” رأيت طالب الطب الشاحب يركع جوار الشيء الذي قام بتجميعه .. رأيت شبح رجل ممدد تبدو عليه إمارات الحياة .. هذا يفزع الطالب الذي كان يتمنى لو لم ينهض الشيء .. يفتح عينيه ليرى الشيء يقف جوار فراشه ويزيح الستائر المحيطة به ..”
تعتبر ماري شيللي Mary Wollstonecraft Shelley كاتبة رعب من الطراز الأول و مبتكرة شخصية من أشهر الشخصيات الخيالية في تاريخ البشرية و أكثرها خصوبة ، إنها شخصية فيكتور فرانكنشتاين، كذلك تعتبر ماري واحدة من الأديبات القلائل اللواتي حققن أسماً مرموقاً في عالم أدب الرعب الذي يكاد يكون حكراً على جنس الرجال ، طبعاً إذا استثنينا اسمي آن رادكليف و آن رايس.
حياتها
ولدت ماري في عام 1797 في لندن في كنف عائلة راقية مثقفة فالوالد وليم غودوين William Godwin مفكر و فيلسوف صاحب آراء ثورية، توصف أحياناً بأنها متطرفة ، والأم ماري وولستنكرافت واحدة من رائدات الحركة النسائية في زمانها ، و قد تربت ماري الصغيرة مفتقدة حنان الأم التي رحلت بعد مولد ابنتها بعشرة أيام ، ولا أحد يدري تأثير ذلك الأمر على نفسية الأب الذي ربما يكون قد أساء معاملة ابنته ؛ كما تشير إلى ذلك بعض المصادر ؛ معتبراً إياها مسؤولة عن وفاة زوجته ، ولعل فكرة رواية فرانكنشتاين في البداية كانت مجرد تداعيات نفسية لدي ماري تركتها طفولتها وتتمحور حول الخالق الذي يقسو على مخلوقه أو على الأصح الأب الذي يقسو على فلذة كبده، و يبدو أن ماري التي نشأت في جو من الحرية الفكرية و الثقافة الرفيعة كانت تتوق للمشاعر و الحب لدرجة أنها لاذت بالفرار مع أول شخص عرض عليها هذه المشاعر التي كانت تفتقدها بشدة فيما يبدو ولكن من حسن حظها أنه لم يكن محباً متسكعاً بل شاعراً رومانسياً رقيقاً هو الشاعر بيرسي شيللي الذي تميز برهافة مشاعره و برقته، ومن المؤكد أن وجوده بجوارها قد استكمل عناصر الموهبة التي كانت عبقرية ماري في حاجة إليها لتبرز إلى الوجود و لكن شيللي كان بالفعل متزوجاً من هارييت وستبروك التي كانت أدني منه اجتماعياً ، و هكذا اضطرا إلى الهرب معاً إلى فرنسا ثم إيطاليا التي اختارها مقر إقامة دائم لهما حتى وفاة شيلي ؛ ما عدا بعض الزيارات القليلة لإنجلترا وفي عام 1818 انتحرت زوجة شيلي الأولى مما أعطاهما الفرصة لجعل علاقتهما علاقة شرعية بالزواج ، و قد رزق الزوجان بعدة أطفال و لكن لم يبق لهما على قيد الحياة سوى طفل واحد برسي فلورنس.
مولد وحش : كيف ولدت رواية ” فرانكنشتاين ” ؟!
أولاً نحب أن ننوه إلى الخطأ الشائع الذي يقع فيه كثيرون عندما يتناولون هذا العمل الأدبي الخالد ، فكثيرون يعتقدون أن أسم ” فرانكنشتاين ” هو اسم المسخ المشوه الذي خلقه الطبيب و لكن هذا غير صحيح ، فاسم ” فرانكنشتاين ” هو في حقيقة الأمر أسم الطبيب بطل الرواية ؛ أما المسخ فليس له في الرواية أي أسم .
كانت بداية بزوغ القصة إلى عالم الوجود هي تعرف ماري وزوجها شيللي على شاعر رومانسي رقيق هو ” لورد بايرون ” Byron و قد تم ذلك التعارف على ضفاف بحيرة ” ليمان ” السويسرية و توطدت بينهم علاقة الصداقة و التفاهم و كان للحوارات الأدبية و الفلسفية العميقة التي تبادلها الأصدقاء الثلاثة أثر لا ينكر على أفكار ” ماري ” الإبداعية و تأثير واضح على روايتها الخالدة فيما بعد ..
و قد بدأ الأمر في صيف عام 1816 حيث كانت ماري ومعها زوجها و صديقهما بايرون يقيمون في فيلا في ( جنيف ) السويسرية حيث كان الجو صحواً جميلاً، ولكن فجأة ساء الجو بصورة عاصفة و جاءت ليلة أضطر ” شيللي ” و زوجته ” ماري ” و ” بايرون ” و طبيبه الخاص ” بوليدوري ” غير قادرين على الخروج .. و هكذا قضوا وقتهم متسلين ببعض قصص الرعب الألمانية و أثر جو ( الرعب ) هذا على لورد ” بايرون ” و طلب ؛ و كأنها مزحة ؛ من الحاضرين أن يقوم كل منهم بكتابة قصة رعب .. و لم يكن ” بايرون ” يعرف أنه بهذا الاقتراح لن يحصل على قصة أو قصتين مخيفتين فقط بل سيغير خارطة قصص الرعب و الغموض في العالم إلى الأبد .. و في هذه الليلة المرعبة ، و في هذا الجو المشحون بالرعب و الجنون و التحدي بزغت قصة ( مصاصة الدماء لـ بوليدوري التي نالت شهرة مستحقة فيما بعد أما ماري فقد أعلنت ببساطة أنه ليس لديها ما تكتبه.
كابوس تحول إلى رواية
و يبدو أن ماري حاولت سراً أن تكتب عمل مرعب و فشلت أو أن الفكرة ظلت تختمر في ذهنها حتى جاءت بعض اللمسات الخارجية أنضجت الفكرة وأخرجتها إلى حيز الوجود فبعد هذه الليلة بقليل سمعت من زوجها و ضيوفه حديثاً عن قدرات الكهرباء التي كانت حديثة الاختراع في هذا الزمان، واعتقاد العلماء بأن تمرير تيار كهربي في جثة آدمية قد يعيد لها الحياة !
وهكذا آوت ماري إلى الفراش وفي ذهنها كم من المعلومات أو لنقل التصورات العلمية المذهلة التي تجاوزت كل الحدود ورأت في نومها عالماً يقف أمام شيء ممدد على طاولة و قد كان هذا الشيء أقرب لإنسان مشوه بشع ، وعندما أدار العالم جهازاً ما بدأ ذلك الشيء بالتحرك ، فأفزع ذلك العالم الذي لاذ بالفرار، لتستيقظ ماري من نومها وتطمئن بعد دقائق إلى أن هذا مجرد حلم أو كابوس، و يبدو أنها قررت ألا تستأثر بالكابوس لنفسها و أحبت أن تنشره عبر العالم ، وهكذا بدأت في الصباح التالي كتابة قصتها و اختارت لها أسم فرانكنشتاين أو بروميثيوس الحديث Frankenstein, or The Modern Prometheus والتي تم نشرها عام 1818 .
القصة
تدور الرواية حول الطبيب ” فيكتور فرانكنشتاين ” الذي يتعرف عليه مستكشف للمنطقة القطبية وهو يسعى للعثور على وحش تمكن من تصنيعه من جثث بشرية وعرضه لتيار كهربائي فدبت فيه الحياة .وتعتبر رواية ( فرانكنشتاين ) قمة من قمم الأدب العالمي خاصة الرعب القوطي بالتحديد ، ومع أن الرواية أثارت جدلاً واسعاً خاصة ممن يرفضون مبدأ تصور أن الإنسان بإمكانه الخلق أو منح الحياة للموتى، وهو أمر منوط بالقدرة الإلهية وحدها ، فالله وحده هو فقط من يحيي و يميت و الخوض في ما عدا ذلك هراء، نعم هذا صحيح و نحن نوافق بشدة على ذلك ، لكن من قال أن العمل الأدبي ، خاصة مثل هذه النوعية من الأعمال، تُقرأ بهذه الطريقة السطحية المباشرة ؟!
إلحاد ؟!
