلك الشئ يفترس البراءة فيشيح بوجهه وكأنما لا يرى شيئاً كما فعل سكان ديري إزاء اعتداءات هنري باورز وعصبته على إيدي وبيڨرلي. الشئ بدون مواربة هو “نحن”.
هذه الرؤية تصبح أكثر جلاءً في زماننا هذا، ويمكن بمنطق الرواية القول بأن الشئ في دورته الحياتية الجديدة، وبدلاً من أن يسكن في المجارير وشبكة الصرف تحت الأرض، وجد في الواقع الافتراضي على الإنترنت مستقراً مثالياً لممارسة دوره في التغذي على البراءة. سعار الكراهية والكذب والتطرف والهوس الجنسي والقتل المعنوي الجماعي أثناء التحفيل على هذا أو تلك.. مجارير أخرى حقيقية تفوح بالقبح والكراهية ألعن ألف مرة من مجارير ديري، ومسخ ممنهج لا يرتوي لأرواح الملايين الذين يتبعون التريند الذي يرسمه لهم الشئ غير عالمين أنهم أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من كينونته. بل لا نبالغ لو وصلنا لأن فرص مواجهة الشئ في جولة جديدة بعد أن استقر في وكره الجديد على الإنترنت أصبحت شبه معدومة لأنه أصبح موصولاً مباشرةً بأعدائه الحقيقيين: الأطفال، يجردهم من أسلحتهم مبكراً فيندمجوا معه قبل الأوان.كيف هُزًمَ الشئ؟
استطاعت الأبطال السبعة دحر الشئ مرتين. الأولى إبان طفولتهم بخمسينات القرن الماضي، وتحقق لهم النصر بالإيمان. الإيمان بقيم الأطفال الناصعة بدءاً من القصص الخرافية وصولاً للإيمان بالقوة العليا التي خلقت الشئ ونقيضه (وهى السلحفاة التي قاءت الكون).
أما المرة الثانية فكانت الأكثر صعوبة وخطورة. فالشئ هذه المرة كان مستعداً لهم راغباً في الثأر لهزيمته القديمة على أيديهم. بالإضافة لذلك نقص عددهم واحداً بانتحار ستان المسكين الذي لم يتحمل شناعة الذكريات التي استعادها عقله بمجرد علمه بنبأ عودة الشئ. أما الستة الباقين فقد صاروا كباراً ناضجين بأوائل الأربعينات من أعمارهم، بما يعني أنهم خسروا أخطر أسلحتهم وهو إيمانهم بقناعات الطفولة. وحين دخل بيل دنبروه منطقة العدم مجدداً أثناء مبارزته العقلية الثانية مع الشئ وجد السلحفاة التي قاءت الكون قد ماتت بالفعل، مما هز قناعاته في أحرج لحظة.. وهنا تدخل الحب والذي هو صورة أخرى من صور الإيمان، واندفع ريتشي توزييه ثم إدي كاسبراك لمؤازرته وهزيمة الشئ في صورتيه المادية والمعنوية.
بين المرة الأولى في الخمسينات والثانية في الثمانينات.. هل يرمز بقاء السلحفاة بالأولى وموتها بالثانية لضياع الإيمان الغيبي بالقوة “الأخرى” النقيضة للشر مع التقدم في العمر؟ أم أن ثمة جذر لهذا التحول في الفارق بين حال المجتمع قبل وبعد ثورات الستينات بالغرب؟نهاية الصدام الأول بين الصبية والشئ لم تقتصر فقط على هزيمة الأخير ودخوله في غيبته التي ستستغرق ما يزيد عن ربع القرن. الاحتكاك بالشئ انتهى بممارسة الصبية للشئ. و”الشئ” هنا هو فعل الجنس الذي يُشار إليه بين البالغين في حضور الأطفال في اللغة الدارجة ب “الشئ”.
