الرعب

الشرخ

الشرخ
قصة قصيرة من أدب الخيال العلمي
تأليف: أحمد صلاح المهدي – Ahmed Al-Mahdi
كان الثلج يتساقط من السماء، ثلجٌ رمادي كئيب، ثلجٌ ورماد.
اللعنة! لقد حدثت الكارثة منذ وقتٍ بعيد، لمَ لا يتوقف هذا الرماد اللعين عن التساقط؟ منذ متى حدثت؟ لا أستطيع أن أتذكر، لقد صارت الأيام طويلة ومتشابهة، مجرد محاولات يائسة للنجاة والبقاء. “اللعنة!”، قلتها مجددًا بصوتٍ مسموع هذه المرة وأنا أخطو بحذائي الثقيل على طبقات الرماد الهشة، تاركًا خطًّا طويلًا من آثار الأقدام ورائي.
“ما الأمر؟” قالها صديقي وهو يسير بجواري، كنا بالنهار، أعرف أننا بالنهار لأن الغيوم الداكنة كان يتسلل عبرها ضوءٌ شاحبٌ، كأنما هي ليلة مكتمل قمرها في الأيام الخوالي، وعلى هذا الضوء الشاحب رأيته، يرتدي قناع غاز يسمح له بالتنفس، بالكاد يمكنني رؤية عينيه من وراء عدسات القناع الدائرية السميكة، كان يبدو كحشرة ما نسيت اسمها، حشرة بعينين كبيرتين، ترى ماذا كان اسمها؟ فشلت في محاولة التذكر، أدركت أن شكلي يبدو غريبًا مثله لأنني أرتدي القناع ذاته.
“ما الأمر؟” كررها مرةً أخرى في إلحاح، فزفرت في عمق، ثم سألته: “لمَ لا يتوقف هذا الرماد اللعين عن التساقط؟”.
هز كتفيه دون أن يجيبني، كنت أعرف أنه لن يجيب، لا أحد يملك الإجابة حقًّا، أو لعل هناك من يملكها في مكانٍ ما، في برجٍ عاجي ما في هذا العالم قد نجا من الكارثة، ولكنه لن يسمعنا، ولن يجيبنا. اللعنة عليه هو أيضًا!
كنت جائعًا، وكان صديقي جائعًا أيضًا، لم نأكل شيئًا منذ يوم، أم لعلهما يومان؟ لا أعرف حقًّا، ما أعرفه هو أنني أتضور جوعًا، وصديقي كذلك.
بينما أتلفت حولي بحثًا عن شيء يؤكل، وقع بصري على شجرة يابسة، لقد أمات الرماد أوراقها وأغصانها، كانت تقف كهيكلٍ عظمي، كشاهد قبرٍ على حياةٍ مضت. خفضت بصري لأسفل لعلني أجد شيئًا، وهنالك على الأرض رأيتها، زهرةً حمراءَ متفتحة، قد نبتت بجوار جذع الشجرة اليابسة، من بين الرماد والثلج، كأنما هي رأس غريق تبرز من أسفل الموج العاتي، تكافح لاستنشاق الهواء.
هويت على ركبتيّ أمامها وعيناي تترقرقان بالدموع، أهناك أمل حقًّا؟ إن استطاعت هذه الزهرة النجاة فلربما أستطيع أنا أيضًا أن أنجو. اجتاحتني مشاعر جارفة ـ وأنا أنظر إلى تلك الزهرة ـ أنستني جوعي. مضت بضع لحظات وأنا جاثٍ أمامها على ركبتيّ كراهب متعبد في صومعته، ينظر إلى أيقونة إلهه.
أحس صديقي بما يحدث فاقترب مني، ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى أدرك إلام أنظر، فسألني بصوتٍ جائع: “هل ستأكل هذا الشيء؟”.
نظرت إليه باستنكار وقلت: “الزهرة؟ لا بالطبع”.
