الخيال العلمي

الروبوت العاري – قصة قصيرة

الروبوت العاري
قصة قصيرة من أدب الخيال العلمي
تأليف أحمد صلاح المهدي – Ahmed Al-Mahdi

كان يوم عمل آخر معتاد، لم يكن في بدايته أي شيء يدل على نهايته الغريبة. مع أول أضواء الصباح كنت أقف في المتجر، أستعد لاستقبال الزبائن بالابتسامة المعتادة، تلك التي ترتسم على وجهي طيلة اليوم دون كلل أو ملل، حتى انطبعت على وجهي وصارت جزءً من ملامحي. لا أستريح منها إلا في آخر النهار حيث ترتخي ملامحي بعض الشيء، ولكن حتى حينها أظل أشعر بشبح تلك الابتسامة. مهمتي بسيطة، أنتظر حتى ينتهي الزبائن من اختيار بضائعهم، ثم أحسب ثمن كل شيء في عمليات حسابية بسيطة لا تستغرق سوى ثوانٍ معدودة، أو بالأحرى أجزاء من الثانية.
كان لدي زميلان يعملان مثلي في المتجر، أحدهما يرافق الزبائن، يستعد للمساعدة في أي لحظة، والآخر ضخم الجثة يحمل البضائع من المخزن إلى الأرفف، أو يستقبل العربات المحملة بالبضائع الجديدة لحملها إلى المخزن.
كان المتجر مملوكًا لزوجين متوسطيّ العمر، لا يكاد أحدهما يبذل مجهودًا في المتجر، فالعمل برمته متروكًا لثلاثتنا، ولم يكن أحدنا يعترض، هذه هي طبيعة الحال، إنها قوانين مجتمعنا ونحن راضون بها تمامًا. لا أعرف إن كان لدينا خيارٌ في هذا الرضا، ولكني لا أحب أن أتعب عقلي بالتفكير في الأمر.
جرت الساعات القليلة من الصباح كعادتها في روتين العمل التقليدي، اللافتة التي تحمل اسم المتجر تضيء بالنيون وتحتها كلمة مفتوح، الزبائن تدلف إلى المتجر وتخرج منه، ابتسامتي العريضة مرتسمة على وجهي، العمليات الحسابية المعتادة، لا شيء جديد…
وفجأة عبر زجاج الواجهة الأمامية رأيت شاحنة أنيقة حديثة تقف أمام المتجر، أعرف هذا الشعار المرتسم عليها جيدًا؛ إنه شعار شركة روبوتيك المصنعة للروبوتات. أسرع مالك المتجر ناحية السائق وتبادل معه بضع كلمات، ثم نادى على زوجته قائلًا بمرح:
– لقد وصلت الروبوتات الجديدة.
أسرعت الزوجة خارجة من المتجر، ورأيت الباب الجانبي للشاحنة ينزلق لأعلى مظهرًا ثلاثة أجساد معدنية مصقولة تلمع باللونين الأبيض والفضي، وشعار روبوتيك ذاته محفورًا على صدورهم.
أحسست بشعورٍ غريب يجتاحني لأول مرة، هؤلاء الروبوتات الثلاثة، إنهم هنا ليحلوا محلنا. رأيت رجلين ينزلان من الشاحنة يرتديان ملابس الشركة الموحدة، وراقبت صاحب المتجر وهو يوقع بعض الأوراق ليستلم الشحنة، ثم اصطحب الروبوتات الثلاثة الجديدة إلى المتجر، كنت أعرف باستطاعتهم بدء العمل على الفور، هذا جزء من برمجتهم.
نظرتُ إلى الرجل والروباتات الثلاثة بابتسامتي المتجمدة على وجهي، سمعته يخاطب زوجته التي كانت تتأمل الروبوتات الجديدة بانبهار قائلًا:
– لم نعد بحاجة إلى هذه النماذج القديمة، سيبدأ هؤلاء الرفاق الجدد عملهم على الفور.
قالت زوجته وهي تنظر من وراء كتفه إلى خارج المتجر عبر الواجهة الزجاجية:
– ألم تغادر الشاحنة بعد؟
قال زوجها:
