يمكننا أن نحصل على إضاءة أفضل على الواقع، من خلال أدب الخيال العلمي، وكما هو معلوم لدى عشاق هذا اللون من الأدب, وبالأخص المتعمقين جدا في قراءته والقراءة عنه, ينقسم مؤرخي أدب الخيال العلمي إلى قسمين فكان اختلافهما حول النقطة التي انطلق منها أدب الخيال العلمي لأول مرة, ما بين من يرجع أدب الخيال العلمي إلى عام 1818 وولادة أول رواية خيال علمي حقيقية مع ولادة مسخ فرانكنشتاين في نص خطته الكاتبة الملهمة ماري شيلي والتأكيد على هذا التاريخ لاحقا بظهور أعمال رائدة مثل آلة الزمن. وبين من يرجع تاريخ هذا الضرب من الرواية إلى فترات ومراحل مبكرة جدا من تاريخ الأدب؛ فإذا فرضنا جدلا, بصحة الفرضية المادة لأذرع أدب الخيال العلمي إلى العصر الإسلامي الوسيط, لأنه كان عصر علم ورفاه, فإن أول ما يحضر في الذهن من الذكر هو قصة حي بن يقظان لابن طفيل, وقد تبدوا بقية القائمة تكرارا لهذه القصة, أو حشوا زائدا لما يمكن الاستغناء عنه, خاصة مع شخصية مثل لوقيانوس السميساطي الذي يفضل نسبته إلى الشرق. وعليه يصح أيضا اعتبار جلجاميش رواية من أدب الخيال العلمي لأنها جسدت حلم البشر في النجاة من المرض, والمرض هو سمي الموت كما نعلم. هنا تصبح مفاهيم مثل سائل الحياة أو حجر الفلاسفة مفردات من الخيال العلمي وليس الفانتازيا. وكل القصص الخيالية التي يطير فيها الإنسان محلقا فوق جناحي طائر أسطوري أو خرافي هو تجسيد لحلم الطيران. هكذا تغدوا العديد من القصص الخيالية, كلها أو جلها, منتمية بشكل أو بآخر إلى الخيال العلمي. وأيا كان صاحبه, هذا التصور عن النوع الأدبي, فهو غير صحيح. لأن فيه خلط واضح بين الفكرة الخيالية -مثل الأحلام والأماني- الغير متقيدة بأي حد أو سد, وبين الفكرة العلمية التي تفيد تتبع السبب للوصول إلى النتيجة, والمتقيدة بالصرامة العلمية, بل وربما بالحتمية العلمية لإمكان وقوعها, وإن فرضية علمية مثل التي تفترض بإمكان تحقق كل العوالم الممكنة لا يمكن إخراجها بالكامل, وبالقوة, من إطارها العلمي, لتطبيقها على كل ما هب ودب من أدب الخيال الصرف (الفانتازيا). بالطبع هذا لون أدبي محترم, له حدوده وقيوده, ولكن لا يصح هذا التداخل العنيف بين أدب الفانتازيا وأدب الخيال العلمي, والذي لا يزال ينظر إليهما في الغرب من قبل بعض المؤسسات الأكاديمية المرموقة على أنهما لون واحد, وكذا لدي بعض شرائح القراء بالعربية بحكم التبعية!. ويبقى الفارق الواضح كما أوضحنا واستنادا إلى تعريف هاينلاين نفسه (بأن الخيال العلمي هو تخمين واقعي لأحداث مستقبلية), والفرق بين التخمين والتمني, هو بيان التفاصيل العلمية المحكمة والتسلسل المنطقي للأفكار أثناء عرض حدث ممكن حدوثه, مثل الطيران والذي وضع له بعض أوائل كتاب الخيال العلمي لبنات معقولة في سبيل تصور حدوثه, وليس بالطبع من ضمنها أن نستدعي جني يطير بنا. ولأن الشيء بالشيء يذكر فقصص الجن من ألف ليلة وليلة تنتمي إلى أدب الفانتازيا, ومع ذلك لا ننكر ورود بعض قصص الخيال العلمي الأصلية والأصيلة في متن الليالي العربية. هذا وإن كان لا يمكن به تصنيف العمل ككل إلا في إطار من الفانتازيا, ولكن بعض قصص الليالي هي خيال علمي حقيقي. ويبدوا واضحا الخلط حتى على كتاب الغرب, فابتدعوا معيارا للتمييز جعل من الأدب أدبين؛ الخيال العلمي الصعب, والخيال العلمي السهل. الأخير بعض قصصه أقرب للفانتازيا. وهذه الرؤية الواضحة والمحددة لأطر الخيال العلمي تتفق مع ما يراه كاتب عربي معروف مثل أشرف فقيه, ولكن نختلف أنا وإياه في التطبيقات والنتائج وإن كنا نتشارك في نفس المنطلقات. هذا يقودنا إلى تمييز بعض قصص العرب على أنها خيال علمي صرف أو صعب مهما كانت موصوفة بسحريتها (أي انتماءها إلى عوالم روحانية أو فوقية أو غيبية أو ما ورائية أو أيا كان المسمى) أو عجائبيتها أو شططها التخيلي الموازي تقريبا لأدب الفانتازيا. وهذا سرّ سحر أدب الخيال العلمي, في كونه يقدم خيالات غريبة وعجيبة وإن كانت بعيدة كل البعد عن المحال وقريبة كل القرب من المآل بلزوم وقوع قانون الاحتمال. فمن أدب الخيال العلمي العربي ما يقدمه ابن طفيل في قصته المعنونة (حيّ بن يقظان). طفل يولد في جزيرة بلا بشر, فتربيه وتعتني به أنثى غزال. إن صلة الإنسان بالحيوان غير محصورة على أنواع التواصل السحري أو العجائبي, والذي خلقه إرث خرافي دعمه الإرث القرآني عن قصص الأنبياء والأولياء والأمراء والنبلاء, ولا العلاقة بين الإنسان والحيوان محصورة على أي صدام بين الأقوياء والوحوش من الحيوان. يضع الخيال العلمي بصمته حين يعقد مقارنة بين ما لدى الإنسان من أفهام, وما لدى البهائم والأنعام, من فهم يسير, وإن كان غير قاصر ولا قصير. بل يمد الطرف بامتداد العين والصوت والإشارة وحركة الجسد, خالقا نوع من التواصل الممكن مع البشر. يتخطى الكاتب هذا الطرح طارحا قضيته الرئيسية, وهي قصور الأفهام البشرية عن تحقيق المعرفة الكلية دون نهج التعلم بالاستناد إلى الإنسان آخر, بالسلب أو الإيجاب, يعرض لنا الكاتب محاولات طفل, ثم بالغ, لبلوغ ما بلغ الإنسان الراشد العالم من حدود في العلم والمعرفة. فهل يصل الإنسان, وهو في عزلته تلك, إلى شيء من الفهم الاجتماعي الراقي؟.
كتب ابن طفيل حكاية “حي بن يقظان”، ليبرهن أن الإنسان قادر، عن طريق العقل وحده، على أن يصل إلى الله والأخلاق حتى لو ربّته غزالة. وتُعدّ حكاية “حي بن يقظان” أصلاً لرواية “روبنسون كروزو”، لدانيال ديفو. يُحكى أنه في جزيرة ملكها رجل شديد الأنفة والغيرة، له أخت جميلة جداً، منعها من الزواج، لكنها تتزوج سرّاً من قريب للملك يُسمى يقظان وتحمل منه. ولكيلا يُفتضح أمرها، وضعت الطفل عند ولادته في قارب صغير، فقادته الأمواج إلى جزيرة بعيدة، لا يوجد فيها بشر، فتولت تربيته غزالة، حيث يشبّ حي بن يقظان، ويصبح فيلسوفاً من دون مساعدة البشر. لكن هذه إحدى جوانب القصة، فابن طفيل يضع سرديةً أخرى لولادة حي بن يقظان، استناداً إلى خبريات الأقدمين، بأن هناك جزيرةً من جزر الهند تحت خط الاستواء يتولّد فيها الإنسان من دون أب وأم وأسماها المسعودي: الواق واق. ومن ثم يناقش ابن طفيل الشروط الطبيعية من اعتدال حرارة الشمس والهواء والتراب في تلك الجزيرة، والتي تؤمّن شروطاً لولادة الإنسان من دون أب وأم.
فهل نحن، مع ابن طفيل، عند داروينية مختصرة من التراب إلى الإنسان مباشرةً، بدلاً من جدٍّ مشترك لنا مع القرود خرج من رحمه الإنسان، أو إله يخلق الأشياء بكلمة؟ وعليه ما الذي يمنع أن نتصور أن المخلوقات الفضائية أولدتها طبيعة الكواكب التي تسكنها؟