مد يديه ناحيتها بتلهف وقال: “إذن سآكلها أنا”.
أمسكتُ بمعصمه بقبضةٍ حديدية وقلت: “اتركها وشأنها”.
نظر إليَّ بدهشة وقال: “ماذا تعني؟”.
قلت له دون أن أفلت يده، بل أعتقد أنني اعتصرتها بقوةٍ أكبر: “أنت لا تفهم، هذه الزهرة تعني الأمل، يجب أن تنجو لكي ننجو نحن بدورنا”.
قال وهو يحاول انتزاع يده من أصابعي الحديدية: “هل جننت؟ إنها مجرد نبتة، ونحن لم نأكل منذ وقتٍ طويل. دعنا نتقاسمها”.
استطاع أخيرًا أن يحرر يده، واندفع ناحية الزهرة، فدفعته بكلتا يديّ بعيدًا عنها ليسقط متمرغًا في الثلج والرماد.
اعتدلت واقفًا وقد بسطت ذراعيّ وأدرت ظهري للزهرة، كأنما هي فتاة قد لاذت بي في إحدى الحارات المظلمة لأحميها من لصٍ يحاول الاعتداء عليها.
رأيت صديقي يعتدل من سقطته في غضب، ويقترب مني شاهرًا قبضته، ولكنه كان جائعًا وخائر القوى، كنت جائعًا مثله، ولكني لم أكن أنوي أن أتخلى عن الزهرة، عن الأمل!
تلقيت قبضته على ساعدي ثم هويت بقبضتي على وجهه، سمعت صوت تشقق زجاج، بينما هو يتراجع للوراء تحت تأثير ضربتي. كان مستعدًا للانقضاض مرةً أخرى، ولكني استللت خنجرًا من حزامي. لمع نصله في الضوء الخافت فرآه بوضوح وتجمد في موضعه. لم يكن يمتلك واحدًا لحسن الحظ فرفع يديه في استسلام وقال: “حسنًا، كما تشاء، لا أرغب في أكلها”.
رأيت شقًّا طويلًا على إحدى العدسات في قناعه من أثر لكمتي. أحسست بالذنب، ولكن هو من دفعني إلى هذا، لم يترك لي خيارًا.
طلبت منه أن يتراجع للوراء وأنا أمسك بخنجري محذرًا، ثم جثيت على ركبتي وأخرجت من حقيبة ظهري علبة بلاستيكية شفافة كنت أحتفظ فيها ببعض الطعام ولكنها الآن فارغة. وبينما أنا جاثٍ على الأرض وعيناي تنتقلان بين صديقي والزهرة، بدأت أحفر التربة حول الزهرة بخنجري، بحرصٍ شديد لكيلا أؤذيها. استطعت أخيرًا أن أنتزع كتلة من التربة، والزهرة بها، ثم وضعتها بحرص في العلبة البلاستيكية وأغلقت الغطاء. وأخيرًا استخدمت خنجري لأصنع عدة فتحات في غطاء العلبة البلاستيكي، لكي تتنفس الزهرة، لم أكن قادرًا على التأكد إن كانت ستنجو في هذا الجو الملوث، ولكنها نجت حتى الآن. ستنجو… سأحرص على هذا.
أكملنا أنا وصديقي رحلتنا بحثًا عن شيء نأكله، وأنا أحتضن بين ذراعيّ العلبة البلاستيكية التي تحوي الزهرة الحمراء. كنت متحفزًا في أي لحظة لأن تسرع يدي إلى الخنجر المعلق في حزامي إذا أبدى صديقي أي بادرة تهور. ولكنه بدا مستسلمًا، وحانقًا بسبب زجاج قناعه المكسور.
قلت له: “لا تحزن سنعثر على واحدٍ آخر”.
لم يجبني سوى بتمتمة مبهمة لم أفهم منها شيئًا، وحملت الرياح المحملة بالثلج والرماد تمتماته بعيدًا.
