لكاتب البريطاني ميرڤن بيك Mervyn Peake هو رجل متعدّد المواهب، إنسان مُبدع، وفنان غريب الأطوار، هو كاتب وشاعر ورسّام، ورغم شهرته الكبيرة في موطنه بريطانيا، إلا أن القليل يعرفون عنه وعن أعماله حول العالم، ولكن ميرڤن بيك له مكانة خاصة في الأدب الإنكليزي وخصوصاً أدب الفانتازيا. فثلاثيّته الرائعة “جورمنجاست” تُعدّ المؤسّس لفرع مستقل من الفانتازيا وهي فانتازيا الأشخاص. الفانتازيا المعنية بأفكار الشخصيات ومشاعرهم وانفعالهم ودوافعهم. العناصر الخيالية في تلك الروايات ليست السحر أو التنانين أو الأجناس الأسطورية المختلفة، بل أشخاص وأماكن من الواقع نفسه. كذلك فعل ميرڤن بيك في كتابة روايات سلسلته جورمنجاست. فعالم جورمنجاست ينتمي إلى عالمنا الحقيقي، قلعة عتيقة، وعائلة ذات دماء نبيلة، وتقاليد وطقوس تجري طيلة قرون بين أصحاب تلك الدماء. ولكن شخصيات بيك هي من تجعل العالم لا مثيل له، أفكارهم ودوافعهم وصراعهم مع ذاتهم أو لتحقيق أفكارهم الخاصة هو مَن يجعل هذا العالم عجيباً. ما يثبته بيك بكتابته هو أن عالمنا الواقعي يمتلئ بالأعاجيب إذا حدّقنا النظر حولنا، ويحتاج الأمر إلى كاتب حقيقي ومُبدع كي يستطيع رؤية هذه العجائب ورسمها على الورق.
يقول الروائي الكندي روبرتسون ديفيس: “يُعدّ ميرڤن بيك شاعراً مُرهف الحسّ أكثر من إدغار آلان بو، لذا كان قادراً على الحفاظ على روعة عالمه الخيالي [الفانتازي] خلال ثلاث روايات. إن ثلاثية جورمنجاست هي عمل عظيم للغاية … وأحد كلاسيكيات عصرنا الحالي”.
يُعدّ الجزء الأول “تايتوس جرون” تمهيداً لعالم جورمنجاست، يتعرّف على المكان الشخصيات واحداً تلو الآخر، فنعرف أن جورمنجاست قلعة عريقة مبنية على مساحة شاسعة، بأبراج مُتداعية وجدران يغطّيها اللبلاب، ينظر إليها قاطنو الوادي من حولها بنظرة إجلال وتقدير يكاد يصل إلى مرتبة التقديس الديني، يقطن القلعة عائلة جرون النبلاء وسيّدها اللورد سيبلكريڤ هو الإيرل السادس والسبعين لعائلة جرون، والذي يتوق لوريث يحمل اللقب من بعده. ونتعرّف على كذلك على زوجته الكونتيسة جريترود وطباعها الغريبة وابنتها فيوشا ذات الخمسة عشر ربيعاً والسيّد فلاي كبير الخدَم، وسويلتر كبير الطُهاة، وسوردست سيّد الطقوس والمُشرف على المراسم وابنه برانكنتاين في ما بعد، والطبيب برونسكويلر وأخته إيرما، والعمّتان التوأم كورا وكلاريس جرون وستيربايك الفتى الماهر الماكر الذي يبدأ كفتى من فتيان المطبخ، ويصبح له دور كبير في الحبكة في ما بعد.
تبدأ الحبكة بميلاد البطل تايتوس جرون، الذي يمثل حدثاً هاماً في حياة القلعة، وعلى الفور يعجّ المكان بالحركة من المطبخ في الطابق السفلي حتى قاعة المنحوتات اللامعة في الطابق العلوي، وينفض سيّد الطقوس التراب عن الكتب القديمة استعداداً لاستقبال الإيرل السابع والسبعين لعائلة جرون، ورغم أن الكتاب يحمل اسم “تايتوس جرون” إلا أن دوره في الحبكة صغير ويظلّ طيلة الأحداث طفلاً رضيعاً لا يتجاوز عمره العامين.
الجزء الثاني “جورمنجاست”يبدأ بتايتوس وهو في عُمر السابعة، وهو طفل متمرّد يحاول رفض تلك الطقوس والتقاليد التي فُرِضت عليه منذ مولده، وتظهر شخصيات جديدة مثل طاقم التدريس في مدرسة جورمنجاست وخصوصاً المدير بيلجروڤ، و”الشيء” تلك الفتاة الصغيرة التي ولِدت مع مولد تايتوس من مرضعته، وأثرها في حياة تايتوس، ويُعدّ الجزء الثاني استكمالاً لقصة الجزء الأول، فكليهما يتبعان نفس الشخصيات في نفس المكان وهو قلعة جورمنجاست كما أن هذا الجزء يغلق بعض الخيوط التي تُرِكَت مفتوحة في الجزء الأول.
ورغم أن الجزء الأول امتاز بمسحة من التراجيديا في أحداثه، إلا أن الجزء الثاني يُعدّ أكثر منه تراجيدية، فقلعة جورمنجاست في هذا الجزء تكسوها مسحة من الكآبة، ولكنها ليست كآبة منفرة، بل كآبة سحرية تشبه تلك التي تنتابك وأنت تتأمّل غروب الشمس، أو تستغرق في حال من النوستالجيا، إنها كآبة بشكلٍ ما في نهاية القصة تشعر أنها غسلت روحك.
أما الجزء الثالث “تايتوس وحيداً” فيختلف عن الجزءين الأول والثاني بشكلٍ كبير، فالجزءان الأول والثاني يدوران في قلعة جورمنجاست، ويمتازان بكبر الحجم والوصف الدقيق للتفاصيل الصغيرة، ورسم ملامح كل شخصية ودوافعها وأفكارها، أما الجزء الثالث لا يدور في قلعة جورمنجاست، بل بعد خروج تايتوس لرؤية العالم الخارجي ومعرفة أسراره، ليفاجأ بعالم يختلف تمام الاختلاف عن عالمه المألوف، ففي الخارج يركب الناس السيارات والطائرات وتوجد حكومة وشرطة وأوراق رسمية وعلماء وأجهزة غريبة، وهم لا يعرفون شيئاً عن جورمنجاست ولا عن تقاليدها العريقة، بالنسبة لهم تلك الطقوس والتقاليد شيء من الماضي قد انتهى، وبالنسبة لهم تايتوس شخص مجنون يخيّل له وجود هذا العالم المسمّى جورمنجاست.
يضلّ تاتيوس طريق عودته إلى بيته ووطنه، وفي ظلّ عدم تصديق الناس لوجود جورمنجاست يبدأ هو نفسه في الشكّ في وجودها، بل والشكّ في عقله ذاته، لذا نجد أن تايتوس يبحث عن جورمنجاست كي يجد نفسه، كي يثبت لنفسه أنه ليس مجنوناً، وأن ماضيه وطفولته وكل الأحداث التي عايشها هي أحداث حقيقية لا من اختلاق عقل مجنون.
تايتوس وحيداً هي النوستالجيا مجسّدة في كتابٍ واحد، فيشاطر القارىء تايتوس شعوره بالوحدة، وشعوره بالغربة، وشعوره بالحنين إلى ماضيه ووطنه، كما يبرع في رسم هذا العالم الحديث، بآلاته وتكنولوجيته الغريبة، حتى لتشعر أن ميرڤن بينك قد مزج بين الفانتازيا والخيال العلمي في مزيج غريب ومُمتع.
بسبب اختلاف الجزء الثالث عن الجزءين السابقين له فإنه لقيَ ردود فعل متباينة بين القراءة، البعض كان يرغب في أن تظل الأحداث في نطاق جورمنجاست، وأنا كنت أشاطرهم الرأي في بداية مطالعتي للجزء الثالث، ولكني أحببت العالم الجديد الغريب وشخصياته الجديدة التي رسمها بيك، وشعرت في العديد من المشاهد إنها تشبه تلك اللوحات القديمة التي تتخيّل المستقبل بما فيها من غرابة وسحر. الجدير بالذكر أن هناك نسختان من “تايتوس وحيداً” النسخة الأولى التي قدّمها ميرڤن بيك للناشر، ثم عاد وقام بتحسينها وتنقيحها وأضاف إليها العديد من الفصول والمشاهد، وقد سعت أرملته ميڤ جيلمور لنشر الجزء الثالث منقّحاً وكاملاً بمساعدة بعض أصدقاء زوجها الراحل حتى نجحت في ذلك أخيراً بعد موت زوجها بسنواتٍ عديدة.
لغة بيك شعرية وسحرية، ورغم واقعية العالم إلا أنك ستشعر كأنك تسير في حلم، العالم جميل وينبض بالحياة، كل شخص، كل مكان، كل حجر من أحجار القلعة مرسوم بدقّة شديدة وريشة رسّام تجعلك ترى كل مشهد وتتخيّله وتعيشه، ولعلّ هذا يرجع لكون بيك رساماً في الأصل، فقد اشتهر برسم كتب الأطفال الكلاسيكية مثل أليس في بلاد العجائب وجزيرة الكنز، كما كان هناك دور لرسوماته في الحرب العالمية الثانية حيث صوّرت لوحاته مأساة الحرب ومعاناة الضحايا، كما أن بيك هو الرسّام الوحيد الموجودة رسمته الذاتية في متحف اللوحات الوطني البريطاني National Portrait Gallery، كما أن مخطوطاته الأولى لروايات جورمنجاست التي كتبها بيده كانت تحوي بعض الرسومات لشخصيات وأماكن من الرواية.
يأخذ بيك وقته في رسم المشهد، كل حركة، كل صوت، كل رائحة، وهذا ما يجعل إيقاع الرواية بطيئاً، ولكنه ليس مملًا، فالقارئ يسير بين مشاهده مسحوراً مبهور الأنفاس، فهو يجعل القارئ يرى كل مشهد ويتخيّله ويعيشه، كنت أحتاج أثناء قراءة الروايات لبعض اللحظات بين مشهد وآخر كي أفكّر فيه وأتخيّله وأتأمّله، أحياناً أستمر في القراءة كي أكتشف بعد عدّة فقرات أنني ما زلت مستغرقاً في مشهدٍ سابق. ورغم بطء إيقاع المشاهد إلا أن القارئ يظل متيقظاً متحفزاً، دوافع الشخصيات المرسومة بدقة، الأفكار التي تدور في عقلها، اهتمام القارئ الحقيقي بمصير الشخصيات وتعلّقه بها تجعله يرغب في معرفة ما سيحدث في ما بعد، العديد من المشاهد في القصة اضطرتني للوقوف لأنني لم أحتمل البقاء هادئاً وأنا أقرأ المشهد.
يقول الكاتب البريطاني سي إس لويس مؤلّف سلسلة نارنيا عن أعمال بيك إنها: “إضافة حقيقية لحياة المرء، إنها كحلمٍ نادر تمنحنا إحساساً لم نشعر به من قبل، وتوسّع إدراكنا ومجال الخبرات التي قد يخوضها الإنسان.
تم اقتباس “جورمنجاست” بعد ذلك في العديد من الأعمال المسرحية والمسلسلات الإذاعية على الراديو والمقطوعات الموسيقية الأوبريالية، كما قامت BBC سنة 2000 بإنتاج مسلسل بعنوان جومنجاست يتناول قصة الجزءين الأول والثاني من السلسلة بطولة العديد من النجوم البريطانيين اللامعين مثل سير كريستوفر لي وايان ريتشاردسن وسيليا إيمري وغيرهم، ولاقى المسلسل احتفاء النقّاد وحظيَ بالعديد من الجوائز مثل الجائزة البريطانية لفنون الفيلم والتلفزيون.
كان بيك يرغب في أن تكون سلسلة جورمنجاست ـ أو كتب تايتوس كما أسماها ـ ملحمة تتبع شخصية واحدة منذ المولد حتى الموت، فالجزء الأول “تايتوس جرون” يتحدّث عن مولد تايتوس وتأخذ فترة كونه طفلاً رضيعاً، أما الجزء الثاني “جورمنجاست” فيتحدّث عن مرحلة الفتوّة وبداية سنوات المراهقة، أما الجزء الثالث والذي تدور أحداثه خارج قلعة جورمنجاست فيتحدّث عن مغامرات المراهقة وطيش الشباب، حتى يبلغ تايتوس مرحلة النُضج، وكان من الممكن أن يكمل ميرڤن بيك مشروعه لو لم يُصَب بالمرض الذي جعله يتوقّف عن الكتابة، قبل أن يدهمه الموت وهو يضع الخطوط الأولية لرواية رابعة بعنوان “استيقاظ تايتوس” ولكنه لم يترك منها سوى ورقات قليلة، وحاولت أرملته إكمال القصة على نفس المنوال ونشرتها لاحقاً ولكنها لم تقبل نفس الاحتفاء الذي قوبلت به روايات زوجها الأصلية.
بقلم: أحمد صلاح المهدي