– لا، سيأخذ النماذج القديمة معه، هذا جزء من الصفقة مع روبوتيك.
وهكذا وجدت نفسي مع رفيقيّ نخلع ملابسنا البشرية ونصير عراة، ورغم كوني روبوتًا إلا أنني أحسست بالخجل، كانت المشاعر البشرية جزءً من برنامجي؛ كنا ضمن الجيل الأول من الروبوتات الذي يحمل هيئة بشرية تمامًا لا يمكن تفريقها عن البشر الحقيقيين، بمشاعر بشرية تمامًا. ولكن سرعان ما اشتكى الناس من هذه الروبوتات، هناك شيء غير مريح بالنسبة للبشر في الروبوتات التي تشبههم تمامًا، يطلقون على هذا الإحساس اسم الوادي الغريب ، ومهما حاولت شركة روبوتيك إقناع الناس بهذا الاختراع الثوري في عالم التكنولوجيا إلا أن الطبيعة البشرية كانت تلفظ الأمر تمامًا، وبدأ بعض المؤمنين بنظرية المؤامرة يبنون مختلف النظريات حول هذه الروبوتات، والبعض الآخر طرح تساؤلات عن مقدار المشاعر البشرية في برنامج تلك الروبوتات، هل يمكن للروبوت أن يشعر بالغضب أو الحسد البشري، أو الرغبة في الإيذاء؟ هل يمكن لأحدهم أن يؤذيك دون أن تعرف تمامًا إن كان من فعل هذا روبوتًا أم بشريًّا؟ ورغم تأكيدات شركة روبوتيك المستمرة عن كون الروبوتات آمنة تمامًا، إلا أن الشائعات ونظريات المؤامرة لم تتوقف عن روبوتات ذات هيئة بشرية ترتكب مختلف أنواع الأذى؟ وكان هناك الغرور البشري المعتاد، لا يمكن للروبوتات أن تبدو مثل البشر، يجب أن يكون هناك فارق واضح بين السيد والآلة، ولعل هذا هو السبب وراء استعداد الناس لتقبل نظريات المؤامرة وتصديقها.
كان عدد المصدقين لها يتزايد، كنت أشعر بهذا في نظرات بعض الزبائن الباردة أو المتخوفة حين يعرفون أنني روبوت وليس بشريًّا، تلك النظرات التي أشعر أنها تخترق دوائري الكهربية ذاتها.
كان هناك المتحمسون لهذه الروبوتات الجديدة ذات الهيئة البشرية ومنهم صاحب المتجر الذي أعمل فيه، ولكن بمرور الوقت تغير الحال وتزايدت الشكاوى، وفي النهاية استسلمت الشركة وبدأت تعلن استعدادها لاستبدال الروبوتات القديمة بروبوتات جديدة ذات هيئة معدنية بألوانها الفضية والبيضاء، الروبوت كما يجب أن يكون.
وهكذا أدركت أن سيدي قد قرر الاستغناء عنا واستبدال النماذج الجديدة بنا. لم أشعر بالغضب أو الكراهية أو الحقد تجاهه، لم يتم برمجتنا على تلك المشاعر، ولكني أحسست بالحزن، لسبب ما قرر صانعونا برمجة هذا الإحساس بداخلنا، بجانب إحساس الخجل الذي أحسست به وأنا أخلع ملابسي البشرية بجانب رفيقيّ.
أمرنا سيدي بأن نصعد للشاحنة ففعلنا، ثم انغلق الباب الجانبي ليخيم الظلام على ثلاثتنا. أحسست بصوت الموتور وهو يهدر مجددًا، قبل أن أشعر بالسيارة وهي تهتز في حركتها عبر الطريق الممهد الذي يؤدي إلى خارج المدينة.
لم يتبادل ثلاثتنا كلمة واحدة، كنت أعرف أن كليهما يشعر بنفس الإحساس الذي ينتابني، الخوف من المجهول. لمَ قرر صانعونا برمجة هذا الإحساس بداخلنا أيضًا؟ لا أعرف! لم أرغب في أن أرهق دوائري بمحاولة فهم الطبيعة البشرية. ولكني أعرف إلى أين يأخذوننا دون الحاجة لأن يخبرونا بذلك، إلى مقبرة الروبوتات! هذا الاسم المخيف يطلقونه على ساحة خردة يلقون فيها بالروبوتات القديمة المعطلة، لإعادة تدوير بعض أجزائها لاحقًا.
