المهدي روائي سيء، ولكنه قاص جيد، والقصة هي أول محطة على طريق الرواية الناجحة، أو هذا تفسيري للأمر برمته. فأحمد صلاح المهدي مترجم بارع جدا، يعرف كيف يحكي حكاية نقلها إلى العربية من نص مكتوب بغير العربية. هو كناقل من نوع آخر يجيد حكي قصة أو أن يحكي حولها أو حولياتها فيشدنا إلى قراءة هذه القصة. يعمل هذا بصفته مقدما أو محررا أو ناقدا للعمل الذي يقدمه أو يحرره أو يترجمه. ولكن لا تنفلت القصة منه وهو يحكيها لأنها محكومة بنطاق يربط أجزاءها إلى بعضها، وهو النطاق أو الإطار الذي وضعه المؤلف الأصلي نفسه، ولا يزيد دور المهدي وهو الحكاء البارع عن مجرد وسيط مترجم أو ناقل للنص الأصلي. أما إذا كانت الحكاية من كتابته هو، فشل في الإمساك بتلابيب حبكتها أو كيف يصفها. هذا واضح في عمله بالخيال العلمي، لما قدم الشتاء الأسود، وتبعها بقصة عن ملاذ، المدينة الوحيدة الباقية في مصر والصامدة بعد ضد الشتاء الأسود. لاحقت اكتشفت أن ترتيب صدور الروايتان معكوس، ملاذ جاءت قبل الشتاء الأسود، ما يشي ببراعة الكاتب رغم مقدار العيوب التي اصدمت بها أثناء قراءة هذا النص.
وما هي عيوب العمل؟
ببساطة، أنا لا أشعر لا بالبرد ولا بالظلام، ولا بالعجز والخوف الذي ينبغي أن يسيطر على الشخصيات، ويجب أن تشعر به، وإلا لن تكون رواية كارثية تحكي عن انتشار الظلمات.
ولا يتغاضى أحمد عن ذكر الكثير من التفاصيل المملة مقابل تركه أو إهماله للتفاصيل المهمة، وهو نفس الخطأ الذي يقع فيه في روايتين من أدب الفانتازيا، وهو الذي لم ينجح فيهما، كما لم ينجح في روايتيه بأدب الخيال العلمي؛ البرديات الإغريقية والمرآة المهجورة. ولكن النجاح الذي أنشده هو مستوى أعلى من النجاح المتحقق بالفعل. أكثر جانب ممتع في العمل، أنني بعد لازلت أذكر تفاصيله، ربما كان هذا هو نتيجة العمل بدروس الآباء الكبار في النقد، وتوصياتهم بضرورة غنى العمل بالتفاصيل، أو التفصيل في كل تفصيلة، وقد يؤدي ذلك، إلى ملل القارئ بالطبع، لكنه مع ذلك، يخلق في ذهنه أجواء العالم الذي يقرأ فيه متابعا مصائر شخصياته. هنا، ربما أصاب الكاتب في وصف وصنع المزاج العام لرواية مصرية أصيلة وهي نقطة مهمة نعود إليها لاحقا، في مراجعتنا للشتاء الأسود، بينما نأمل هنا أن نغفل عن بعض عيوب في الوصف جاءت كمرفق طبيعي بالنسبة للتجربة الروائية الأولى لصاحبها!.
القصة ليست بالضرورة أسهل من الرواية، ولكن لها مقدرة أبرع في تلافي أخطاء الرواية، لهذا جاءت ريم رواية قصيرة من أدب الفانتازيا مكتملة الأركان. وليس موضوعنا الحديث عنها هنا، وإن كان أحمد المهدي متمسك أكثر بعوالم ملاذ التي يحاول أن يبنيها، وهذا هو الجزء الوحيد الجيد بدون أي جدل زائد في الأدب الديستوبي الذي يقدمه المهدي لنا. لقد حقق نجاحا لا بأس به، على مستوى إرضاء رغبة القراء وتعطشهم لهذا الأدب ونهمهم لنصوص عربية تمتعهم كما تفعل تلك الغربية، وعلى مستوى التمسك بمنطقيات أدب الخيال العلمي عموما، والديستوبي خصوصا. فراعى بعض تفاصيل وإن جاءت على حساب تفاصيل أخرى، ولكن النهاية تعد بعدم وجود نهاية بعد لعالمه هذا، بدون أن تبدوا أي رواية ثالثة كأنها مقحمة إلى القصة الأصلية أو القصة الثانية، ولتكن قصة ثالثة لحالها. وآمل أن يتجنب فيها أي من أخطاءه التي وقع فيها. وقد نجح في ذلك كثيرا بقصة قصيرة حملت عنوان الشق. ما يعني بضرورة وجود جزء ثالث، آمل أنه الأخير، يجب فيه ما سبقه، ومتمم لما أنجزه في عالم الظلام الخاص به.
