الفانتازيا

بورخيس ابناً شرعيّاً للتراث العربي

لم يبرح خورخي لويس بورخيس سردية التراث العربي الكبيرة والمتسعة إلا في مرات نادرة. باستثنائها، شيَّد عوالمه السردية في غرف متعددة في البيت التراثي، أو ربما على أنقاضه. المتاهة في القصة البورخيسية لم تكن، على ما يبدو، إلا متاهته هو في هذا العالم المسحور. والمرايا لم تكن إلا عثوره على أقران داخل قصص صنعتها المخيلة العربية الجانحة. هل كانت أحلام بورخيس المتولدة من أحلام أخرى شيئًا آخر غير أحلام الليالي؟ الأمر ليس، فحسب، في استعارة الأفكار، بل وفي إشاراته المتكررة، سواء في محاضرات منطوقة أو مكتوبة، لقصص ألف ليلة وليلة، وإشاراته داخل قصصه لمصادر عربية متعددة. الأهم من ذلك، تناصه مع قصص حينًا، واستعارته لقصص حينًا، وكثير من الأحيان استلهام الفانتازيا العربية بأجوائها ومد الخيط على استقامته لتكون موتيفًا بورخيسيًا داخل جدارية عربية. لذلك، فكتاب الليالي، مثلًا، مثّل لبورخس، كما يقول خوان غويتيسولو “حلم القصة الدائرية اللانهائية”. غير أن الأثر العربي، بالإضافة لذلك، يبدو حتى في مكونات تصوراته الفنية عن السرد، إنها أسس تكوّن عليها وقامت بها بنيته الذهنية ككاتب.

النبي المقنَّع

في قصة “صبّاغ مرو المقنّع” (والاسم ورد في نص بورخيس باللفظة العربية Moqana) يشير إلى المصادر العربية التي قرأها لكتابة حكاية نبي خراسان المقنّع: “تاريخ الخلفاء” لـ البلاذري، “كتاب الإيجاز والتهذيب” للمؤرخ العباسي ابن أبي طاهر طيفور و”محو الوردة” الذي يفند هرطقات “سر الوردة” الكتاب المقدس لهذا النبي. يحكي بورخيس ما ورد في الكتب المذكورة عن “حكيم” المولود عام 120 هجريًا في تركستان ولُقب بالمقنّع، ثم عمله في الصباغة “التي كانت مهنة الكفار والزنادقة والمنبوذين”. وبعد 26 عامًا من مولده، يختفي من المدينة، فيما تبقى قوارير المصبوغات في مكانها، وبعد 12 أخرى يظهر برأس ثور بصحبة اثنين من رجاله كانا كفيفين. عن غيابه المفاجئ، يحكي المقنّع للقوم المنتظرين علامة شهر التوبة أن ضيفًا دخل بيته وقطع رأسه فعرجت إلى السماء على كف الملاك جبريل، وهناك، في حضرة الإله، مُنح النبوة.

يتبع بورخيس القصة الأصلية بتفاصيل تطورها، بنفس الترتيب الزمني في الكتب المشار إليها. يحكي الروايات المختلفة دون أن يخرج عنها، بل إنه يحاكي لغة السرد، قدر المستطاع، في الكتب الأصلية، كأنه يريد بذلك أن يقدم للقارئ الروايات المتعددة والمختلفة للنبي المقنّع، لا أن يتناص مع القصة الأصلية. هل يدرك القارئ أن ما ذكره الكاتب مصادر حقيقية وليست مجرد لعبة سردية؟

يخرج بورخيس بهذه القصة، وقصص أخرى، عما تعارف عليه النقد من تعريفات للتناص، إذ يؤسس لكتابة سردية جديدة، ربما لم تخضع للدراسة المعمّقة، عن “إعادة الكتابة” لا بغرض التناص معها، بل بغرض إعادة هيكلتها وعرضها وخلق إطار سردي لها. طريقة بورخيس تشبه العمل البحثي، كأنه بعرض القصة من مصادرها المختلفة يبحث عن حقيقة ما للحكاية الحقيقية، ليتوصل هو، أو قارئه، إلى سيولة “الحقيقة” الثابتة والمجردة، فيصنع على أنقاضها حقيقة أخرى هي “اللاحقيقة”. تتفق هذه الرؤية الفنية مع رؤيته هو نفسه للعالم، فبورخيس، فلسفيًا، ابن الفيلسوف اسبينوزا، بمذهبه القائم على الميتافيزيقا دون تأكيد على إيمان ما. هذه “إعادة الكتابة” يتجلى معناها في قصيدته “شارع مجهول” من ديوان “حمية بوينوس آيرس”، إذ يلح على أن ما يفعله الإنسان ليس إلا السير على خطى آخرين:”ثم بعد ذلك تأملت/ أن شارع تلك الظهيرة بدا دخيلًا/ أن كل بيت محض قنديل/ تحترق فيه حيوات الإنسان/ كشموع معزولة/ أن كل خطانا/ لا تسير إلا على أسلافها”.

