تبقى الأكثر لا معقولية وهو تطابق الشيء وصورته الكلية في الحيز الواحد نفسه. فعل كهذا يلمح إلى إمكانية أن العالم يقوم على الأحاسيس بشكل حصري.
[ملاحظة من الناشر].
سماح عادل
رواية (اختراع موريل) للكاتب الأرجنتيني “أدولفو بيوي كاساريس”، صدرت عام 1940، وأحدثت جدلاً كبيراً وقت صدورها، واستمرت طوال تلك السنوات محل إعجاب العديد من القراء في العالم.. ترجمت إلى العربية عام 2015، عن منشورات الجمل، ترجمة “أحمد يماني”.
تتناول الرواية أفكار هامة حول الخلود، ورغبة الإنسان في تخليد نفسه بعد موته، وعزلة الإنسان، والوحدة والحب، في شكل بوليسي يتحول في منتصف الرواية تقريباً إلى شكل فانتازي وخيال علمي.
الشخصيات..
البطل: رجل متهم في قضية قتل ومحكوم عليه بالسجن المؤبد.. لا نعرف عنه تفاصيل أكثر حول عمره أو مواصفاته الجسدية، وهو في نفس الوقت الراوي الرئيس للرواية، يتجه إلى جزيرة معزولة يقال أن بها وباء هرباً من الشرطة.
باقي الشخصيات مجموعة من الأفراد يقومون بالتجوال داخل الجزيرة، منهم فتاة صامتة تحب مشاهدة الغروب تدعى “فوستين” ورجل رياضي يدعي “موريل” وبعض أصدقائهم، يتجولون داخل الجزيرة طوال الوقت.
الراوي..
البطل هو ما يروى حكايته داخل الجزيرة، وكيف يعيش عليها في عزلة ووحدة وتخبط بسبب وجود أناس آخرين، وهناك صوت آخر يتدخل عدة مرات حيث يكتب ملاحظات على الراوي وحكيه الذي يسميه تقريراً.
السرد..
اختار الكاتب أن تكون روايته القصيرة، التي تبلغ حوالي 100 صفحة من القطع الصغير، في شكل يوميات.. مرة يدعوها كذلك ومرة أخرى يسميها تقريراً، حيث يصور الأيام التي يقضيها على الجزيرة المنعزلة وحكايته الغريبة عليها، مع تدخلات من شخص مجهول يدعى “الناشر”، الذي يصحح بعض أخطاء الراوي أو يوضح لبس ما في حكيه.. الرواية معقدة وصعبة القراءة لأن الكاتب اختار أن يكشف لغزها في المنتصف، كما أن هذا اللغز أقرب إلى الفانتازيا والخيال العلمي، لكن الرواية تتمتع بالتشويق خاصة حين يبدأ الكشف في المنتصف.
الغموض ..
في بداية الرواية يبدأ الراوي الحكي عن نفسه، وكيف يعيش في جزيرة معزولة لا يتوفر بها طعام، كما أن بها مداً يأتي بصورة دورية مما يشكل خطراً على حياته ويهدده بالغرق، وهو ينام في العراء رغم أن الجزيرة بها مبنى كبير يسميه الراوي “المتحف” مليء بالغرف، ومبنى آخر يسميه “كنيسة” و”حمام سباحة”.. ساعده تاجر سجاجيد إيطالي حين أرشده عن تلك الجزيرة، لأنه هارب من الشرطة، وساعده أيضاً في الوصول إليها، وهو منذ وصوله يعيش في عزلة ووحدة قاتلة ويبحث عن الطعام باستماتة، ويحاول أن ينام في مكان مريح.
كما يكتشف بنفسه أجواء الجزيرة، ثم يبدأ بعض الناس في الظهور وهو يختبئ منهم، لكن ظهورهم لا يغير شيء في الجزيرة، فلا يوجد طعام ولا تتحرك الأشياء من مكانها، ويبدأ الراوي في التوجس، خاصة عندما يقع في عشق إحدى الفتيات، “فوستين”، ويبدأ في ملاحقتها، ثم يكتشف أنها لا تستطيع رؤيته هي وأصدقاءها الذين يجوبون الجزيرة.. لبعض اللحظات تخيلت كقارئة أن الراوي شبح لميت؛ لذلك لا يراه الناس على الجزيرة ولا يشعرون بوجوده، والراوي نفسه يعطي هذا الإيحاء للقراء، لكنه في منتصف الرواية يكشف عن “اختراع موريل”.
اختراع موريل..