العمل مقتبس جزئيا من رواية (في ممر الفئران) لأحمد خالد توفيق والتي صدرت في نفس عام صدور الشتاء الأسود في 2016، وكلاهما مقتبس من سلسلة طويلة من السيناريوهات المعروفة لدى الغرب حول حلول الظلام ومقدم الشتاء. استطاع أحمد المهدي، أولا أن ينقل هذا العالم وعلى نحو أصيل إلى قراء العربية، مستغلا ظروفا قومية وعالمية ساهمت في تفتح القارئ العربي وإقباله على هذا النوع من النصوص إنجليزية أو عربية كانت، وقبوله بالظروف الخيالية الجديدة التي يخلقها لدى ذهن المتلقي بعيدا عن نمطيات الواقعية والواقعية الاشتراكية التي لازالت آثارها قائمة منذ عشرينات القرن الماضي.
وثانيا، إيقاع الرواية، كان سريع الوقع تتقافز كلماته وأحداثه بين فصول الرواية الأربعة عشر، فجاء الفصل الأول في تمهيد حسن وبارع يدخلك إلى أجواء العالم بسرعة، نفس المقدمة الروائية أعاد بها المهدي تقديم شخصية بطل رواية (لعنة جانب التل) مستندا إلى تيمة ونموذج (الذئب الوحيد) من قاموس الأبطال.
2-حي الرماد، ومن الاسم المعبر يكتشف القارئ أنه أصبح في داخل هذا العالم، المضيء، وليس المظلم للأسف، في ذهن المتلقي، لأن الكاتب كما ذكرنا، يغفل ذكر التفاصيل المتعلقة بعموم الظلام وكيفية تعايش الناس في ظل هذه الظروف الجديدة إلا فيما ندر، بينما يركز على تفاصيل ديستوبية تنتمي إلى نمطيات أدب ما بعد المحرقة.
3-العاصفة، وتظهر شخصية فتاة، تُظهِر لنا حجم النمطية المريعة التي أسقط الكاتب نفسه بها، فطالما هناك بطل مقاتل، يلزمه بطلة مقاتل؛ قاسم وجهاد!.
4-غريب من أبيدوس، هي مدينة يرجع تاريخها إلى ما قبل قبل الكارثة، وكلمة (قبل) مكررة مرتين، يدرك القارئ أن المدينة المقصود من عهد الفراعنة، سواء زارها أو لم يفعل، أبيدوس مدينة تقع في جنوب البلاد (صعيد مصر، تحديدا سوهاج)، ولا يبدوا مستغربا أن صعيد مصر بمنأى عن القصف الحاصل سابقا دون ذكر ذلك، لأن الصعيد واقع في عمق مصر، ناهيك عن صمود هذه الهياكل الحجرية ضد أي أهوال. ويرسم الكاتب حدودا واضحة بين المدينتين المتباعدتين، ملاذ في الشمال، والتي شكلت ملاذا للناجين من تبعات الكارثة، ولا أعرف بالضبط أين تقع على الخارطة، ولكن قد تكون في نقطة ما بين القاهرة والصعيد أو طريق إسكندرية الصحراوي. وبين أبيدوس التي لا تحتاج لأن يرسم معالمها هي مرسومة وراسخة بالفعل منذ آلاف السنين (قيل أن الآلهة هم من بنوها). وهنا ينجح المهدي في أن ينهل من التراث المعماري المصري قديمه وحديثه ليبني مدنه. ويطرق أكثر من مرة تلك المفارقة بين مدينة الرماد بسبب حداثة مبانيها، ومدينة الآلهة أبيدوس التي لم تنهار برغم كل شيء.
5-خربة الجن، لماذا كانت الأحصنة بدون رفقة؟
6-ظلال الماضي، يحكي الكاتب عن انقلاب في صفوف الصيادين، واستبدادهم بالحكم من منطلق أنهم خط الدفاع الأول والحرس الوحيدين للمدينة الوحيدة، في الصفحة 61، تتمثل الخيوط يحركها راكان في استعمال صيادين موالين له، وتأليب الصيادين الموالين لغريمه، والبقية طامعين في أموال وخلافه.
7-أبيدوس، عودة إلى أبيدوس، ومحاولة من الكاتب لإحياء تراث عتيق وإلباسه ثوب من الخيال العلمي، مثل محاولات رواد هذا النوع على مستوى الأدب والسينما، ليس آخرها محاولة فرانسيس فورد كوبولا في فيلمه الجديد وربما الأخير. استعمل الكاتب أسماء ذات رنين فرعوني واضح للأذن، أبرزها هو الملك نخاو سيد هذه المدينة، والأمير سخموي ولي العهد. بالإضافة إلى استدعاء أسماء الآلهة الفرعونية في حوار أو آخر (بتاح، سخمت، نفرتوم). وبالطبع الشرير الرئيسي سيا، الذي يظهر لي كمحاكاة لجنون الدكتور ستون من مانجا يابانية مشهورة بنفس الاسم. والكاهن توت-آنوب الذي لم يكون ظهوره مقنعا.
8-في معكسر المنبوذين، نستكشف المهارات القتالية لقاسم وحبيبته جهاد وأباها مهاب.
9-مقبرة الماضي، عودة سيا للتنقيب عن كنوز ترجع إلى الماضي القريب (ما قبل الكارثة) لمحاولة استرجاع بعض الآليات الحربية التي كانت سائدة آنذاك، ومن ذلك، وفوق الأسلحة، كانت الدبابات والمدرعات!. أيضا نستكشف بعض المهارات القتالية لسيا، أي أنه عبقري ومقاتل. يعيب هذا الفصل، والفصول اللاحقة، سرعة غير منطقية من قبل كلا الطرفين؛ سيا وقاسم، في التعلم على هذه الآلات، وكيفية استعمالها.
10-صديق قديم، يحاول المؤلف، وإن لم ينجح سوى على نحو طفيف، في رسم نوع من المحيط الاجتماعي الذي تكثر فيه الهمسات عن حرب قادمة، إنه يؤسس لفكرة كون المدينتان (ملاذ وأبيدوس) هما مملكتان من القرون الوسطى وبينهما حرب وشيكة. في نفس الفصل، نقاش سريع حول الشبه الواضح بين العلم والسحر. كما نتتبع رحلة مهاب ورجاله إلى ملاذ لمقابلة راكان (الصديق القديم) وإن كنت شعرت بأن هناك قفزة زمنية بسيطة في سرعة وصولهم.
11-منجم الحنش، اعترض تماما على فكرة (خلايا الطاقة) التي ظهرت من العدم لسد ثغرة كبيرة في الحبكة، وهي غياب البعد العلمي الصرف بكل ما يحمله من تعقيد، وبكل ما يحمله من رصانة علمية وتسلسل منطقي، عن مسألة تسيير وتوظيف فكرة (إعادة إحياء آلات قديمة من مخلفات الحرب). ما زاد وغطى، هي المقدرات العلمية (صنع جهاز يرصد الطاقة) الغير ممهد لها لقاسم، بالإضافة إلى مهاراته القتالية (رغم أنه يتبدى لي بطلا ضعيفا).
12-طبول الحرب، يبدوا أن مهارات قاسم العلمية / السحرية لن تنتهي، فصنع سيوفا قادرة على قطع واختراق الفولاذ!. وبعد عثوره على خلية الطاقة، يستعملها لصنع آلة قادرة على صدّ آلة. وفي الآخر يقول لك قاسم لم أصنعه وحدي، بل ساعدني أويس وفلان وعلان (يا سلام على تواضع العظماء!). ما عدا ذلك، كان وصفا مستعادا من القرون الوسطى لحرب بين فريقين، بدون زيادة أو نقصان، بغض النظر عن كفة من هي التي رجحت.
13-عزيمة لا تنكسر، هنا، يوجد معركة للدبابات، هي مذهلة، ولكن يعتريني الشك حول المدرسة العسكرية التي تعلم بها قاسم كل فنون المناورة تلك!. هو أفلح في الكر والفر، ولكن خطة الاستدراج إلى فخ، هي واحدة من أقدم المخططات الحربية في التاريخ ولا تبدوا لي منطقة هنا، بل تظهر لي كأنها عبيطة وسهلة. وبالنسبة لتضحية أويس، كنت متوقعها من بدري (مشد قديم قوي). وأيضا القتال الأخير بالسيوف بين محاربين من القرون الوسطى، هو مشهد أقدم بالطبع. هناك ثغرة أخرى عنيفة في خطة هروب سيا لما كشف خطة قاسم، وهي، لماذا لم ينسحب بآلته، متسللا ومستترا بخضام المعركة، حتى يضمن لنفسه تذكرة فائزة أخيرة في الحرب، وربما أنا المخطئ في تقديري هنا. وبالطبع، نفهم أن قاسم فائز، لأنه سيفه هو الأبتر.
14-البعث، البكاء على خسائر الحرب، النزال الأخير، وبعد لا أثر للظلام!.
بعض ملاحظات على الأسلوب مع ذكر أمثلة من النص
- “قالت كلماتها الأخيرة بحنان وعاطفة جارفة، فهي لم تنجب أبناء ولذلك أحبت قاسم كأنه ابنها” [ص 18].
تفسير عاطفي مبكر وسريع وواضح أكثر من اللازم لمشاعر الأم، ولا يخلو من لهجة تقريرية، من المفترض أن نشعر نحن بمقدار حبها دون الحاجة لتفسير طبيعة مشاعرها تجاه هذا (الابن).
- تلفت قاسم حوله باحثا عن مأوى، لم يكن أمامه إلا تلك المباني القديمة المرتفعة من عهد ما قبل الكارثة، وبعد فترة من التردد توجه قاسم ناحية أقرب المباني إليه وهو يرفع يده أمام عيناه لحمايته من الرياح الشديدة والأمطار التي ترتطم بجسده كحبات الرمال القاسية. [ص 28].
إلى آخر الوصف، وفيه توصيف دقيق لظروف البناء، والأجواء (ظروف الجوّ)، بل والحالة البدنية لبطلنا قاسم، ما يلفت الإنتباه إلى كون الكاتب قادر بالفعل، على تهيئة عالمه على أفضل ما يكون التصور، لو أمهل لنفسه بعض الوقت وقليل من المراجعة فحسب. لاحقا ينجح الكاتب في جعلنا نشعر أكثر بـ (الأجواء الداخلية) لبطلنا، مثل حالة التيه التي اعترته بدون قصد أثناء مطاردته لغزال فابتعد عن ملاذ (وعثر على غزال بشرية حسناء).
- كان الاسم مألوف لقاسم، فهو يتردد بين الأطلال وعبر الخرائب، ولا يوجد من يجهله في ملاذ، مُهاب زعيم المنبوذين، صاحب العداء الشهير مع الصيادين. [ص 54].
هنا يحاول الكاتب أن يرسم هالات أسطورية حول شخصيات معينة، مثل قاسم، بن عمار، بن الشيخ محمود، ومثل الزعيم راكان زعيم الصيادين، هناك في الصفحات من الـ 50 إلى 55 خطأ إملائي أو مطبعي فظيع، جعل النص يظهر الحديث حول مهاب على أنه راكان، فأصبح مهاب زعيم الصيادين، ولكننا نعرف أنه قائد المتمردين / المنبوذين. هذه لمسة سياسية طبيعية على أية حال. أضيف أنه ومنذ البداية وأنا أتوقع أن أبو قاسم صياد، وربما كان الكاتب يعمد إلى ذلك بالفعل.
- وبمنتصف الوادي توجد بحيرة مياه زرقاء أثار مرآها القشعريرة في جسده، وكانت ألوان السماء الحمراء وأشعة الشمس الأخيرة تنعكس عليها ببريق جميل، فأحس أن هذا الوادي هو أجمل شيء يراه في حياته، لقد كانت واحة في قلب الصحراء.
بغض النظر عن تلك القشعريرة التي لا أحبها لأنه تشبه كلمة جاهزة بها ما بها من وصف لشعور ممض يسري على الجسد، أو الجلد، أو الظهر، فإن وجود الشمس هنا هو تأكيد لتلاشي الظلام بالطبع (بل ويتغنى البطل بجمال المنظر!).
- ومن آن لآخر يتبدى لهم بعض القرى الصغيرة، أو القبائل البدائية، التي تنظر ناحيتهم بمزيج من الفضول والحذر والتحفز.
تعبير جيد راعى فيه المزاج العام الذي تمتزج فيه مجموعة من المشاعر المختلفة، فقائمة العواطف الفرعية لدى البشر مزدحمة جدا ما يصعب معه انتقاء الباقة المناسبة للموقف، حتى لدى من يمرّ بهذه التجربة نفسها. الفقرة من ص 65.
- أن هذا الوحش قد أحس بغريزته الحيوانية أن جهاد هي أضعف الجمع، فقز برشاقة ناحيتها وصرخت هي في فزع [ص 81].
بتوع حقوق المرأة لن يعجبهم هذا الكلام، رغم ما فيه من واقعية، وما بعد ذلك وصف جيد للمعركة مع فهد ضاري.
- -فعلتها يا فتى! -ولكن الأمر كلفنا اثنين من أصدقائنا! لقد دفعا حياتها إيمانا بقضيتك، وعليك ألا تجعل تضحيتهما تذهب هباء! [ص 108]. ناهيك عن علامة التعجب آخر كل عبارة منطوقة، التي لا أفهم ما هي وظيفتها هنا، الحوار كله بدا لي سخيفا، وأنا أصلا لا أتعاطف مع أي شخصيات، لا أعرف أسمائها، ولم أتعايش معها، هي مجرد شخصيات (ثانوية) جدا في الحبكة.
- ومدافعه تضرب ذات اليمين وذات اليسار
حسبت هذا النوع من العبارات انقرض مع السلف، ص 124.
- أداة (لكن) ليست في محلها في كل موضع داخل متن الرواية.
- يعقد حاجبيه، نبيل فاروق نجح في أن يكرّهنا بهذه الجملة.
- هل صوت الأفعى هسيس أم فحيح؟.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.