قلت له: “الرياح تشتد والبرودة تتزايد وقد يهطل المطر، يجب أن نبحث عن مأوى قبل حلول المساء وإلا سنتجمد ونهلك”.
لم يجبني ولكنه نظر إلى السماء نحو السحب الداكنة المتجمعة، لا شكَّ أنه قد أدرك أنني محق.
لمحنا من بعيد سياجًا قصيرًا، ومن ورائه بيتٌ مظلمٌ وصامتٌ لا أثر فيه للحياة. لم يكن هناك من صوت إلا باب السياج الحديدي الصدئ الذي يتأرجح مع الهواء مُصدرًا صوت صريرٍ خافت، كأنه أنين حزين، كأنما يرثى قاطني البيت الذين هجروه. الكثير من البيوت صارت مهجورة بعد الكارثة، ولكن هل هذا البيت مهجورٌ حقًّا؟
تبادلت وصديقي النظر من وراء أقنعة الغاز وقلت له: “هذا البيت يصلح كمأوى أثناء الليل”.
قال صديقي مترددًا: “ربما يوجد أحد بالبيت”.
قلت له: “سنقترب بحذر، وإذا أحسسنا بوجود أحد سنهرب على الفور، ولكن ربما نجد البيت خاويًا، وربما نعثر بداخله على بعض الطعام”.
قال صديقي: “وماء”.
قلت له: “ربما كلاهما، من يعرف؟”.
وهكذا سرنا بخطواتٍ حذرة نحو باب السياج الصدئ ودفعه صديقي لينفتح بينما أتشبث أنا بالعلبة البلاستيكية، كأنما أستمد من الزهرة القليل من الشجاعة والأمل.
وراء الباب كان هناك عددٌ من الأشجار الميتة، تتمايل أغصانها اليابسة مع الهواء الشديد، لا شك أنها قد كانت حديقة جميلة في يومٍ من الأيام. قلت لنفسي إن أغصانها ستصلح لإشعال النار كي نلوذ ببعض الدفء.
قطعنا دائرة حول البيت وأقدامنا تغوص في الثلج والرماد، نحاول اختلاس النظر من نوافذ الطابق الأرضي، ولكن لم يكن هناك سوى الظلام والصمت. عدنا مجددًا إلى مقدمة البيت ووقفنا أمام الباب الأمامي الخشبي. حاول صديقي دفعه لفتحه ولكنه كان مغلقًا بإحكام. كان بإمكاني أن أحاول فتح الباب باستخدام الخنجر، ولكن هذا يعني أن أضع الزهرة جانبًا أو أترك صديقي يحملها بدلًا مني، ولم أكن مستعدًا لفعل هذا. مددت يدي واستللت الخنجر فجفل صديقي ونظر إليّ، ولكني مددت إليه يدي بالخنجر وقلت له: “افتح الباب”.
بدا مندهشًا، ولكنه أمسك الخنجر بيدٍ ترتجف من المفاجأة والبرد. تراجعت عدة خطوات إلى الوراء، إذا حاول صديقي فعل شيء فسيكون أمامي فرصة لرد الفعل. ولكنه أولى اهتمامه إلى الباب، واضعًا نصل الخنجر حيث يوجد القفل، ثم دفعه إلى الداخل بحركة خبيرة، لقد فعلنا هذا عدة مرات بالفعل حتى الآن، ثم بدأ يدفع الباب بكتفه حتى انفتح أخيرًا.
سبقني صديقي إلى الداخل، وترددت أنا قليلًا في موضعي، ولكني لم أعد أحتمل البرد، كما أن فكرة هطول المطر في أي لحظة كانت مخيفة، وهكذا لحقت به إلى الداخل بخطواتٍ حذرة.
ما أن دلفت إلى البيت وأغلقت الباب ورائي حتى أحسست ببعض الدفء الذي كنت أفتقده كثيرًا. أغراني الدفء بأن أخلع قناع الغاز وأضعه في حقيبتي ففعل صديقي مثلي، ثم مددت يدي إليه لكي يعيد إليّ خنجري، وبعد لحظات من التردد أعاده لي. تلفتنا حولنا، كان المكان صامتًا كالقبر، لا أثر فيه لمخلوقٍ حي. على ضوء النهار الشاحب المتسلل من النوافذ فتشنا الطابق السفلي بحرص، لم يكن به بشر، ثم صعدنا إلى الطابق العلوي، الذي كان فارغًا بدوره، حيث كان هناك غرفة نوم بها فراش مبعثر يبدو أن أحدًا لم ينم عليه منذ وقتٍ طويل.
هبطت السلم مجددًا وتوجهت ناحية المطبخ، كان هناك صنبور مياه، بحوض صدئ جاف. خلعت القفاز من يدي اليمني بأسناني ثم دسسته في جيب معطفي، وأنا أمسك بالعلبة في يدي اليسرى. بأصابع مرتجفة فتحت صنبور المياه، فسمعت صوت فحيح الهواء، أسرعت واضعًا يدي اليمنى أسفل الصنبور. لم يحدث شيء، ثم تساقطت قطرات مياه قليلة تجمعت في كفي، قبل أن ينقطع الماء تمامًا. مددت يدي ناحية العلبة وأفرغت قطرات المياه عبر ثقوب الغطاء البلاستيكي.
سمعت صديقي يصيح من ورائي: “ماذا تفعل بحق الجحيم؟”.
قلت له بهدوء: “الزهرة بحاجة إلى بعض المياه كي تنجو”.
قال بغضب: “نحن بحاجة إلى المياه أكثر من هذه النبتة اللعينة!”.
لمَ لا يستطيع أن يفهم؟ يجب أن تنجو الزهرة، إنها الأمل الأخير.
قلت له: “هذه القطرات لن تكفي رجلًا بالغًا مثلك، ولكنها ستكفي الزهرة. على كل حال ربما تمطر اليوم، وهكذا سنحصل على بعض الماء، لا تقلق”.
قال وهو يلوح بذراعيه في غيظ: “أتقصد هذا المطر المختلط بالرماد والإشعاع؟ يا لها من فكرة عبقرية”.
قلت له محاولًا تهدئته: “سنجد طريقة لتنقيته، والآن دعنا نحضر بعض الأغصان من الأشجار اليابسة بالخارج قبل حلول الليل”.
خرجنا مجددًا من البيت وبدأنا نكسر بعض الأفرع الجافة من الأشجار، كانت ظلمة النهار الشاحبة آخذة في الاختفاء حتى حل المساء وعادت الظلمة المطبقة، ظلمة بلا نجوم أو قمر. كانت الرياح الشديدة تعوي بالخارج وتلطم البيت كأنها تحتج على كونه لا يزال قائمًا بعد الكارثة وتريد إسقاطه، ولكنها لم تمطر في هذا اليوم.
في تلك الأثناء كنا في بهو البيت نكوم الأغصان ثم أخرج صديقي قداحة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأشعل بها الحطب فتراقصت ألسنة اللهب، وسرعان ما حل الدفء على المكان. تمددت على الأرض بجوار النار، واضعا حقيبتي أسفل رأسي كوسادة، والخنجر أسفلها، ثم احتضنت العلبة التي تحمل الزهرة بين ذراعيّ. ضحك صديقي بضعف ثم قال بسخرية: “سنموت بسبب نبتتك اللعينة”.
أردت أن أجيبه ولكن النوم كان أسرع إلى عقلي، فغرقت في ظلمة النوم الرحيمة. لم أعرف كم مضى عليَّ نائمًا، ولكني استيقظت فجأة وأنا أشعر بالبرد، ظننت في البداية أن الباب قد فتح بسبب الرياح، وأن الهواء البارد المتسلل إلى الداخل هو الذي أيقظني. تبًّا! لم نتيقن من أننا قد أحكمنا إغلاق الباب.