العمل الأدبي هو تعبير عن فكرة تجيش في صدر الإنسان ولا يجد وسيلة للتعبير عنها صراحة فيضعها في قالب قصة مشوقة ولذلك لا يجب أن نندفع وراء من يتهم ماري شيللي بالخيال الفاجر الجامح ، أو الإلحاد ، أو ادعاء إن الإنسان يمكنه أن يشارك الله في قدرته العلوية بل على العكس فإن من يقرأ رواية ماري شيللي ، يقرأها بحيادية و بروح الأديب يجد أنها في الحقيقة من أشد المعارضين لظن الإنسان أو توهمه أنه قادر يوماً على الخلق أو منح الحياة و كأن ماري كتبت القصة لتقول لمن يتحدثون عن الكهرباء و تمرير التيار الكهربي في أجساد الموتى بغية إحياءهم فيما يتوهمون ، كأنها تقول لهم :
– ” أنتم تحلمون بأن تكونوا خالقين ؟! حسناً هذا هو سيحدث لو كنتم خالقين ! ”
إن الرواية تمثل نذير لطموحات الإنسان العلمية الزائدة التي تدفعه أحياناً إلى الغرور وأحياناً إلى الكفر و الإلحاد و ادعاء امتلاك القدرة الكلية وهكذا فإن ماري تريد أن تحذر الإنسان من تطلعاته و طموحه الزائد تماماً كما فعل راي براد بري بعدها بسنوات حينما جند قلمه المبدع لتحذير الإنسان من مغبة العصر الصناعي القادم بقوة ليلتهم البشر و يصنع منهم مجرد آلات متحركة فاقدة للشعور !
وفاتها
في عام 1848 تزوج بيرسي ابن ماري تشيلي من جين جيبسون ، وكان زوجاً سعيداً ، عاشت ماري تشيلي مع ابنها بيرسي وزوجته التي كانت تعزها، لكن سنوات ماري الأخيرة مترافقة مع المرض ، فمنذ عام 1839 عانت من الصداع وأعراض الشلل في أجزاء من جسمها مما منعها في بعض الأحيان من القراءة أو الكتابة ، وفي 1 فبراير من عام 1851 توفيت ماري بعمر 53 سنة وكان طبيبها يشتبه بحدوث جلطة دماغية ، ووفقاً لاقوال جين كانت ماري قد طلبت بأن تدفن مع أبيها وأمها، لكن حينما وجد كلاً من بيرسي وجين الحالة المزرية التي وصلت إليها مقبرة القديس بانكراس قررا دفنها بدلاً من ذلك في كنيسة القديس بطرس في بورنيماوث بجوار منزلهما في بوسكومبي.
وفي الذكرى الأولى لوفاة ماري شيللي ، قامت عائلة شيللي بفتح التابوت فعثروا في داخله على جدائل من شعر أطفالها الموتى ، وكتيب ملاحظات كانت تشارك زوجها بيرسي فيه ونسخة من قصيدته ” أدونيس” Adonaïs وصفحة مطوية وملفوفة بسلك حريري تحتوي بعضاً من رماده وبقايا من قلبه. ولتحقيق رغبة ماري شيللي فقد نقل أكفان والديها ودفنت بجوار قبرها في بورنماوث.
أبرز أعمالها
لعل رواية فرانكنشتاين ( 1818) و إن رفعت اسم ماري شيللي وخلدته عبر تاريخ الأدب ، إلا إنها في نفس الوقت قد أدت لغبن مؤلفات ماري الأخرى بسبب طغيان اسم الرواية الذائعة الصيت على أسماء باقي أعمال الكاتبة :
1- تاريخ جولة من ستة أسابيع ( History of a Six Weeks’ Tour – (1817
2- فالبِرغا، أو حياة ومغامرات كاستروشو أمير لوكّا (1823) – Valperga: or,The Life and Adventures of Castrucci-
Prince of Lucca
3- الرجل الأخير (The Last Man – (1826.
4- التسكع في ألمانيا وإيطاليا (Rambles in Germany and Italy – (1844.
في عام 1944 نشرت رسائل ” ماري شيللي ” ، ثم لحقت بها يومياتها التي نشرت في عام 1947.