مراجعة فيلم: قتلة زهرة القمر، للمخرج مارتن سكورسيزي
في عشرينيات القرن الماضي، وفترة شبه مستقرة نسبيا بين الأمريكان والأمريكيين الأصليين، يتم استبدال الحرب بنوع آخر من حرب العصابات .. وهي حرب عصابات مستترة، وممنهجة، وموجهة بالكامل ضد الهنود الحمر، من أجل استنزاف حيواتهم وأموالهم والاستيلاء عليها، ما أدى إلى حدوث إبادة عرقية تنكشف عنها مؤامرة الفيلم المستوحي من أحداث حقيقية استنادا إلى مؤلف بنفس الاسم للكاتب الصحفي ديفيد غران.
أسلوب التصفية هذا، شائع جدا في المنظمات الإجرامية الأمريكية العاملة على إدارة الجريمة المنظمة في أمريكا، والمشهورة عالميا باسم جماعات (المافيا).
هذا فيلم مافيا آخر (وليس فيلم غربي كما يجري تصديره)، فيلم مافيا تقليدي، مغرق في تقليديته ليس بالنظر إلى أفلام المافيا عموما، بل وحتى بالمقارنة مع أفلام مارتن سكورسيزي نفسه. وهو المخرج العظيم، الذي تبنى المدينة الفاسدة موضوعا ومحورا لأغلب أفلامه، وكان أصلح المخرجين لتناول قصة جوثام، ولكنه لم يفعل، ربما لأن نولان سبقه إلى ذلك متأثرا به. وكان أول أفلامه الكبيرة بعنوان موحي هو الشوارع الوضيعة 1973، حصلت الثورة بعدها بثلاث أفلام مع فيلم سائق التاكسي 1976، وما يشبه إعلان عن الموجة الأمريكية الجديدة في السينما، مدرسة متأثرة بنظيرتها الفرنسية (التي كانت متأثرة سابقا بمدرسة النوار الأمريكية فيما يشبه الأخذ والرد). الثور الهائج 1980 ولازلنا هنا مع أفلامه الجرائمية متغافلين عمدا عن أعماله الدرامية من تصنيفات أخرى. بعدها بعامين قدم ملك الكوميديا 1982 الذي كان ملهما لفيلم الجوكر بطولة خواكين. ومنذ ذاك استلزم الأمر منه مرور ما يقرب من عقد قبل أن يصنع أسطورته الخاصة بفيلم الرفقة الطيبة 1990، والذي تحول إلى ثلاثية سينمائية على غرار الأب الروحي رائعة كوبولا، فاتبعه بفيلم كازينو 1995، وختم الثلاثية بفيلم الأيرلندي 2019. خلال سنوات التسعينات والألفية، وعلى نحو أقل أهمية قدم لنا أفلام جرائمية من العيار الثقيل، وغزارة إنتاج يُحسد عليها؛ مذنب بالاشتباه 1991، خليج الخوف 1991، عصابات نيويورك 2002، المغادرون 2006، جزيرة المصراع 2010، ذئب وول ستريت 2013. ومنذ ذاك، وسكورسيزي ذو الرصيد السينمائي المقدر بنحو 70 فيلما ما بين روائي وتسجيلي وقصير، يخرج لنا فيلما روائيا واحدا جيدا كل ثلاث سنوات.
يمكن عد (قتلة زهرة القمر) واحد من أعمال سكورسيزي الجيدة، متبعا نفس طريقته التقليدية في عرض أفلامه داخل إيقاع طويل وبطيء، وبمجموعة من الإطارات الواسعة ينتقل بينها بتحويلات تحريرية (مونتاجية) لا تحمل أي لفتة نظر ذات أهمية، عدا تلك الاقتطاعات والإدخالات الوثائقية بالأبيض والأسود ممتزجة ببعض المشاهد التمثيلية. وسكورسيزي لا يركز على الأحداث بقدر محاولته الإحاطة بشخصيات فيلمه وإظهار دواخلها.
أحداث الفيلم موزعة على ثلاثة فصول (أركات) رئيسية مثل بداية ووسط ونهاية. أما البداية فهي وصول ابن اخ إلى القرية للانضمام إلى عائلته والحصول على عمل والاستقرار.
الفصل الثاني، وهو الأطول، عبارة عن عرض طويل ومرهق لسلسلة من جرائم القتل الممنهجة التي تتصيد أفراد عشيرة الأوساج إحدى العشائر الناجية من حروب العصابات بين رعاة البقر المشهورة في الغرب الأمريكي.
الفصل الثالث، وهو أجمل الفصول، وأكثرها تلاعبا بأعصاب المشاهد، من خلال حيرة المشاهد حول ما يحدث، وخاصة في توقه للحصول على ثلاث إجابات؛ الأول هل ستنجو مولي؟ بأداء أوسكاري من ليلي وإن لم تنل الجائزة. والسؤال الثاني هل زوجها يحبها؟ وهو السؤال الذي يظل معلقا للنهاية. والسؤال الثالث هو ما هو دور الشرطة الفيدرالية ومتى ستتدخل؟.
هذا الفيلم هو التعاون السادس للمخرج مع ديكابريو، والتعاون العاشر مع روبرت دي نيرو (وليام هيل)، وقد جاء مخيبا للآمال بالنسبة لي وعلى نحو واسع جدا، بأداءات باهتة، وإن كانت ممتعة من دينيرو، وعلى نحو أقل إمتاعا من ليوناردو الذي لم يفلح في إقناعي أنه معتوه .. كنت استغرب كيف ينطلي عليه كل هذا، كما أن نظرات عينيه تشي بذكاء حقيقي، ويمكنك بسهولة المقارنة مع فورست غامب / توم هانكس، لتعي تماما ما أقصد. الطريف أن كاتب السيناريو للفيلم إريك روث هو نفسه كاتب السيناريو لـ فورست غامب، ولفيلم الحالة المحيرة لبنجامين بتن (ثلاث شخصيات حمقاء بعقليات طفولية).
بالإضافة إلى كون الفيلم، يترنح بين ثلاثة أسباب تدفعني إلى النفور من خطابه؛ 1-التركيز على استرجاع حقوق الهنود الحمر في وقت لسنا بحاجة إليه (خاصة وأن الفيلم كان مؤجل لعامين) كنوع من التهميش للقضية الفلسطينية، وأعتقد أن هذا ينتمي إلى نفس سياق الثقافة المركزية الأفريقية Afrocentrism. 2-لاحظ أنه لا يستحضر حقوق الهنود إلا في مرحلة تاريخية تأتي بعد اندماجهم بالكامل في المجتمع الأمريكي، واعترافهم بالحكومة الأمريكية، وبعد تحولهم إلى (مدنيين) بحسب المفهوم الأمريكي. 3-البطولة الحقيقة تذهب إلى مكتب الحكومة الفيدرالية الذي تأسس حديثا آنذاك، وأثبت جدواه (وهو مكتب يمثل مؤسسة أمريكية بامتياز).
على الرغم من كل هذه النقديات، ومن محاولة تصدير الفيلم كنوع من عودة المخرجين العظام المؤسسين للسينما الأمريكية كما نعرفها اليوم، إلا أنه وفي ظل الهبوط المتردي للمستوى الفني والسينمائي في العالم كله، يعد الفيلم على طوله (ثلاث ساعات ونص) وجبة سينمائية ممتعة يمكنك هضمها في جلسة واحدة (هكذا فعلت أنا).
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.