أحسست بحركة بجواري، أهو صديقي؟ أيحاول أخذ الزهرة مني مجددًا؟ مددت يدي أسفل رأسي بحرص وقبضت بأصابعي على مقبض الخنجر ثم اعتدلت في جلستي على الفور مشهرًا الخنجر أمام وجهي، كانت النار قد خمدت ولم يتبقَّ سوى جذوة تلقي بضوء باهت، وعلى هذا الضوء رأيته واقفًا أمام عينيّ، يرتدي قناع الغاز، وقد تراجع خطوة للوراء على إثر حركتي المفاجئة. أدركت حينها أنه يمسك في يده مسدسًا، كما أدركت أنه ليس صديقي، كان زجاج قناع الغاز الذي يرتديه سليمًا وليس مشروخًا.
نظرت إلى جانبي نظرة خاطفة فرأيت صديقي لا يزال نائمًا. التفت إلى الرجل وقلت: “ماذا تريد؟”.
هل جذبه ضوء النار إلى هنا؟ أم لعلها رائحة الدخان؟
قال الرجل وهو يصوب مسدسه ناحيتي: “طعام؟ ماء؟”.
قلت له دون أخفض خنجري رغم عدم جدواه أمام رجل يمسك مسدسًا: “لا نملك أي شيء”.
استيقظ صديقي على الصوت وأدرك ما يحدث على الفور فجلس في موضعه ولم يتحرك.
قال الرجل وهو يومئ برأسه ناحية الزهرة: “سآخذ هذه”.
قلت على الفور: “مستحيل”.
قال صديقي: “دعه يأخذها، ألا ترى أنه يحمل سلاحًا؟”.
قلت بصرامة: “هل يوجد رصاص في هذا المسدس؟ لعله يملك رصاصة واحدة وقد يقتل أحدنا، ولكنه لن يقتل كلينا”.
قال الرجل: “دعني أخبرك بشيء واحد، هذا المسدس مليء بالرصاص، والآن أعطني هذه العلبة وإلا أخذتها من فوق جثتيكما”.
خفضت خنجري جانبًا وقلت له: “لا بأس، تعالَ وخذها”.
قال الرجل: “ألق بها إليَّ، لن أقترب منك”.
تنهدت ثم أمسكت بالعلبة وألقيت بها إليه، فرفع يديه إلى الهواء في لهفة لالتقاطها، في تلك اللحظة انقضضت عليه بخنجري لأغرسه في فخذه فسقط الرجل أرضًا. انتزعت الخنجر لأطعنه به مجددًا، ولكن في تلك اللحظة صوب مسدسه ناحية رأسي وأطلق النار فسمعت أزيزها يمر من جوار أذني. تجمدت في موضعي بينما تراجع الرجل زحفًا للوراء وهو يسب في غضب وألم ويصوب مسدسه بيدٍ مرتجفة ناحيتي تارة وناحية صديقي تارة أُخرى.
اعتدل الرجل واقفًا وهو يجر ساقه المصابة ويتراجع للوراء ناحية الباب المفتوح، وهو يصرخ في غضب: “سأقتلكما أيها اللعينان”.
لم أتحرك أنا أو صديقي من موضعنا، ثم رأينا الرجل يندفع خارج الباب المفتوح لتبتلعه الظلمة بالخارج. أمسكت بحقيبتي على الفور مخرجًا قناع الغاز منها ثم ارتديته في عجالة قبل أن أعلق الحقيبة على كتفي. سألني صديقي: “ماذا ستفعل؟”.
قلت له: “سأتعقبه لأستعيد زهرتي، لن يذهب بعيدًا بهذه الساق المصابة”.
قال صديقي: “هل أنت مجنون؟ إنه يمتلك مسدسًا!”.
قلت له: “لم يكن يمتلك سوى رصاصة واحدة، لهذا لم يقتلنا”.
أسرع صديقي ليرتدي قناع الغاز مثلي، قبل أن يلحق بي ناحية الباب. أحسست بالهواء البارد يصفعني بألمٍ حاد، ولكني لم ألتفت إليه وقد تعلَّق بصري بالأرض بحثًا عن قطرات الدماء المختلطة بالثلج والرماد، قبل أن أبدأ في تعقبها.
لم يمضِ وقت طويل حتى رأيت الرجل يجر ساقه العرجاء على الثلج، لم يستطع أن يذهب بعيدًا بساقه المصابة، صحت به وأنا أشهر خنجري: “توقف عندك!”.
التفت الرجل على الفور في فزع، ثم صوب مسدسه ناحيتي وقال: “لا تقترب، سأقتلك!”.
قلت له بجمود: “كنت ستفعل لو كان لديك المزيد من الرصاص”.
اتسعت عينا الرجل في فزع، ثم استدار مجددًا وحاول الركض، ولكن ساقه المصابة خانته فسقط أرضًا وراح يجر نفسه على الثلج. في اللحظة التالية كنت أقف فوقه وأنا أمسك بخنجري، ثم سمعت صديقي من ورائي يصيح: “توقف! ماذا ستفعل؟”.
قلت بصرامة: “سأقتل هذا الوغد!”.
التفت الرجل على الفور في ذعر وقال: “أرجوك لا تقتلني”، ثم وضع العلبة التي تحوي الزهرة على الأرض الثلجية وقال: “خذها، لا أريدها”.
زفرت بارتياح وأنا أحمل العلبة ثم قلت له: “مسدسك”.
قال وهو يلوح به: “لم يعد به رصاص…”.
قاطعته على الفور: “أعرف”.
ثم التفت إلى صديقي وقلت: “خذ منه المسدس”.
تقدم صديقي وتناوله منه قبل أن يتفحصه ويقول: “لم يعد به رصاص حقًّا”.
قلت للرجل: “اخلع قناع الغاز”.
اتسعت عينا الرجل في هلع وراء زجاج القناع وهو يقول: “لا، ستقتلني هكذا”.
قلت له في غضب: “وأنت ألم تحاول قتلي؟ اخلع القناع وإلا أخذته من على جثتك”.
خلع الرجل القناع وهو يكاد يبكي، فقلت له: “لا تقلق لن أتركك بدون قناع”. ثم التفت لصديقي وقلت: “خذ منه قناعه، وأعطه قناعك”.
وهكذا ارتدى صديقي القناع السليم، بينما أعطى الرجل القناع ذا الزجاج المشروخ، فارتداه الرجل وهو لا يصدق نفسه.
التفت لصديقي وقلت: “الآن وجدت لك قناعًا سليمًا، وأصلحت خطئي”.
ثم نظرت مجددًا إلى حقيبة الظهر الصغيرة التي يحملها الرجل وقلت:
“ماذا لديك في هذه الحقيبة؟”.
قال الرجل وهو يهز رأسه: “لا شيء! لا شيء!”.
ولكني لم أصدقه فقلت لصديقي: “فتش الحقيبة”.
وأمام عينيّ الرجل الملتاعتين أفرغ صديقي الحقيبة، فوجدنا بها علبة طعام مغلقة لم تفتح بعد، وزجاجة مياه نصف ممتلئة، أخذهما صديقي بانتصار، ثم ألقى بالحقيبة إلى الرجل.
قلت له: “والآن ابتعد، لا أريد أن أراك مرةً أخرى”.
أومأ الرجل برأسه ثم اعتدل واقفًا وبدأ يجر ساقه على الأرض الثلجية مرةً أخرى.
قلت لصديقي: “دعنا نعود إلى البيت، لنستمتع بالطعام والشراب في الدفء”.