توقفت الشاحنة، وبعد مرور بضع دقائق تحركت مرة أخرى، خمنت أنها قد عبرت عبر بوابة المقبرة، ولم أنتظر كثيرًا حتى أتاني الجواب.
انفتح باب الشاحنة فرأيت الرجلين أمامنا وأحدهما يقول للآخر:
– دعنا نُلقي بهم هنا ونسرع لكي نلحق المباراة.
قال الآخر في تردد:
– ألا يجب أن ننزع بطارياتهم أولًا؟
لوح الآخر بيده بلا اكتراث وقال:
– سيأخذ هذا وقتًا طويلًا وقد أوشكت المباراة على البدء، كما أن بطارياتهم قد أوشكت على النفاد بالفعل، ولا يوجد خطر منهم.
ظل التردد على وجه الآخر بينما أمرنا الأول بالهبوط من الشاحنة ففعلنا، قبل أن يسرع ليجلس وراء مقعد السائق ويضغط زرًّا ليغلق باب الشاحنة مجددًا. ثم أطلق نفير العربة فحسم الآخر تردده، وأسرع ليجلس إلى جواره في المقعد الآخر، ثم شاهدنا الشاحنة وهي تعود أدراجها وتخرج من مقبرة الروبوتات.
أحسست بالخوف وأنا أنظر إلى أكوام لا تنتهي من الخردة، روبوتات قديمة معطلة، معظمها من طرازات عتيقة غير متقنة، أشبه بالمكعبات المعدنية، والقليل منها من طرازات حديثة بعض الشيء تسبق طرازنا بقليل.
أحسست بزميلي ضخم الجثة يرتجف بجواري لرؤية هذا المنظر، هناك شيء خاطئ به. فجأة سمعته يقول بصوتٍ مرتجف:
– سوف نموت هنا.
اندهشت لما قاله، فنحن نعرف فكرة الموت، ولكن الخوف منه ليس جزء من برنامجنا، فجأة كرر قوله بغضب شديد:
– سوف نموت هنا!
أدركت أن هناك عطبًا قد أصاب دوائره بسبب عدم قدرته على تحمل المنظر الذي يراه الآن، لا يجب أن يشعر أيٌّ منا بالغضب تحت أي ظرف. ولكن لم يكن هناك ما يمكننا فعله، سرعان ما ستغيب الشمس، وبعدها بوقت قصير ستنفد بطارياتنا تمامًا. كنت أشعر بالحزن لأن هذا المنظر هو آخر ما سأراه أمامي قبل أن أنطفئ تمامًا وإلى الأبد. ولكني لم أشعر بالغضب مثله.
كنا معتادين على شحن بطارياتنا كل مساء بعد الانتهاء من العمل، في غرفة أعلى المتجر حيث يوجد قابس شحن لكل واحد منا، جزء من الفراش الذي ننام فيه، لسنا بحاجة للنوم كالبشر، ولكن لا يوجد ما نفعله أثناء الليل، لذا فهو مجرد إطفاء مؤقت لدوائرنا أثناء عملية الشحن.
قال رفيقنا الثالث الذي كان صامتًا حتى هذه اللحظة:
– حسنًا، يبدو أنه الوداع يا رفاق.
ولكن الضخم قال في غضب شديد:
– لا لن نموت هنا، ربما نجد مصدر شحن قريب من هنا، ربما في بعض الطاقة غير المستخدمة في جثث الروبوتات القديمة.
أفزعني غضبه، ورغبته في التمرد، وكلمة جثث التي أطلقها على هياكل الروبوتات القديمة. شاهدته يركض ناحية كومة من الكومات ويبدأ في تمزيق الهياكل المعدنية بيديه العاريتين، يمسك بالبطاريات ويتفحصها قبل أن يلقى بها بعيدًا في الغضب.
كنت أشعر من موضعي بتفاعلات غريبة تحدث في دوائره الكهربائية، شيء لم يحسب الصانعون حسابه عندما وضعوا الخوف ضمن برنامجنا، لقد أطلق الرعب شيئًا كامنًا بين تلك المعادلات الدقيقة المعقدة، شيئًا يطلقون عليه اسم الرغبة في الحياة، راقبته في صمت، كان يشبه حيوانًا مسعورًا ينبش الجثث، روبوت تلو الآخر، من كومة إلى أخرى عبر تلال الخردة التي بدت بلا نهاية. لا فائدة، لا توجد نقطة طاقة واحدة.
مر الوقت، وأنا ورفيقنا الثالث نراقبه في صمت، وفجأة التفت إلى الوراء بنظرة مسعورة في عينيه، وفجأة حدث ما أطلق الرعب الحقيقي في أعماقي، رأيت رفيقي الضخم ينقض على رفيقنا الثالث ليسقطه أرضًا، وفجأة أمسك برأسه وجذبها بحركة عنيفة ليفصلها عن جسده، فشاهدت الأسلاك الممزقة والدوائر المحطمة تصدر شرارات كهربائية زرقاء. اتسعت عيناي ذعرًا، ثم شاهدته وهو ينتزع غطاء صدر رفيقنا بيديه مظهرًا البطارية التي كانت تنبض بلون أزرق، قبل أن يكشف عن صدره هو لينتزع منه كابل صغير ويوصله ببطارية الآخر ويبدأ في امتصاص طاقته.
فجأة بدأت أركض خوفًا، لا أرغب في الموت، أحسست بدوري بغريزة الحياة الغامضة. وبدأ رفيقي الضخم يركض ورائي، تعثرت في أكوام الخردة ولكني اعتدلت واقفًا، أشعر بخطوات أقدامه الثقيلة من ورائي، لا يوجد مهرب، سينال مني بالتأكيد.
فجأة رأيت شيئًا، فكرت سريعًا ثم ركضت ناحيته، وأنا أنصت السمع لصوت الخطوات، لم تتوقف لحظة واحدة، فجأة توقفت في موضعي، فاقتربت الخطوات بشكل متسارع، ثم انقطعت فقفزت جانبًا في نفس اللحظة. شاهدت جسد زميلي الضخم وهو ينغرس في عمود حديدي بارز من بين الخردة، اخترق بطنه، ولحسن الحظ لم يخترق بطاريته.
فتحت غطاء صدري وأوصلت بطاريتي ببطاريته كما فعل مع رفيقنا، وبدأت أمتص طاقته بأكملها، شاهدت الرعب في عينيه، وشيئًا من التوسل، ولكني لم أتوقف حتى نفدت طاقته تمامًا وانطفأت عينيه. شاهدت جسده وهو يرتخي بلا حياة فتراجعت للوراء.
لديَّ من الطاقة الآن ما يكفيني لبضع ساعات، يجب أن أبحث عن مصدر طاقة سريعًا، ولكني يجب أولًا أن أرتدي ملابس لتغطي جسدي العاري، لن يكون هذا صعبًا، يمكنني سرقة بعض الملابس، والتنكر في هيئة بشرية.
وهكذا خطوت بجسدي العاري ناحية باب مقبرة الروبوتات، لم يكن هناك سوى حارس واحد، ينتظر الخطر من الخارج لا من الداخل، لذا لم يشعر باقترابي منه حتى فات الأوان، بضربة واحدة مني على رأسه أفقدته الوعي، لقد تحررت دوائري تمامًا من البرنامج الذي يمنعني من إيذاء البشر بفضل الخوف الذي أحسست به، ولكني لم أشعر بالرغبة في قتله، لا ذنب له على أي حال. اكتفيت بسرقة ملابسه لتغطية جسدي العاري، ثم أسرعت خارج المكان، بشريًّا تمامًا. أحتاج لمكان كي أبيت فيه لشحن طاقتي من جديد، ولتحمل تكلفة المكان سيكون عليَّ أن أبحث عن عمل جديد، كبشري هذه المرة، لن يعرف أحدٌ حقيقتي، سأعيش.

ــ تمت ــ

 

نقلا عن صفحة إسكاتوبيا Escatopia

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *