أنا مهتم أكثر بتلك الروايات التي تحمل قدرا لا بأس به من الرمزية, والتي لا يمكن كتابتها إلا من كاتب ذو بأس, فهي تحمل بقدر ما تحمل من رمزية, جانبا إنسانيا من الإنسان, بل ويمكن القول أنه -أي هذا الإنسان- أكثر جوانبه إنسانية في العموم, لأن الإنسان بطبعه يحاكي الواقع في تعلمه وفي لهوه وفي خلقه, هذا هو نموذجه الأوحد كونه إنسان مركب, وعليه يكاد يبقى الأدب على ما هو عليه منذ الأزل, وليس على ما هو عليه الآن من تجريب بدون تجريب وإن هي إلا جربة لا مجال للفيض في الدرس لإثبات سوءها. وما يعنينا هنا هو التسليم بإحدى المساحات الجيدة التي تزيحنا إليها أي قراءة لرواية مثل تلك, في نوع من الانحياز إلى الحيز الوحيد الذي لازال يصلح القول عنه أن التراب فيه تبر. ولكن ربما قصتنا هذه لم تنزل لمستوى وصفها بالثرى, بل هي إلى الثريا أقرب. ومجموعة الأوصاف المحفوظة, والمستخدمة هنا ليست مدحا للرواية, بقدر ما فيه من قدح لخلوها من أي تلاعب جيد في المفردات خارج عن الإطار الذي اتخذته لنفسها منذ البداية, وإن لم تعرض فيه الكثير مع الأسف رغم كل الثمار الدانية والطيبة مذاقها.
ولكنها مع ذلك, ونؤكد هنا, تلعب ببراعة على الرمزية التي تبتعد بنا بعيدا عن أي مباشرية في العمل, وبراعة جمع بين الحواجز الوهمية, والحاجز بمفهومه المادي كونه جزء من الأطر المكونة لأي غرفة أو حجرة في المنزل. ولأن المرأة كما يقال في المصرية ليس لها إلا بيتها, كانت الحجرات نموذجا مثاليا للتعبير عن مجموعة من الحواجز الاجتماعية والمادية والتي تراوح ما بين كونها وهما أو لها أثر مادي ملموس منبثق عن بعد اجتماعي يتجاوز أي شيء مادي محسوس وله وجود منظور على أرض الواقع.
-المرأة ليس لها إلا بيتها
عبارة انتهازية تقلب المرأة في صفة واحدة, تشابه بها, أو لا تنطبق إلا على شيء من أثاث المنزل داخل المنزل, هنا فقط يصح القول أن السرير ليس له إلا غرفة النوم, والأريكة في الصالة, والحوض ليس له إلا المرحاض. فالمرأة لا ينظر إليها إلا بوصفها شيء له استعمال محدد داخل المنزل (الكنس والطبخ والغسيل والتربية والمضاجعة) أو حتى خارج المنزل. فأغلب من يطالب بعمل المرأة لا يفعل إلا لتلميع بعض الواجهات الاجتماعية للمؤسسة أو للدولة. لهذا, وإن كانت جاءت به من زاوية مغايرة, نلحظ أن الحجرات تتنوع لتشمل حجرات أخرى خارج المنزل, مثل حجرة المحكمة, حجرة البيت الآخر, أو الشارع بوصفه حجرة العزلة عن البيت.
تروي رواية الحجرات قصة عن تجربة زواج فاشلة تمر بها امرأة وتتجرع مرارتها دونا عن الرجل. فالزواج منذ بدايته, وصولا إلى مرحلة الانفصال لا يظهر أي نوع من الحيادية الناتجة عن سوء الفهم, ولا يقع الظل إلا على طرف واحد, فلا نشهد معاناة الزوج إلا بقدر ما يلزمه ضياع شيء من يده, وهو ما عبرت عنه الكاتبة في عرض راعت فيه أن تصف بصدق بعض الأحوال المتغيرة والغريبة, والتي تحمل مشاعر صادقة من الرجل تجاه الزوجة, مشاعر مثل الحب والاهتمام, بل والإحساس بالمسؤولية وشيء من الشهامة, ولكنها لا تخرج به عن تصنيف الرجل الذكوري المتسلط الذي لا يحترم زوجته, حتى وإن كان احترامه باديا بمعاييره الخاصة. إنها تقدم, وإن كان بشكل هامشي, تجربة عن زوج, يحسب نفسه زوجا صالح, وهو لا يصلح لأن يكون زوجا, دون تحديد هل هذه الحالة, محددة فقط بتجربة زوجته معه, أم أنه نفس المصير الذي ينتظر أي امرأة أخرى. لقد ركزت الكاتبة أكثر على تجربة الزوجة, لا تجربة الزوج, في انحياز واضح, للمرأة, وإن كان ضروري بالمرة. فالمرأة مظلومة بالفعل, ويلحظ المراقب أن الرواية, فقط تعكس الواقع المعاش, مع محاولة أدبية رمزية خطابية كامنة في العنوان وفي العناوين الجانبية التي شكلت أبوابا إلى فصول الكتاب, وأسلوب هو أقرب إلى الفضفضة تستفيد فيه الكاتبة من لافتات مواقع التواصل الاجتماعي ومنشورات موقع التشارك فيس بوك، وفي حالتنا هذه لا أجد في ذلك ما يعيب طالما كان المنتج جيد جدا.
على الجانب الآخر, تظهر الكاتبة المشاعر المتخبطة والملخبطة للزوجة؛ بين مطرقة عقدة ستوكهولم التي تدفع بالضحية إلى عشق جلادها طالما أظهر بوادر معاملة حسنة، وبين سندان ضغط العرف الاجتماعي الذي يرفض القبول بامرأة (مطلقة). فتظهر براعة الكاتبة في أكثر من نقطة, منها ملاحظتها الذكية جدا, والتي أتفق معها تماما, في المصدر العُرفي لوقوع الظلم, والمنبثق عن قانون (العقد الاجتماعي) المنقضي مع عصر الظلمات, ولكنه لازال قائم في مصر والدول العربية.
ينص باختصا
-ما كان أوله شرط فآخره نور
وتغرق المرأة في الظلمات, دون أي إدراك ينير بصيرتها عما ينتظرها من مصير. فالزواج, يؤسس في المجتمع الشرقي على قاعدتين لا يوجد ألعن منهما على الإطلاق, لأن القاعدة غير مأخوذ بها بإطلاقها للأسف, بل بالجوانب التي تتسع فقط لأهواء الرجل.
القاعدة الأولى, ومن واقع خبرتي بالحياة ,يخاطب فيها الرجل المسؤول, امرأته, ولنقل ابنته أو أخته لأن الزواج يظل خيارا مطروحا في القاعدة الثانية. بخطاب فحواه, أنه مسؤول عنها طالما هي تأكل من زاده, وتعيش في بيته. وإلا فلها مطلق الحرية أن تفعل ما تشاء. ويبدوا الأمر منطقيا لولا أنها حرية مقيدة بخيار واحد, هو الزواج, الخيار الثاني المتبقي يبدوا أنه الموت في الريف وبعضا الحضر ,أو النفي في أغلب الحضر, خاصة القاهرة. مع أنه يمكنه أن يتبرأ منها مثلا, ويتركها لحالها, وليس في تبرأه ما يعيب إلا بقدر التماهي مع القوانين التي يتبناها هو لنفسه إرثا عن أهله. فمثلا, يمنع الكثير من الرجال, للمرأة أن تعمل, ولو عملت, يصبح العمل ليس إلا قيدا جديدا يخدم الصالح العام (صالح رب المنزل فقط). أما عن النفي, فهو الجانب الذي تناولته الكاتبة في كتابها, بإسهاب واضح أرى أنه إلى حد كبير كان لا بد منه. خاصة وأن الإيقاع لم يتضرر منها البتة, فأنا مع ثقل الأدب الواقعي على قلبي (رغم كل ما يحمله من لذة) أنهيت الرواية في جلسة واحدة قصيرة لاهثا وراء تقليب الصفحات للذهاب إلى نهاية محتومة, ومحروقة على أي قارئ نابه, وإن كان في ذلك متعة من نوع آخر لا تفسد العمل. فنحن نشاهد امرأة تحترق حتى كادت أن تموت حرقا, ورغم أنها نجت, إلا أن آثار الحرق لا تنمحي كما نعلم (هو حرق نفسي ومعنوي ولكن مدمر).
الخيار الثاني هو أن يترك لها كامل اختياراتها بالزواج. هنا يصبح اللجام في يد الرجل. ولكن المرأة هي من تسلمه إياه بنفسها. نحن لا نجبرها على الزواج, ولكننا نفرض معايير خاصة وقوانيننا الشخصانية, وبناءا على هذه القوانين يمكنها أن تحدد عقدا للزواج.
هنا تظهر لنا الأزمة الكبرى التي تقدمها لنا الرواية, فالمجتمع,لا يكتفي بتضييق الخناق على المرأة, بل ويدافع عن نفسه بأن المرأة هي من تختار ذلك, مع أنها مدفوعة بنوع من التوجيه أقرب إلى صخرة سيزيف. فالرجل أتفق مع المرأة مسبقا قبل أن يتزوجها, على شروطه الخاصة التي وافقت بوعي أو بدون وعي على الإلتزام بها. وعليه, فإن مسؤوليته منها هو باختيارها. لا يعيبه شيء, والعيب كله فيها. وهذا ما يؤكده بأن الأب أو الأخ لا يعاب عليهم إذا فعلت المرأة فعلا شائنا في عرفهم, طالما وافق عليه الزوج, فأمرها متروك لزوجها. كأنه تسليم لجام من يد إلى يد, فالكلب حين ينبح بشكل مزعج, نسائل صاحبه, من يمسك لجامه. مع أن الكلب ربما ينبح طالبا أبسط حقوقه من مأكل أو مشرب, أو ربما نزهة, أو ربما يطلب فقط من صاحبه أن يتوقف عن ضربه. فتخيل أن هذا الحال مع الكلب, ونحن هنا نتحدث عن امرأة تُعامل على أنها كلبة. أعتقد أن المرأة, مصنفة على أنها إنسان, اجتماعيا أو بيولوجيا, وليست حيوان أكثر ذكاء أو كأنه من شبهاء البشر. نفس الأمر تجده ولكن في منحى آخر, حين تنزلق المرأة في زمن ليس بعيد إلى مجرد شيء يُمتطى أو يُركب وهو ما تطرقت إليه في قصة (المركوبة) التي تجدونها في مجموعتي القصصية بعنوان الوضعيات, وفي أعمالي الأخرى (كما أحضر لمجموعة كاملة من القصص تحمل هذا العنوان).