أومأ لي برأسه، وسرعان ما عدنا إلى البيت مرةً أخرى، فأكلنا الطعام المعلب، وتناولنا جرعات من زجاجة المياه الباردة. نثرت بضع قطرات فوق ثقوب غطاء علبة الوردة، فرمقني صديقي بنظره ولم يقل شيئًا، فأنا من حصلت على الطعام والشراب من أجلنا في نهاية المطاف.
كنا على وشك أن نغرق في النوم مرةً أخرى بعدما أكلنا وشربنا، ولكني تنبهت على صوتٍ في الخارج يقول: “لقد جاء صوت الرصاصة من هنا”.
إن الصوت ينتقل بعيدًا في الظلام والسكون. ولكن من هؤلاء؟
تنبه صديقي مثلي، فارتدينا قناعينا، وتشبثت بخنجري، وأمسك هو بالمسدس الخالي من الرصاص. اختلست النظر من النافذة فرأيت على ضوء النهار الباهت هيئة شبحية لأربعة رجال يقتربون بحذر من الباب الأمامي وهم يمسكون في أيديهم بهراوات ثقيلة.
أشرت لصديقي أن يتبعني ناحية إحدى نوافذ البيت الخلفية، وبحذر شديد فتحت النافذة دون أن أصدر صوتًا سوى صرير الخشب وهو ينفتح بعد إغلاقه لوقتٍ طويل، أتمنى أن أحدًا لم يسمع هذا الصوت.
قفزت من النافذة ولحق بي صديقي، وأسرعنا الخطى ناحية السياج الخلفي بين مجموعة من جذوع الأشجار الجافة، وفجأة رأينا أمامنا رجلين آخرين أحدهما يمسك هراوة والآخر يمسك سيفًا، فصاح الرجل الممسك بالهراوة بصوتٍ عالٍ: “هناك رجلان!”.
سمعنا خطوات بقية الرجال تقترب من ناحية مقدمة البيت، فأشهر صديقي مسدسه وقال: “سأقتلكما!”.
فضحك الرجل الذي يمسك بالسيف وقال: “ولمَ لم تفعل هذا حتى الآن؟”.
ارتجفت يد صديقي الممسكة بالمسدس، فصحت به: “اركض!”.
ثم ركضت بأسرع ما أستطيع ناحية السياج، وصديقي يركض بجواري، وما إن وصلنا إلى هناك حتى قفزنا معًا من فوق السياج والرجلان في أعقابنا. في تلك اللحظة سقطت علبة الزهرة من يدي، فتوقفت لالتقاطها، وفجأة وجدت ظلًّا فوقي، والرجل الممسك بالهراوة يقفز من فوق السياج، في تلك اللحظة رفعت خنجري لأعلى فسقط الرجل بصدره على الخنجر لينغرس في قلبه حتى مقبضه. اتسعت عينا الرجل في ألمٍ غير مصدق، وسالت الدماء من بين شفتيه، تجمدت للحظة قبل أن أسمع صوت صراخ الرجل الآخر الغاضب، فانتزعت خنجري من قلب الرجل الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وحملت علبة الزهرة وزحفت إلى الوراء مشهرًا الخنجر الدامي بيدي الأخرى، ولكن الرجل كان قد لحق بي ورفع سيفه في الهواء، وفي تلك اللحظة رأيت شيئًا يرتطم بوجه الرجل بقوة، كان المسدس الفارغ قد ألقاه صديقي بكل قوته في وجه الرجل ذي السيف. رفع الرجل يده إلى وجهه وهو يتأوه في ألم، فقفزت ناحيته وأنا أحاول أن أغرس خنجري فيه بدوره، ولكنه أحس بحركتي ولوح بسيفه في الهواء فأحسست به يمزق ثيابي وجزءً من لحمي، وأحسست بالدماء الساخنة تسيل على جسدي.
رفع الرجل سيفه مرة أخرى وظننت أنها النهاية، ولكن صديقي قفز من وراء الرجل وأمسكه بكلتا يديه وهو يقول: “الآن”.