وإذا كان بورخيس في “صبّاغ مرو المقنّع” جمع القصة من كتب متعددة، ففي “ملكان ومتاهتان” تدور القصة بين بابل وشبه الجزيرة العربية، إذ يدعو الملك البابلي نظيره العربي ويدخله في بناية/ متاهة، يظل فيها تائهًا حتى غروب الشمس. وكانتقام منه، يقرر الملك العربي اقتحام بابل وهدم حصونها وأسر ملكها، وإدخاله في “متاهة القدير المقتدر”، حيث يلقى به في الصحراء بعد أن سار فيها مدة ثلاثة أيام، فيموت الملك البابلي جوعًا وعطشًا. يبدأ بورخيس القصة بعبارة “يروي أهل الثقة، والله أعلم…” ويختمها بـ “فالمُلك لله الذي لا يموت”. العبارتان المستعارتان من اللغة العربية تمثّلان قوسين مفتوحين بينهما عالم سردي عربي، وأسلوبًا يحاكي العربية، وأمثولة هي ابنة التراث العربي، ومتاهة ظلت تتنقل مع الكاتب الأرجنتيني من عمل لعمل، متاهة عاشها أبطال ألف ليلة، كما عاشتها شخصيات أخرى كثيرة بهذا التراث.

ثمل المنذر وأمر بقتل شاعرين من أصدقائه، ولاقى ما لاقاه من لوم المقربين منه، فقرر، تكريمًا لهما، يومًا للفأل يمنح فيه عطاياه، ثم يومًا للشؤم يعاقب فيه أول من يراه في ذاك اليوم

في محاضرة له، يتحدث بورخيس عن أهمية الشرق بالنسبة للغرب، بالنسبة للعالم، محللًا تحليلًا خاصًا مجمل “ألف ليلة وليلة”. يقول، مثلًا، إنه “أجمل عنوان لكتاب” لأن “الألف” رقم يحيل إلى اللانهائي، ولمّا تأتي بعده “ليلة” يزداد جمالية: إذ يكون المعنى “ليلة بعد اللانهائية”، كأنك تقول “سأحبك للأبد وحتى بعد ذلك”، يشير الكاتب الأرجنتيني إلى الكُتّاب الذين تأثروا بالكتاب العربي، مثل ستيفنسون وشيسترتون. ويحسم بأنهم لولا “ألف ليلة ما كانوا صاروا كُتّابًا”. هل كان من الممكن أن يصير بورخيس كاتبًا دون السرديات العربية؟

في دراسة له عن الوشائج بين بورخيس والتراث العربي، يشير الباحث الإسباني خوسيه راميريث دل ريو إلى قصة “يانصيب بابل” وتناصها مع حكاية ملك الحيرة، المعروف بالمنذر ابن هند. في القصة العربية، ثمل المنذر وأمر بقتل شاعرين من أصدقائه، ولاقى ما لاقاه من لوم المقربين منه، فقرر، تكريمًا لهما، يومًا للفأل يمنح فيه عطاياه، ثم يومًا للشؤم يعاقب فيه أول من يراه في ذاك اليوم غير المعلوم بالعذاب حد القتل. من بين الشعراء الذين راحوا ضحية هذه المقامرة كان الشاعر الشهير عبيد بن الأبرص (القصة مذكورة عند أبو فرج الأصفهاني في كتاب الأغاني). في “يانصيب بابل” تُمنح الهدايا العينية للفائزين، ثم ما تلبث أن تفرض العقاب على الخاسرين، عقاب يصل إلى التعذيب البدني، حيث تسيل دماؤهم فوق أحجار مقبرتي الصديقين.

تدور “يانصيب بابل” في بابل، كما يتضح من عنوانها، حيث تقرر جماعة إنشاء اليانصيب وتقديم الهدايا للفائزين. ثم ما تلبث أن تقرر تذاكر للخاسرين أيضًا، بموجبها يدفعون غرامات طائلة.