يكشف “موريل” لأصدقائه عن اختراعه ويخبرهم أنه اخترع جهازاً يختزن صورهم وهم يتجولون داخل الجزيرة ويتحركون، ثم يعيد بث هذه الصور والمشاهد إلى ما لا نهاية داخل الجزيرة حتى بعد موتهم، يستمع البطل لذلك الحديث ويعتقد أنه يتصنت عليهم دون معرفتهم، ليكتشف في النهاية أن هؤلاء الناس ما هم إلا صوراً يبثها الجهاز “اختراع موريل”، وأنهم ليسوا أناساً حقيقيين، أثناء حديث “موريل” مع أصدقاءه يغضب أحدهم لأن هذا الجهاز قد تسبب في موت أناس آخرين أجرى عليهم “موريل” تجاربه، ويتوقع أن يموتوا هم أيضاً، ويكشف “موريل” لهم أنه هو من بنى هذه المباني على الجزيرة، وجلبهم لقضاء أسبوع معه ليبقوا خالدين جميعاً معاً ولتكون تلك الجزيرة جنتهم.
ويحتار البطل في تفسير الأمر ويظل يراقب تلك الصور في حركتها المتكررة عدة أيام ليفهم ما هي الحكاية، ويخمن أن هؤلاء الناس قد ماتوا إما بفعل تأثير هذا الجهاز عليهم، والذي أصابهم بمرض يقشر جلودهم ويسقط شعرهم ثم يجعلهم يموتون، أو أنهم أحياء في مكان آخر ويحلم أن يذهب ليقابل “فوستين” ويتعرف إليها.
الحب وهم العزلة..
منذ أن رأى البطل، “فوستين”، حتى وقع في غرامها وتعلق بها كغريق، حيث شعر أن حبه لها هو ما يمنعه من الاستسلام والانهيار في تلك العزلة الموحشة، لكنه عندما اكتشف أنها صورة خيالية ذعر، ظن في البداية أنها ربما تكون حية في مكان ما وحلم أن يذهب إليها، وأخذ يتسمع إليها عدة أيام ليعرف موطنها، لكنه استسلم في النهاية لفكرة أنها ميتة وأن باقي الناس على الجزيرة ماتوا بسبب ذلك الوباء الغامض، الذي سمع عنه قبل مجيئه للجزيرة، وفكر أن “موريل” ربما هو من اخترع ذلك الوباء ليبعد الناس عن جزيرته التي يعتبرها جنته الموعودة، أو ربما يكون هذا الوباء من تأثير جهاز “موريل” المخترع، ويقرر الراوي أن يصور نفسه مع “فوستين” ويكون قريباً منها حتى يوهم من سيشاهد هذه الصور في المستقبل أنهما عاشقين وتخلد صورتهما معاً للأبد على هذه الجزيرة، وتظهر عليه أعراض ذلك الوباء، ويبدأ جسده في الوهن ويتمنى في نهاية الرواية، ممن سيقرأ تقريره هذا أو يومياته، أن يستطيع أحد ما في المستقبل إعادة تركيب أجزائه بالقرب من أجزاء “فوستين” ويتواصلا روحياً من خلال صورهما المخزنة في الجهاز..
الرواية..
في دراسة للناقد “أدولفو باسكيث روكا”، تتناول رواية (اختراع موريل)، يرى أنها: “رواية تأسيسية لأدب استباقي، حيث تحضر فيها رحلات الخلود وتكرارات الحياة وأرشيف الصور والنسخ والهولوغرام، مضيئة النظام المعرفي للصورة وهي مسائل إشكالية تناولها، في زمن لاحق، منظرون للصورة أمثال (جان بودريار) و(بول فيريليو) و(سوزان سونتاغ)، مانحة موضعاً لتأمل الخطوة المعقدة للانتقال مما هو واقعي إلى ما هو افتراضي والذي يهدد فيه عالم الصور العالم الواقعي”.
ترجمت (اختراع موريل) إلى ما يقرب من 20 لغة، وانتقلت إلى السينما في فيلم عام 1974 للمخرج الإيطالي “إيمديو غريكو”، كذلك اقتبست عنها أعمال مسرحية وتليفزيونية وسينمائية كثيرة، ويبقى “أدولفو بيوي كاساريس” كاتباً هاماً في الأدب الأرجنتيني في القرن العشرين.
رؤى الحجيري
لا يخلو أي حديث عن أهم روايات القرن العشرين من الإشارة إلى {اختراع موريل} للكاتب الأرجنتيني أدولفو بيوي كاساريس. صدرت الرواية أخيراً بترجمة أحمد يماني عن منشورات «الجمل»، هذه الرواية التي صنعت من صاحبها كاتباً حقيقياً وقد صنفها الشاعر الأرجنتيني بورخيس في مقدمته المشهورة بأنها «كاملة»، داعياً إلى تصنيف كاساريس «ككاتب كلاسيكي: في حقبة الكتاب المشوشين الذين يتبجحون بأن يكونوا كذلك». أدولفو كاساريس المولود في العاصمة الأرجنتينة بوينوس أيرس عام 1914، قدَّم يوماً إجابة لافتة عن السؤال {متى بدأتَ الكتابة وكيف} قائلاً: {من دون شك قبل أن أبدأ القراءة… أود القول قبل أن أكتشف الأدب}. فقد كتب روايته الأولى {إيريس ومارغريتا} وهو بعد في الحادية عشرة من عمره، كانت الرواية انتحالاً لــ Petit Bob للكاتبة الفرنسية سيبيل ايمي ماري أنطوانيت غابرييل، التي كانت تكتب تحت الاسم المستعارGYP. وجلّ هدفه كان آنذاك أن يُفتن قريبة له كان مغرماً بها. ليكون الحب هو الدافع إلى الكتابة وهو المراد منها. في عمر الرابعة عشرة، كتب قصّته الأولى {الزهو أو مغامرة مريعة}، ولم تمر سنة حتى تمكَّن بفضل نقود والده من نشر كتابه الأول {تمهيد} وهو في الخامسة عشرة، ليندم بعد ذلك على نشره وينكره. هجر الكاتب الجامعة نهائياً بعدما حاول دراسة القانون والفلسفة والآداب وأخفق في إتمام أيّ منها. لكنّ تحدّره من عائلة بورجوازية ميسورة ولأب كان كاتباً محبطاً ساعداه في التفرّغ لكتاباته والتحصّل على قراءات معمقة للآداب العالمية. في عام 1932، بحسب أحمد يماني، تعرّف إلى بورخيس وجمعتهما صداقة نادرة أدبية وشخصية، أطلق عليها البعض مسمى {بيورخيس}. وكتبا معاً أكثر من خمسة كتب بدءاً من عام 1942 وحتّى عام 1977. عبر {اختراع موريل} عام 1940، تحوّل كاساريس إلى أحد أهمّ كتّاب أدب الفانتازيا في أميركا اللاتينية، حتى إنه أعتبرها أوّل إصدار جادّ له، ثم أعقبها عام 1945 برواية {خطّة هروب} والتي تشكل امتداداً مّا لــ {اختراع موريل}، إحدى أكثر الروايات أصالة في القرن المنصرم والتي ما زالت تثير تساؤلات كثيرة بعد مرور حوالي سبعين عاماً على نشرها. ويبسط العشق جبروته في الرواية عندما يعمد عالِم مهووس بزوجته إلى تخليدها، بعد رحيلها، بالصورة والوهم، بأن يصنع آلة تعرض صورتها كل مساء وهي جالسة على صخرة أمام البحر وعيناها مشدودتان إلى الأفق. ويتضاعف التخليد هنا مع العشق، بهروب شخص إلى الجزيرة المعزولة التي كان يرغب العالم في الاستفراد فيها بصورة معشوقته {الخالدة}، ويأخذ الهارب الأخيرة على أنها حقيقة فيسقط صريع عشقها، ثم لا يلبث سحر الصورة أن ينهار حين يقترب منها ويلامس {جسدها} فيجده من نور فحسب ويُصاب بالجنون. تتوسَّل الرواية الخيال العلمي، ومستفيدةً من الرواية البوليسية تطرح مسائل عدة من بينها الحب والوحدة والموت والخلود. والحال أن إحدى المسائل المهمة في الرواية، والتي تبدو حاضرة بشكل آني، وهي إلى جانب وهم الصورة، مسألة العالمين الواقعي والافتراضي، وهو ما جعل الناقد أدولفو باسكيث روكا، في دراسة لافتة تتناول {اختراع موريل}، يرى أنها رواية تأسيسية لأدب استباقي حيث تحضر فيها رحلات الخلود وتكرارات الحياة وأرشيف الصور والنسخ والهولوغرام، مضيئة النظام الأنطولوجي للصورة وهي مسائل إشكالية تناولها، في زمن لاحق، منظرون للصورة أمثال جان بودريار وبول فيريليو وسوزان سونتاغ، مانحة موضعاً لتأمل الخطوة المعقدة للانتقال مما هو واقعي إلى ما هو افتراضي والذي يهدد فيه عالم الصور العالم الواقعي. تكرار وانفصال في الرواية لعبة سردية تعتمد على الراوي وعلى ناشر مجهول يقدِّم تعليقات على بعض المواضع من الرواية، وتشكِّل جزءاً من الرواية نفسها وتدخل من صلبها، وهذا {الناشر} المفترض يمثل راوياً جديداً إلى جانب الراوي الأساس وكأن الكاتب أراد بذلك التأكيد على فكرتين تكتنفان الرواية بكاملها: التكرار والانفصال. ويرى البعض في كتابات كاساريس نوعاً من الجفاء وغياباً لـ «الحرارة الإنسانية». وتتأتى هذه الفكرة من عدم إيلائه الشخصية اهتماماً موسعاً، والبعد عن الغوص في عوالمها الداخلية مثلما هي الحال في الرواية السيكولوجية التي انتقدها كثيراً، كما فعل بورخيس. وردّ كاساريس بجدية ساخرة على هذا «الاتهام»: «عندما كتبت «اختراع موريل» و{خطة هروب» و{الحبكة السماوية» ندّد النقاد كثيراً بلاإنسانيتي، قالوا تفتقد هذه الكتب إلى الحرارة الإنسانية. وكنت متفقاً معهم. لقد كتبتها على هذه الشاكلة، ذلك أنني ارتكبت أخطاء عدة عندما تركت نفسي سابقاً لحرارتي الإنسانية. حينئذ قررت أن اتخذ مسافة وأن أكتب تلك القصص باحتراس. وعندما وجدت أن لدي حكاية شائقة اكتفيت بسردها. حتى لم أعد أتحصل سوى على حنكة الكتابة، لم أسمح لنفسي بإعطاء واقعية أكبر للشخصيات. عندما فعلت ذلك، رثوا لحالي قائلين إنني لم أعد أكتب روايات كـ{اختراع موريل» و{خطة الهروب»، وأنني كنت أتحول بشكل مقزز إلى إنساني». ترجمت {اختراع موريل} إلى ما يقرب من 20 لغة وانتقلت إلى السينما في فيلم عام 1974 للمخرج الإيطالي إيمديو غريكو. كذلك اقتبست عنها أعمال مسرحية وتلفزيونية وسينمائية كثيرة. ولأن أدولفو بيوي كاساريس يبقى كاتباً رئيساً للولوج إلى الأدب الأرجنتيني في القرن العشرين، من الخطأ أن نحصر قيمته، كما يفعل البعض، في اعتباره تابعاً لمواطنه الكاتب بورخيس.
محمد إسماعيل زاهر
يصف خورخي لويس بورخيس رواية “اختراع موريل” للأرجنتيني أدولفو بيوي كاساريس بالكمال، بداية محفزة للقارىء للانغماس في هذه الرواية الصغيرة، مئة وعشر صفحات من القطع الصغير، والصادرة في عام 1940 وترجمت إلى 20 لغة ولم تنقل إلى العربية إلا منذ شهور قليلة .
عندما تقرأ هذه الرواية ستلهث خلف الأفكار المتلاحقة والمنسابة منها، في كل مفصل هناك الجديد دوماً، وتناصات مع هذه الرواية أو تلك وإحالات إلى أطروحة أدبية هنا أو هناك، وما يذكرك بحزمة من الأفلام .
تبدأ الرواية بشخص هارب من شيء مجهول أو جريمة لا يفصح عنها السرد، هو ملاحق، يذهب للعيش في جزيرة معزولة يتجنبها الناس، لا يوجد فيها إلا قصر وكنيسة وحمام سباحة، وأماكن أسفل الأرض تتضمن أقبية وسراديب تحتوي على الآلاف من الكتب والمرايا واختراع موريل الذي لن نتعرف إليه إلا قرب نهاية الرواية، تعيش على الجزيرة أيضاً الضفادع والكائنات التي تثير اشمئزاز البطل كثيراً، فجأة تظهر امرأة يدعوها كاتب التقرير، وهو صوت آخر يسرد حكاية البطل، ب”فوستين”، وهناك صوت ثالث يطلق عليه المؤلف “الناشر”، يراقب البطل فوستين من دون أن تراه وهي تستحم، يقع في غرامها، في أحد الأيام تأتي وفي صحبتها مجموعة من الرجال والناس، يشعر هو بالخوف والانزعاج والغيرة، يحاول أن يقترب منها ويتحدث إليها، ولكنها لا تراه ولا يقدر هو على التكلم معها .
يظل البطل يراقب فوستين حتى يكتشف أن حبيبها موريل اخترع آلة عجيبة توثق لحياة معشوقته مع أصدقائها، وأن ما رآه البطل مجرد صور متحركة لأشخاص موتى، وفي حوار يعصف بكل قواعد اللعبة وما نظن أننا نفهمه ونقترب من الإمساك به، تخرج الشخصيات من الصور لترفض ما يفعله موريل، ولكن عندما يقترب البطل من فوستين يتكرر له ما حدث سابقاً . تعود الجزيرة إلى سابق هدوئها القاتل، لنعيش مع البطل لحظات الختام وهو يعاني الخوف والوحدة وربما عدم فهم كل هذا الغموض والتعقيد اللذين يحيطان به، ولكن ما يعزيه هو أنه أحب فوستين . . المرأة الجميلة التي تستحق كل هذه التجربة .
في الرواية روح ستيفنسون وانعكاسات ستتردد لاحقاً في الأدب الوجودي حيث أفكار العزلة والسقوط والضيق بالآخرين، ولهاث وراء ثيمة المراقبة بكل أبعادها وتوظيفاتها وحيرتنا مع البطل المراقب الذي يكتشف أنه هو نفسه يُراقب في لعبة لا يفهم تفصيلاتها، ومشاهد ستصور فيما بعد مع موتى فيلم “The others” وحالمي “Inception” ومجانين “Shutter island”، وترديد لمفهوم “الدخلاء” الذي نسمعه في الكثير من الحوارات السينمائية، هؤلاء الذين اقتحموا الجزيرة الهادئة حيث المكان يراوح بين الطهرانية: الهارب الذي ينشد حياة جديدة ويقع في حب امراة، واللعنة الناتجة عن كل الألغاز المحيطة به، هل هؤلاء الدخلاء كائنات فضائية؟، هل يعيش البطل في حلم؟ لماذا لا يوجد أحد في الجزيرة؟ مع إحالات إلى مرض أو وباء حل بالجزيرة قبل سنوات عدة، وسنلمح ملاحظات حول آفاق الصورة المتحركة والفوتوغرافية، حيث ظلال من سوزان سونتاغ ورولان بارت وغيرهما .
وفي النهاية يتوسل البطل إلى “كاتب التقرير” ليجعل ماكينة موريل تبحث عنه وعن فوستين لتجمعهما في صورة واحدة، أن يشتركا في الصورة وفق هذه الشخصية التي تتحدث إلى مؤلفها معناه الدخول في وعي المعشوقة وهو “الفعل الوحيد الرحيم في الحياة” .
في “اختراع موريل” صوت سردي واحد ولكن ينتاب القارىء شعوراً قوياً بتعدد الأصوات، وشعوراً آخر بتعدد المؤلفين لهذه “النوفيلا”، وبرغم تركيز الحكي على بطل واحد، يتحدث مباشرة عن آلامه وأوهامه، إلا أن ثقله لا وقع له، حيث نعرف منذ البداية أننا في متاهة أو لغز معرفي وفلسفي تدارسه بيوي في جلسة مجنونة مع صديقه بورخيس الذي اشترك معه في أكثر من خمسة كتب، متاهة البحث الدائم، متاهة المفارقات التي تحيط بنا بغلظة أو بخفة حسب الوعي وقبولنا لشروط اللعبة، ولذلك لا استرسال كبير لا يحتمله حجم الرواية أو طبيعة فكرتها في العزف على ثيمة محددة: البطل مطارد من مجهول، فوستين تخلب عقله، الجزيرة المنعزلة والغامضة . . الخ حيث تشكل كل ثيمة مفردة روايات عدة، تدهش المتلقي، وبتشابك الثيمات وتداخلها وإبداع خطوط وهمية تفصل بينها يكون المؤلف، “المؤلفون”، قد قذف بنا داخل تلك المتاهة، لنسأل ونلح ونحاول الفهم ونتحول إلى مطاردين بأسئلة السرد، هل نتسرع ونقول إن الحب نجاة من هذه المتاهة أو عزاء لمن يحاول فهم مداخلها ودروبها ومخارجها ويفشل؟ ولكن فوستين نفسها لا توجد في الحقيقة، هي داخل الصورة، المرأة المتخيلة أو المثال الذي تشارك الرجل الأول أسئلته أو وحدته/ سقوطه وأوهامه، في مكان لا يوجد فيه إلا قصر ومسبح وكنيسة، ولا نكاد ننتهي من الرواية حتى يتزايد الشعور بالمتاهة التي نستعيدها بالرغم منا “وصلت إلى الجزيرة ببوصلة لا أفقه فيها شيئاً، ودونما اتجاهات ولا قبعة، ومريضاً أهلوس” .
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.