فقفزت من موضعي وغرست الخنجر في صدر الرجل وبطنه مرات عديدة، وشاهدت الدماء تتفجر من مواضع الطعنات. لوثتني الدماء ولوثت صديقي ولوثت علبة الزهرة، وفي النهاية حملت العلبة وجررت ساقي وأنا أركض بجوار صديقي في ألم. كان الأربعة الآخرون قد اقتربوا بدورهم وشاهدوا ما حدث لصديقيهما، فأسرعوا لملاحقتنا في غضب.
رغم إصابتي ركضت أنا وصديقي بقدر ما نستطيع، لحسن الحظ أننا قد تناولنا الطعام والشراب منذ قليل، مما ساعدنا قليلًا على الركض، لم نتوقف رغم اختفاء أصوات المطاردين الغاضبين من ورائنا، لا شك أنهم قد تعبوا وتراجعوا، أو ربما قرروا الاطمئنان على رفيقيهما، لن يجدوا سوى جثتين.
بعد وقتٍ طويل من الركض والانحراف من طريقٍ لآخر اضطررنا للتوقف لكي نلتقط أنفاسنا، ثم ألقي صديقي نظرة على جرحي ولكنه كان سطحيًّا لحسن الحظ، فقال: “كل هذا لأنك توقفت لتلتقط هذه النبتة، ألم أقل لك إنها ستقتلك؟”.
فقت له ساخرًا: “لقد قلت إنها ستقتلنا، ولكنك بخير”.
ظللنا نجر أقدامنا، لا نعرف إلى أين نحن ذاهبان.
وفجأة وجدنا نفسينا في أحد المنتزهات القديمة المهجورة، كانت الرياح تدفع أرجوحة لتتمايل بصريرٍ مرتفع، والأرض مبتلة، وكأن هناك مياهًا تتسلل من بعيد، نظرت في الأفق فخُيِّلَ لي أنني لمحت لمعان سطح النيل المتجمد، هل تتسلل المياه من أسفل التربة؟ وفي أحد الأركان رأيت شيئًا غريبًا، كانت مجموعة من الأزهار النابتة، أسفل شجرة خضراء.
اقتربت من الأزهار في صدمة، متشبثًا بالعلبة التي ظننت أنها تحمل الأمل، سقطت على ركبتيّ في ذهول أمام الأزهار وقلت: “ولكني ظننت أنها الزهرة الوحيدة، ظننت أنها الأمل، أكان كل هذا من أجل لا شيء”.
أحسست بكل شيء آمنت به للحظة في حياتي يتهاوى أمام عينيّ، والعلبة تهوي من يدي وترتطم بالأرض.
ثم شعرت بكف صديقي على كتفي وهو يقول: “لعلك أحضرتها إلى هنا لتكون بين رفاقها”.
وفوجئت به يأخذ الخنجر من يدي ويحفر في الأرض الطينية قبل أن يفتح غطاء العلبة ويقول لي: “هيا، أخرجها”.
أمسكت بالتربة التي تحوي جذور الزهرة وأخرجتها من العلبة لأضعها في الحفرة التي صنعها صديقي وأغطي جذورها بالطين مرةً أخرى.
وبعد ذلك اعتدلت واقفًا، وألقيت نظرةً أخيرة على الزهرة الصغيرة وهي بين رفاقها، ثم بدأت أسير مع صديقي مبتعدًا عن المنتزه، وصرير الأرجوحة المتمايلة من ورائنا، ولكنني لم أنظر مرةً واحدة إلى الوراء.
ـ تمت ـ
نشرت القصة للمرة الأولى في مجموعة “حكايات نيبولا” القصصية الصادرة عن دار Odabaa 2000 – أدباء 2000 للنشر والتوزيع
تدقيق لغوي: محمود المهدي – Mahmoud Mahdy
تصميم الغلاف: عمار جمال – AG Designs

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *