فضاءات الاستعارة و الخطابة
في سياق أعمال كُبرى دشنها الباحث محمد الولي
لن نُجانب الصواب إذا سمينا الحركة البلاغية الراهنة في المغرب بالبلاغة المغربية، فهي تحملُ ملامح مدرسة بلاغية مغربية بوضوح، من سماتها الجمع بين التراثين البلاغيين العربي واليوناني والحداثة الغربية، والتنوع في المشاريع البلاغية، والعمق في الطرح، ووضوح الرؤية والتجديد، حيثُ يُمكنُ أن ننعت مشروع الباحث المغربي محمد مشبال بالمشروع النقدي البلاغي الجامع بين الشعرية والحجاج، وسبَقَهُ مشروعٌ نظري كبير يعملُ على كليات البلاغة لمحمد العمري، يُعرف بمشروع «البلاغة العامة»، بينما يشتغلُ الباحث محمد بازي على تشييد بلاغة تأويلية ذات جذور تراثية أصيلة، تحاورُ الحداثة الغربية وتدافعُ عن الهوية العربية الإسلامية.
هذه المشاريع تدور في مثلث تاريخي وحيوي هو: الشعرية، والخطابية، والتأويل، بدونَ (دونَ) أن ننفي مجموعة من الجهود التي تشتغلُ في إطار البلاغة العامة والبلاغات الخاصة.
كانت هذه توطئة وسياجاً سياقياً لنتحدث عن مشروع علم أصيل ومؤسس، لا يقل أهمية عن المشاريع الكبرى المذكورة، يعملُ على تجديد البلاغة من خلال صياغة أسس خطابية وشعرية جديدة، وهو الباحث محمد الولي، الذي يعد علامة فارقة في البلاغة المغربية الجديدة، وعموداً من أعمدتها السباقة والرصينة، وعلماً من أعلامها الكبار، يحلق بجناحي البلاغة: الخَطابية والشعرية، بإسهامات تجمع بين التأليف والترجمة في المجالين، بالإضافة إلى التأطير الأكاديمي والتحرير، إذ نحنُ بصدد التقديم والتعريف بكتابين جديدين للباحث الغني عن التعريف محمد الولي، واحد في الخطابة والحجاج، والثاني في الاستعارة.
صدر للبلاغي محمد الولي كتابان جديدان عن دار فالية في المغرب 2020. الأول بعنوان: «فضاء الاستعارة وتشكلاتها: في الشعر والخطابة، والعلم والفلسفة، والتاريخ والسياسة». والثاني: «الخطابة والحجاج بين أفلاطون وأرسطو وبيرلمان» قدّم لهما الباحث البلاغي المغربي محمد العمري. يحوي الكتابان مقالات ممتدة تشملُ مسار الباحث منذُ بدايته، ما يعني أنهما عصارةُ تجربةٍ طويلة ووليدا اختمار فكر ووضوح رؤية.
يندرج الكتاب الأول، «فضاءات الاستعارة وتشكلاتها»، في سياق أعمال كُبرى دشنها الباحث منها أطروحتان جامعيتان:
الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي. الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية. بالإضافة إلى ترجمة كتبٍ رائدة في الشعرية الغربية:
بنية اللغة الشعرية لجان كوهن، بالاشتراك مع محمد العمري 1986.
قضايا الشعرية لرومان جاكبسون، بالاشتراك مع مبارك حنون 1987.
البنيات اللسانية في الشعر لسمويل ليفن، بالاشتراك مع خالد التوزاني 1989.
الشعرية العربية لجمال بن الشيخ، بالاشتراك مع مبارك حنون ومحمد أوراغ 1996.
الشكلانية الروسية لفيكتور إيرليخ 2000.
البلاغة: المدخل لدراسة الصور البيانية لفرانسوا مورو، بالاشتراك مع عائشة جرير ـ ط2 ـ 2003.
الكلام السامي: نظرية في الشعر لجان كوهن 2013.
«الاستعارة الحية» لبول ريكور 2016.
وتمتد خريطة الاستعارة في هذا الكتاب من أرسطو إلى الفلاسفة المسلمين (ابن رشد) إلى الفيلسوف بول ريكور، إلى رصدها في الخطاب الخُلدوني، وكذلك في المجالات الراهنة مثل الخطاب اليومي والعلمي والسياسي، وفي الإشهار.
وسأتحدث في ما يلي عن الكتاب الثاني، وهو يتكون من ستة فصول موزعة على الشكل التالي:
الفصل الأول: البلاغة قبل أرسطو
الفصل الثاني: مدخل إلى الحجاج.
الفصل الثالث: بناء الخطبة في البلاغة الأرسطية.
الفصل الرابع: من الإقناع إلى الإمتاع.
الفصل الخامس: الاستعارة الحجاجية.
الفصل السادس: استعارات «الفروسية» للشاعر أحمد المجاطي.
وقبل صدور هذا الكتاب، ترجمَ الباحث الكتاب الأبرز في الخطابة الجديدة، وهو كتاب شايم بيرلمان ولوسي أولبريخت تيتيكا: منصف في الحجاج: البلاغة الجديدة، سنة 2016، ولم يصدرهُ الناشر بعدُ.
يندرجُ مشروع الباحث محمد الولي في إطار الإسهام في صياغة شعرية وخطابية جديدتين، نقلاً وتنظيراً وترسيخاً لهذا الفكر الجديد في العقلية العربية، أو يندرج، اختصاراً، في تجديد البلاغة العربية.
إن الخطابة هي الآلية العملية لممارسة الخطاب المؤثر في الأرض في المجتمع، لتحقيق أهداف مادية وأيديولوجية، والأداة الناجعة والمثلى لتدبير الاختلاف، ووسيلة نهضوية لا تقوم إلا في المجتمعات الديمقراطية مع حسن استخدامها، بطبيعة الحال، لذلك، فهذا الهم التجديدي للخطابة مرتبطٌ بالسياق الحضاري الجديد والإيمان بدور الخطاب الفعال في الخلق والتغيير. للخطابة وجهان، كما تقول إيمانويل دانبلون، وجهٌ واضحٌ، ومضيءٌ، ضامنٌ لحرية المواطن، بفضل اللغة، ولكن لها أيضاً جانبٌ مظلمٌ وخطيرٌ، حيثُ تنقلبُ حرية الكلام على نفسها عن طريق الإغراء والتلاعب والضغط. وقد اعترضَ أفلاطون على هذا الوجه المظلم والخطير للخطابة، وهي التي تتعارضُ مع الفلسفة واليوتوبيا الأفلاطونية، وعاداها لأنها قائمةٌ على الرأي والانطلاق من المقدمات المتفق عليها. «هذا النقد الحاد للخطابة وللرأي الذي تتغذى منه، وهذا التعارض الصارخ بين الفلسفة والخطابة، يمثل أكبر هاجس يقض مضاجع أفلاطون، بل يكون أكبر همٍّ شغل فيلسوفنا في أغلب محاوراته». لكن أرسطو أعادَ فتح ملف الخطابة، والشعر كذلك، ودافع عن جدواهما ونفعهما، مُعاكساً آراء أستاذه أفلاطون. في لوحة رفائيل الشهيرة، مدرسة أثينا، يشير أفلاطون إلى السماء، بينما يشيرُ أرسطو إلى الأرض، هذا مثال جيد لنوضح الفكرة. فأرسطو لا ينطلق مما يجب أن يكون، مثل أفلاطون، لكنه ينطلق من الممكن وواقع المدينة ـ الدولة. إن الخطابة أداةٌ فعالة والوسيلة الوحيدة لتسيير المدينة ـ الدولة في المقامات: القضائية والاستشارية والاحتفالية، وقد قامَ بصياغة خطابة تنطلقُ من طبيعة الإنسان وواقعه، قائمة على الممكن تحققه راضخة للواقع غير نائية عن قضايا الشعب في أعالي اليوتوبيا.
أما المحطة الغربية الثالثة التي يرصدها الباحث، فهي الخطابة الجديدة مع الفيلسوف شايم بيرلمان، الذي كان له الفضل في تجديد البلاغة وبعثها وفصل المكون الحجاجي وإعادة صياغته، لتنفصل البلاغة الغربية مُجدداً إلى بلاغتين جديدتين: الشعرية والحجاج، الأولى مختصة في مجال الأدب والكلام غير المفيد والثانية في مجال الإقناع.
ختاماً، يندرجُ مشروع الباحث محمد الولي في إطار الإسهام في صياغة شعرية وخطابية جديدتين، نقلاً وتنظيراً وترسيخاً لهذا الفكر الجديد في العقلية العربية، أو يندرج، اختصاراً، في تجديد البلاغة العربية، التي آلت إلى الانحسار في مباحث بلاغية مسكوكة متعلقة بالعبارة، وذلك بناء على المنجز العربي والتطور الغربي الذي شهدته أوروبا منذ منتصف القرن العشرين إلى يومنا هذا. وأعلمُ يقينا أن هذا المقال دونَ حجم مشروع الباحث محمد الولي، لذلك اتخذَ هذا الطابع التقديمي الاحتفالي في مساحة ضيقة.
مصدر المراجعة: هنا
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.