بهزيمة الشئ، تاه الصبية السبعة في مجارير ديري وعجز إدي كاسبراك الذي كان بمثابة بوصلتهم عن إرشادهم، وسرت الهيستيريا فيما بينهم، فما كان من بيڨرلي إلا أن دعتهم لممارسة الجنس معها. هذا الفعل الذي يعد حداً فاصلاً بين الطفولة والبلوغ امتص ذعر الصبية التائهين، وأعاد لإيدي بوصلته الطبيعية وحاسته المكانية. طفولة الصبية السبعة كانت السلاح الأقوى الذي حقق لهم النصر على الشئ، وبتحقق هذا النصر استنفدت الطفولة غرضها وأصبحت عبئاً يتهددهم بالضياع في المجارير المظلمة أسفل ديري، فكان الحل هو ممارسة “الشئ” – أو الجنس في تلاعب لغوي حاذق من ستيڨن كينج– الذي خلصهم من هذه الطفولة، وكأن الشئ أبى أن يرحل إلا بعد تجريدهم من سلاحهم ليخوضوا مواجهتهم التالية ضده بعد ٢٧ سنة من دونه.على ما أذكر، انتهت النسخة التلفزيونية التسعيناتية من “الشئ” بانتصار شلة الخاسرين على بيني وايز وقرارهم أن يعود من سيتبقى منهم على قيد الحياة لردعه حين يبدأ دورته الحياتية القادمة بعد ٢٧ سنة مهما تقدم بهم العمر.هذه النهاية ليست فقط مغايرة للنهاية الأصلية برواية ستيڨن كينج، ولكنها النقيض لفلسفتها المبنية على الانتصار لنقاء الطفولة ضد تشوهات الناضجين والإيمان بأن النهايات السعيدة ممكنة بل واعتبارها – بنص الرواية–جزءاً من الإيمان بوجود الإله. لذلك كان انتصار الأبطال بالمرة الثانية على الشئ انتصاراً حاسماً وأخيراً إذ نجح بيل دنبروه بمعاونة رفاقه في قتله وليس فقط هزيمته إلى حين كما فعلوا بالمرة الأولى في صباهم.
نهاية الشئ كانت إيذاناً بنهاية ديري نفسها التي توحدت مع شروره، وعلامة مؤكدة على أنه لا رجعة له مُطلقاً في المستقبل.
تذكرت هذا بالمناسبة وأنا أشاهد الڨيديوهات المروعة لاعتداءات جموع المتطرفين بتلك القرية المنياوية على المسيحيين. بدوا وهم يندفعون صارخين “نصااااااارى” للإحاطة والاعتداء على بنات مسيحيات مستضعفات أقرب ما يكونوا لسكان ديري أثناء ارتكابهم للمذابح الجماعية من جيل لجيل، الأمر الذي قد يجعلنا ننظر للرواية خارج إطار قصص الرعب، وينتقل بها لمرتبة أعلى من كثير من الأنماط الأدبية باعتبارها حاملة لرؤية إنسانية ومجتمعية واعية وممتزجة بالتحليل النفسي والميثولوچي الدقيق وإمتاع الحدوتة المرعبة.
ما بين الكوارث التي أنتجها تجرؤ العلم الأسود على تولي مهام القوة العليا في رواية مايكل كريشتون”الحديقة الچوراسيّة”، والرحلة الطويلة التي خاضتها البطلة الملحدة برواية كارل ساجان “اتصال” للوصول لليقين، وصولاً للاحتماء بالإيمان في مواجهة قوة ميتافيزيقية شريرة في “طارد الأرواح الشريرة” و”الشئ”.. يمكن رصد تكرار التمحور حول فكرة الإيمان بالقوة العليا في ترجمات نادر أسامة مترجم “الشئ”، وهو ما يبدو هاجس رئيسي لديه يحكم اختياراته بشكل لا إرادي غالباً. وبأي حال فهو يستحق عميق الشكر على دقة هذه الاختيارات وإبداع الترجمة في كل أعماله، من دون إغفال الحاجة الماسة لمراجعة “الشئ” – أروع هذه الأعمال- هذا النص الضخم الذي يربو على الألف وأربعمائة صفحة أكثر من مرة لوجود العديد من الأخطاء في الأسماء وبعض الهفوات اللغوية.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.