أبو جوستين يموت فقيرا تاركا ابنته الطيبة تقع فريسة لسذاجتها ولمكائد الآخرين، تدافع عن الفضيلة، فتفقدها بعد كم صفحة!.
-ارحموا عزيز قوم ذُل
ولكن الكاتب، لم يرحم بطلة روايته، التي يمكن وبشبه يقين وصفها / وصمها بأنها أكثر شخصية مهانة في تاريخ الأدب الروائي على الإطلاق، ولا عجب وكاتبنا هذا، هو الماركيز، دي ساد، الذي اشتق من اسمه، لفظ السادية، في وصف أي خلل نفسي يميل بصاحبه إلى التلذذ من تعذيب الآخرين (نفسيا أو جسديا أو جنسيا أو مجازيا). على غرار القامة الأدبية الألمانية النمساوية مازوخ، الذي اشتق من اسمه لفظ المازوخية، في وصف داء هو على النقيض، يتلذذ صاحبه بأن يتعذب هو، أو يُعذب نفسه.
والرواية، فيها بعض من سيرته، لما عُرف عن الماركيز، في فرنسا، باستغلاله ثروته، ونفوذه، للتنفيس عن رغباته الشهوانية، المتمثلة في حبس وتعذيب النساء، وقد قضى بسبب ذلك معظم حياته في السجون، تم كتابة نص هذه الرواية، أثناء قضاء واحد من الأحكام في سجن أو مصحة نفسية. لاحقا، أعاد كتابة الرواية، لتصدر في أربعة مجلدات، تم إعدامها ولم يتبقى عن تلك النسخة أي أثر.
على صعيد أدبي، لم ينجح الماركيز إلا على مستويين؛ أولهما هو توصيل رسالة، معبرة حقا، وتصوير عالم شرير لا وجود فيه للخير أو الثواب أو الجزاء. وثانيا نجح تماما في فضح ما يعتمل داخله، من أفكار شريره حاول أن يداريها بسذاجة في خاتمة الرواية، وهو المفضوح أصلا.
عدا عن ذلك، الرواية تفتقد إلى المنطق، فمن ناحية، يصعب جدا، حتى وإن كانت الرواية تمثل روح هذا العصر المظلم آنذاك في أوروبا (نُشرت الرواية في 1791)، إلا أنه عسير أن تصادف شخصية واحدة، كل هؤلاء الأوغاد في حياته، ويصعب فعلا أن تقع ضحية لك هذه المآسي والإساءات التي لا تكون إلا في عدد من الضحايا وفق إبادة جماعية، قاربتها الرواية، حيث لم تظهر المرأة إلا مغلوبة على أمرها، أو بائعة لجسدها كي تملك أمرها وسط الرجال (كما هو الحال مع مدام ديبو، أو جولييت)، فالمرأة في هذه الرواية، لا تزيد عن كونها بهيمة تساق، وفي أحسن الأحوال، ما هي إلا مركوبة!. ولكن تجاوزها الراوي إلى التركيز على معاناة مستمرة لبطلة الرواية جولييت. ومن ناحية أخرى، لا يلدغ المؤمن من نفس الجحر مرتين، وجولييت، التي تملك فقط من الذكاء ما يمكنها من الهرب والخداع، لا تملك القدر الكافي الذي يمنعها عن البوح والعودة إلى جلاديها كل مرة!.
وحتى أولئك الجلادين، جلادين، ومجادلين، يطيب لكل معذب، أن يشرح لضحيته جوستين، سبب تعذيبه لها، من باب أن هذه هي (سنة الحياة)، وكل الشخصيات الشريرة تجادل انطلاقا من هذه الفكرة كقاعدة لمنطقهم المعطوب!.
بدءا من الفصل السابع، يُصدم القارئ، بنوع من فلسفة القتل، التي يتأثر بها لاحقا أدباء كبار مثل دوستويفسكي، وبو، وحتى هيتشكوك في سينماه. ويبالغ الراوي في مناظرته، على لسان الشخصيات الذكورية، وحتى النسائية تتبنى نفس وجهة النظر، مجترا مجموعة كبيرة من الاستنادات التاريخية والثقافية، مثل أزرق اللحية، ومسرحيات يوربيدس، وأمثلة من حضارات وشعوب العالم القديم؛ فرس، إغريق، بابليون، رومان، يهود، عرب. ويضرب مثلا أنه لا يهم “إن كان بولس شريرا أو بطرس خيّرا” [163].
سوف تجد محاضرة / مناظرة طويلة جدا، في الفصل الرابع عشر، والفصل العشرين، وأعتقد أن المتعة التي تضاهي تعذيب الضحية، هي إقناعها بأنها مستحقة لهذا العذاب!.
ينتج عن ذلك، بعض ما نقتبس منه
- ألا ترين أنّ ضراوة الأغنياء تجبر الفقراء على العصيان ! ، فلماذا لا يفتحون محافظهم لسد حاجاتنا؟ . لو تحكمت الإنسانية في قلوبهم ، فستتحكم عندئذ فينا الفضيلة.
- اسألي الحَمَل، فلن يفهم لماذا يفترسه الذئب. لكن اسألي الذئب مانفع الحَمَل، سيرد ليغذيني، الذئاب تلتهم الحملان، والضعفاء ضحايا الأقوياء.
- دعي من يطوّق عنقي بالمنن أن يكثر قدر هواه، لكن لا تدعيه يطلب شيئاً مقابله، حيث إنه قد تمتع بعواطف الإحسان.
- السرقة إحدى وسائل اللص في إعادة أسّ توازن الثروة. يمكن للفقير أن يحسّن وضعيته بسرقة الأغنياء ؛ لأنَّ الأغنياء يستزيدون ثروتهم من نهب الفقراء”.
- في عالم فاضل كلياً أوصيك بالفضيلة…فهي وحدها عندئذ ما يكافأ، كما تعتمد السعادة كليا عليها….لكن في عالم فاسد كلياً مثل عالمنا، فالرذيلة هي الحل الوحيد، ومن لا يسقط في براثنها مع الباقي فلن تعود له فرصة، سيدوس عليه الجميع، فهو الضعيف العاجز المسحوق…”
حتى جوستين نفسها “ظلت تلوك بأفكارها ظفر الرذيلة وبلاء الفضيلة” [132]. في الصفحة التالية، تعود سريعا إلى سذاجتها، وعلى نحو أبله / أهبل، ومرير، مستخدم بعض ما تملك من ذكاء وحيلة، في الذهاب به نحو الاتجاه الخاطئ دائما على أمل زائف لا أعرف من أين تأتي به!. حتى أن القارئ سوف يصيبه الضجر من أفعالها وقرارتها الحمقاء التي لا تتوقف، وليس من أفعال جلاديها. ربما كان هناك نوع من المازوخية مصابة بها بطلة الرواية، خاصة وأن ساد نفسه، كان مزيج بين المرضين، كما جاء في وصف أحد شخصياته، شنق نفسه، حتى يجرب لذة الإعدام قبل إعدامه!. أنا عن نفسي، كرهت جوستين وأصابني القرف منها، وفي مكيدتها لـ مدام ديبو، كانت تخونها من أجل (الصالح العام)، فهي تكره تعريض أي مخلوق للخطر، إذن لماذا لم تنسحب من الموقف برمته، وقررت أن تعلم دوبريه وتشي له بمخطط مدام ديبو لسرقته (ولكن أوليس هذا قد يسبب الإضرار بمدام ديبو، أين المغفرة التي تلتمسها جوستين دائما للآثمين). ولما انقلب الأمر عليها قلت في نفسي [والله تستاهلي]. وعلى مدار سنوات، تخطت العشر سنوات، لم يصيب جوستين أي تغير أو تطور أو نضج فكري، وهذا مخالف للواقع، فهي لم تكن مصابة بأي نوع من العته يبرر أفعالها، ومع ذلك، جعلها المؤلف أقرب إلى المانيكان أو الصنم الجنسي، خدمة لأغراضه، وقد أوقع عليها كل غرض جاء بباله مرفها عن نفسه أثناء كتابة النص وهو في محبسه. لقد كرهت جوستين أكثر من معذبيها. ولم يعلق في ذهني أي من هؤلاء المعذبين، عدا رولان، وشخص آخر مثلي،
طوال الـ 25 فصلا المكونة للرواية، حصل لـ جوستين، من ألوان العذاب، نفسيا، وجسديا، وجنسيا، كل ما يخطر ببالك، وما لا يخطر ببالك، وصولا إلى نهاية عبثية، حيث نزلت عليها صاعقة من السماء، قضت عليها في وقتها. الصاعقة في العادة ترمز للعقاب الإلهي، الذي ينزل على الخاطئين، وفي يوم واحد، حسبنا أن جوستين قد حصلت على الراحة، بعد أن التقت بأختها، تموت بين يديها. لقد افترقت الأختان بعد موت الأب، اختارت جوستين طريق الفضيلة، وأختارت جولييت طريق الرذيلة. تمتعت جوليتت بكل شيء، وحصلت على الثروة والنفوذ، بينما عانت جوستين الويلات، وحتى من نظر القانون، كانت مجرمة آثمة، وقع عليه العقاب أكثر من مرة, وانتهى بعقوبة الإعدام لولا نفوذ الوزير زوج أختها. ولكن هذا لم يكن مفيدا. عانت جوستين، من الذل، والهوان، والانكسار، والحبس، والأرق، والجوع، والبرد، والحرق، والشنق، والصعق، و…. يمكنك قراءة الرواية. هناك لحظات مرعبة حقا، مثل المحبس أسفل الدير، أو أعلاه، لا أذكر إلا أنها (مقصورة معزولة مستحكمة الجوانب)، ومثل لحظة اختيار جسد مناسب لإرضاء الرهبان، وكان الأصل النبيل، مثل دوق، كونت، بارون، ماركيز، هو علامة على جودة البضاعة.
قد يستمر القارئ إلى نهاية الرواية، وقد لا يتحمل، قرفا، ومللا، خاصة، وأن المرء عاجز عن التمييز بين شخصية وأخرى في هذا العمل، كلهم يبدون وديعين في البداية، ويتضح أن الحمل هو ذئب متنكر.
شكلت الرواية أرضية خصبة لمدرسة فرويد وتلاميذه، خاصة ومقدرة الكاتب على وصف الطبيعة الجنسانية، في فترة مبكرة جدا من التاريخ الأوروبي، مشيرا إلى عشوائية الشهوة وعبثيتها: “فلا توجد قواعد ثابتة؛ مجرد تجريب نزوة معهن: فقد تخلصوا يوما من فتاة لمجرد أنهم تمتعوا بها اليوم السابق، وقد يتشبثون من جانب آخر بامرأة أُتخموا بها عشر سنوات. وليس لأحد أن يعرف من سيحين عليها الدور.” [95].
كان من أوائل من أشار إلى حميمية الخنق، رغم قسوته، في أكثر من موضع من الرواية [ص 106، 147، 174].
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.