القصة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الحبكة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار طويل بين شخصيتين يستجلي أبرز الأحداث السياسية في الجزائر من منظور شخصي
هذه الحبكة التي لخصتها في سطر واحد -كما أفعل في أغلب مراجعاتي- تكشف عن عدة أمور مهمة
أولا أنه لا حبكة أصلا في الرواية وهذا هو العيب الأكبر والدائم لكاتب الرواية فيصل الأحمر,والذي لم يتخلى عنه أو يتخلص منه -ربما عدا في حالة حب- حتى في أفضل أعماله؛ضمير المتكلم كما يفترض,أو أمين العلواني بشهادتي أنا (بحسب رأيي المتواضع بلسان مغرور). حيث يتبع مبدأ “المهم هو حكاية الحكاية لا الحكاية نفسها”,وتوسع في هذا المبدأ كيفما اتفق كما نتناوله في قسم الإسلوب.
ومع ذلك,ولأكون أمينا,حالة أمين العلواني لا تنطبق هاهنا –أو هي نوع من الحبكات ذات الضوء الخافت نتلمسه في أمين العلواني وضمير المتكلم وهذا لا ينفي ضعف الحبكة بل ربما يؤكده- فهنا خلف ثنيات النص الملتوي والمتعرج والمتداخل في بعضه (وهو ما نتطرق إليه في الإسلوب) عدة قصص واهية ولكن معبرة (إلى حد ما) عن واقع أليم في جزء لا يتجزأ من الوطن العربي؛الجزائر. وهو الخيط الذي لم أقع عليه بعد,ربما لتعقيد السرد,أو لغياب المتعة,ولذلك قراءة ثانية.
ثانيا أن لفظة (منظور شخصي) تنسب ياءها إلى ثلاثة شخصيات في مواقع مختلفة وتقليدية بالنسبة للرواية؛الراوي وهو ما يعكس نزعته الخاصة في تدوين سيرته الذاتية,وذلك ينقلنا إلى فرضية أن هذه الرواية,ربما لا يجب أن تقرأ بمعزل عن مدوناته الأخرى
-النوافذ الداخلية
-خزينة الأسرار
-حالة حب
-قل ودل
-المعلقات التسع
وقلت مدوناته لا رواياته لأن القائمة تشمل دواوين أيضا,وتعد ضمير المتكلم بمثابة النوافذ الداخلية على حياة الأحمر,وخزينة أسرار الجزائر على حد قول أحد المعلقين الصحفيين. وحتى أمين العلواني,والتي تتصل بهم شئنا أو أبينا,رغم أنني أفضل النظر إليها كعمل مستقل -وإن لم يكن في معزل- عن رواياته الأخرى.
والقارئ حيث تختص الرواية في سردها وفي الفئة التي تستهدفها بمواطني الجزائر الشقيقة وبعموم سكان بلاد المغرب حيث تمسهم القضايا المطروحة بها وتغازل مشاعرهم بطريقة مستفزة لي فكانت مثل السوس كأن الرواية خاوية من أي معنى بدونها.
ثالثا هو أن هذا الحوار الطويل يعكس نزعة في الكاتب للتجريب,مثلما ابتلي جل كتابنا في العصر الحديث,وأنا وإن كنت متيما بالتجريبية خاصة تلك التي تتلاعب بالنص أو تهدمه تماما. إلا أن بعض الأعمال تتشبث بالإطار (التجريبية) دون أن تقدم شيئا داخل النص أو حتى خارجه,وهو ما نستوضحه أكثر في قسم الإسلوب.
[2] الإيقاع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك نوعين من الإستمتاع في قراءة الأعمال الأدبية,وفي متابعة الأعمال الفنية,الأولى هي الطريقة العاطفية الشعبية حيث الإستمتاع يعني المتع العاطفية (البسيطة) و(العميقة) من حب أو ضحك أو حزن أو حماس أو غيرها من المشاعر المستثارة أثناء القراءة. وهذه حقق بعضها قدر ضئيل بالنسبة لي. لذا لم أتلمس متعة الرواية بشكل مباشر,ولم أشعر بأثرها الكبير الواقع على الشعب الجزائري والمغربي. خاصة وأن العمل تخلله موجات مكثفة من الملل.