تلعب المراهنة في القصتين، من ناحية، وقدرة خطاب السلطة على توجيه الجماعات، من ناحية أخرى، دور الثيمات المهيمنة التي تتغذى على ثيمات صغيرة، كل دورها أن تدعم قوة الخطين. لا تبقى المراهنة وفق اختيار المواطنين، بل تصير إجبارًا، ولن تتراجع السلطة عن فرض شروطها لتحقق مكاسب أكثر. الفارق الوحيد، ربما، أن القصة العربية تحدد رأس السلطة، المنذر، المصاب بجنون العظمة، والقادر على كل شيء، حتى لو بدت القدرة الوحشية ثمرة لتأنيب الضمير ولحظة بكاء على خطأ مقترف. فيما تبدو السلطة عند بورخيس غائمة، كأنها بلا وجه، أو كأنه وجه بلا قيمة، لأن كل السلطات سواء. وكما تستدعي القصة العربية الحكاية باعتبارها حادثة تاريخية مروية، يستدعيها بورخيس من مكانه الآن ليخوض في زمن بعيد، أيضًا باعتبارها حادثة تاريخية. بضم القصة العربية لقصة بورخيس، ربما يمكن قراءة العمل البورخيسي في سياق سوسيو ثقافي جديد، إذ تعاملت الدراسات مع أدبه باعتباره منبتًا عن الواقع وجانحًا إلى الفانتازيا دون هدف. أدب منتصر للجماليات الخالصة حد اتصافه بالعدمية. الآن يمكن قراءة القصة على ضوء جديد، ضوء الديكتاتوريات الأرجنتينية التي عاش في ظلها، ولعله يكشف موقفه الأدبي من السلطة، كل سلطة. إنها طريقته الخاصة في التعبير: استعارة قصة تعبر عنه من تراث بعيد فيعيد كتابتها كما يروق له، فيقول ما يود دون أن يقع في مباشرة تتنافى مع فكرته عن الأدب. لابد أنها ليست محض صدفة لجوء بورخيس للتراث العربي تحديدًا في كثير من أعماله، بالطبع هناك العوالم الثرية في فانتازيتها وغرائبيتها، لكن هناك أيضًا صورة واضحة لحكام أتوا بالغريب ما لم يأت به غيرهم.

يؤكد الباحث الإسباني، راميريث دل الريو، أن القصة العربية ترجمت للإنكليزية ومنها إلى الإسبانية في منتصف القرن الـ 19، وأنها لابد وصلت لبورخيس شديد الحب للتراث العربي، مدللًا على ذلك بتمتع القصة البورخيسية بالعديد من عناصر القصة العربية، مثل الفكرة نفسها وتطوراتها داخل حبكة تصاعدية، وتكنيك “العنعنة”، وإن كان بورخيس قد اختصره قليلًا عن المصدر العربي.

الأطلال الدائرية

لعبة بورخيس التكنيكية يمكن اختصارها، ويجب أن نقدّر ذلك، في الانتقالات الزمانية والمكانية. من مكانه ببوينوس آيرس ينتقل إلى العالم العربي، ومن زمنه الحاضر ينتقل إلى الزمن القديم. هذا الانتقال لا يهدف إلى إنقاذ القصة العربية، بل بالتحديد إعادة سردها. الحكاية الملقاة هناك، بين مئات الحكايات الأخرى، المروية كأمثولة أو واقعة تاريخية، ينفخ فيها الكاتب الأرجنتيني روحًا جديدة. غير أن الروح الجديدة لا تنفصل عن الروح العربية، ليس فقط في الشكل، بل في المضمون والخطاب السردي. لقد توسل بورخيس كل ما هو عربي ليشيد سرديته، فاستعار الفانتازيا، الأسلوب، المحتوى الدلالي، بل حتى في القصص التي لم يتناص فيها مع الثقافة العربية صنع قصة تشبه عوالمها العوالم العربية، حتى أن الدارسين لأدبه لم يقفوا على يقين في بعض القصص مثل “الأطلال الدائرية” أو “حديقة الممرات المتشعبة”.

ما نود أن نؤكده، أن بورخيس صنع سرديته الخاصة. سردية تشكّلت من عناصر وملامح عربية بالأساس، إذ قدَّم التراث العربي للكاتب الأرجنتيني مفاتيح بواباته، لتكون هي مفاتيح سرديته التي، على تنوعها، لم تكن إلا تقليبًا على أوجه مختلفة ومتعددة لعالم واحد. عالم لخصه بـ “المكتبة”.

وإذا كانت القصص المشار إليها توضّح كيف أخلص بورخيس لتراثنا، فالهوس بهذا التراث يبدو جليًا كذلك في قصة “الخالد”، أما “طلون وأكبر” فثمة خيط قوي بينها وبين رسائل “إخوان الصفا”. الاستعارة، بالإضافة لذلك، بلغت التصدير بآيات قرآنية، كما في قصة “معجزة سرية”، إذ يصدر بآية من سورة “الكهف”: “قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم”، وفي “مرآة الحبر” التي تحكي قصة مقتل أحد حكام السودان بيد عبد الرحمن المسعودي، وترد فيها آية “لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد”. أما قصة “ابن حقان البخاري، ميتًا في متاهة” فيصدرها بآية “كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت”. وفي “حجر التماثيل”، فيقول في تصديرها: “أخذتُ هذه الحكاية من مصدر عربي، غير أني لم أتثبت من مؤلفها، وأعتقد أنه كان أحد مسلمي الأندلس”.

 

بقلم: أحمد عبد اللطيف

رابط المنشور الأصلي: هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *