قصة: زائر غير معتاد
الحائزة على جائزة الجمعية المصرية لأدب الخيال العلمي
تأليف: أحمد صلاح المهدي
بدأ الأمر في مصر بمريض ـ أطلق عليه لاحقًا لقب الحالة صفر ـ أصيب بالحمى والسعال، وتدهورت حالته بسرعة منذ ذهابه للمستشفى، وتوقفت كل أعضائه الحيوية عن العمل، ثم مات خلال سويعات قليلة. رغم أعراضه الغامضة ـ التي لم يستطع الأطباء تفسيرها ـ إلا أن الأمر لم يشغل بالهم طويلًا، حتى بدأ الأطباء أنفسهم يصابون بنفس الأعراض، وظهرت عدة حالات شبيهة في أماكن مختلفة بشكل يثير الفزع، وعلى الفور بدأت إجراءات الوقاية والحجر الصحي، ورفعت حالة الطوارئ في مصر للدرجة القصوى، فمُنع الناس من مغادرة المدينة إلى مدينة أخرى، وألغيت رحلات السفر بالطائرات والبواخر والقطارات خارج البلاد، ولكن الأعراض الغريبة كانت قد بدأت بالفعل الانتشار في البلاد المجاورة، وكل من أصيب بهذا المرض الغريب مات في غضون بضع ساعات، أو يوم على أقصى تقدير، وأسقط في أيدي الأطباء وهم يدرسون تلك الحالات الغريبة.
استطاع عالم مصري ـ من أعضاء الفريق البحثي المختص المتكون من خيرة علماء الڤيرولوجي والباثولوجي حول العالم ـ أخيرًا تحليل الفيروس المؤدي للمرض، وصعقته المفاجأة حين اكتشف أن الفيروس ينتمي لإحدى عائلات الفيروسات المسببة لمرض الإنفلونزا؛ أحد أقدم الأمراض البشرية، وأكثرها انتشارًا، ولكن الفيروس بدا متقدمًا للغاية عن الشكل الحالي المألوف لدى العلماء، وشرسًا بشكل لا مثيل له، لقد حقق طفرات عديدة لا يمكن تحقيقها أبدًا في فترة قصيرة، حتى توصل أحد علماء الفريق لفكرة مجنونة: “إنه يبدو كفيروس قادم من المستقبل.”
ورغم جنون الفكرة، إلا أن العلماء بدأوا يفكرون فيها، الأجهزة المناعية للبشر تتطور باستمرار، وكذلك الفيروسات، كأنهما البشر والشيطان يتصارعان منذ بدء الخليقة، ولكن ماذا لو عاد من المستقبل إنسان ذو جهاز مناعي متطور، ومصاب بمرض بسيط كمرض الإنفلونزا، ولكن في ظل تطور الفيروس المستمر سيكون هذا المرض البسيط كوباء قاتل للبشر في الأزمنة الأقل تطورًا.
وهكذا تحدث أعضاء الفريق البحثي في مؤتمر ضخم يجمع كبار العلماء من أنحاء العالم، ليطرحوا فكرتهم المجنونة، ويخبروهم أن هذا الوباء الذي يهدد وجود البشرية، هو مرض الإنفلونزا، أما الأكثر جنونًا هو افتراضهم وجود مسافر من المستقبل بيننا، مصاب بالإنفلونزا، ويمكنه علاج ما يبدو لنا كوباء ببعض الليمون الساخن والراحة في فراشه ليترك جهازه المناعي يقوم بدوره! لم يعرف من سمع هذا المؤتمر أيهم أكثر جنونًا، أن الوباء هو مرض الإنفلونزا، أم افتراض أن السفر عبر الزمن حقيقة، وأن هناك زائر من المستقبل بيننا، ولكن في تلك الظروف اليائسة يمكنهم التشبث بأي أمل ولو بسيط، أمل البشر الوحيد، هو عينة من الجهاز المناعي لهذا الزائر الغريب.
كان هناك شيء واحد أكيد، وهو أن هذا الزائر غير المعتاد قد ظهر بمصر، بالقرب من موضع ظهور الحالة صفر، والشيء شبه المؤكد أنه لم يغادر مصر؛ فإجراءات الحجر الصحي ومنع السفر جعلت أي شخص لا يستطيع مغادرة البلاد، إلا بعض الخبراء الذين ينتقلون في ظروف شديدة الخصوصية وبأقصى درجات الاحتياط، وهكذا بدأت الشرطة وجهاز مكافحة الأوبئة في التعاون بحثًا عن هذا الغريب، وكان الأمر يشبه البحث عن إبرة في كومة قش.
الإجراء المتبع كان تفتيش المواطنين بحثًا عن أوراقهم الرسمية، فلو كان هذا الغريب آتيًا من المستقبل حقًّا فلن يمتلك أوراقًا رسمية، أو ستكون أوراقًا مختلفة عما يحمله الناس الآن، أو بتاريخ لم نصل إليه بعد، وهكذا بدأت دائرة البحث تضيق، وهم يسابقون الأيام والساعات والدقائق والثواني، قبل أن يفتك وباء الإنفلونزا بالجنس البشري، بحثًا عن الأمل الأخير، وبمرور الوقت أصبحت هناك دوائر بحث صغيرة للغاية متفرقة في أحياء القاهرة تطالب المواطنين بإظهار أوراق هويتهم الرسمية، ورجال مكافحة الأوبئة يتحركون بملابسهم البيضاء وأقنعة التنفس الواقية كمخلوقات قادمة من الفضاء الخارجي، كانت الشوارع فارغة وقد احتمى الجميع ببيوتهم منتظرين أن تطرق الشرطة على أبوابهم تفتش البيت وتطالبهم بإظهار الهوية الرسمية، وتعلقت عيون كل قاطني كوكب الأرض بشاشة التلفاز ومزيج من الرجاء والخوف يملأ القلوب، بحثًا عن أي بارقة أمل تظهر لهم.
في أحد أحياء القاهرة القديمة التي تكون مزدحمة عادةً بالسكان، أما الآن فشوارعها مهجورة كمدينة الأشباح، سار رجل بين الأزقة المظلمة بحذر مختبئًا عن العيون، إنهم يبحثون عنه، يا للسخرية! لقد هرب من زمنه كي يلاحقوه في هذا الزمن القديم! كان يسير حثيثًا باتجاه موضع هبوطه، لقد اكتفى من هذا الزمان، عليه العودة للمستقبل، ولكن قبل أن يعود ترك قنينة من دمائه مع رسالة تشرح كل شيء، إن كانوا يحتاجون لجهازه المناعي سيحصلون عليه، أما هو فلن يمسكوا به، ولن يحولوه لفأر تجارب.
وجد نفسه يقف أمام آلته المتقدمة في قبو ذلك البيت المهجور، احتاجت لوقت طويل لتعيد فيه شحن طاقتها كي تستطيع الإقلاع في رحلةٍ أخرى، وهكذا جلس أمام الأجهزة المعقدة يضغط عدة أزرار ويدفع عدة أذرع معدنية قصيرة، وفجأة برق ضوء باهر بدون أن يصدر صوتًا، كان ضوءً أبيض صافيًا، ثم بدأت عدة ألوان أخرى تتداخل أمام عينيه مشكلة مزيجًا مبهرًا من الألوان، قبل أن تختفي الألوان بالتدريج ليصل مجددًا إلى اللون الأبيض الصافي، لقد عاد إلى زمنه، وهكذا خطا خارج آلته، ونظر حوله، ليجد أطلال قديمة للغاية متناثرة حوله، بلا أثر لإنسان أو حيوان أو طير، لقد فني الجنس البشري، ألم يعثروا على دمائه؟! يا لها من كارثة!
في زمن قديم، عثر أحدهم على زجاجة الدماء مع الرسالة، وهكذا سارع بالاتصال بجهاز مكافحة الأوبئة، الذين جاءوا مسرعين وحملوا القنينة الزجاجية في صندوق خاص، ونقلوها بحرص إلى معاملهم، هل هذه هي دماء الغريب حقًّا أم مزحة سخيفة يمارسها أحدهم عليهم؟ ولكن الفحص أثبت أن الجهاز المناعي بالدماء متقدم للغاية، ولم يمض وقت طويل قبل أن يستطيع العلماء استخلاص المصل من الدماء، وبإجراء التجارب أثبت فعاليته الكبيرة، لقد كان هذا خبرًا سارًّا لكل قاطني الكوكب الأزرق، الذين احتضنوا بعضهم البعض غير مصدقين أن هذا الكابوس على وشك الانتهاء.
وفي زمنه الحاضر، وقف الغريب وهو يشاهد الحضارة تبزغ من جديد أمام عينيه، وأخذت المشاهد تتحرك بسرعة خارقة لا يستطيع ملاحقتها، حتى أصبح يشاهد شوارع مدينته المألوفة، والناس تسير في الشوارع، فسار بينهم واضعًا يديه في جيبيه، كأن شيئًا لم يكن.
ــ تمت ــ
زائر غير معتاد – قصة قصيرة
29
يونيو