ولكن هذا الشعور لمسته بوسيلة بوسيس بقوة لقربها من الكاتب-زوجته- ولإنتماءها إلى الشعب المقهور,وعبرت عنه بقوة
“بكيت مطو ًلا لغياب زهور. وبكيت وأنا أرى الناس يهاجرون هاربين
ّ من البلد. بكيت وأنا أرى الجزائريين يقفون صف ً ا واحدا بانتظار أكياس
الحليب المدعم. وبكيت وأنا أجبر على الالتحاق بثانوية تعيسة لم أرغب
في مواصلة التعليم فيها ولكنني تقادمت فيها. بكيت لألف سبب ولا أحد
رأى دموعي. ألف ألف دمعة كانت زهور تقف خلفها. زهور التي لم تكن
ً البلاد تعني لي شيئا عداها. لسنوات طويلة ظلت زهور هي الصورة
الجميلة الوحيدة التي تحيل على الجزائر. الأشكال والأحجام أكثر جلاء
في البلاد الأجنبية” [تحقيق في الشأن التخييلي / بوسيلة بوسيس / مجلة ميريت الثقافية,عدد32,ص8.].
النوع الثاني هو المتعة على الطريقة الشعبوية النخبوية التي تهدف لإثارة الأفكار بدلا من إثارة المشاعر. وهنا نقطة. واحد من الجوانب السلبية في قراءتي هذا العمل -في أنا- وأكره الإعتراف بذلك رغم أنني عادة لا أقع في فخ التأثر بإستعدادتي الإستباقية. من معرفتي لشخص الكاتب,ومن قرائتي لعنوان الكتاب المشابه لعنوان (أمين العلواني) بشكل وضحناه بالأعلى,وحتى من صورة تصميم الغلاف,ومن متابعتي لموجة الردود الإيجابية والإستقبال السعيد بهذا العمل الذي بناء عليه افترضت أنه يؤسس للخيال العلمي,أو وإن قلنا أنه مؤسس بالفعل لدينا,فهو ساهم في تطويره. أسس وبنى عبر روايته أمين العلواني ومجموعة قصصية,وقد حسبت هذه جزء ثان للرواية. ولا زلت في انتظار جزء ثاني لا يكون مجتزئا عن أمين العلواني ولا يكون جزئا عنها ولا متمما لها. شيء آخر يتوج به فيصل الأحمر مسيرته,أو يصنع به نقطة تحول تطلب المزيد من الإبداعات القصصية. ما قدمه فيصل الأحمر (الأحمق) لا يعدوا كونه قدم رواية أخرى لا تخرج عن خانة الواقعية. وربما أنا الأحمق هنا لأن كفة الواقعية اهتزت في العالم العربي,وفي العالم كله,شرقه وغربه,أمام فيض الخيالية وأبناءها الخيال العلمي والرعب والفانتازيا. لذا يرجع الأحمر الإعتبار لهذا النوع من الروايات,ويؤسس لمسلك آخر يزعم وأؤيد ذلك,أن خيارات المدرسة الواقعية لم تنفذ بعد أمام الدروب المتشعبة والمتشابكة والمتنوعة للمدرسة الخيالية.
هذا المسلك هو تيار الوعي,أو التجليات كما قدمها جمال الغيطاني.
[3] الخطاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماذا قدم الأحمر عبر عمله هذا الكاره أنا له؟ ربما واحد من أكثر الأعمال التي كرهتها في حياتي!. وكراهيتي سببها الرئيسي أن العمل جيد,ولكنه ممل مغرق في الملل. أي أنها نابعة من اضطراري للإعتراف بأن هذا عمل جيد,ولكنه عمل نخبوي يشعرني أنني لست من النخبة إما مدعيا هو وإما متداعيا أنا.
أولا لا أعرف إن كان بشكل مقصود أم غير مقصود,واعي أو لا واعي,إلا أن الكاتب أعاد تكرار نفسه في كتاباته بشكل يفتح آفاقا جديدة في الكتابة الذاتية وخاصة السيرة الذاتية والتاريخية الإجتماعية,ويثري من التجربة الأدبية التي تمزج بينهما,بل وتقدمها في أشكال أدبية غير مطروقة عادة في هذا النوع من السرد الروائي الحديث.
ثلاث سير ذاتية تعكس الواقع حوله,وخاصة المحيط به,هي ضمير المتكلم وأمين العلواني والثالثة يمكن أن تكون خزانة الأسرار. فكما ذكرنا نلاحظ إرتباط بين كل أعمال فيصل الأحمر السردية وتمحورها حول ذاته هو.
ثانيا كون العمل,يمثل طريقة جديدة,أو غير مألوفة عربيا في تقديم الواقع,هذا يفتح آفاق رحبه,ويعيد النظر إلى مآلات ربما لم تكون محسوبة للرواية الإجتماعية.
ثالثا العشرية الحمراء أو العشرية السوداء,وهي أزمة دولية أصابت كبد الجزائر وتمثلت في حرب أهلية دامت عشرة سنوات سوداء على رؤوس الجزائريين,حمراء من كمية الدماء المسالة في هذه الفترة,وأيام لا يرجعها ربنا.
“يجمع بين محطات مفصلية في تاريخ الجزائر،
وصو ًلا إلى لحظة العنف الذي ساد البلاد فيما
يعرف بالعشرية الحمراء، لما رفع شعار الأخوة
الأعداء الذي خلّ ً ف بدوره إنسان ً ا مجروحا يحتاج
إلى عقود للشفاء.
ّ تعد هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الجزائر المعاصر
ً موضوعا أساسيّا في هذه الرواية، ويتجسد ذلك من
خلال إعادة تشكيل الخطاب حول ظاهرة العنف.
بيد أن الرواية لا تنخرط بقوة في هذه السردية،
كما هو حال الروايات الجزائرية التي اشتغلت على
هذه التيمة. بل نجد أن الروائي قد تحمل مسؤولية
الحفر السوسيو- ثقافي في مختلف السياقات التي
مهدت لمرحلة التسعينيات. كما أنه حاول التنويع في
النماذج البشرية التي عاشت الوضع دون أن نلمس
ً انتصارا منه لنموذج بعينه، بل نلاحظ أنه يكتفي
بتشكيل المعالم المحورية التي تحد سرديات هذه
النماذج” [حكايات عديدة لصوت واحد / طارق بوحالة / مجلة ميريت الثقافية,عدد32,ص15.].
ويمكننا بشيء من الأريحية أن نحكم بأن هذه الرواية جاورت فيصل الأحمر وباقة من أعلام الرواية الجزائرية أمثال واسيني الأعرج,والطاهر وطار،وجيلالي خلاص،وأمين الزاوي، وكاتب ياسين،ومحمد ديب. الفارق أنهم ركزوا على الثورة الجزائرية بينما عنى فيصل الأحمر في روايته بما بعدها وما أتى من أحداث جسيمة. وأوضح هنا أن ضمير المتكلم رواية إجتماعية سياسية,وليست رواية تاريخية لأن فاصل التاريخ,وهو العنصر الأساسي في الرواية التاريخية,غائب هنا. والمتكلم حاضر. هو فيصل الأحمر.
رابعا الرواية تعبر عن فكر الكاتب بصراحة كونه مناهضا لتلك المفاهيم السوداء المعروفة؛ النخبوية,السلطوية,العنصرية,الذكورية,الطائفية.
خامسا غواية السرد,والسرد في أبسط صوره شفوي أو أقله ذهني (الصورة المقابلة للكتابة كما ذهب كل من روسو ودريدا) أقرب مخرج له هو الفم,وأداته اللسان وليس القلم. وبناء عليه نشهد قوة تلك الغواية وانتشارها في الأوساط التي تخرج من يبرع ومن لا يفلح في السرد. حيث يلعب الأحمر على المساحة بين الأحاديث والأحداث,وكل المفردتين (حدث وحديث) ينبثقان اشتقاقيا من مصدر واحد. وهنا اشير إلى كون فعل السرد عبارة عن سلوك فائق يتجاوز مناحي الكتابة الروائية (رغم ما فيه من إعجاز إبداعي) إلى كونه طريقة للتفكير التصوري تسمى التفكير السردي -نتناوله في مقال آخر وتناوله قبلنا فيصل الأحمر في دراساته بصفته باحث أكاديمي معروف وله مؤلفات هامة تتصل بهذا الحقل؛السرد- وكونه يتخطى ذلك ليصير مؤله لذات السارد. لوثة الحكي هذه هي التي جمعت بين الشامي والمغربي فهو نفس الداء الذي يعرض فيه مواطنه واسيني الأعرج,أو يقابله السوري زكريا تامر في قصصه,والسوري الكردي هيثم حسين في رواية إبرة الرعب (شغف السرد كله تم طيه أو حشره على سن الإبرة).
سادسا الرواية تركز على شخصيات من الهامش,برغم أنف الكاتب الذي حاول إنكار ذلك,أو الإلتفاف حوله. إلا أنه في تصريحه ونفيه وتساؤله
-أي هامش هو هذا الذي يجعلك في معترك الأحداث،أو يضعك في منعرجات هامة من تاريخ بلادك؟ [حوار أجرته معه خديجة نايلي في مجلة ميريت الثقافية, عدد 32,ص41.].
يلخص واحدة من أهم وظائف الأدب,وهو انتشال شخصيات هامشية ووضعها في بؤرة الإهتمام ومركز الحدث. وكما قال أحد الأدباء العظام الذي لا أذكر اسمه؛لا يوجد ما يسمى بالشخصية الثانوية في الرواية.
سابعا الإستقبال النقدي لهذا العمل كان كبيرا بشكل غير مبرر كفاية,والنقاد الموالين للعمل كانوا يمارسون نوع من الإرهاب الفكري في أسوأ الأحوال (وربما حتى المضاجعة الفكرية بمعناه السيء الخارج عن سياق الروايات البوليسية),أو التحرش الفكري في أحسن الأحوال. فهم في محاولة الإعلاء من شأن هذه الرواية,بإعتبارها مادة أدبية نخبوية مهمة,يستحضرون قائمة طويلة من الأسماء ثقيلة الوطء كأنهم يقولون لك
-احتشم يا ولد
هل يمكنك أن تعترض على نص أدبي مقترن بكل هؤلاء سالفي الذكر,أو آتين كما في موضعنا هنا,ومنهم
-جيرار جينيت
-جورج لوكاش
-جان بوديارد
-إبراهيم نصر الله
-جان فرانسوا ليوتار
-وليم شكسبير
-مفدي زكريا
-رولان بارت
-جيمس جويس
-ميشيل فوكو
-لوي فردينان دي سيلين
-فرديريك نيتشه
دزينة من أسماء العظماء وغيرهم,ليس بالضرورة أنه طالما ذكر كل هؤلاء العظماء فهو واحد منهم,رغم أنه كذلك لأسباب أخرى,أفردنا لها هذا المقال ومقالات أخرى.
في عموم النقد الموجه لرواية فيصل الأحمر,يركز الكتاب على تقنية واحدة,وهي ثورية بلا ريب,في تنفيذ العمل,وحياكة قصته / شخصياته,وهو ضمير المتكلم. لكنه يشبه الحديث العميق عن الفاصلة,وأهميتها في مختلف المناحي النحوية والإملاءية واللغوية والبلاغية. لكن ليس بالضرورة أن كاتب يستخدمها بكثر في نص,أن يذهب إليه كل فضل الفاصلة في النص. ولا ننسى,أن الأحمر,ورغم أهمية ما قدمه,إلا أنه ليس مبتدعا لشكل جديد في السرد.
[4] الشخصيات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في دراسة أخرى أجريت مقارنة بين الطرق الثلاث الرئيسية في قراءة الرواية,إحداهما هي التي تقسم كل شخصة إلى رواية مستقلة بذاتها. المدخل إلى هذه الروايات هو الراوي بالطبع. والراوي هنا يتمثل في شخصيتين أساسيتين
-الشيخ
-المتكلم
يرى بعض النقاد أن ضمير المتكلم عائد على الشيخ
1-المصور / السعيد الجيجلي,وحبيبته دلال
2-السينمائي / عز الدين,وحبيبته زهور
3-المؤرخ
4-المخبر / الفايح,وحبيبته فضيلة
5-الزلطة
ليكون المجموع لدينا سبع شخصيات تنسج حولها الحكايات,ولربما هناك شخصية مفقودة. وهنا يتبادر إلى ذهني ثلاث ملاحظات
الأولى هي أن أغلب هذه الشخصيات هي شخصيات هامشية أعطاها المؤلف دورا بطوليا رغم إلتفافها حول بطل واحد هو الشيخ.
-وكثير جدا من المهمشين الذين لم نعتد عليهم يأخذون مواقع البطولة المطلقة. [حوار أجرته معه خديجة نايلي في مجلة ميريت الثقافية, عدد 32,ص41.].
الثانية غير واضح المعالم لدي,وكذلك من حولها من شخصيات أكثر هامشية منها. لا يوجد سوى بضع قصص هنا وهناك حول كل شخصية (مثلا تقريبا وعلى ما أتذكر هناك شخصية تحمل زلطة أو ترمز لها الزلطة أو ما شابه,ولكن بلغ بي الإرتباك والتشتت والبلبلة حد خشية أن تكون هذه شخصية أخرى).
الثالثة هو التذكير بأنه ومن خلال ضمير المتكلم يحاول الكاتب أن يفرض نوع جديد من الشخصيات الهامشية التي تقع في العادة خارج النص,وهي أصلا داخله,ولكنها تمد أذرعها للخارج غير آبهة لأحد.
شخصية الراوي,وهو فيصل الأحمر نفسه.
شخصية القارئ,وخاصة القارئ الجزائري.
شخصية الحدث,أي الشخصيات المروى عنها أحداث الرواية.
].
والشخصية التي يمكن أن يمتزج فيها كل هذا داخل منظومة سردية واحدة,وهي الإله
نعم,فالإنسان يبحث عن إرتقاء يصل به إلى مكانة الإله (بينه وبين نفسه) من خلال ثلاث سبل أساسية
-التسلط
-القتل
-القص
وأخيرا الشخصيات التاريخة المذكورة في الرواية,كم هائل من الشخصيات مستغلا ثقافتة الواسعة وسعة إطلاعه.
الإسلوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] السرد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شكل إسلوب التجليات / تيار الوعي ثورة في السرديات الأدبية دقت إزميل فصل ما بعدها عن ما قبلها. وهو إسلوب استحدث على يد رواده في النصف الثاني من القرن العشرين والبداية الحقيقية لعصر الحداثة؛الروسي فيودور دوستويفسكي والإنسان الصرصار 1864. الفرنسي مارسيل بروست والبحث عن الزمن المفقود 1913. الأيرلندي جيمس جويس وعوليس 1920. الإيطالي إيتالو سفيفو وضمير السيد زينو 1923. ولا ننسى المنجزات المهمة للألماني فرانتس كافكا والفرنسي ألبير كامو والأيرلندي صمويل بيكيت التي دشنت الكتابة الكابوسية.
وفي بداية قرائتي للرواية حكمت عليها بأنها مكررة,يبتغي كاتبها إدعاء التجريب بأن يضرب بروايته في درب غير مأهول بعد من قبلنا نحن العرب. لا كتابة ولا قراءة. وحتى إن اتضح أن حكمي (المتعجرف) هذا صحيح في جانب,إلا أنه مخطئ في جانب لأنه يعيب على الكاتب فعله هذا. فالسرديات الجديدة,والتي لم تعد جديدة في عصر الحداثة الممتلئ حتى التخمة بالإصدارات الحداثية,وإن كانت متوفرة بكثرة لدى الغرب,إلا أنها لازالت تحث الخطى لدى الشرق. وبل ويمكن القول,أن صورا معينة منها,والمناحي الإبداعية فيها لازالت شحيحة ولا زالت فاكهتها لم تعصر تماما بعد.
الباحث في السرديات العربية لا يجد سوى نجيب محفوظ (اللص والكلاب – الطريق – أحلام فترة النقاهة) وتجليات جمال الغيطاني وربما مصطفى ذكري (هراء متاهة قوطية). ومن بلاد الشام يطفو إسم السوري سليم بركات بقوة في أغلب أعماله وكذلك إدوار الخراط في رواية رامة والتنين,وربما نذكر أيضا الأردنية سناء شعلان ورواية السقوط في الشمس,ولا نغفل ذكر وائل رداد الناطق بإسم الواقعية السحرية في الأردن,التي يمثلها سعيد السيابي في عمان. وفي السودان يوجد من المجددين صالح الطيب وقريبه أمير تاج السرّ.
وبالطبع صور التجديد في الرواية العربية والأوروبية والأمريكية تتجاوز تلك التي ذكرنا, وإن كنا ركزنا على مدرستين أساسيتين يمثلان ثورة في النوعين المتنافسين ربما منذ خلق الأدب ورسخت أقدامه عبر التاريخ. الواقعية السحرية تبرز بين الأنواع الخيالية. وتيار الوعي يبرز بين الأنواع الواقعية ليفتح آفاق جديدة ويصنع مداخل ومخارج غير التي صارت تقليدية وأوشك معها الأدب الواقعي أن (لا أقول يموت ولا يندثر) تخبو شمعته وتظلم الغرفة على الأنواع الإجتماعية والتاريخية وحتى الرومانسية والبوليسية.
تيار الوعي هو إسلوب -ومدرسة أدبية- يمزج بين الأنا والآن,بين الوعي والزمن,وتكثيف زمني يتحدى وربما يتجاوز أكبر تطلعات بلزاك في الوصف المكاني. إنه يا عزيزي القارئ إسلوب,لا يقدره,ولن يتحمله,سوى قارئ ينتمي للنخبة الأدبية. وأنا بالكاد أزعم إني منهم,وبشق الأنفس حجزت لي مقعدا في الصفوف الأخيرة. إنه إسلوب يجسد لحظة لقاءنا أنا وأنت,وتبادل السلام (السلام عليكم / وعليكم السلام) فقط,مجرد تحية عابرة ويذهب كل شخص إلى حال سبيله. هذا اللقاء الذي حدث صدفة ولم يستغرق أكثر من لحظة,سوف يستغرق ما قد يزيد عن مائة صفحة في رواية لبروست أو جويس.
ويعتمد إسلوب الوعي على صياغة أفكار شخصياته وترتيبها وإعلاءها على ترتيب الحدث القصصي الزمني المعتاد. فتصير الشخصيات حاوية لهذه الأحداث وليس العكس,وينصهر تماما مفهوم المكان في ظل سطوة الزمان. ولنا في تيار الوعي مقال أو أكثر من مقال,ولكن نكتفي هنا -وقد أطلنا- بالتركيز على جديد فيصل الأحمر. ويتكرر السؤال
ما الذي أضافه الأحمر؟
بعد أن لعب فيصل الأحمر -وقد أبدع- على درب الخيال العلمي,النوع الآخر المراوغ في الآداب الخيالية والذي بسط سلطته في النصف الثاني من القرن العشرين على يد رواده مثل آرثر سي كلارك في مقابل الصعود السريع للواقعية السحرية على يد روادها أمثال غابرييل غارسيا ماركيز في نفس الحقبة الزمنية. وقد أثبت نفسه في الخيال العلمي عبر عمله الأفضل أمين العلواني,ليثبت نفسه ثانيا (بالنسبة للنقاد الذين تناولوا عمله واحتفوا به وبالنسبة لي مع تحفظات مستمرة ومتجددة منذ قرائتي لـ أمين العلواني) هنا في روايته الأشهر (حاليا) ضمير المتكلم.
العناصر السردية التي اعتمد عليها في تصميم الشكل الروائي الجديد هي
1-ضمير المتكلم
الشكل السردي الذي تُحكى من خلاله الحكاية,ينبني على أساسين؛الرؤية والعرض. العرض هو الوصف والإسلوب الذي نتناوله لاحقا. أما الرؤية فتضمن النسق السردي الذي تسير عليه حبكة الرواية,والمنظور الذي يسيّر هذه الحبكة. ولقد عرف أن هناك ثلاث زوايا أساسية تروى من خلالها الحبكة عبر منظور الشخصية تمثل الضمائر الثلاث للإنسان وتحدد وجوده بين حضور وغياب. فهي إما ضمير المتكلم وإما المخاطب (وهذا نوع نادر لا يستخدمها كثرة) وإما ضمير الغائب الذي قد يتوسع من الراوي المعايش للأحداث إلى الراوي العليم بكل تفاصيل الحكاية وكل مجريات أحداثها قبل وبعد وأثناء حدوثها.
ضمير المتكلم هو المنظور السردي الذي اختاره الأحمر ليروي قصته من خلاله. ماذا أفضل منه لتكثيف تيار الوعي أثناء السرد؟. وهذا ينقلنا إلى الوجه المقابل وهو النسق السردي.
2-ألف حكاية
الأنساق الأربعة الكبرى للسرد الروائي كما صنفها الباحث عبد الله إبراهيم هي التتابع,التداخل,التوازي,التكرار [موسوعة السرد العربي / عبد الله إبراهيم / حدود المفاهيم والوظائف,ص16.],ونضيف التبرعم.
المتن الخامس هو الذي ربعت فيه شهرزاد ونسجت ألف حكاية وحكاية,وجرت المقارنة بين العملين,وبين فيصل الأحمر وشهرزاد. وهو ما أجده مغالى فيه كثيرا,رغم أن العمل اقترب في رقيه من الليالي العربية. وعموما حاول الكاتب أن يمزج بين نسقين سرديين؛التوازي والتبرعم. واعتقد أنه نجح في ذلك كثير مما يخدم الشكل الجديد للرواية ويخدم تعدد الأصوات في العمل.
3-التاريخية
التاريخ يمثل الوعي الجمعي العليم بكل شيء سواء نعلم أو لا نعلم نحن به,وقد استعان به الكاتب في عرض مشكلات مجتمعه هنا,ولكنه لا يحكي أخبار فائتة ولا يعلمنا التاريخ,ولا يملك القدرة الروائية على عصر خمرة المعاناة الجزائرية لا في الحبكة وفي الوصف. فقط أظهر مقابلة جيدة بين الوعي الجمعي والوعي الفردي؛ضمير المتكلم.
4-الذاكرة
لهذا لجأ -مستخدما تقنيات مثل الاسترجاع والتداعي- إلى الوجه الآخر من التاريخ,والمغرق في الذاكرة,حيث ذاكرة كل شخص تمثل تاريخه هو,الخاص به بكل صدقه أو كذبه. الذاكرة لها وظائف وفوائد متعددة هنا,فمنها أنها تجعل هذا التاريخ قريب منا
“نعم الذكريات متخففة من الثقل الأخلاقي.. لهذا مال
المؤرخون المحدثون إلى استنطاق المذكرات والرسائل
الشخصية للناس، أكثر من ميلهم صوب الوثائق
السياسية الرسمية. تأريخ للهامش كما كان يقول العم
ً ميشال فوكو، لا تأريخ للمركز الذي يعمل دوما على
خلق سبل لقهر الحقيقة” [تحقيق في الشأن التخييلي / بوسيلة بوسيس / مجلة ميريت الثقافية,عدد32,ص9.].
كما أن الذاكرة تتيح مجموعة من التعبيرات القوية التي تعبر جيدا عن دواخل النفس.
5-الحوارية
الحوار مفيد في تفريغ الذاكرة,فرويد أثبت ذلك ومن بعده تلامذته ألفريد إدلر وكارل يونغ.
6-التبويب
تتوزع الرواية على ثمانية فصول أولها كأنه مقدمة (غسق الحكاية) وآخرها كأنه خاتمة (نهايات لليل الحكاية الذي لا ينتهي),وست فصول معنونة في ستة ليالي.
7-الإحالة
“كما تحيل هذه الرواية على القدرة العجيبة التي
يتمتع بها الروائي في الجمع بين كثير من الوقائع
والأسماء الفنية والسينمائية والتاريخية والثقافية
والسياسية في بوتقة فنية واحدة، تم بعد ذلك
تذويبها ضمن المتخيل الروائي، كما أن اهتماماته
الفلسفية والمعرفية قد جعلت الرواية ذات طبقات
مختلفة تجمع بين الجمالي والتخييلي والمعرفي” [حكايات عديدة لصوت واحد / طارق بوحالة / مجلة ميريت الثقافية,عدد32,ص18.].
ولكن لم يكن كل هذا الحشد من الإحالات بهذه الروعة على كل حال,ونضيف أنه قد نسى في موجة العشق السينمائي الموجهة للغرب,أن يذكر شخصيات إخراجية مثل أحمد راشدي أو محمد الأخضر حمينة.
[2] الإسلوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك دوما الطريقة التي يختارها (أو يبتكرها في حالات نادرة) الكاتب للسرد,وفيها تقاطع مع تصميم الحبكة,ثم يقابلها الطريقة التي يكتب بها هذا السرد. أي إسلوب الكاتب ما نقصد هنا.
وإسلوب الكاتب يتكون أولا من طريقته في السرد,وقد وضحناها بالأعلى وأفضنا فيها,ثم تأتي المستويات اللغوية والبلاغية والدلالية بعد ذلك.
من الناحية النحوية فللأسف وأنا الذي كنت سيبويه زماني في فترة من الفترات,لا يتأتى لنا من العلم كفاية (وقد نسيناه كله أو أغلبه إلا بعض الأساسيات ربما) أن نعلق على هذا الشق لنتجاوزه إلى الجهات البلاغية والدلالية ولنا فيها محاولة (محاولة للتواضع من كاتب مغرور). إلا أن هذه نفرد لها مقال آخر.
[3] الحبكة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسرح الأحداث في الرواية هو غرفة الشيخ (العجوز ربما) ربما,,
ومكان هو مكان ما في الجزائر,وهذا من عيوب تيار الوعي,أنا تهت أين أنا في النص أو في مكان الحدث. وتغطي الرواية عبر لياليها الستة رقعة زمنية كبيرة على مدار أربعين عاما. وكالعادة لما أحاول مدارة إخفاقاتي (وأنا هنا أكشفها بشكل فاضح) لم أعرف ذلك من قراءتي للعمل,بل من قراءاتي حول العمل.
[4] الحوار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الفقرة الرابعة ليست إلا ملئا لزجاجات فارغة بالهواء,اعتقد أن الحوار جرى تصويره وتقريره عبر الفقرات السابقة.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.